النيل يسأل عن وليفته
الهوامش
الشاعر
فاروق شوشة هرمٌ شامخ من أهرام الثقافة العربية في مصر. نشاطه الأدبي والثقافي ملء السمع والبصر، فهو الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وهو صاحب البرنامج الإذاعي اليومي الشهير " لغتنا الجميلة" الذي يناهز عمره نصف قرن، وهو صاحب مقال أسبوعي في جريدة "الأهرام" أكبر الصحف المصرية وأعرقها، وهو الأستاذ الجامعي الذي يُجري بحوثاً لغوية وإعلامية رائدة، وهو المؤلِّف الفذّ الذي تملأ أعماله المكتبات، فقد صدر له حتى الآن حوالي عشرين مجموعة شعرية، وستة أعمال شعرية للأطفال، وثمانية عشر كتاباً في الدراسات والمختارات، وأربعة كتب في التحقيق. « فهو شاعر وناقد وكاتب مقال ومحاور ومحاضر ومعلّق، وله في كل مجال من هذه المجالات مذاق أسلوبي خاص يحتفظ بملامحه الخاصة...» كما يقول الدكتور أحمد درويش [1].
ولد فاروق شوشة سنة 1936 في بلدة «الشعراء» في محافظة دمياط في دلتا النيل شمالي مصر. وسُمّيت البلدة بـ «الشعراء»، لأنها الموضع الذي كان يتجمّع فيه شعراء الربابة ليتغنّوا بالأبطال الشعبيين، وينشدوا أشعارهم الوطنية الحماسية، تشجيعاً لجيوش المجاهدين المدافعين عن أرض مصر في وجه الحملات الصليبية التي دامت حوالي قرنين، من أواخر القرن الحادي عشر إلى أواخر القرن الثالث عشر. ففاروق شوشة هو حفيد الشعراء، وسليلهم، وحامل رسالتهم، والعازف على ربابتهم. ومنذ طفولته كانت تتردّد في مسمعيه ألحان الكلمات المنغَّمة، وتتراءى له الصور الجميلة المجنحة، فيحلم في ولوج بستان الشعر، ليتسلّق أعلى شجرة تفاح فيه:
أكتبُ أوَّلَ حرفٍفي أوَّلِِ بيتٍفي أوَّلِِ نصٍّ شعريٍّفي أوَّلِ ديوانٍ أُصدرهُ حين أشبُّوأعلنُ للشعراء:إليكم أنتسبُ الآنوجئتُ إلى بستانِ الشعرِلعلّي أقضمُ من تفاحة هذا الحلمِ...
وقد دفعه حبُّه لمليكة اللغات، وشغفه بإيقاع كلماتها، وانتشائه بموسيقى عباراتها، وانبهاره بتجليات دلالتها، إلى التخصص في دراسة اللغة العربية في كلية دار العلوم التي تخرج فيها سنة 1956، ثم تخرج في كلية التربية بجامعة عين شمس سنة 1957. عمل مدرِّساً سنةً واحدة، ثم التحق بالإذاعة المصرية، وتدرّج في المناصب حتى أصبح رئيساً لها سنة 1994. أهم برامجه الإذاعية " لغتنا الجميلة"، والتلفزيونية " أمسية ثقافية". وهو رئيس لجنة المؤلِّفين والملحِّنين، وعضو لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة. حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1986، وعلى جائزة الدولة التقديرية عام 1997، وعلى جوائز عربية ودولية عديدة.
فاروق شوشة الإنسان، نبيل العاطفة، شفاف الروح، رقيق الطبع، لطيف المعشر، رخيم الصوت، هادئ ساحر في حديثه، وسيم في شكله، أنيق في ملبسه. وفي الوقت نفسه، فهو جادٌ في عمله، ملتزم بمواعيده، منضبط بالتزاماته؛ وهي صفات قد لا تتواءم مع جنوح الشاعر للحرية ومع خياله المتوثِّب؛ ولهذا يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عن فاروق شوشة: " الرجل الذي نعرفه بهذا الاسم يختلف عن الشاعر الذي نقرأ له. الرجل محتاط، متوازن، عاقل، منضبط؛ والشاعر صريح، منفعل، طروب، مندفع..." [2].
وفي جميع الأحوال، فقد تشبّث فاروق شوشة، طوال حياته وفي مسيرته الوظيفية، بقيم الحق والخير والجمال التي نشأ عليها في صعيد مصر. وفي هذا يقول الإعلامي يسري فودة، وهو يتحدّث من داخل المهنة: " والوصول إلى منزلةٍ وظيفية كهذه [رئيس الإذاعة] في أروقة جهاز تقبض الدولة عليه، ويمتلئ بالمنافقين والأدعياء والضاربين أسهماً من الخلف، ... يصبح إنجازاً ضخماً من نوعٍ خاصٍّ مدهش، حين يستطيع المرء، وسط أجواء كهذه، أن يحتفظ بروحه الشفافة، وقلبه عامراً بالإيمان وقيم الجمال ..." [3]
شعره:
فاروق شوشة شاعر رومانسي غنائي، ذو لغة عذبة مشرقة سلسة، وأسلوب دافئ مموسق منغِّم، اكتسبهما من خلال وعيه العميق باللغة، واطلاعه الواسع على تراث الشعر العربي، وثقافته الموسوعية العميقة. يُعنى في شعره، في المقام الأول، بالجمال. وفي هذا يقول الناقد صلاح فضل: " إن أعمال شوشة تكريس للجمال، سواء جمال اللغة أو جمال الشعر" [4]. ولعل جمال شعره نابع من جمال لغته، فالشعر عنده هو بناء باللغة، وأسمى تمظهراتها، ومكمن أسرارها، وكيمياء تراكيبها. وقد اكتشف سحر اللغة العربية من خلال البيان القرآني منذ أن كان طفلاً في كتّاب القرية حيث أكمل حفظ القرآن، فأُغرم بها "معجماً وأصواتاً وتجويداً وأيقاعاً ونسق كلام"، كما يقول:
ها أنتَ تشاغل لغةكبرت بك،ومعكَ...لم تبتعدا،أو تتباعد أجنحةٌ منك ومنهابينكما سرٌّأقدم من سفر التكوين...
وتحوّل غرامه باللغة والشعر هوى وولهاً، بعد أن قرأ أشعار الشعراء الرومانسيين محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي.
ومثل جميع الشعراء الرومانسيين، فإن فاروق شوشة وحيدٌ كحبةِ رملٍ صادية، ظمآن دائم البحث عن نبع الحبِّ الصافي، يحلم بعالمٍ أخضرَ ندي، يظلّه الغمام، ويسقيه الغيث، ويحلّق فيه اليمام، فيغرّد للحب، الحب بمعناه الوجودي الواسع الذي يهَب الحياة مذاقاً ومعنىً وغاية. وفي شعره تجلّى هذا الحبُّ في صورتيْن رئيستيْن: حبّ المرأة وحب الوطن. فشَدَت مطرباتٌ شهيرات بشعره العاطفي، وردّد الشباب العربي قصائده الوطنية الكثيرة، مثل " لتنزل الستار" و" اعترافات العمر الخائب"، و" الدائرة المحكمة", و" الغزاة"، و " الليل والمشانق"، و"شهود سفينة غارقة"، و "الشهيد" الفلسطيني التي مطلعها:
كان يريق عمرَهُ على مساحةِ الخطرفتكتسي الحجارةُ الصماءُ سحنة َ البشر...وقصيدة " من مواطن مصري إلى الرئيس بوش":أوشكتُ أُقرِِئكَ السلام،فلم تُطِقْ شفتايفمثلكَ ليس يُدركُ ما السلام...
ومثل قصيدة «موال بغدادي» التي هي بكائية سومرية على رماد الوطن:
يا ليلُ، يا عينُ، يا أحلامُ، يا قمرُيا حبُّ، يا وجدُ، يا أشواقُ، يا سهرُشطَّ المزارُ، وكلُّ الصحبِ قد هجروافأظلمَ الكونُ، لا أنسٌ ولا سمرُ...
ولا شكَّ في أن شعره الوطني ناتج عن الخيبة التي أصابت جيله، جيل الستينيّات، الذي شاهد سفينته المحملة بطموحات الوحدة العربية، والتنمية البشرية، والحرية، والديمقراطية، تتحطَّم على صخرة الأنظمة قبيل الوصول إلى شاطئ الأمل.
في شعره، ينطلق فارق شوشة في مغامرات فنية وفكرية جامحة وهو متمكِّن من أدواته الفنية، مسلَّح برؤية إبداعية شفافة موحية مشرعة على التأويل، وبمقدرة لغوية فذّة تنتقي الكلمات العذبة المنغّمة، والصور الشعرية الرائعة، والإيقاعات الملائمة بمهارة فائقة، بحيث لا تستطيع، وأنت تقرأ إحدى قصائده، أن تبدّل كلمة بأُخرى، أو تسقط كلمةً موجودة، أو تضيف كلمةً غير موجودة. فبناء القصيدة اللغوي قائمٌ على أُسسِ هندسةٍ دقيقةٍ محكمةٍ فريدة، شكلها ومضمونها توأمان سياميان لا يمكن فصلهما دون إلحاق الضرر. وهو متمكّن من العروض العربي، قديمه وحديثه، بحيث ينتقل من الشعر العمودي بوزنٍ خليلي إلى شعر التفعيلة الحر، ثم قد يعود إلى الشعر العمودي في القصيدة ذاتها، دون أن تلحظ ذلك، لأنه يختار بعفوية نادرة التفعيلات التي تنسجم إيقاعاً مع الوزن الخليلي الذي بدأ به، ولأنك مسحور بموسيقى شعره العذبة، الموسيقى الداخلية المنبعثة من تواؤم المفردات المتجاورة، المتماثلة في وزنها الصرفي أو المنسجمة في أصواتها وإيقاعها؛ والموسيقى الخارجية المنبعثة من وزن البيت العروضي وإيقاع القافية. ولهذا يلقِّبونه بموسيقار اللغة. يقول المجمعي الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، أستاذ العروض في دار العلوم:
" واللافت للنظر أن الشاعر فاروق شوشة من الشعراء القلائل الذين يتحكّمون في وزن الشعر، ولا يتحكّم فيهم الوزن، فهو لا يعجزه نمط من أنماطه، يستطيع السباحة في أي بحر بالتمكن نفسه والاقتدار ذاته، ويتوجّه بحسِّه الشعري النافذ إلى اختيار الإطار المناسب للحالة التي يعالجها." [5]
ومهما كان البحر الذي يختار الإيغال في أعماقه، فهو يحملك معه إلى شواطئ ساحرة حيث تجتني لآلئ الحداثة والتجديد، فالحداثة لديه ليست راسية على شاطئ واحد، فجميع الشواطئ التي يرمي فيها مرساته، تزدان بحداثة فكره ونكهة شعره.
يؤمن فاروق شوشة بأن الشعر صوت الحياة وبدونه تظلمُّ الحياة، ويقفر الوجود، ويعتم الكون؛ وأن الشعر أعرق الفنون الجميلة في بلادنا العربية، وأكثرها أصالة؛ وأنه يعبق بالذوق والحكمة والجمال. والشاعر على يقين بأن " دور الشعر الآن في ظل وجودنا العربي المتهافت ـ هو دور الحارس الأخير والشاهد الأخير على حقيقة هذه الأمة وجوهرها، وهو نافخ بوقها، ومطلق أشرعتها ومجدد ألوانها، وباعث حيويتها، وحامل قسماتها وجيناتها، ومفجِّر كيميائها" [6]. فهو يرى في الشعر حلاً لجميع مشكلاتنا، ودواءً لكل أمراضنا، ولهذا فلا غرابة أن يؤلّف كتاباً عنوانه " العلاج بالشعر" (1986).
النيل يسأل عن وليفته:
كما أن للقلب بطينيْن، وللفم شفتيْن، فإن لشعر فاروق شوشة النابع من قلبه المتدفق على شفتيه، موضوعيْن أساسييْن: الحب والوطن، كما أسلفنا. وفي هذا الديوان الأخير، " النيل يسأل عن وليفته"، يلتقي الموضوعان ويمتزجان خمرةً عذبة في كأسٍ واحدة، فموضوع هذا الديوان هو : حبُّ الوطن. ولعلّ هذا سرُّ تميُّز الديوان بصنعةٍ مُتقَنة، وحلاوةٍ خاصّةٍ، تذكِّران بمقولة عبد الله بن عباس: " إذا وافق الحقُّ الهوى، فذلك الشَّهد بالزُّبد.".
يتألّف هذا الديوان من إحدى عشرة قصيدة. وعلى الرغم من أن هذه القصائد تتنوع من حيث الأوزان، والألفاظ، والصور الشعرية، فإنها جميعاً تدور حول موضوع واحد ومعنى واحد هو حبُّ الوطن، كما أسلفنا. فالشاعر على دراية بمقولة أبي حيان التوحيدي في المقابسة السادسة من مقابساته: " الألفاظ تقع في السمع، فكلما اختلفت كانت أحلى؛ والمعاني تقع في النفس، فكلما اتفقت كانت أجلى." [7]، وهذا الديوان تجسيد لهذه المقولة الفلسفية النقدية.
في هذا الديوان، يستقلُّ الشاعرُ قاربَ الخيال في رحلة وجودية على أمواج النيل الخالد، مسافراً عبر أماكن واقعية وأخرى سحرية، حتى دلتا الإلهام وضفاف الإبداع، حيث يستريح ويرتشف رشفة من ماء النيل تُسكره، فيصبح القلم ريشة بيد رسام ماهر يجوّد في اللون والخط والمنظور، وتبلغ صوره الشعرية أقصى تخوم التشكيل، فيمنح المتلقي لذة القراءة والتأويل، دون أن تعبث بأشرعته عواصف الغموض أو زوابع الابتذال. في هذا الديوان، لا يكتفي الشاعر بتذوق جمال الأشياء في ظاهرها، بل يتوحّد مع جوهرها، لتحويل الرؤية إلى رؤيا، وتطوير الشعور إلى شعر:
هل رشفةٌ يا نيلُ تسكرنافلعلَّنا أن نكمل الرُّؤياوأْذََنْ لنا أن نستريح هنافهنا نحبُّ،وها هنا نحيا!
أوّل ما يلفت نظرنا في الديوان هو عنوانه، فهو أول عتباته، وله حضور رمزي ودلالي داخل النصوص الشعرية التي يضمها. يثير انتباهنا هذا العنوانُ لعدة أسباب. أوّلها أنه يتألَّف من جملة فعلية كاملة تتكون من فعل وفاعل وشبه جملة الجار والمجرور، في حين أن معظم العناوين تُصاغ عادة من اسم أو عبارة اسمية مثل " النيل الخالد" أو " النيل وحبيبته". بيدَ أن عناوين دوواين فاروق شوشة الأُخرى كلها ملفتة للنظر، لأنه ينتقيها بذائقته الجمالية، كما أنه استخدم الجمل الفعلية في بعض دواوينه الأُخرى، مثل: " يقول الدم العربي" (1988)، و" الجميلة تنزل إلى النهر" (2003).
يشتمل العنوان على تقديم وتأخير. فالجملة الفعلية العربية تبدأ عادة بالفعل: " يسأل النيل عن وليفته"، على الرغم من أن بنية الجملة العربية تتمتع بمرونة عالية، وهذا من عبقرية اللغة العربية ومن عوامل انتشارها وخلودها. وتقديم الفاعل في العنوان تقديمٌ بلاغي يرمز إلى أهمية النيل، لأنه لولا النيل لما ولِدت الوليفة، مصر، ولما تمتّعت بأسباب الحياة والبقاء والنماء:
ولدتُ ببابك العاليوعلّمني طلوع الشمس أنك فاتحُ الأيامِملهمُهاومعطيهاوواهبها معانيها...
ولكن ما يلفتُ النظر أكثر في العنوان هو اختيار الشاعر للفظة " وليفته"، وتفضيلها على عددٍ من المرادفات أو شبه المرادفات الجميلة مثل: حبيبته، عشيقته، صديقته، محبوبته، رفيقته، إلخ.. فكلمة " الوليفة " منتقاة بعناية بالغة ؛ فهي مثقلة بالرمز والإشارة والإيحاء. فمن مشتقات جذرها (الأليف) وهو الوليف، أول حروف الألفباء العربية، وحبيبة النيل هي الأول والآخر. ويذكّرنا العنوان بأشهر كتاب في الحب في اللغة العربية وهو " طوق الحمامة في الألفة والأُلاف" لابن حزم.
ومن جذر الوليفة (أ ل ف)، نشتق ألَّف الشيء تأليفاً وتوليفاً، إذا وصل بعضه ببعض وجمع ما تفرّق منه. هذا من ناحية الدلالة اللغوية، أما من ناحية الاصطلاح الفسلفي الخاصّ، فإن (التوليف) يدلّ على جعل الأشياء الكثيرة شيئاً واحداً، بحيث يُطلَق عليها اسم الواحد، سواء أكان لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتقدُّم والتأخُّر أم لا، كما يقول الجرجاني في " التعريفات". وسنرى فيما بعد كيف أن (الوليفة) في العنوان تشير إلى " اتحاد وحلول" بين النيل ومصر والشاعر؛ وهو اتحاد يفترق عن الاتحاد الصوفي في كونه اتحاداً بين ثلاث كائنات، في حين أن الاتحاد الصوفي يقتصر على اتحاد بين الخالق والمخلوق. بَيدَ أن الاتحاد الشعري في هذا الديوان يتفق مع الاتحاد الصوفي، في كونهما لا يعنيان اتحاداً حقيقياً، وإنما مجرد شعور بالاتحاد.
النيل مكانٌ واقعي. بيد أن فاروق شوشة، في هذا الديوان، يحوّل النيل من مكان حقيقي إلى مكانٍ فنّيٍّ مُتخيَّل، يتحقَّق وجودُه لا من خلال طوبغرافيته وخطِّ سير مجراه، بل من خلال اللغة والعلاقات اللغوية الكامنة في الصور الشعرية المرسومةِ بالألفاظ. فالنيل هنا فضاء لفظي لا يوجد إلا في الكلمات. ونحن نعلم أن الإبداع لا يعكس الواقع، وإنما يخلق واقعاً جديداً.
إذا كان النيل ـ المكان الواقعي ـ يحيط بالشاعر (يسكن فاروق شوشة في جزيرة الزمالك التي يحتضنها بها النيل)، فإن الشاعر يحيط بالنيل بواسطة وعيه الفني، فيضفي عليه معنى ويحوّله من ظاهرة طبيعية إلى حقيقة علامية (سيميوتيكة) ذات معطىً ثقافي، يدركها المتلقي من خلال تفسير العلامات اللغوية. وبعبارة أخرى، فإن الشاعر يحوّل النيل إلى مكان فني شعري له بناؤه ودلالته ورؤيته الحضارية والاجتماعية، عبر اللغة التي تخضع على يد الشاعر إلى كيمياء التكثيف والتركيز والترميز والإيحاء:
في القلبِ مكانكِوالنيلُ ورائي وأماميأخرج منه إليكِوحولي لغة الطيروهسهسة الأغصانوعطرٌ دلَّ عليكِ
إذا كان المكان الواقعي يتمتع بأهمّيةٍ كبيرة بوصفه من أهم عناصر الوجود؛ فلا زمان بلا مكان، ولا فعل بلا مكان، بل لا وجود بلا مكان؛ فإن الشاعر يرفع من منزلة النيل ـ المكان الفني ـ إلى أرفع منزلة في الوجود، لأن هذه المنزلة لا تتوقف على مكانته الفعلية، وإنما على بنيته الفنّية. وتتَّحد هذه البنية الفنية برؤية الشاعر إلى المكان، وعلاقته به، اقتراباً وابتعاداً، انجذاباً ونفوراً، محبّةً وكراهيةً. ولهذا رفع فاروق شوشة منزلة النيل إلى ذاتٍ مطلقة، تخلق وتبيد، وتعطي وتمنع، وتأمر وتنهي، وعياً منه بأهمية النيل في حياة مصر، وأيماناً منه بأن الله خلق من الماء كلَّ شيءٍ حي:
عمّدني عطاءُ يديكَطهّرني،وصوّرني من العدمِفأنتَ، وليس غيركَ، واهبُ النعمِوليس هناك من ينهاكَأو يُجريكَ في غير المسار.
وإذا كان علماء النفس يتحدَّثون عن ثلاثة أمكنةٍ إدراكية، هي المكان البصري الذي يحصل لنا بإدراك صورة العالم الخارجي، والمكان السمعي الذي نستطيع أن نحدّده بوصفه مصدر الصوت، والمكان اللمسي الذي نحسه باللمس، فإن النيل المكان الفني الذي أبدعه فاروق شوشة، هو جميع هذه الأمكنة. فالشاعر يدرك صورته الخارجية بعينيْه، ويراه جَدّاً حبيباً يأتيه وهو يرتدي عباءته، شيخاً طويل العمر، مقوّس الظهر:
ألقى النيلُ عباءتَهفوق البرّ الشرقي ونامهذا الشيخ المحنيّ الظهراحدودب ثم تقوّسَ عبر الأيام ...
كما أن الشاعر يسمع النيل وهو يتحدّث إلى حبيبته مصر:
ويبيتُ النيلُيناغي معشوقتهالرابضةَ على شطيّه...
كما أن النيل مكانٌ لمسي، لا لأن الشاعر لمسه بيديه وجميع حواسه مراراً، بل كذلك لأن مياه النيل وأمواجه لمست الشاعر، عمّدته طفلاً وباركته، وسقته خمرة الشعر وسحره :
أباهي أنني من باركته يداكومَن لمسته لمسَ السحر ـ حين خطا ـحشود خطاك ..
بيدَ أن فاروق شوشة لا يستعمل الحواس: البصر، السمع، اللمس (باليد)، بوصفها وسائل لإدراك المكان والمحسوسات الأُخرى، ولكنه يستخدمها كذلك رموزاً فنية، فيصبح المحسوسُ الملموسُ أساسَ المعقول ومنطلق التفكير المجرد، ويصير الواقعُ بدايةَ الخيال ومنبع الإبداع. والشعر هو قمة الفكر والإبداع. ففي النص الأخير، يستعمل الشاعر (اليد) بجميع معانيها المجازية في اللغة العربية دفعةً واحدة. فـ (اليد) تشير إلى: الحيازة والملك، والنعمة والفضل، والعطاء، والقدرة، والقوة [8]. فيدا النيل في النصَّيْن: " عمدّني عطاءُ يديك" و " أباهي أنني من باركته يداك" لا تمثلان " تشخيصاً" فنياً " personification " كما يقول النقّاد الإنجليز،أي تحويل النيل إلى شخصٍ حيٍّ ذي يديْن فحسب، وإنما ترمزان كذلك إلى جميع تلك المعاني التي ذكرنا، والتي تطرَّق إليها فاروق شوشة في بحثه القيم " غريب الوجه واليد واللسان" (2007). وقد أثارت روعة الصور الشعرية ورمزيتها في هذا الديوان انتباه الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة فقال إن فاروق شوشة قد تحوّل من عذوبة اللغة إلى فتنة الصور، وإنه منذ ديوانه " الجميلة تنزل إلى النهر" (2003)، أصبح مولعاً بالتركيز على الصور الرمزية التي تكون أساس القصيدة وتسهم في بنائها ووحدتها [9] . ولكننا نود أن ننبه هنا إلى أن الصور الشعرية التي يبدعها فاروق شوشة في هذا الديوان ليست صوراً فوتغرافية ثابتة، وإنما هي صور سينمائية أو تلفزيونية متحرِّكة، ولا شكَّ في أن ذلك قد تأتّى له بفضل خبرته الإعلامية المتميزة.
علاقة الإنسان بالمكان علاقة جدلية، فالإنسان يمارس سلطته على المكان ليجعله حيزاً أفضل وأكثر راحة وأماناً لإقامته، والمكان بدوره يمارس سلطته على الفرد بسبب إقامته فيه، واعتياده عليه، وتعلّقه به. ولكن علاقة الشاعر شوشة بالنيل ـ المكان الفني ـ علاقة تماثلٍ، وانجذابٍ، والتحامٍ، وتماهٍ، واتحادٍ صوفي. وقد حقّق الشاعر هذا الاتحاد وعمّقه عبر تقنيات لغوية وفنية. تبدأ هذه التقنيات باقتسام النيل والشاعر بعض الصفات والخصائص، كما في قصيدة " بي بعض ما بك":
بي بعضُ ما بكَ،فاحتملنيحينَ تزدحمُ الهمومُفأجتلي فيك ادّكاراتيوأيامي التي عبرتْ...
ومن هذه التقنيات التشبيه، والتناظر، والتماثل. فالشاعر شبيه النيل في تدفُّقه؛ نظيره في زهوه؛ مثيله في طهارته، وتعلّقه بمبادئ الحرية، وخلود شعره بالمقارنة إلى الأشعار العابرة التي يدبّجها بعض الخانعين لمدح الولاة والسلاطين:
ومثلكَ جئتُ،منطلقاً ومزهواً،لأنّكَ حرٌّفأنتَ الخالد الأبقىوحولك عابرون وزائلون،وأنتَ الدافق الجاريودونكَ، راكدون وخانعون،وأنتَ الطاهر الأنقى...
(وفي الأبيات الأخيرة، لا تدري إذا كان الشاعر يخاطب نفسه أم يخاطب النيل؛ وعلى كلٍّ، فهما واحد.)
ومن هذه التقنيات، تحوُّلُ الضمائر في النصِّ الواحد. وكان الشاعر قد استخدم هذه التقنية في دواوينه الأخرى (أنا) ← (نحن). وفي هذا الديوان، تتحوّل الضمائر في الصورة الشعرية الواحدة من (هو : النيل) ← (أنا : الشاعر). فالنيل متيَّمٌ بمعشوقته، مصر، فحالما يُولَد في منابعه الأولى يجري مسرعاً قاطعاً آلاف الأميال، ليلقي بنفسه في أحضان حبيبته فيذوب فيها ويتوحّد معها، ويتجدّد في كل يوم وفي كل لحظة، كما يتجدّد الشاعر في لغته ورؤاه وأساليبه في كل قصيدة يناغي بها مصر:
ويبيتُ النيلُيناغي معشوقتهالرابضة على شطيه:يا قدري الأجمليا كوكبي الأسنىيا نبض حروفي الأولى حين أتمتمأو أتكلّم...
فالنيل والشاعر هنا ذاتٌ واحدة تناغي مصر على لسان الشاعر القادر على الكلام حقيقةً لا مجازاً. وبطريقةٍ حسابيةٍ منطقيةٍ بسيطة، نستدلُّ على توحُّد الشاعر ومصر كذلك، وذلك طبقاً للمعادلة التالية:
الشاعر = النيل؛
والنيل = مصر؛
إذن: الشاعر = مصر.
ولكن الشاعر لا يستعمل منطوق هذه المعادلة البسيطة، وإنما يرسم مفهومها في صورة شعرية أخّاذة مؤثِّرة:
لا شيءَ غير النيلمخترقٌ بهاءَكِ كانتصابِ السيفِمعقودُ اللواءِ على جبينكِموغلٌ فيناوحاملنا سخياً طيّعاًضمّيهِضمينيأضمّكِ فيه...
وهكذا يوحدُّ العناقُ والضمُّ الأحبابَ الثلاثة ليكونوا ذاتاً واحدةً سبكها الحبّ والشعر. ( لاحظ تحوّل الضمير في هذه النص من " مخترق جبينكِ (أنتِ يا مصر)" إلى " موغل فينا (نحن: أنا وأنتِ يا مصر، فنحن واحد)" ، وليس موغلٌ فيكِ.
خاتمة:
أودّ أن لا أنهي كلامي قبل أن أشير إلى أَمريْن:
الأوَّل، يزخر الديوان بنصوص تضجّ بشكوى مُرَّةٍ من أوضاع الحبيبة، فالنيل والشاعر يتفجّران غضباً، لأن وليفتهما تتعرَّض للفساد والظلم والحزن والعدوان، فيخاطب الشاعرُ النيلََ، أي ذاتَه، قائلاً:
أنتَ هل تصلحُ ما أفسده الدهرُ؟وهل تمحو من السيرةِأيامَ طغاةٍوعصاةٍأشعلوا النيرانَ في الأجرانِوالأحزانََ في الأزمانِوالأحقادَ في القربانِوانحازوا إلى الطاغوتِجبّارينَ ...شاهدٌ أنتَ على الظلمِالذي طال عميماً وعتيّاًوظهورٍ فتكتْ فيها سياطُ القهر...
وهذه الشكوى تعيدنا إلى مغزى كلمة " يسأل" التي وردت في عنوان الديوان " النيل يسأل عن حبيبته"، فالسؤال يُطرح، عادةً، عن الصحة والأحوال، فأنتَ وأنا نسأل عن حال الحبيب المريض أو الذي ساءت أحواله.
والثاني، يضمُّ هذا الديوان قصيدةً من أجمل الشعر القصصي في الأدب العربي، عنوانها " حكاية مع النيل" تروي غرق الشاعر في النيل إبان طفولته حين حاول عبور النهر للِّحاق برفاقه، وكيف أنقذه أحد العابرين. وكلُّ مَن يقرأ هذه القصيدة يدرك أن الشاعر، بعد أن كتب الأبيات الخمسة الأولى، فقَدَ سيطرته تماماً على الكتابة، وأخذتِ القصيدةُ تكتب نفسها. وهذا ما يحصل لكبار الأدباء في حالاتٍ نادرة إذا ما واتاهم الإلهام والحظ. ومطلع هذه القصيدة:
النيلُ يسألُ عن وليفتِهويشيرُ نحو الشرفةِ العليافأقولُ: قد طارتْ يمامتُناوغداً تعودُ بروعةِ اللُّقيا... [10]