الأربعاء ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم فاروق مواسي

بعض ما قيل في العطاء!

من الآيات التي أثرت علي في حياتي فأثْرتني، وتركت بصمات في توجهاتي فأرضتني-
ولسوف يعطيك ربك فترضى- الضحى، 5 فما أجمل العطاء، وما أمثل الرضا!

فالآية وإن كان لها سبب نزول إلا أنها تتواصل مع كل إنسان، ولا بِدع في ذلك، خاصة إذا تذكرنا الآية ...وما كان عطاء ربك محظورا- الإسراء، 20.

العطاء جزء من الكرم، بل يكون هو الكرم في صور كثيرة، وهو جزء من كينونة الإنسان السامي، منه وإليه، والمثل الصيني يقول:

مثلما يعود النهر إلى البحر هكذا يعود عطاؤك إليك.

العطاء له لذة لا يعرفها إلا من أعطى لمجرد العطاء، وقد فطن بشار بن برد لهذا المعنى، فقال:
ليس يعطيك للرجاء ولا الخَو (م) فِ ولكنْ يلذّ طعم العطاء

الكرم الحقيقي ليس مقايضة عطاء بثناء، ولكنه صفة نفسية جعلت صاحبها يعشق الفعل، ويسعد به، وقد ورد أن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب - وكان من أجواد العرب - سار في البادية ومعه صديق، فمرّا بأعرابية عجوز لا تعرفهما، فقدمت لهما لبنًا، فأعطاها عبدالله ألف درهم.
وحين انصرفا قال له صديقه: أتعطي عجوزًا في البادية ألف درهم وهي لا تعرفك؟
فقال: إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي!
فما أجمل!

وقد نسبت إلى حاتم الطائي قصة مماثلة، حيث اشتهر حاتم بالكرم. وذكر أن أعرابيًا التقاه، فما أعطاه حاتم شيئًا لسبب ما، فكان الرجل يحدّث أن حاتمًا أكرمه وأغدق عليه.
بلغ الأمر حاتمًا، فأرسل إليه يسأله - كيف يحدّث بما لم يكن، فأجابه:
وهل يصدّقني أحد إن أنا قلت: لم يعطني شيئًا؟

الكريم يحبه الناس حتى ولو كان فيه عيب في خُلُقه أو في خَلْقه، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي:

تستَّر بالسخاء فكلٌّ عيب
يغَطيه -كما قيل- السخاء

المتنبي يدرك هذا، ولكنه يدرك ما هو أبعد منه- ألا وهو طبائع الناس والحياة، لهذا قال:

لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والاقدام قتال

مع أن المتنبي اتُّهم بالبخل إلا أن بعض أبياته فيها موقف جدير بنا أن نتمثله:

وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام

العطاء أو الكرم يستحسن إذا كان بعيدًا عن المظاهر- "شوفوني يا ناس"- أي بعيد عن المراءاة، وصدق ابن الرومي في قوله:

ليس الكريم الذي يعطي عطيتَهُ
على الثناء وإن أغلى به الثمنا
بل الكريم الذي يعطي عطيته
لغير شيء سوى استحسانه الحسنا
لايستثيب ببذلِ العُرْفِ محْمدة ً
ولا يَمُنُّ إذا ما قَلَّد المِننا
حتى لتحسب أن الله أجبَرَهُ
على السماحِ ولم يَخْلُقْهُ مُمْتَحَنا

ابن الرومي يذكر أن هناك من يقلّد المنن، فالمَنّ هو ذكر العطية أو الفعل على صورة يتأذى بها الآخذ، فيعتدّ بها المعطي. وهذا هو الأذى الذي ورد في الذكر الحكيم قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى- البقرة، 263.
يقول شاعر:

أفسدتَ بالمنِّ ما أوليتَ من نِعم
ليس الكريم إذا أسدى بمنّان

والشافعي فطن إلى قسوة هذا المن وصعوبته:

لنقلُ الصخر من قلل الجبال
أحبُّ إليَّ من منن الرجال

ذكرني من يتكرّم كثيرًا بما لديه من فضول- أي ما يزيد عن حاجته بقول المقنّع الكندي:

ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل

فالعطاء يتجلى أكثر في وقت الشدة، ولذا فخر الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلى...

حب العطاء يتبدى في وجه الرجل وفي ملامحه، فيُعرف، ولا تُخفى فيه المكارم- كما يقول البحتري:

وما تخفى المكارم حيث كانت
ولا أهل المكارم حيث كانوا

وكما تبدّى في هرِم بن سنان الذي كان يبشّ للعطاء، وذلك على ما وصفه به زهير بن أبي سُلمى:

تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله

لامت زوجة شاعر زوجَها على شدة كرمه وقالت:

لا تترك ولدك مملقين فقال:

تقول اتَّئدْ لا يدْعُكَ الناسُ مملقًا
وتزري بمن تسعى له وتَعول
فقلت أبتْ نفس علي كريمةٌ
وطارقُ ليلٍ غيرَ ذاك يقولُ
ألم تعلمي يا عمرَكِ اللهَ أنني
كريمٌ على حينَ الكرامُ قليل
وأنيَ لا أخزَى إذا قيل مُملقٌ
سخيٌّ، وأخزى أن يقال بخيل
ولم أرَ كالمعروف أمّا مذاقٌه
فحلوٌ، وأما وجهُه فجميلُ

وجدت نسبة الأبيات إلى مبشِّر بن الهُذَيل الفزاري. (البحتري: الحماسة البصرية، ص 747) ووردت على أنها لأبي العيناء (ياقوت: معجم الأدباء- مادة محمد بن القاسم)، وفي (الأمالي) لأبي علي القالي:
"وأنشدنا أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد لشاعر قدبم".

لا بأس، فما يهمنا هنا هو الشعر.

ثمة مثل في الدارجة أحب أن تكملوه إذا عرفتم، فقد ذكر لي شيخ كان يحفظ التراث أن هناك أربعة أنواع من الجود:

جود من الموجود
جود مثل المية بالعود
وجود من أب وجدود
وجود حرارة بالجلود
وينهي بالقول:
وإذا ضاقت عليك نفسك جود!
وما نقص مال من جود.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى