تداعيات النكبة والتهجير… بين البلاد وكييف مروراً برومانيا
متلازمة 14/15/16 أيار لازمتني، لا زالت وستواصل حتى النهاية، متلازمة لم أنجح أو بالأحرى لم أسعى للتخلص منها فالمحاولات مصيرها الفشل لا محالة. انها المرة الأولى للذكرى تمر وأنا خارج البلاد لأحظى بطعم آخر لذات المشاعر.
أشاهد المقاطع القليلة لمسيرة العودة في الهوشة والكساير التي نشرت على مواقع التواصل وأنا على شرفة شقة النتي في مدينة كاتوفيتسي احدى دول بولندا الجميلة، انتقلت لاكمال دراسة طب الأسنان هنا بعد الحرب الأوكرانية وهروبنا من كييف تماماً كما هرب آباؤنا وأجدادنا عام النكبة، استذكر كيف أغلقت بولندا حينها حدودها البرية أمام النازحين والمهاجرين الهاربين من أوكرانيا ونحن من بينهم، ليضطر الجميع لتغيير وجهتهم نحو الحدود البرية الرومانية والمسير أميال وأميال. أشاهد السائرون في مسيرة العودة فتهطل علي ذكريات 25/2/22 ومسيرنا هاربات من نير الحرب، كنت أتظاهر بالقوة كي لا تخاف ابنتي وهي كانت لبؤة شجاعة تحمي أمها من خطر التعب أو السقوط تهتم بكل صغيرة وكبيرة لمساندتها ريث الوصول الى الحدود. كلما رأيت سرباً من الطيور يحط على شجرة كنت أقول لها: كما تنجح العصافير بالهجرة والعودة سنوياً، كما استطاعت جدتي الحامل وأبي الطفل بالمسير نحو لبنان والعودة لعيلبون سننجح نحن أيضاً، سنصمد حتى نصل، لن نستسلم وان نتعب تماماً كما لم تعلني تنازلك يوم أعدت النبض والحياة للغريق في منتجع الساخنة قبل سبعة شهور.
أشاهد واستذكر، طبعا صورة والدي الذي غادرنا بنفس التاريخ ترافقني لتزيد من تعقيد المشهد وصعوبة الحال، بالمقابل فإن وجود بناتي الثلاث حولي يشعرني بالفرح والاطمئنان، فقد قدمت الصغيرة من برلين والكبيرة من حيفا لنحتفل سوية بعيد ميلادي 56، أخذوني في رحلة الى وارسو المذهلة المثقلة بوجع الحرب والتاريخ كما العراقة والتطور، حوالي 18000 مدني في وارسو لقوا حتفهم أثناء الحصار. نتيجة القصف الجوي، تم تدمير 10٪ من مباني المدينة بالكامل وتضرر 40٪ منها بشكل كبير أعيد ترميمها بعد الحرب، تجدر الاشارة إلى أن بموجب القواعد الدولية المتعلقة بالحرب الجوية في عام 1939، كانت وارسو تعتبر هدفًا عسكريًا شرعيًا لأن المدينة كانت في خط المواجهة أثناء القتال ودافع عنها الجيش البولندي بشدة أمام الزحف النازي الذي أسر 140000 جندياّ.
كانت أياماً جميلة تشع بالطاقات الايجابية والمحبة كما الورود والهدايا التي غمرتني بناتي بها، احتفلنا بنجاح ابنتي بتفوق بامتحان وزارة الصحة في طب الأسنان لتترفع بجدارة للسنة الرابعة بفضل اجتهادها ومثابرتها وبفضل العناية الربانية لها. أهدتني البنات حاسوب نقّال جديد مطالبات إيّاي بالعودة للكتابة والقراءة التي أحب وانطلق من خلالها لعوالم وآفاق حدودها السماء، وهكذا كان وها أنا أضع كل ذلك كسواد على بياض هذا الحاسوب الرقيق.
أن تولدي في ذكرى ما أطلقوا عليه النكبة -لجعلها تبدو كارثة طبيعية- قد يمر مرّ الكرام فيكون موعداً من أرقام عادية يقع في خانات برج الثور كما غيره من مواعيد السنة، لكن أن تكوني حفيدة شهيد، ابنة رجل وطني حتى النخاع وأم أصيلة يمشي هواء الوطن وماؤه في دمها سيدمغ الموعد بالتاريخ والجغرافيا ولن تسعفك محاولات التّنحي عن منصة رفع الراية. أن يعتبر والدك مجيئك للدنيا بهذا الموعد بالذات تعويضاً له ولأسرته بعد عشرين عاماً من الصبر، التمنّي والانتظار وأنه ليس صدفة… كل ذلك سيجعلك تنظرين لنفسك ولذكرى ميلادك كما لكل ما يحيط بك من منظار المسئولية المطعّمة بأحاسيس مختلطة كفرحة موشّحة بالشجن، ابتسامة توقفها غصّة، كشمعة تقاوم دمعة.
لطالما كانت رسالتي في الحياة مساعدة من لا صوت لهم ليجدوا هذا الصوت ويخرجوه صادحاً وواثقاً من حناجرهم وقد تناسب ذلك تماماً مع مثلث وجودي العام (نكبة، ولادة، تعويض) الذي لم أتقاعس يوماً عن ملء زواياه ومساحته بكل ما هو جميل يدعو لحب الوطن والعائلة انطلاقاً من حب النفس وتطويرها، كانت الكتابة هي لغتي وأسلوبي بالتعبير عمّا أحب وأؤمن به. يبدو أن والدي كان مدركاً من وسع وكبر قدراتي التي لم استثمرها كلها، فكان لا بد له أن يضيف لي بعداً رابعاً ألا وهو الفقدان ويهديني زاوية اضافية فيحول مثلث وجودي إلى مربع ضخم وهو واثق بقدرتي على ملئه بكل ألوان الطيف وبشتى التجارب والحكايا، اختار أن يغادر هذه الدنيا في ذات التاريخ المشئوم 15 أيار بعد الاحتفال بعيد ميلادي الأول بعد الخمسين ويدفن في اليوم التالي 16 أيار، أمّا والدتي العظيمة فكما دائماً هي السند والبوصلة التي تدلني على السبيل الذي ضاق بوفاة والدي مباشرة ليتّسع ويفتح أبواباً كان أسرعها قاسٍ جداً زرع الحسرة في قلب أمي وتضعضعت صحتها لكن روحها الراقية لا زالت ترفل بالشمم والأصالة كما عهدناها.
كييف/ أوكرانيا
قررت ابنتي تحقيق حلمها منذ المرحلة الاعدادية وهو دراسة طب الأسنان، استجمعت كل قواها استجمعنا كل امكانياتنا المادية والمعنوية من دعم ومحبة لنساعدها في ذلك حتى ولو بتأجيل عشر سنوات،،،، تم قبولها في جامعة كييف الطبية الدولية واحدة من أفضل الجامعات في المجال، كان الأمل والنجاح نصب عينيها لا بديل لهما، سارت الأمور على أحسن ما يرام وأثبتت تفوقاً والتزاماً ملفتاً منذ البداية، إلى أن بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا واشتعلت الحرب بعيداً عن العاصمة كييف.
سارت الحياة عادية جداً في المدينة حينها رغم توتّرها جراء الحرب قي مناطق أخرى، كنا قد بدأنا نعتاد رتابة هذه المدينة لكن لم نعتد بعد على طقسها البارد وصقيعها الرهيب. أجلس كل صباح قبالة النافذة أشرب قهوتي وأنظر للمنظر الجميل الذي تطل عليه، بدا الناس عاديين تماماً في ذهابهم وإيابهم كما قبل أشهر تماماً، حركة البيع والشراء عادية، وسائل النقل بأنواعها تسير دون تأخير أو تأجيل، المحلات التجارية على أنواعها تفتح أبوابها لمئات المتسوقين، حتى أعمال البناء والتشطيب في العمارات من حولنا حثيثة سريعة لا شيء يعيقها. في المصعد ومدخل البناية الضخمة سألت الجيران عن رأيهم في الحرب وعن تخوفاتهم، فكانت الاجابات واحدة :- كل ذلك بعيد عن كييف، الحرب لن تصل الينا، كما أننا معتادون على هذا التوتر منذ سنوات ولم نعد نكترث، السوق الأسبوعي الضخم في حارتنا الذي يقام كل سبت استمر بشكل عادي ويشمل كل المنتوجات الغذائية يدوية الصنع كالأجبان والنقانق على أنواعها، العسل والشهد بمشتقاتهم مذهلة الطعم والألوان، الخضار والفواكه الطبيعية القادمة مع أصحابها الفلاحين من الريف الأوكراني لتباع لأهل العاصمة، بيض الدجاج وبيض الطيور الأخرى بأحجامها المتنوعة، الفطر المجفف، البصل، الجزر والبطاطا بأكثر من عشرة أصناف مختلفة وألوان جميلة، اضافة للأعمال اليدوية من تطريز، خياطة وحفر على الخشب.
من الجدير ذكره أن نسبة النساء العاملات في هذا السوق تفوق الرجال بكثير، كل منهن تقف أمام حانوتها الصغير تعرض فيه منتوجاتها وتكتب الأسعار على كل منتج، فلست بحاجة لأن تستفسر عن السعر كما في أسواقنا العربية. تقف كل امرأة كما اللبؤة القوية تحمي مصدر رزقها وثمرة عرق جبينها التي حملته من الريف الى المدينة، كثر هن النسوة العاملات في ملاحم السوق الممتدة على طول الشارع وتتخصص كل منها بنوع معين من اللحم:- العجل، الخنزير، الخروف، الطيور بأنواعها وأحجامها، النقانق واللحوم المدخنة يدوية الصنع كما الاجبان، تزين البسمة وجه كل صاحبة محل كترحيب صامت بالمتسوقين الذين يشترون بكل رقي وهدوء، فلا نقاش ولا مفاصلة على الأسعار، في هذا السوق الضخم الذي يدخله الآلاف كل سبت لا تسمع صوتاً ولا تلحظ تصرفاً مزعجاً، لا ينادي البائع بأعلى صوته، لا يتبارى التجار فيما بينهم، لا يتحدث أحد بالهاتف بصوت مرتفع، لا تصرخ أم على أطفالها ولا يلعب الأولاد وسط الشارع أو على الرصيف.
أما الثلوج فهي عروس السوق في هذه الفترة، يطيب لك رؤيتها تغطي الفواكه فتزيدها رونقاً، تدثر اللحوم فتحفظها دون ثلاجة، تتساقط على قبعات الفرو التي يعتمرها الكبير والصغير فتغدو بلون واحد يزيد قسمات الناس جمالاً ونعومة. لم نترك كييف مع بدء الحرب فما نراه يومياً يؤكد قول السكان، كما أن الجامعة هدأت من روع الطلاب الأجانب وأكدت أن الاجتياح لن يصل العاصمة وأن الجامعة مستمرة كالعادة، وقد حذرت كل من يفكر بترك كييف والجامعة بأن سيتم فصله، كل ذلك أكد لنا أن لا خطورة.
استيقظنا صباح 25/2 لنفهم أن كل ذلك ما كان إلا خطة حربية وأن الهجوم على كييف جاء فجأة بشكل مباغت للسكان على الأقل، استفقنا على بلد شلّت فيها كل معاني الحركة والحياة، تم قصف المطار، توقفت القطارات والحافلات وكل وسائل السفر بشكل قاطع، أغلقت الحوانيت ومن تنقصه المواد الغذائية بات قلقاً من الجوع.
انقضت الساعات الأولى من الصباح ونحن نحاول فهم ما جرى وما سيجري، والأهم كيف سنهرب من هذه الحرب؟ كيف سنترك كييف بانعدام المواصلات!! لا سيارة خاصة لدينا ولا أقارب هنا! أجرينا اتصالات مع معارفنا فقال الجميع أن لا مجال للخروج ولا بد من الاحتماء في غرفة درج البناية لانعدام الملاجىء وتخزين المياه والمعلبات وكل ما تيسر في البيت لمدة أسبوعين على الأقل.
هذا الكلام لم يقنع ابنتي ولاء تلك المحاربة الجسورة التي أعادت الحياة ولم تستسلم لموت ذلك الغريق في منتجع الساخنة قبل سبعة أشهر، تابعت بمحاولات انقاذه لأربعين دقيقة حتى أعادت النبض لقلبه وجريان الدم في عروقه والنفس لرئتيه.
بدأت حملة البحث عن سيارة أجرة تقلنا لمحطة القطار المركزية على أمل … أظنها اتصلت أكثر من خمسين مرة دون جدوى ومن تلطّف بالرد قال إن ذلك مستحيل ناصحاً أن نبقى بالبيت…. أخيراً أجاب شاب قال :- أصل هذا العنوان خلال سبع دقائق، انتظر دقيقتين فقط فالوضع خطير وعلينا الاسراع.
خلال خمس دقائق بدلنا ملابسنا، أغلقنا الماء، الغاز والكهرباء المركزية.. حضرنا حقيبة ظهر تحوي قنينة ماء، حاسوب، جوازات السفر، أدويتي، شطيرتان، قنينة عصير رمان، أغلقنا الشقة هرولنا نحو مدخل العمارة لنستقل السيارة يقودها شاب أوكراني بدا الأسى على ملامحه، لم يكن أمامنا سوى الوثوق به وفعلاً كان على قدر الثقة، خلت الشوارع من الحافلات والسيارات والمارة طبعاً، بين الحين والآخر شاهدنا سيارة محملة بالفرشات والحقائب وما يلزم عائلات نازحة، كان الخوف يطغى علينا وعلى السائق، تشابكت في مخيلاتنا مئات الصور والأفكار السلبية التي لم ننجح دوماً بابعادها عنا ولم نتحدث عنها محاولات السيطرة على أعصابنا.وصلنا محطة القطار بسلام، شكرنا السائق الذي طلب مبلغاً بسيطاً نسبياً فأعطيناه أكثر عربون امتنان وشكر.
هل يمكنك الانتظار حتى نتأكد من وجود قطارات؟
أنتظر خمس دقائق فقط، الوضع خطير.
دخلنا المحطة فكانت مليئة بالبشر معظمهم مع حقائب و بقج تحوي ملابس ومتاع السفر. لنكتشف أن لا قطارات في هذه المحطة، وأن المحطة الفاعلة الوحيدة الآن تبعد عشرين دقيقة، عدنا بسرعة للسائق الذي اعتذر عن اصطحابنا لتلك المحطة كونها بعيدة والوضع خطير. وقفنا أمام خيارين:- الأول أن يعيدنا هذا السائق للشقة نجلس فيها ننتظر مصيرنا، الثاني الوصول لتلك المحطة سيراً على الاقدام وتحمل مسئولية ما سيحدث، طبعاً اخترنا الخيار الثاني. لأكثر من ساعتين مشينا في شوارع كييف كما لم نمش في حياتنا خائفات مذعورات لا نجيد اللغة لا نعرف الشوارع والحارات كل ما نتمناه الوصول بالسلامة شريطة الاستمرار، وصلنا محطة القطار المركزية الكبرى لنجد عشرات آلاف البشر يملأون كل مساحات وساحات المحطة الخارجية والداخلية كما الأدراج والأرصفة، بعد محاولات حثيثة وصلنا طابور موظفة التذاكر لنقف خلف مئات المنتظرين المتأملين بالحصول على أية تذكرة لأية دولة مجاورة دون تحديد وجهة حتى فالمهم هو الهرب من كييف قبل الطّامة الكبرى، فكانت الصفعة للجميع بأن لا تذاكر لأية مدينة ولا أية دولة فالقطارات مليئة حتى المنتهى كما أنها ستتوقف عن العمل نهائياً بعد قليل. أوشك البكاء أن ينفجر من عيوننا ويكسر ما تبقّى من قدرة على التحمل لكن قررنا الصمود والتحدي والاستمرار، نحن الآن في مدينة كييف الرازحة تحت القصف، مئات الالاف مثلنا بانتظار فرصة ووسيلة للهرب لكن ذلك مستحيل!!!
في الجزء الثاني سأكتب كيف وصلنا سيراً على الأقدام حدود رومانيا ليذكرني ذلك بتهجير آبائنا وأجدادنا 1948, مثلهم نحن نقاسي البرد والشتاء، التعب والخوف، العطش والجوع، كانت جدتي مثالاً اقتديت به لاتابع المسير وأعطي ابنتي الأمل والقوة كي نصل بر الأمان. من جهة ثانية ابنتي رجاء في برلين وحيدة يملؤها الخوف على مصيرنا والكبيرة في حيفا مذعورة من الأخبار وتعليقات زملائها اليهود عن الأوضاع في أوكرانيا، أمي التي يرتجف قلبها هلعاً علينا لا تتوقف عن الدعاء لنا بالصلاة وإضاءة الشموع، أخي سراج الذي يتابع تفاصيل الأنباء من جهة ويتابع مجريات الأمور معنا حال توفر الانترنت لدينا يشد من أزرنا ويقول ستصلون بالسلامة أكيد. وإن أنسى فلا أنسى من وجب تقديم الشكر له وطلب الرحمة لروحه أخي وخال بناتي الذي لم تلده أمي، كان له فضل كبير في تماسكنا وعدم تشتت أفكارنا نتيجة الخوف، ساعدنا جميعاً في السيطرة على ما لنا سيطرة عليه والخروج من هذه المحنة بسلام ورأس مرفوعة فنصل ديارنا سالمات، مدّنا بالطاقات الايجابية قائلاً:"كله راح يكون منيح المهم انتو ما تفقدوا الأمل، خليكوا أوايا، استخدموا كل طاقاتكو وقدراتكو ع التركيز عشان تلاقو حلول وما تخافو، كله راح يمرق وراح تتذكرو هاي الأيام". لقد صدق بالفعل وهذا ما كان بفضل شجاعة ابنتي ولاء العظيمة.
هكذا اذن أضيف ضلع خامس طويل وزاوية خامسة منفرجة لمعادلتي لتصبح ( نكبة، ولادة، تعويض، فقدان، تهجير وعودة).