تقنيات الحوار في رواية «ليل وأسئلة» لمحمد نصار
تمهيد:
تعد رواية (ليل وأسئلة) آخر نتاج روائي صدر للكاتب محمد نصار، عن مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر بغزة، طبعة أولى سنة 2021م، وهي تشتمل على جملة من التجارب الإنسانية المتداخلة فيما بينها: السياسية والاجتماعية والنفسية، فعتبة عنوان الرواية تشي بجملة من المضامين التي قاربتها الرواية، فالعنوان(ليل وأسئلة)، يشي بدلالات وإيحاءات متنوعة، فالليل يرمز لحال الأمة الذي تعيشه بكل ما فيه من مرارة وسوداوية، والأسئلة تؤرق الجميع، في هذه البقعة من الأرض التي كانت، وما زالت مسكونة بالأسئلة، أسئلة تبدو إجاباتها مستحيلة في هذا الواقع المأزوم، وعندما ينتهي القارئ من قراءة الرواية يجد أن الرابط كبير بين العنوان وبين مضمون الرواية وأحداثها.
تسعى الرواية إلى الكشف عن المكونات الفنية لأسلوب الحوار، وبيان بنيتها؛ لكون الحوار وسيلة رئيسة من وسائل السرد الروائي في رسم الشخصيات، والإبانة عن مستواها الثقافي والفكري والاجتماعي،كذلك تهدف إلى الكشف عن مدى التأثير والتأثر فيما بين تلك الموضوعات على شكل سردٍ روائي ينطوي على خصائص فنية عديدة، فقد عرض الروائي أحداث الرواية بشكل تفصيلي؛ كي يتيح للقارئ معاينة الواقع المعيش في المجتمع الفلسطيني بصورة واضحة تتجاوب مع ما كان عليه الإنسان الفلسطيني في ظل الاحتلال المرير، والحصار السافر، وفي ظل الانقسام البغيض، وجائحة كارونا اللعينة، علاوة على ذلك تنطوي الرواية على تقنيات فنية أسلوبية أدائية، وقد تضمنت الرواية طابع الحوار من خلال إشراك شخصيات عدّيدة في تقرير الحدث، والكشف عن ملابساته الخفية، إذ يعمد الروائي من خلاله إلى تطوير الخط الدرامي؛ كي يقلل من رتابة السرد، وشدِّ القارئ إلى الرواية حينها. ويدرك القارئ أن قدرة الكاتب وبراعتهعلى اختيار المفردات والعبارات الحوارية في الموضوع السياسي قد تجلت بشكل واضح في إبرازانسجام تلك العبارات مع المستوى الفكري والاجتماعي والبيئة المحيطة بالشخصيات المتحاورة،بيد أنه يلحظ - أيضا - أن ثمة نبرة خطابية أرسلت إلى هذا الخطاب الحواري عوضا عن الخطاب الذي يتسم بالإيحاء والتعبير بشكل درامي بعيدا عن الخطاب التقريري المباشر.على الرغم من استخدام الخطاب لبعض الأساليب البلاغية ذات التراكيب المجازية منها:"الوطن بقرة حلوب"، و"طعنة الغدر".
وهكذا يتبين للقارئ دور الحوار في عرض انفعالات الشخصية ومواقفها وأفكارها ووجهة نظرها إزاء الأحداث المحيطة بها.
يتمظهر الحوار في الرواية في أنماط عدّيدة، فهناك الحوار الخارجي، والحوار الداخلي، وقد يجمع الحوار إلى جانب اللغة الفصيحة اللغةَ العامية لغة الحياة اليومية، ويعمد الكاتب إلى توظيف التناصات التراثية: القرآنية والأدبية والثقافية، إلى جانب استدعاء الشخصيات التاريخية، والمأثورات الشعبية؛ الأمر الذي يثري الحوار، ويعمق مقاصدها،ومن جانب آخر يتمظهر الحوار بين الذات وما تحمله من هواجس وتساؤلات.
تعد رواية (ليل وأسئلة) للكاتب محمد نصار من بين رواياته التي كان لبنية الحوار فيها حضور وافر، إذ شكلت بنية الحوار فيها ما يقارب(40%) من السرد والوصف؛ ولما تحمله من تقنيات فنية متماسكة إلى حد كبير، فضلاﹰ عن لغته ذات الحس الواقعي، فقد وظف فيها الكاتب عدداً من أساليب البناء الروائي الحديثة مثل: الاسترجاع الفني، وأسلوب القطع، والحوار بنوعيه، والأحلام والكوابيس، والوصف، والسرد بأنواعه؛ الآمر الذي جعلها تؤدي دوراً متميزاً في عرض رؤية الكاتب الاجتماعية والسياسية والثقافية.
لهذه الأسباب وغيرها وقع الاختيار على هذه الرواية؛ واتخاذ بنية الحوار ميداناً للدراسة والتحليل؛ من خلال تحليل النصوص الحوارية، وبيان أبعادها الفنية والجمالية، والكشف عـن الـدلالات التي تمخضت عنها، ولتجيب عن عدد من الأسئلة منها:
هل وفق الكاتب في توظيف بنية الحوار؛ ليتماشى مع شخصيات الرواية والبيئة المحيطة بالشخوص، وما الوسائل الأسلوبية الفنية التي وظفها في روايته؟ وما مدى نجاحه في ذلك؟
أولاً – الحوار، مفهومه ووظائفه وشروطه:
يشكل الحوار مكوناً أساسياً من مكونات بنية الخطاب السردي في الرواية، وهو أحد أساليب التعبير فيها، وأحد عناصر بنائها، يوظفه الأديب؛ ليعبر عن رؤاه وتجربته الشعورية والجمالية.
تعريف الحوار: ويقصد بالحوار في هذه الدراسة الكلام الذي يتم بين شخصيتين أو أكثر،وبالتحاور يمكن أن يتعاون مع كلام شخصية واحدة، والحوار"هو اللغة المعترضة التي تقع بين المناجاة واللغة السردية، ويجري الحوار بين شخصية وشخصية أو شخصيات وشخصيات أخرى داخل العمل الروائي".
وتشترك بنية الحوار مع سائر العناصر الفنية في نسيج البناء الروائي وإقامة بنية روائية متكاملة، ويلمسّ الملتقى ثمة علائق ووشائج متينة بين الحوار وعناصر السرد المختلفة، ولا يمكن الفصل بينهما، إذ لا تنافر ولا اضطراب.
ولما كانت بنية الحوار ركيزة مهمة من ركائز البنية الروائية، والخطاب السردي، فلا يتصور أن تبني رواية من الروايات، ولا يستخدم كاتبها الحوار وجزيئات الحركة؛ لآنها بدون الحوار تغدو رواية جافة ومشوهة، وتكون خالية من الحركيّة، والتبادل اللفظي الحواري.
ومما لا شك فيه، أن بنية الحوار تؤدي دوراً حاسماً في تطوير أحداث الرواية، واستحضار الحلقات المفقودة فيها، والكشف المباشر وغير المباشر عن الطبائع النفسية والاجتماعية والثقافية للشخصيات، وفي رسم ملامح تلك الشخصيات وأبعادها، وفي استجلاء عمق الأشياء، وتكشف عن رؤية الشخصيات إلى العالم والحياة وموقفها من الآخرين.
ويساعد الحوار على بعث التلقائية في المواقف المتميزة، وتقوية أثر الواقع فيها، والحوار عنصر مهم للملتقى الذي يستند إقباله على قراءة الرواية على جاذبية الحوار،وقدرته على الإثارة والإقناع.
إن الحوار الذي لا يكشف عن مكنونات الشخصية، ولا يبرز ملامح الزمن والمكان في الرواية، لا يؤدي وظيفته الموضوعية والجمالية الحقيقية في بنية النص الروائي، ويشكل ضرراً على القيمة الأدبية للرواية.
شروط الحوار الناجح: ولكي يحقق الحوار مكانته وأهميته يتعين أن تتوافر فيه صفتان هما:
1.أن يندمج في صلب الرواية؛ لكي لا يبدو للقارئ، كأنه عنصر دخيل عليها ويتطفل على شخصياتها.
2.أن يكون طيِّعاً سلساً رشيقاً مناسباً للشخصية والموقف، فضلاً عن احتوائه الطاقات التمثيلية.
ثانياً – أنماط الحوار في رواية (ليل وأسئلة).
يتنوع الحوار الروائي ويتعدد تبعاً لقُربه من الحدث أو بُعده عنه، ووفقاً للوظيفة البنيوية التي يؤديها للسرد، وقد اتخذ الحوار في بنية رواية (ليل وأسئلة)مسارين اثنين:
أحدهما: الحوار الخارجي، ويتمثل في وجود صوتين متحاورين في النص الروائي (الدايلوج)، والآخر: الحوار الداخلي، ويتمثل في حوار الذات مع نفسها (المونولوج).
أ. الحوار الخارجي:
ويقصد به الحوار الذي يدور بين شخصين أو أكثر، ويسمع الملتقى هذين الصوتين واضحين في مشهد واحد.
ويطلق على هذا النمط من الحوار(الحوارَ التناوبي) أي: الذي تتناوب فيه شخصيتان أو أكثر بطريقه مباشرةً، إذ إن التناوب هو السمه الإحداثية عليه.
وتتعدد أنماط هذا الحوار على النحو التالي:
1 - الحوار المجرد البسيط:
وهو الحوار الذي يتواجد بفضل الموقف الذي يضع المتحاوريْن في وضع معين داخل المشهد، وهذا النوع من الحوار قريب من المحادثة اليومية بين الناس أو تبادل كلمات لا تحتمل فيها رؤية معينة، فهو حديث إجرائي متأسس على رد فعل سريع، أو إجابة سهلة التأويل المتعدد؛ لأنها إجابات متوقعة عن أسئلة عادية، ليس فيها رؤية خاصة.
ومن أمثلة الحوار المجرد ما كان بين (رئيس تحرير الصحيفة) والسارد /البطل من دعوة إلى افتتاح مجمع ثقافي في رفح باسم الشيخ مسعود، إذ بدأ رئيس التحرير متسائلاً:
– ما بك يا رجل؟
– داهمتني الذكريات فجأة، واقتادتني عنوة إلى منابع طفولتي الأولى.
– هل سبق وكنت هنا؟
– لقد ولدت هنا وعشت طفولتي وصباي وشبابي الأول.
– أول مرة أعرف ذلك... كنت أظنك من الشمال.
– تلك قصة يطول شرحها.
ومن أمثلة الحوار المجرد ما دار بين السارد البطل و(علاء)أحد العاملين في الصحيفة:
– أهلا يا علاء.
– آسف على الإزعاج أستاذي.. لكن لدي خبر يهمك.
– خير يا علاء؟
– الشيخ مسعود.
– ما به؟
– مات.
– ماتّ!
– نعم، اليوم عصراً تم دفنه.
– كيف مات؟
– قالوا أنه أصيب بالكارونا، وتم على إثر ذلك نقله للمستشفى، حيث أمضى يومين في العناية
المركزة، ثم توفاه الله.
– أنت متأكد مما تقول!
– أحد الأربعة الذين شاركوا في مراسم دفنه أخبرني بذلك، ثم إنَّ اسمه ورد ضمن المتوفين الذين تعلن عنهم وزارة الصحة.
– لا حول ولا قوة إلا بالله!
وهذا اللون من الحوار يقترب من المحادثة العادية أو من الإجابات السهلة عن الأسئلة التي تطرحها الشخصيات، بيد أن تلك الإجابات العادية تتسم بالبساطة والابتعاد عن الشرح والتحليل والتعليل والترميز.
تكتشف القارئ أن الحوار المجرد ما هو إلا أسئلة بديهية بين المتحاورين، لا يعتريها أي غموض أو التباس، فهو رد سريع متوقع، يكتسي طابع المحادثة، ولا يعدو كونه مشهداً من مشاهد حياتنا اليومية.
3 - الحوار الوصفي التحليلي:
وفى هذا النمط من الحوار يُظْهِر المحاور قدرته على وصف القضية والتعمق فيها، وإبداء الرأي ووجهة النظر، فضلاً عن تحديد الرؤية على الوصف والتحليل.
ومن أمثلة هذا النوع من الحوار ما دار بين ضابط التحقيق والصحفي محمد السارد، إذ بدأ محقق المباحث الحوار مخاطباً الصحفي محمد بقوله:
– منشوراتك فيها الكثير من الغمز واللمز علينا.
– أنا أكتب ما يمليه علي ضميري وليس للموضوع علاقة بالحب أو الكره.
– وهل ما يؤرق ضميرك فعلنا فقط، لماذا لا أجد ما يؤرق ضميرك من فعلهم أيضا؟
– غير صحيح.. أنا مع الناس.. أعبر عن آلامهم وأحلامهم.. عما يوجعهم وما ينقصهم، دون تمييز بين هنا وهناك وبلغة مهذبة لا شتم فيها ولا تجريح.
– صحيح لا شتم فيها ولا تجريح ولكنها تطالنا نحن في الأغلب الأعم.
– ولو كنت جالساً هذه الجلسة هناك، لربما وجهوا لي نفس الاتهام.
– من أين تتقاضى راتبك؟
– من الصحيفة التي أعمل فيها.، رد بابتسام يدلل على فهم مغزى سؤاله.
– على كل حال يا أستاذ محمد، نحن نسعى بكل جهد للتخفيف من معاناة الناس ولكن الحصار اللعين يطبق علينا جميعا ويحد من كل جهد نبذله.
– أرجوك.. لا داعي أن نعلق كل مصيبة عدنا على شماعة الحصار والاحتلال.. هناك الكثير من الأمور التي يمكن معالجتها بجهد بسيط، بعيداً عن هذه الشماعة المهترئة، من كثرة ما علقنا عليها أشياء.
– مثل؟
– الفساد.. المحسوبية.. الحزبية المقيتة.. أشياء كثيرة يمكن فعلها ولا تكلفنا شيئاً، لكنها تترك الكثير من الأثر في حياة الناس.
– نحن نسعى بكل شكل للوصول إلى ذلك، ولكنكم للأسف لا ترون إلا النصف الفارغ من الكأس.
– الشمس لا يغطيها غربال.
– يبدو أننا لن نصل إلى شيء من هذا النقاش، فما عجز القادة عن تحقيقه على مدار سنوات، لن نحققه هنا، لذا أتمنى عليك وأنت كاتب كبير ومعروف، أن تراعي الظرف الذي نعيشه، وأن تظل حيادياً في مواقفك، موضوعياً في طرحك، وأن تتجنب كل ما يثير الفتن والخلاف.
– هذه قناعاتي يا أستاذ، قناعتي التي أؤمن بها وأدافع عنها، بعيداً عن الهوى والتعصب.. هذه بلدي وهؤلاء جميعا أهلي مهما اختلفت توجهاتهم.. الأفكار والأحزاب والحكومات تمضي ويبقى الناس، من قرأ تاريخ هذه البقاع يعرف أنها ما دامت لأحد، لكن أهلها داموا وعاشوا وصمدوا أمام كل النوائب والملمات".
لقد صور هذا الحوار الساخن التناص الكبير بين موقفين ارتباطا بمواقف موجودة داخل المجتمع الفلسطيني. ويبدو من المشهد الحواري السابق أن لكلٍ من المتحاورين وجهه نظر خاصة تختلف اختلافاً كبيراً، بل تتقاطع عندها النظرة والموقف، وعندها تصل إلى حد المعارضة، فالمحقق يؤثر مصلحة السلطة الحاكمة، في حين أن الصحفي (محمد (مع الفكر الذي يخدم مصلحة المواطن، إنه لا يؤثر السلامة والراحة النفسية لنفسه، وإنما يُسخِّر ذاته وقلمه من أجل المنافحة عن مصالحالأمة،وهموم الوطن.
ويتضح مما سبق – أيضاً – أن ثمة تعارضاً بين وجهات النظر، إذ إن كل فريق يسعى إلى إبداء وجهة نظره التي يقتنع بها. وهذا النوع من الحوار يثري بنية النص الروائي، ويعمق الحدث، ويدفع المتلقي إلى اتخاذ موقف يؤمن به، ويدافع عنه.
وقد تكشفت في المقطع الحواري بعض سمات الحوار الفنية التي تبدت جلية واضحة؛ ذلك أن الحوار جاء مقنعاً وطبيعياً وعفوياً لا تكلف فيه، منسجماً مع ظروف البيئة المحلية، ومستوى الشخصية الفكري، ودرجة نضجها الثقافي.
ويتجلى دور الحوار في توضيح العلاقة بين شخصية المحقق، وشخصية الصحفي، وقد طال هذا الحوار الخارجي طولاً جعله يكاد أن يتحول إلى مشهد مسرحي، يستمع المتلقي من خلاله إلى موقفِ كل شخصيةٍ ورؤيتها إلى حرية التعبير؛ الأمر الذي منح الحوار حركة وحيوية وجمالاً وفناً.
3- الحوار الترميزي:
ومن أنماط الحوار الخارجي الحوار الترميزي، وهو النمط الثالث من الحوار الخارجي المباشر، ويقصد به: الحوار الذي يميل إلى التلميح والإيحاء بعيداً عن التقريرية والمباشرة الظاهرة والطروحات الزائدة، فالترميز هو توظيف ّ الرمز في نسيج الرواية وجعله طاقة تعبيرية فاعلة في النص، ويجد المتلقي الراوي يرمز للهدف أو غاية الرواية من خلال استخدام الرمز، والتعبير عن الآراء والأفكار التي يؤمن بها"وقد يكون الترميز على مستوى الموقف والحادثة، وهو حوار قائم على التأويل والتلميح والترميز على مستوى اللفظة والأسلوب والموقف بعيداً عن التقريرية والمباشرة.
ومن أمثلة الحوار الترميزي على مستوى الموقف والأسلوب ما دار من حوار بين السارد/البطل ورئيس تحرير الصحيفة حول المركز الثقافي الذي أقامه الشيخ مسعود، يبدأ السارد بالتساؤل:
– لمن يتبع؟
– لا أظنه يتبع أحدا.
– مستحيل!!
– هو رجل من أهل الله... صادق خلوق.. يحظى باحترام الجميع وودهم.
– أكيد سيحظى باحترام الجميع، طالما يده في حلوقهم، ولكن من غير المؤكد أنه من أهل الله.
– أنتم الأدباء هكذا دوماً.. لكم شطحات عجيبة، ولا تحسنون الظن بالناس.
– لا يا عزيزي.. بل نحن نرى ما لا يراه الناس، إلا بعد فوات الأوان.
– دعنا من هذا الآن وركز في الكلمة التي ستلقيها هناك.
– لا عليك سأجعل من ذلك اللص أشرفهم.
– أرجوك بيننا عمل.. إعلانات.. تغطيات.. أشياء كثيرة، لا يمكن أن نضعها في مهب الريح.
– سيكون لك ما تريد.
لجأ السارد في هذا المقطع الحواري إلى أسلوب الترميز والتأويل والإيحاء في موقفه من الشيخ مسعود وعمله الخير في قوله:
"أكيد سيحظى باحترام الجميع، طالما يده في حلوقهم"، فعبارة"يده في حلوقهم"، توحي بأن الشيخ مسعود وأمثاله يمارس سلطته عن طريق تقديم المال والرشوة والمساعدات، وقوله في سخرية وتهكم مر وسأجعله أشرف لص.
يتضمن هذا الحوار شرحاً لموقف الشيخ مسعود الذي يوظف المال من أجل الحصول على مكاسب ذاتية حزبية، فهو يشتري الذمم والنفوس ويسخرها لمصالحه، متخفياً في ذلك وراء عباءة التدين.
أما رسالة الصحفي ووظيفته، فهي متأسسة على قول الحقيقة، وتعرية مثل هذه النماذج، وذلك بأسلوب فيه سخرية لاذعة، وتهكم مر، وكوميديا سوداء، فالصحفي سيجعل في مقالته من هذا اللص أشرف الناس. وهكذا عبر الكاتب في هذا الموقف أو المشهد عن أفكاره بطريقه إيحائية ترميزية تأويلية بعيداً عن المباشرة والتقريرية.
4- المشهد الحواري:
وهو نمط من أنماط الحوار الخارجي، وفيه يستعين الكاتب بتقنية المشهد الحواري التي تقوم على مزج الحوار بالسرد، وإبطاء الحركة السردية في النص الروائي، وإذ يتوقف السارد عن السرد، فاسحاً المجال للحوار الذى يجرى بين شخصيتين أو أكثر تتبادلان الكلام، وتنجزان الفعل الحواري بشكل مباشر، ثم يعود السارد إلى السرد مرة أخرى.
يعمد أغلب الروائيين الواقعيين؛ ومنهم محمد نصار إلى الإكثار من المشاهد الحوارية في رواياتهم؛ لأن الحوار هو أكثر المقاطع الروائية تمثيلاً لآراء الشخصيات، وعرضاً لبعض القضايا المهمة التي يغفلها السرد.
وثمة أمثلة عديدة في الرواية على هذا النمط من المشاهد الحوارية، فالرواية ثرَّية بمثل هذه المشاهد، وفى هذا النمط من الحوار يشترك الحوار مع السرد والوصف في بناء النص الروائي. ومن أمثلة المشهد الحواري ما تجلى في المشهد الذى دار فيه الحوار بين السارد وزميلته (نور) مراسلة الصحيفة في المنطقة الوسطى.
يلحظ القارئ المثالي النموذجي أن المشهد يبدأ بمقطع سردي، ثم يتخلى السارد تماماً عن السرد؛ ليفسح المجال للشخصية المتحاورة (نور)؛ كي تبوح بنفسها عما تريد قوله بدون تدخل من الراوي لا بالتقديم أو التعليق، وهذا الأسلوب يشبه الأسلوب المسرحي، ثم يأخذ الحوار بالتغلغل في المشهد، وبعد انتهائه يعود السرد للرواية مرة ثانية، يبدأ المشهد بالسرد.
"ارتشفت من فنجانها رشفة.. وضعته أمامها بتأنٍ.. أطرقت للحظة، ثم رفعت رأسها وقالت بشيء من الارتباك:
– أستاذ محمد، كنت سأكتب لك في موضوع على الخاص، لكني خشيت من ذلك، فكل شيء في حياتنا بات مراقباً.
– خير؟.، رد بشيء من التحفز والتركيز.
– قرأت لك قبل أسبوع منشوراً عن ظاهرة الإدمان"الإدمان يتفشى في شبابنا؛ لأن تاجراً اشترى مسؤولاً".
– صحيح.
– أرجوك أن تدع هذه الأشياء ولا تكتب فيها!
– لماذا؟، رد بنبرة حاول جاهداً أن يضبط انفعالها.
– ربما كلامي فيه شيء من التطفل أو قلة الأدب، لكن حرصي وخوفي عليك هو من دفعني إلى ذلك.
– وضحي.
– بعد حملة التشهير بتجار المخدرات، التي أعقبت مقتل رجل على يد ولده المتعاطي، ذهب أحد أولئك المجرمين إلى بيت زميل صحفي وهدده بالقتل وحين ذهب الصحفي لتقديم شكوى بحقه، لم يتخذوا أي إجراء ضد ذلك المجرم، مجرد تعهد فقط.
– معقول!!
– كما سمعت.
وضعت فنجانها، وانسحبت مودعة....".
يتركب هذا المشهد الحواري من جمل حوارية مباشرة، تؤدى وظيفة توالي الأحداث بسرعة، فهي تعبر عن موقف من القضايا اليومية بدون إطناب، أو إطالة.
ولا شك في أن للمشهد الحواري دوراً كبيراً في الكشف عن الأحداث وتطورها، وأنه يبّث الحركة والحياة في السرد، ويدعم فكرة معينة، أو يجعل المتلقين يتبنون مواقف خاصة، ويترك المجال للشخصيات؛ لتعبر عن رأيها وهمومها بلغتها الخاصة.
وللمشهد الحواري – أيضاً - دورٌ فاعلٌ ومطورٌ للزمن وأحداث الرواية، وكل هذا يعتمد على طريقة الكاتب في عرض الأحداث وتطويرها، وبراعته في كتابة المشاهد وتحريك الزمن.
ب – الحوار الداخلي (المونولوج):
ويقصد به حديث الذات الداخلي، وهو لون من ألوان الحوار المباشر للذات، وتكمن وظيفته في تقديم المحتوى النفسي للشخصية، والعمليات النفسية لديها، دون التكلم بذلك على نحو كلي أو جزئي، وهو أنماط:
1- المونولوج:
يعد الحوار الداخلي وسيلة من الوسائل البنائية التي تحقق بناء سردياً في الخطاب الروائي، ويكشف عن الكيان النفسي للذات المتكلمة وعن وعيها.
ومن سمات المونولوج إضفاء الطابع الدرامي على الشخصية، إذ يتنحى السارد جانباً، تاركاً للشخصية ذاتها أنْ تعبر عن مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها وهواجسها.
ومن أمثلة المونولوج ما دار في ذهن زوج السارد من هواجس وخيالات وظنون حول انعزال زوجها للكتابة، إذ يمارس الراوي في هذا المقطع تدخله في الشخصية من خلال رصده لحركاتها وقلقها وخوفها، والغيرة التي تنتابها والمصحوبة بتساؤلات واستفهامات تجهل الإجابة عنها. تقول الزوجة محاورة نفسها:
– ما الذي يفعله في هذه الساعة من الفجر؟
سؤال أرقها لياليَ بطولها.. منذ أسبوعين وهو يتسلل من فراشه خلسة، وينزل إلى المكتب مُتَسحِّبَاً كلصٍ حَذِرٍ،
– فهل هو حقاً مشغول بعملٍ جديد، كما يزعم ويدعي، أم أن هناك ما يخفيه عني؟
في المشهد الحواري السابق فالشخصية لا توجه كلامها لأحد؛ وإنما توجهه إلى الداخل، فتجعل القارئ يندمج مع حديث الشخصية الداخلي، متناسياً كلام أو تدخل المؤلف الذي تعوَّد على تقديم الأحداث أو أوصاف الشخصيات أو مشكلاتها.
يصور المنولوج السابق الحالة النفسية للزوجة التي تعبر عن القلق والحيرة والغيرة على زوجها المنهمك في الكتابة، فالشخصية في الحوار الداخلي تتساءل، وتبحث عن إجابة؛ ذلك أن من مهمات الحوار الداخلي رفع الحجب عن مشاعر الشخصية وأحاسيسها تُجاه الأحداث والشخصيات الآخري.
فالمونولوج حديث أحد أشخاص الرواية مع نفسه لنفسه، وهو يلقي الضوء على العالم الداخلي للأشخاص، ويقرِّب المسافة بين الشخصية السردية والقارئ، ويضع هذا الأخير في الجو العاطفي، والنفسي المتوتر الذي تمر فيه.
وفي موضع آخر من الرواية يشعر المتلقي بوجود صوتين داخليين، الذات مع نفسها، يلقي المونولوج الضوء على أعماق الشخصية، ويكشف عن هواجسها من خلال هذا التناوب الصوتي بين (أنت - أنا) الداخلتين، وهذا ما جعل القارئ يشعر بوجود صوتين مختلين في المونولوج. يقول السارد وهو راكب في سيارة الأجرة إثر مقابلة ضابط التحقيق:
"خواطر سمحتْ لسمجٍ ما، أن يتسلل من أعماقه المثخنة ويرميه متهكماً:
– لم أحسبكَ خرعاً وجباناً إلى هذا الحد، كنتَ أراكَ أشجع وأصلبَ عوداً.
– وكيف حكمتَ بذلك؟.، همس باستخفاف وتهكم.
– شاهدتُ اضطرابكَ وخوفك ولينَ حديثك معه.
– هل كنتَ ترجو أن أحملَ رشاشاً وأهاجم المكان؟
– لم أقل هذا، ولكنْ كنْ أجرأَ في دفاعك عن قضاياك ومواقفك.
– لم أطلب مشورتك، ولا أسمح لك بالتدخل في شأن يخصني.
– شوفونية تتميزون بها جميعاً معشر الكتاب والمثقفين، وأنتم في الحقيقة لا شيء.. مجرد فقاعات باهةٍ تُنَفِّسَها لسعةُ بعوضة.
– اخرس!
قالها بانفعال لفت نظر السائق إليه، تملكه الحرج، وحاول أن يوضح له، أن غفوة صغيرة أخذته إلى كابوس مزعج".
يلحظ المتلقي أن صوت الشخصية في المقطع الحواري السابق قد انقسم صوتين، إذ ثمة صوتان داخليان يتحاوران، في بنية المونولوج، فيكون هناك صوتان في العبارة في آن واحد، هما صوت الراوي الخارجي وصوت الشخصية، حيث يكون وعى الشخصية منقسماً إلى أصوات متعددة، ففي داخل الشخصية لا يتكلم صوتٌ واحدٌ، بل أكثر من صوت، كلٌ منها له رؤيته الخاصة للأشياء والعالم، وقد يستخدم إلى جانب الحوار الداخلي تقنية الارتجاع الفني، وتقنية الحلم والكواليس، ووظيفة الحوار الداخلي دفع بعجلة السرد إلى الأمام، وقد خلق النص رؤى متناقضة، متعارضة غير متطابقة.
استثمر السارد تقنية حلم اليقظة؛ ليبوح بانفعالاته وأحاسيسه، إذ يجد المتلقي أن هذا الحوار جاء في نهايته بصوت مسموع، إذ نطق السارد بلفظة (اخرس) وهو في سيارة الأجرة، وقد سمعها سائق السيارة؛ الأمر الذي منح الحوار واقعية ومصداقية وحركية.
2 – مناجاة النفس:
مناجاة النفس طريق من طرائق الحوار الداخلي، هي نوع من أنواع الحوار الداخلي، ویمكنتعریفها بأنها:"تفكیرالشخصیة بصوت عالٍ، وبتكثیفوتركیزعالیین"، وفيه تبوح النفس بحرية تامة بعيداً عن هيمنة السارد، وتفضي بالمحتوى الذهني والأحاسيس الذاتية المُستكِّنة في قاع النفس الإنسانية، فالمناجاة هي الحديث النفسي الذي من شأنه تعرية النفس من خباياها وما تنطوي عليه من أحاسيس وعواطف.
فأحياناً يجرد السارد من نفسه إنساناً آخر يحاوره، كأنه ماثل أمامه، ويكون هذا الحوار غير مسموع تارة ومسموعاً تارة أخرى، وهذا الحوار يذكي الصراع النفسي داخل الشخصية، ويجعلها تكشف عما بداخلها بصدق وعفوية، ومثال ذلك محاورة السارد لنفسه في المشهد الآتي في الحديث عن إغلاق المناطق بسبب جائحة كارونا:
"ماذا لو طال الحال واستمر الحظر لأيام طوال، أو امتد لأسابيع أخرى.. ثلاثة أيام وضاق الناس ذرعاً بحالهم، فكيف لو طال الأمر؟.. ماذا سيصنع السائقُ والحلاق والبائع الجوال وصاحب المطعم والحلواني وغيرهم.. يا إلهي أيُّ مصير ينتظرنا؟ وأيُّ بلاء هذا الذي حلَّ بالناس؟ الناسُ معذورة في ضيقها في كدرها.. في طيشها وجنونها أحيانا".
لقد استمر الراوي في مناجاة نفسه بتساؤلات تتجه إلى ذاته عن الوضع الذي آل إليه الناس في ظل الحجر الصحي بفعل جائحة كارونا اللعينة.
وغالباً ما تكون المناجاة بلغة الهمس، وهى بوح إنساني، تفضي فيه الشخصية بمكنوناتها على انفراد، وفى لحظة من لحظات التطور الحاسم. يقول في نقد اجتماعي لبعض الظواهر في المجتمع:
"وهمس حانقاً: يا إلهي.. أيُّ انحطاط هذا الذي وصلنا إليه؟ همس معقباً، ثم تابع بنفس الغُصَّة التي تخنقه: إلى متى هذا الضياع والفساد الذي يطبق على مفاصل الحياة، ويؤولها وفق الوجهة التي يريد؟ مَنِ المسؤولُ عن ذلك كله؟ ومن المستفيد منه؟
وقد جاءت المناجاة في النص السابق على شكل أسئلة واستفهامات، فيسأل الإنسان نفسه أسئلة يدرك أنه يعرف الإجابة عنها، إذ تعتمد المناجاة على توظيف المدلولات الاستفهامية والتعجبية التي تجعل من المتلقي راصداً للشخصية، وكاشفاً عن توترها النفسي، فأسلوب الاستفهام والتعجب كلاهما ينقل التوتر والقلق والاضطراب النفسي، والتشويش الفكري.
وفي الرواية ظهرت المناجاة بشكل لافت، فقد كانت عنصراً غالباً فيها حيث كان الراوي / البطل يتحدث كثيراً إلى نفسه ويعاتبها. ففي مناجاة مؤثرة عن احتمال إصابته بجائحة كارونا، والتي جاءت في إطار ضمير المخاطب للتعبير عن صورة مناجاة الشخصية لذاتها. يقول السارد في مشهد يناجي الروائي نفسه فيقول:
"أيُّ مصير يتربص بي؟ إنْ كان ما ينتظرني بهذا الرعب وهذه البشاعة، أنا لم أخش الموت يوماً ولم أهبه، هو حاضر دوماً في وجداني ومن حولي، في الحرب الأخيرة صادفته أكثر من مرة وكادت آخرها أن تودي بي، وكلما بدأت عملاً روائياً جديداً، خُيِّل إليَّ أني لن أُكمله، حتى هذه الرواية التي انشغلت عنها، بهذا الواقع المضطرب في كل تفاصيله، قلت: إنها ستقتلني، ومع ذلك يعز عليَّ بعد كل هذه الحروب والاجتياحات وملامسة الموت أكثر من مرة، أن أموت بعطسة أو قبلة أو حتى مصافحة عابرة. عبثيةٌ مجنونةٌ تمارسها علينا الحياة، همس قائلاً، كلما اعتقدنا أنها دانت لنا، مطت لسانها بكل سخرية وازدراء، معلنةً تمردها وجبروتها، معادلةٌ لا نلتفت إليها إلا ونحن في أوج ضعفنا وانكسارنا، معادلة ما اعتبرنا منها مرة واحدة، فكلما تبسمت لنا - ولو على استحياء- عدنا لغينا ووهمنا بما بين أيدينا من قوة، فتفاجأنا بحجم العجز والهوان الذي يلفنا عند أول مواجهة".
يعمل السارد في المقطع الحواري السابق على تقديم أفكار الشخصية وهواجسها وتخيلاتها بشكل مباشر، من الشخصية إلى المتلقي من غير حضور المؤلف، ولكن مع افتراض وجود الجمهور افتراضا صامتاً.
يظهر للمتلقي من خلال هذا النص مشاعر الخوف والقلق التي تظهر على الراوي، وهو يحدث نفسهبها ويتساءل بينه وبين نفسه عن هذا الخوف الذي بدأ يظهر عليه. ويكشف هذا الحوار الداخلي عن مكنونات النفس وخباياها.
وتكشف المناجاة كذلك عن بعض السلوكات والتصرفات والاهتمامات لدى الشخصية: كالانطواء والوحدة والتفكير، وهذه الأشياء انعكاس لواقع حياتها الاجتماعية والثقافية، ويغلب على هذا المقطع المناجاتى طابع السؤال والجواب، وهذه الصيغة تتلاءم مع طبيعة مناجاة النفس التي يفترض وجود مروٍ له. تطرح عليه الشخصية أسئلتها وهواجسها وأفكارها.
ويلحظ المتلقي أن مناجاة النفس تمتاز بقصر عباراتها، واحتوائها المعنى المباشر، واقتصارها على الموقف الجزئي، فضلاً عن زيادة الترابط، وذلك؛ لأن هدف المناجاة هو توصيل المشاعر والأفكار المتصلة بالحبكة الفنية، فالشخصية هنا تعاني صراعاً داخلياً، وترمي مناجاتها مع نفسها إلى أن تكشف للقارئ حقيقة شعورها تجاه هذا الوضع القائم.
3- الارتجاع الفني:
يمثل الارتجاع الفني شكلاً من أشكال الحوار الداخلي، حيث تعمد الشخصية إلى تذكر أشياء ماضية، وتدخلها في نظام جديد من الزمن، والارتجاع هو"قطعٌ يتم في أثناء التسلسل الزمني للعمل الأدبي أو يستهدف استطراداﹰ يعود إلى ذكر الأحداث الماضية؛ بقصد توضيح ملابسات موقف ما".
وغالباً ما يكون التحدث مع الذات من حدثٍ وقعَ في زمن مضى. ويكون الارتجاع في بعض الحالات على شكل حوارٍ خارجي، وذلك عبر هواجس وأسئلة مستعادة.
وقد يعمد الكاتب إلى توظيف تقنية الارتجاع الفني، حيث يتذكر إحدى الشخصيات التي رسمها في أعماله الروائية السابقة، ويجري معها حواراً داخلياً، كأنها ماثلة أمامه، وقد استدعى بعض شخصيات رواياته مثل: أم حسين، وأبو حسين، وأبو محمود، والشيخ مسعود، والشيخ إبراهيم، وابن فهمية وغيرها.
ففي أحد المشاهد الحوارية يستدعى شخصية (مزيونة) التي وردت في روايته(صفحات من سيرة المبروكة)، ويجري معها حواراً جاء على صورة حوار خارجي، وقد أتاح لها فرصة التعبير عما بداخلها من رؤى وأفكار وأراء ومشاعر، يقول السارد:
– من أنت ! سأل بشيء من الدهشة والفضول.
– من أنا !.. أبهذه السرعة نسيتني يا أستاذ؟
– لم تعد تسعفني الذاكرة في الكثير من الأحيان.. كثرة الهموم والمشاكل التي نمر بها، تئن من وقعها الجبال.
– أنا مصيونة.. مصيونة التي رجمتها بالزنا في المبروكة واضطررتها؛ لأن تمر في أقسى تجربة عرفتها امرأة حتى تبرأ نفسها وها هم أهلي وربعي قد جاءوا داعمين موقفي.
– مصيونة التي ذكرتها في المبروكة!
– نعم هي بشحمها ولحمها.
– لكن أمرك قد مضت عليه سنون طوال.
– المواقف لا تتبدل مع الأيام.
– أنا لم أبدل شيئًاً، لكن الوقائع اختلفت.
– ما اختلف شيء سواكم يا أستاذ، الطهارة هي الطهارة..من عهد آدم والرجسُ هو الرجسُ كذلك.
– أهلُ مكة أدرى بشعابها، وما كان في زمانك لا يصلح البتة لزماننا.، رد بتوترٍ وعصبية.
– القيم لا تتغير مع مرور الزمن، فالخيرُ هو الخيرُ، والشرُ كذلك مهما تبدلت الأيام.
– أرجوك لا تنسي أن بينكم قرابة مئة عام، ومثل هذا التنظير يستفزني.
– يستفزك؟!
– نعم، يستفزني؛ لأنه لا يراعي عوامل الزمن والفوارق بين واقعين.
– على كل حال هو عتاب ونصح؛ كي لا تجد نفسك عارياً أمام النقاد، وعاجزا عن الدفاع عما خطت يداك.
– هذا شأني أنا، ولا داعي أن تحشري نفسك فيه.،
رد بشيء من الحدة والانفعال، بدون أن ينتبه لدخول زوجته التي أثارها الموقف، وراحت تنظر إلى الحاسوب الذي أمامه، معتقدةً أنه يحادث امرأةً ما، وبشيء من الخوف.. سألته مستفسرة:
– مع من تتحدث؟
استدعى الراوي في هذا المشهد الحواري شخصية (مزيونة) التي وردت بهذا الاسم في رواية (صفحات من سيرة المبروكة)، وإنما سمَّاها (مصيونة)، مستثمراً حكايتها في صون شرفها مما لحقه من تهم، وفي إثبات براءاتها، فيجمع في هذا المشهد بين الخيال والحقيقة، ويمزج بينهما باقتدار وجدارة.
فالشخصية في أثناء الحوار تقوم باسترجاع ذكرياتٍ ماضيةٍ لها مكانة في نفسيتها، هذا الارتجاع يكون داخلياً، أو يكون بين الشخصية ونفسها بعيداً عن مشاركة شخصيات أخرى، إذ استخدم الكاتب أزمنةً مختلفة في زمنٍ واحد، فالماضي يتخلل الحاضر، وكذلك الحاضر يتخلل الماضي.
وتمتاز تقنية مناجاة النفس بأنَّ الشخصية تفكر بصوت عالٍ في المناجاة، وقد اكتشفت زوج السارد هذا الأمر عندما لحظت أن زوجها يتحدث بصوت مسموع، وسألته قائلة: معََ مَنْ تتحدث؟ ولا يشترط أن يكون الحوار الداخلي مسموعاً، وإنما يكتفى فيه أحياناً بالهمس والتفكير والتذكر.
لقد أتاح الروائي لهذه الشخصية التعبير عن مكنونات نفسها، والبوح بما تحمله من أفكار ونظراتٍ تخصُّ تطور المجتمعات، بيد أن المتلقي يلتقي أفكاراً ولغة بمستوى ثقافي وفكري يرتقى عن مستوى الشخصية، لا سيما وأنها شخصية قروية غير مثقفة الثقافة التي تؤهلها للتعبير عن هذا المستوى الفكري والثقافي الذي لا يناسبها ذلك؛ لأن الحوار يجب أن يكون موضوعيّاً نابعاً من خلال أبعاد الشخصية التي يرسمها الكاتب، والتي تصل إلى درجة من التركيز اللغوي والدرامي).
استحضر الروائي في موضع آخر من الرواية شخصية الأستاذ (محمود)، وهي إحدى شخصيات روايته (سوق الدير)، استدعاها من الماضي البعيد، وكان هدفه هو تصوير الواقع بكل حذافيره، يقول السارد في هذا المقطع الحواري الذي تبدأ فيه شخصية الأستاذ(محمود) الحوار تعليقاً على موقف الصحفي من مواجهة مشكلات المجتمع وقضاياه:
– هذا هروب يا عزيزي.
– من.. الأستاذ محمود!
– نعم الأستاذ محمود.
– لولا أني أجلك عالياً لَمَا أذنت لك بالحديث.
– ولولا أني أفخر بك ككاتب كبير، لَمَا تدخلت في شأن يخصك.
– تفضل! قل ما تشاء.
– لقد أوجدتني في سوق الدير وبنيت عليَّ آمالاً كبيرة، بصفتي الأستاذ والمثقف، الذي لا بد أن يكون حاضراً في مسيرة البناء والتحرر، وأظنك لم تبخل علي بشيء في ذلك التكوين، الذي مكنَّني من القيام بدوري على أكمل وجه.
– صحيح.
– لكن حجم المؤامرة كان أكبر منَّا جميعاً، فوصل بنا الحال إلى ما وصل إليه، رغم كل التضحيات.
– نعم.. لكنها اليوم أكبر.. بل فاقت في فداحتها كل خيال.. كنا شعباً، فصرنا شعوباً.. كنا عرباً فصرنا أعراباً.. كنا أمة واحدة، فصرنا أمماً متناحرة.
– هنا يأتي دوركم.
– أيُّ دور هذا، في ظل وجود الجاهل والدعي وأصحاب الأجندات والمشاريع، الذين يرون الوطن بقرة حلوب؟
– شراسة المعركة لا تبرر الهروب منها.
– هذه ليست معركة.. هذه خيانة.. عارٌ.. المعركة تخوضها ضد عدو تعرفه، لكنَّا هنا لا نعرف من العدو من الصديق ولا من نقاتل، أو من أين تأتينا طعنة الغدر؟
– هل الاستسلام هو الحل؟
– بالطبع لا.
– إذن لا بد من إيجاد الحلول، فشراسة المعركة تستدعي تغيير التكتيك والأسلحة وليس الاستراتيجية.
سلط الحوار الضوء في هذا المشهد الاسترجاعي على أحداثٍ وقعت في الماضي، إلا أن لها حضوراً فاعلاً في الرواية، حيث إنها كشفت عن ماضي الشخصيات المتحاورة، فهذا المقطع الحواري يكشف عن أخلاق الأستاذ (محمود)، والمبادئ والقيم التي يتحلى بها.
ويدرك المتلقي الماهر أن الكاتب في المقطع الحواري السابق قد أطال الحوار بعض الشيء، وطولُ الحوار تفرضُه طبيعةُ الموقف؛ وكان غرضُه يكمن في الكشف عن طبيعة موقف الأستاذ محمود ومحاولته الدفاع عن القيم الوطنية والمبادئ التي يؤمن بها.
ويلمس القارئ – أيضاً - أن الكاتب راوح في الجمل الحوارية بين الجمل القصيرة والجمل الطويلة بحسب الحاجة الفنية، وبحسب ما يقتضيه الموقف الموحي إلى دلالات تفهم من سياق الكلام، رغبة منه في تحقيق المتعة الفنية، وفي تحميل النص ما يريد المبدع بلوغه من مرامٍ وغايات.
ويأتي استدعاء الشخصيات من الماضي؛ لتعزيز فكرة آمن بها الروائي أو رأي اعتقده، وهو الضعف والتشرذم الذي يقود إلى الانقسام من أجل تحقيق مكاسب ذاتية أو مصالح شخصية، وليس لمنفعة الوطن والأمة. وقد رصد الكاتب عبر التحاور قضية أخرى مهمة من قضايا الواقع الفلسطيني المعيش، وهي قضية التمزق التشرذم، وما خلفته تلك القضية من مشاعر أليمة تغلغلت في نفوس المثقفين التي يشهدها المجتمع العربي.
وقد استطاع الروائي في هذا المقطع الحواري أن يوظف السياسة في روايته؛ لأنها رواية تحمل بعض سمات الرواية الواقعية، إذ تنتمي إلى الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تتحرك فيه الشخصيات السردية التي هي صورة منقولة عن شخصيات الواقع، لكن المؤلف كان في كل مرة يختبئ خلف تلك الشخصيات، ويمرر ما شاء من أفكار ومواقف متعددة حول ما يحدث في مجتمعه الفلسطيني، وكان يتحدث عن ذلك من خلال الشخصيات المتحاورة في الرواية.
ويدرك المتلقي أن هذا الحوار لون من ألوان النقد الاجتماعي والسياسي الذي وجهه الكاتب؛ لنقدالأوضاع التي تسود المجتمع الفلسطيني، مستثمراً في ذلك إمكانات الحوار الفنية والجمالية وقدراته على تصوير الواقع المعيش، ونقله بصدق وعفوية؛ بقصد إثارة المتلقين وتحقيق المشاركة الوجدانية والفكرية معهم، وفي هذا إشارة إلى رسالة الصحفي والكاتب ووظيفته التي تكمن في كشف مثل هذه النماذج، وإلقاء الضوء على سلوكاتها غير الوطنية؛ الأمر الذي اضفي على الحوار الدرامي لوناً من الخيال الممزوج بالواقع.
3 - أحلام اليقظة:
تشكل أحلام اليقظة نمطاً من أنماط الحوار الداخلي، فقد عمد الكاتب إلى توظيف تقنية الأحلام والكوابيس في حواراته الداخلية، لا سيما أحلام اليقظة؛ ليعبر عن الاضطراب النفسي للشخصيات المتولد عن الضغوط النفسية، متخداً من الأحلام وسيلة للهروب من واقعه المتأزم، وما يعج به من ضغوط نفسية، وتشويش فكري، مستعيناً في ذلك بتقنية الارتجاع الفني، إذ يسترجع الكاتب من الذاكرة شخصيات خيالية من شخصيات رواياته السابقة، ويبث فيها الحياة، ويجعلها تحاوره حواراً أو أشبه ما يكون بالحوار الخارجي، فيكشف للمتلقي نوازعها وهواجسها وتخيلاتها بشكل مباشر، وفيها تخضع العملية التخييلية لإرادة الشخصية أو الروائي، ومثال استحضار الشخصيات الخيالية في حالة الأحلام والكوابيس ما حدث من حوار بينه وبين رئيس التحرير، وقد ألم به غفوة استحضر خلالها إحدى شخصيات روايته (صفحات من سيرة المبروكة) يقول السارد مستحضراً شخصية أبي حسين:
– أظنك ستوظفه في العمل الجديد.
– وما دخلك أنت؟
– أنا بتاريخي النضالي الطويل وثوب الرجولة الذي البستني، لا أقبل أن يشاركني مثل هذه الحثالة.
– أبا حسين.. أنت أحد شخوصي الذين أجلهم وأحد رموز روايتي التي أعتز بها، لكن هذا لا يعطيك الحق بالتدخل في شؤوني بهذا الشكل.
– يبدو أنك تهلوس يا عزيزي.
– أخرس والزم حدودك.
– أستاذ محمد... وصلنا يا عزيزي.
– آسف.. آسف، يبدو أنني غفوت.
– غفوت!!.. غفوتوحلمت وشتمت...
– آسف.. بالتأكيد لم أقصد ذلك.
جاء الارتجاع الفني في المقطع السابق الذي تعيشه الشخصية الساردة على شكل حوار خارجي، وذلك من خلال هواجس وأسئلة مستعارة، وألفاظ تدل على أحلام اليقظة مثل:
(تهلوس، غفوت، حلمت)؛ ليقدم لحظاتٍ ماضیةً حدثت في الزمن الماضي تدفع بالروایة وصولاً إلى الحبكة؛ الأمر الذي يعطي قيمة واقعية لهذا الحوار؛ وهذا مما يقوي الحركة الدرامية في الحوار، ويحدث الإثارة والدهشة لدى المتلقين.
وقد استغل الكاتب إمكانات اللغة الثرة المتمثلة في توظيف علامات الترقيم، النقاط المتجاورة التي تدل على الحذف(...)؛ لتؤدي وظائف دلالية وجمالية، للدلالة على أن الكلام له بقية لم تذكر في الحوار المكتوب برغم أنها قيلت في الحوار المنطوق، علاوة على دلالتها على لحظة من الصمت تتخلل الكلام؛ لأن الرواية تعمل على تسجيل السكوت وتسجيل الكلام معاً.
وفي بعض الأحيان يزاوج الكاتب في هذا المقطع بين الحوار الداخلي الحوار الخارجي حسب ما يقتضيه الحال، ومثال ذلك الحوار الذي دار بين الراوي والشرطي عن حقيقة ما يجري بين الناس في أحد الشوارع، يقول الشرطي واصفاً ما جرى:
– أولاد الكلب عملوا مجزرة على حجارةٍ يجمعونها من مخلفات الطريق.. أحدهم قُتل طعناً، واثنان في حالة خطيرة.
– أولاد الكلبّ!.. هم حقاً أولاد كلب؛ لكونهم رضوا بعيشةٍ توصلهم إلى هذا الدرك اللعين.. همس بها في أعماقه، ولم يبدها للشرطي الذي تركه، واندفع يطارد مجموعة أخرى، جاءت لنصرة طرف بعينه.
ينطوي هذا النص على حوار متداخل، فالحوار الخارجي يتضح في قول الشرطي:"أولاد الكلب عملوا مجزرة على حجارة يجمعونها من مخلفات الطريق..."بيمنا يتبدى الحوار الداخلي فيما دار في نفس الصحفي مع نفسه في قوله:"أولاد الكلبّ!.. هم حقاً أولاد كلب؛ لكونهم رضوا بعيشة توصلهم إلى هذا الدرك اللعين.، همس بها في أعماقه ولم يبدها للشرطي الذي تركه..."وهذا التداخل يؤشر إلى أعلى مستويات الوجع الذي تعرض له الروائي جرّاء خوضه في الصراع مع الأوضاع الراهنة؛ كي يوثّقَ رحلةَ ذاتٍ رافضةٍ للوجع الأليم الذي يعانيه الإنسان الفلسطيني في ظل ظروفٍ حرجة؛ الأمر الذي استدعى أن يتداخل الحوار الذاتي مع الحوار المباشر؛ بغية أن يتلمس القارئ ما بينهما من تعالقات، فجاءت مفردات الحوار مشفوعة بإيقاع صوتي صاخب تدلل على وقع الألم وشدته:(أولاد الكلب، عملوا مجزرة).
ثانيا - لغة الحوار:
تمثل اللغة عنصراً جوهرياً في بناء النص الروائي، وهي تساهم مع سائر العناصر البنائية في إقامة المعمار الفني للرواية، وقد تجلت براعة الكاتب في الإفادة من الإمكانات التي يوفرها الحوار في إثراء اللغة الروائية وإعطائها إيحاءات دلالات عميقة.
والمتأمل في لغة الرواية بعامة يكتشف أن اللغة المبسطة الفصيحة قد هيمنت على السرد والوصف والحوار: ألفاظها وتركيبها وأسلوبها؛ إيماناً من المؤلف بدور كُتَّاب الرواية المهم في التعامل مع اللغة الفصيحة في إنجازاتهم الإبداعية؛ بوصف التمسك بها يعد وجهاً من وجوه مقاومة الاحتلال الصهيوني، وأنَّ الحفاظ عليها واجبٌ وطني مقابل محاولات المحتل المستمرة في سبيل طمس هذه اللغة، وإحلال لغة المحتل مكانها.
وقد وفق الكاتب في توظيف اللغة الفصيحة في الحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي، فجاءت لغته فصيحة، تنساب ببساطة وسهولة، واضحة بعيدة عن التعقيد والتعمية، تناسب الأحداث الروائية، وتناسب التصاعد الفني للحدث. ومتوافقة مع جوانب الحدث وروحه الدرامية، علاوة على توافقها ومناسبتها للمستوى الثقافي والفكري للشخصيات، وعوالمها وإدارتها وتقاليدها.
إن استخدام اللغة الفصيحة ذات الدلالات الإيحائية والاستعمالات المجازية زاد من قوة الرواية ومن قوة تفاعل شخصياتها لتنطلق إلى فضاء تعبيري معبر.
ومن أمثلة الحوار الذي ورد باللغة العربية الفصيحة الذي دار بين رجل وابنته زوج أحد الشهداء التي بدأت الحوار:
– الله المستعان يا أبي.، ثم أجهشت بالبكاء.
– كفي عما تفعلين، فهذا لن يغير من الواقع شيئاً، ودعينا ننظر لما هو آت، أنت ما زلت في مقتبل العمر يا ابنتي، ولديك طفلان بحاجةٍ لمن يرعاهما.
– وما المطلوب يا أبي؟
– لقد جاءني حموك وطلبك لابنه الثاني.
– ماذا تقول يا أبي؟!
– لستِ الأولى.. ولنْ تكوني الأخيرة التي يحدث معها ذلك.
– لا يا أبي.. لن أقبل بذلك ما حييت.
– وأنا لا أرضى لك أن تمضي بقية عمرك هكذا.. فما زلت شابة ولم تبلغي الثلاثين بعد.. والعرضُ يا ابنتي، لا يُحْمى بالسيف.
– ألا تثق بي يا أبي؟
– أثق... لكنِّي لا أثق بمن حولك.. بالناس.. بالحياة وغدرها.. بل لا أثق بقدرتي على الوقوف إلى جانبك، والعمر يفر مني كفرسٍ جموح.. فكري يا ابنتي ولا تتعجلي في الرد!
جاءت الجمل في المقطع السابق بلغة فصيحة، واضحة، مكثفة بعيدة عن الإسهاب والتطويل بشكل واضح. وقد عرف الكاتب كيف يستغل ما في اللغة من إمكانات تعبيرية موسيقية تصويرية إيحائية استغلالاً يتفق مع ما يريد أن يصل إليه من تأثير في نفوس المتلقين.
لجأ الكاتب في حواره إلى تقطيع الحوار باستعمال التنقيط بين مفردات التحاور(..)؛ ليدل على انقطاع الكلام ثم تواصله، وهذه التقنية أقرب ما تكون إلىالواقعية، وقد أضفت على الحوار واقعية خاصة؛ ليعبر عن مشاعره وأفكاره، فالنقاط المتجاورة(..) تحمل خصائص القول المنطوق، وقد تستخدم بديلاً عن علامات الوصل بين الجمل بما يوحي بتدفقها ومباشرتها، وقد تستثمر – أيضاً - بوصفها فواصل للحديث النفسي الذي لم يصل بعد إلى مرحلة الترابط في الكلام المنطوق"، وتؤدي وظيفته في إنتاج الدلالة أو الإيحاء بها.
وظف الروائي - أيضا – لغة الجسد التي هي الحركات والإيحاءات التي يقوم بها الإنسان باستخدام الوجه أو الأطراف أو الصوت، وذلك للتعبير عما يخالج نفسه من مشاعر وأحاسيس وإيصال أفكاره بطريقةٍ أفضل وأوضح. فلغة الجسد حوار معنوي إلى جانب الحوار اللفظي، فالبكاء يتبعه صوت مخنوق مملوء بالدموع،وفيه إلى جانب الصوت الحركة، وكلاهما يوحي باستدرار عطف الوالد واستمالته؛ ليساند موقف ابنته؛ الأمر الذي جعل الحوار يخدم الشخصية، ويكشف عن أعماقها، ويبرز ما في غورها. ويحمل دلالات واسعة، ومعاني متعددة ساهمت في تعميق المعنى وتجسيده.
ومن أمثلة توظيف لغة الجسد في الرواية ما جاء في هذا المقطع الحواري القصير في مكتب ضابط التحقيق بين الشرطي والصحفي:
– أنتَ... ألا تسمعني؟ صاح الشرطي بحدةٍ وانفعال.
– أنا؟! وأشار بأصبعه إلى صدره.
– وهل يوجد أحد سواك.. هيا تحرك.
استثمر الكاتب بعض الحركات التي قام بها الشرطي في أثناء حواره؛ للتعبير عن حالته العاطفية والفكرية، وهذه الحركات تتسم بالقوة والانفعال التي تتمثل في نبرة الصوت ارتفاعاً (صاح الشرطي بحدة وانفعال)، والتي تتسم بالحدة والانفعال وفي إشارته بأصابع اليد إلى صدر الصحفي ما يعبر عن إحساس بالتكبر، وعدم إبداء لون من التقدير والاحترام للصحفي؛ فالحركات الجسدية وسيلة مكملة للحوار المنطوق، فاللسان جزء من عدة أجزاء تظهر في السلوك الحواري.
يعمد الكاتب أحياناً إلى استخدام اللغة العامية في الحوار على مستوى اللفظة والتركيب والأسلوب، لعله جنح لهذا الأسلوب؛ رغبةً منه في الاقتراب من النزعة الواقعية في الحوار، فاستخدم اللغة اليومية اللغة المحكية التي امتاحها من البيئة المحلية للشخصيات. يقول في مقطع حواري بين مواطن وزوجه:
"ففي واحد من الاجتياحات السابقة للقرية، نظر الرجل من شق في نافذة غرفته، وإذ به يطل على نافذة الجرافة الواقفة بالجوار، تراجع مذعورا وهمس في أذن زوجته قائلاً:
- ولك يا حليمة.. هم وكتيش بنوا اليهود جنبنا وعلوا؟
– أيش بتقول يا زلمة؟
– طلي من الشباك وشوفي الدار اللي صارت جنبنا وشباكها اللي بيطل علينا.
تقدمت بحذر وخوف، نظرت من نفس الشق وعادت تجتر ريقها، ثم تمتمت بما يشبه الهمس:
– يخرب عقلك يا زلمة.. هذه جرافة قد الدار.
– وشو كنت فاكرها، دار عن جد يا هبلة؟.
يكتشف القارئ في الحوار السابق أن الكاتب وظف لغة الحياة اليومية التي تتردد على ألسنة العامة في المجتمع الفلسطيني، وأنها جاءت مناسبة للمستوى الثقافي والاجتماعي للشخصيات في شبه انسجام بينهما.
وفي موضع آخر يأتي الكاتب بمقطع حواري استخدم فيه اللغة العامية، إذ يقول في حوار بين أحد المواطنين والشيخ عبد الجواد:
- راق دمك؟ سأله الشيخ عبد الجواد مداعباً.
– لا.. ما راح يروق إلا لمَّا أطردهم كلهم.
– يا رجل، وحِّدِ الله.
– لا تظل تحكي معي هيك، روح قل لهم يوحِّدوا الله، ويبطلوا سَفَّ خبز ع الطالع والنازل،
كأنهم في كمب، ولمَّا أطلب سيجارة أصير كافر.
– أمسحها في ذقني المرة.
– خلصْ يا شيخ، من خاطري المرة، وهيْ أحلى باكيت سجائر لعيونك، ولما يخلصوا قل لي، قال من فوق شرفة منزله وألقى إليه بالعلبة.
– خاطرك كبير عندي يا أستاذ.. تكرم.
ومن أمثلة الحوار العامي في الرواية: فتح الباب ومدَّ عصاه تسبقه إلى المسجد القريب، ثم تمتم بكدر:
– يا صبَّاح يا فتَّاح.. يا رزَّاق يا عليم.. شو اللي جاب البحر لَعِنَّا على هالصبح...
– ولك يا حليمة.. ولك تع شوفي صارت دارنا ع شط البحر.
إن اللغة العامية التي وظفها الكاتب في بعض حوارات قد تكون أقرب إلى اللغة الفصيحة، ولكن اللغة المنتشرة في بعض الحوارات هي العامية التي تستخدم في التعبير عن مكنونات الشخصية وأفكارها ومشاعره ومستواها الفكري والثقافي.
وقد حاول الكاتب أن يبتعد في لغته الروائية عن كل ما هو غريب ومعقد من الألفاظ، فألفاظه سهلة وقريبة للناس، يفهمها كل من يقرأها، وكانت أقرب للعامية في كثير من الأحيان؛ لأنهاتتحدث بعامة عن حياة الناس ومشكلاتهم وهمومهم في فترات مختلفة من الاحتلال؛ لذلك كانت اللغة البسيطة السهلة هي خياره، لكنها في الوقت نفسه لغة سليمة خالية من الألفاظ السوقية.
ثالثاً - التفاعل النصي والحوار:
ثمة قيمة فنية أخرى يحققها الحوار الدرامي في الرواية، وهي توظيف التناصات التراثية المتنوعة من نصوص قرآنية، ونصوص أدبية، وحكم وأمثال، وأغانٍ شعبية، واستدعاء لبعض الشخصيات التراثية؛ وذلك تأييداً لفكرة ما أو لرأي ما أو إجابة مقنعة لسؤال حائر.
ومن أمثلة توظيف النصوص القرآنية ما ورد بين شخصيتين متحاورتين، يقول الراوي على لسان الشيخ:
– ربنا يهديهم يا شيخ.
– ربنا لا يهديهم.
– له يا شيخ هداك الله!
– على ما رأيته من عتوهم وفجورهم، لا أظنه سيهديهم، بل سيمدهم في طغيانهم يعمهون.
– إن بعض الظن أثم يا شيخ.
فقول المحاور"سيمدهم في طغيانهم يعمهون". مقتبس من قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة: 15).
وقول الراوي في الحوار: إن بعض الظن أثم يا شيخ، مأخوذ من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات: 12).
ومن النصوص الروائية المقتبسة من النص القرآني، قولُ الروائي:"هراء لا يسمن ولا يغني من جوع"، وهو مأخوذ من قوله تعالى:لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍ (الغاشية - 7).
لم يقتصر الكاتب في تضمينه على الاقتباس اللفظي، بل تشيع فـي حوارياته معـانٍ قرآنية توحي بتأثره بالقصص القرآني، وتعبيراته التي تتجلى روعة وإبداعاً، يقول في أحد مقاطعه الحوارية:
"أولاد الكلبّ!.. هم حقاً أولاد كلب؛ لكونهم رضوا بعيشةٍ توصلهم إلى هذا الدرك اللعين.. همس بها في أعماقه، ولم يبدها للشرطي الذي تركه، واندفع يطارد مجموعة أخرى، جاءت لنصرة طرف بعينه". يحيل هذا النص الحواري، إلى قوله تعالى:
قَالُوٓاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُۥ مِن قَبْلُ* فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ في نَفْسِهِۦ، وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ* قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا * وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (يوسف:77).
استحضر الروائي في إشارة خفية نصاً قرآنياً هو أحد معالم قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - مع إخوته الذين افتروا عليه زوراً، واتّهموه كذباً بالسرقة، وهو بريء منها؛ لكي يبرّأوا أنفسهم، وفيها شبًّه الكاتب حال الراوي وهو يكتم غيظه من تصرف رجال الشرطة، وأخذ يحدث نفسه بصوت غير مسموع، بأنهم كانوا سبباً في وقوع مثل هذه الجرائم بين المواطنين، بحال النبي يوسف- عليه السلام - وهو يكتم ما في نفسه، ولم يرد عليهم، إن مثل هذا التشابه والتماثل بين الموقفين يرسخ المعنى ويعمقه في نفوس المتلقين، ويضفي على النص الحواري دلالات غنيه، تثريه، وتزيده جمالاً وروعة، وإجلالاً.
إن عملية توظيف النصوص القرآنية تضفي على المشهد الحواري عمقاً وثراءً، وتمنحه لوناً من القداسة والمصداقية، وتبدو في هذا المقطع منسجمة ومتلائمة مع النسيج اللغوي للرواية، وتمثل لحمة طبيعية فيه، فلا يشعر المتلقي بتكلفة أو نبو أو انفصال.
تتجلى قدرة الروائي في ثقافته الواسعة، واطلاعه العميق على نصوص التراث الأدبي والعالمي شعره ونثره؛ لذا يلتقي المتلقي في أثناء قراءته للرواية نصوصاً من الشعر العربي، إذ استدعى الروائي بيتاً من الشعر العربي في حوار داخلي، فقال: تذكر لحظتها بيت الشاعر:
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا
ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ
فنسج الروائي على منواله معارضاً فقال:
لَعَمْرُكَ لو ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا
فإن أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ
لم يبق القاص على قول الشاعر ابن الهيثم كما هو، وإنما أحدث تغيراً فيه، بتغيير بعض الألفاظ، وهو لم يكتف الروائي باستحضار هذا البيت، وإنما نسج على منواله بيتاً آخر؛ ليتناسب مع موقفه النفسي وحالته الفكرية، والبيئة المحلية التي يعيش فيها،والقضية التي يقاربها، ومعنى البيت أن الأرض واسعة ولا تضيق بأحد، ولكن الضيق يكون في أخلاق الرجال وصدورهم.
وفي مواضع متعددة من الرواية يكثر الكاتب من ذكر الأعمال الأدبية العربية وغير العربية، فيذكر الروايات والكُتَّاب غير العرب من أمثال: ماركيز وانطوان تشيخوف وغيرهما، والتي تكشف للقارئ أنه على اطلاع واسع على أدبهم، وأنه هضم ما تحتويه من مضامين إنسانية، ومحاولات تجديد في الأساليب التعبيرية الفنية، فهو على سبيل المثال يتناص مع قصة قصيرة من الأدب العالمي، يقدم خلالها مخلصاً للمغزى الفكري لقصة أنطوان تشيخوف القصيرة التي تحمل عنوان (الخادمة المغفلة)، ويأتي به على صورة حوار خارجي، فيقول: شكرته بصوت منكسر ومضت، فصاح بها غاضبا:
– علام تشكرينني.
– على النقود يا سيدي.
– لقد نهبتك يا مغفلة.. فعلام تشكرينني؟
– في أماكن أخرى كنت أعمل بلا مقابل يا سيدي.، قالت بابتسام منكسر.
يكتشف القارئ الحصيف أن المغزى الإنساني الكامن وراء هذه القصة ملخصه: (ما أبشع أن تكون ضعيفا في هذه الدنيا)، وأنه لا وجود في الحياة للمغفلين الضعفاء، وهذا المغزى يسقطه الكاتب على الشعب الفلسطيني في صراعه مع المحتل الصهيوني، وضرورة مقاومته وتحديه؛ لاسترداد حقوق الشعب العادلة.
إن التناص مع الأدب العالمي بطريقٍ ضمنية غير مباشرة، يدل على امتدادٍ وترابطٍ إنسانيٍّ وانسجامٍ قادر على التعبير عن رؤى مضمونية جمالية وفنية مع الآداب العالمية.
وفي إطار التفاعل النصي في الحوار الدرامي، استحضر الكاتب شخصيات تراثية دينية من التاريخ العربي الإسلامي، وأسقط عليها ما في حاضرنا المعاصر من نماذج مماثلة، فقد استدعى شخصيةالحلاج التراثية من مخزونه الثقافي، ووظفها فنياً للإيحاء ببعض أبعاد تجربته، لا سيما البعد السياسي فيها، إذ اتُّهم الحلاجُ على أيدي رجال الحكم العباسيين بالتحريض على الثورة والتمرد على ولاة الحكم، وكان الحلاج شخصية رافضة لمظالم مجتمعه واستبدادية مَنْ يحكمون، فلم يجد أصحاب السلطة الحاكمة وسيلة للتخلص منه إلا رميه بتهمة الكفر والزندقة، فحُوكم محاكمة سريعة، وصُلب أمام الجماهير.
استحضر الروائي شخصية الحلاج في أحد أحلام اليقظة، وقد أجرى معه أحد رجال السلطة حواراً، ومما جاء فيه:
– لقد أعييتنا يا حلاج في الجلسات السابقة بهرطقاتك وفلسفتك الزائدة وإنكارك لما جاء في أقوال الشهود، الذين شهدوا بزعمك أنك الحق، وطلبك من إحدى الشاهدات السجود لك، بل والتحرش بها، لكننا اليوم جلبنا ما في بيتك من أوراق وكتب؛ لتكون دليلنا على كفرك.
– الحلاج!، يا إلهي.. أين أنا!.، همس بدهشة وخوف.
– أنا رجل أعبد الله، وأكثر له الصلاة والصوم، وأكثر من فعل الخير، أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله.. استغفر الله العظيم وأتوب إليه.
– هههه.. لن تخدعنا بورعك الزائف، كما فعلت في المرات السابقة..
ثم فَتَحَ كتاباً من تلك التي جلبوها إليه، قلَّب صفحاته، ثم صاح متهللا: ها هي.. انصتوا لما يقول:"إنَّ الإنسان إذا أراد الحج ولم يستطع، فعليه أن يطهر بيته، ويطوف حوله ويؤدي كل المناسك، فإنْ فرغ من ذلك، فعليه أن يُطعم ثلاثين مسكيناً، فيكون له أجر حج.
– هه.. من أين لك هذا القول يا عالم الزمان؟
– من كتاب الإخلاص للحسن البصري.
– كذبت يا حلال الدم.
يشير الكاتب في الحوار السابق إلى موقف أصحاب الكلمة في المجتمع، وأَبَان موقف السلطة الحاكمة منهم، وكشف عما يلاقيه الكتاب في هذا الزمن الكسيح من عنت وتضييق بسبب سعيهم إلى حرية الكلمة، وأخذ يسقط هذه الفكرة التي آمن بها على موقف الحلاج الصوفي، وقد جاءت شخصية الحلاج صالحة لاستخدامها للتعبير عن مدلولات معاصرة.
وقد وفق الكاتب في إسقاط دلالات معاصرة مثل: التزام صاحب الكلمة نحو أمته، ونحو مجتمعه على ملامح الشخصية التراثية التي استعارها من شخصية الحلاج، وكأن الكاتب يريد أن يوحي للمتلقي بأن كثيراً من كتاب هذا الزمن ومفكريه يشبهون الحلاج في موقف السلطة الحاكمة منه.
وفي موضع آخر يستدعي الكاتب إحدى الأغاني الشعبية التي كانت تتردد على ألسنة الناس في زماننا، لاسيما أغنية الفنانة فايزة أحمد التي ورد الحديث عنها في مشهد حواري في قول الكاتب:
– صباح السعادة يا أستاذ.
– أيُّ سعادة يا عم أحمد.. قل صباح النكد.. صباح التعب.. صباح اللي بتغني.. أي صباح إلا السعادة.
– الستْ فايزة بتقول:"غني واضحك.. انسى جرحك.. صالحِ الأيام تصالْحك.
– صعب يا عم أحمد.. كلام أغاني.. والواقع مختلف.
استخدمت الشخصية الحوارية الأغاني؛ لتوصيل مبتغاها ومشاعرها؛ ذلك أنَّ استعمال الأغاني يجيء؛ للتعبير عن دواخل الشخصية، فالأغنية تقوم مقام التصريح المباشر.
وتقاطع النص الروائي - كذلك – مع بعض الأمثال الشعبية التي شاعت على ألسنة العامة، مثل:"هذا الجمل وهذه المأذنة"،"الداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود"،"أهل مكة أدرى بشعابها"،"الشمس لا يغطيها غربال"،"والعرض لا يحمى بالسيف"،"شتان ما بين الثرى والثريا".ومن هذه الأمثال ما ورد في حوار خارجي بين الصحفي وزوجه:
فقول الكاتب:"هذا الجمل، وهذه المأذنة"، مثل شعبي شائع في البيئة الفلسطينية، يتسم بمجيئه في جملة قصيرة بليغة متوارثة عبر الأجيال، والمثل الشعبي في معظم الحالات تعبير عن نتاج تجربة شعبية طويلة تخلص إلى عبرة وحكمة، وتؤسس على هذه الخبرةللحضّ على سلوك معين، أو للتنبيه من سلوك معيّن. ويضرب هذا المثل لمن يدعي القدرة على فعل الأشياء، فيقال له، تفضل وارنا كيف تفعل ذلك؟ فهنا طرفا الادعاء، ونحن نريد أن نستجلي الحقيقة.
وفي تقاطع مع مثل شعبي آخر يقول الكاتب:"الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود"، ويقال هذا المثل للتعبير عن سهولة الدخول في الشيء.. وصعوبة الخروج منه.. مثله مثل أي شيء … في كل الحياة، وهو يقصد السجن، وقد تنفتح الدلالة وتتسع لتشمل أموراً أخرى مثل البحر وغيره، يقال: إن عمرو بن العاص وصف البحر للخليفة عمر بن الخطاب، فقال:"إني – يا أمير المؤمنين- رأيت البحر خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير...الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود...".
ومن الأمثال الشعبية التراثية التي وردت في الحوار المثل الشعبي القائل:"أهل مكة أدرى بشعابها"، ويضرب هذا المثل لبيان أن أهل المعرفة لا يضلون؛ بسبب داريتهم ومعرفتهم بخبايا الأمور ومشكلاتها بمشكلات مهنته وزمانه وقضاياه التي تمسهم، وهم أولى الناس بوصف الحلول لعلاجها أكثر من غيرهم، فالمثل الشعبي يتسم بإيجاز لفظه وإصابة معناه،وجاء المثل متناسباً مع الجو العام للحوار. وليس منفصلاً عنه.
أغلب الظن أن هذا التفاعل النصي في الحوار يعود إلى براعة الكاتب وقدراته على استثمار النصوص الثقافية لخدمة النص الروائي، ويكشف عن ثقافة الكاتب الواسعة، واطلاعه العميق، ومخزونه الثقافي المتنوع والمتعدد المنابع والمصادر، وأنه وظفها في خدمة مقاصد الحوار في نصوصه الروائية ومراميه"إن الروائي لا ينقل التراث بمفاهيمه وقيمه نقلاً حرفياً أو شبه حرفي، وإنما يغوص في أعماق النص فيستنبط منه مفاهيم إنسانية شاملة، ويضف إليه ما رأى أنه غاية النص وبنيته الفكرية والفنية، كما يفيد من الجانب النفسي للسرد والحوار.
وخلاصة القول، فإن تقنیة الحوار عنصر تكویني في البناء السردي، ويعد من أهمالوسائل التي اعتمد عليها الكاتب محمد نصار في رسم شخصيات روايته، والكشف عن واقعها النفسي والفكري، لكي تبدو أكثر وضوحاً، كما أبانت الدراسة أن للحوار دوراً فعالاً في بناء أحداث الرواية وتطويرها وتعميقها، وأن للحوار علائق وثيقة، وصلات متينة بين كل من عناصر البناء السردي من مكان، وزمن، وأحداث، واستطاع الكاتب من خلاله أن يكشف عن مغزى روايته، ويوضح المقصد منها.
ومن خلال الحوار يرصد المتلقي التقارب الوشيج بين أعمال الكاتب محمد نصار وعالمه الخاص، فأعماله لصيقة بتجربته الشخصية؛ لكونه ابن المجتمع الفلسطيني، ومن الطبعي أن تنعكس أفكاره وأحاسيسه وانطباعاته في تجاربه الإبداعية.