الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
قسم 1 من قسمين
بقلم إبراهيم عوض

تهويد السيرة النبوية

فى قائمة "المفضَّلة" عندى فى المشباك موقع يحمل اسم "JewishEncyclopedia.com" (الموسوعة اليهودية) كنت أرجع إليه بين الحين والآخر أستطلع وجهة النظر اليهودية فيما أكون بصدد البحث فيه من الموضوعات. وقبل أيام خطر لى أن أفتح الموسوعة على مادة "Mohammed" لأرى ما الذى لدى اليهود ليقولوه عن نبينا الكريم، فراعنى أن كاتب المادة ينظر إلى السيرة النبوية من منظارٍ يهودىٍّ ضيقٍ ومتعصبٍ يقوم على التدليس والكذب ولَىّ الحقائق والزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استفاد فى تشريعاته من اليهود حين هاجر إلى المدينة وأصبح على علم بما فيها بعد أن كان لا يعرف عنها قبل وصوله إلى المدينة إلا معلومات غامضة مضطربة التقطها من هنا ومن ههنا. ثم إن الكاتب قد ركَّز معظم المادة للحديث عن اليهود وما وقع بينهم وبينه عليه السلام بطريقة توحى أنه لم يكن هناك تقريبا شىء آخر ذو أهمية فى حياته سواهم!

يقول الكاتب مثلاً إن الرسول لم يكن فى بداية هجرته إلى المدينة ينظر إلى اليهود على أنهم أصحاب دين مختلف عن دينه. ولا أدرى على أى أساس ولا بأية أمارة يقول ذلك. أم ترى الأمر لا يزيد على أن يتوهم الإنسان الشىء، أو بالأحرى يزعمه زعما، فيكون الأمر كما أراد أن يتوهم أو يزعم؟ لكن العلم والحقيقة لا يرتاحان لمثل هذه الألاعيب ولا يعترفان بها حتى لو سُجِّلَتْ فى موسوعة عالمية لها موقعٌ على المشباك يزوره القراء من كل أرجاء الدنيا! هل يستطيع الكاتب أن يقدم لنا شاهدًا أو دليلاً واحدًا يتيمًا على ما يقول؟ هل صدر عن الرسول ما يفيد أنه كان ينظر إلى اليهود على أن دينهم لا يختلف فى شىء عن دينه؟ فلم جاء برسالة جديدة إذن؟ بل لم قال القرآن منذ وقت مبكر، وقبل أن يهاجر الرسول الكريم إلى يثرب ويصطبح بخلقة اليهود هناك، إن رسالته عالمية تخاطب البشر جميعا ولا تقتصر على بنى إسرائيل (أو غير بنى إسرائيل) وحدهم؟ وهذا إن أمكن أصلاً أن يكون، وهو العربى، نبيًّا لبنى إسرائيل؟ لقد ظهر النبىُّ فى محيطٍ عربىٍّ هو مكة، ولم يحاول أن يتصل باليهود أو يبحث عنهم، ولا أثنى عليهم ولا قال القرآن أى شىء يُفْهمَ منه ولو من بعيد أنه يرى أن دينهم هو دين محمد ولا أفردهم بما يميزهم عن غيرهم ويجعل لهم خصوصية فى دعوته دون مَنْ قَصّ أخبارهم من الأمم السابقة! بالعكس لقد حمل القرآن عليهم فى الوحى المكى مرارا، وذكر جحودهم وارتدادهم فى كل سانحة إلى الكفر والعصيان، مما يدل على أن الدعوة الجديدة لم تكن ترى فيهم منذ البداية صديقًا بَلْهَ مثيلا على أى نحو من الأنحاء! ومن الممكن أن يرجع القارئ الكريم إلى "الأنعام/ 146" و"الأعراف/ 139- 171" و"الإسراء/ 4- 8" و"طه/ 83- 98" على سبيل المثال حيث تكلم القرآن عن ظلمهم وبغيهم، وعبادتهم العجل الذهبى الذى كادوا أن يقتلوا هارون بسببه، وإلحاحهم على موسى أن يصنع لهم صنما يعبدونه كأصنام القوم الذين أَتَوْا عليهم عقب انشقاق البحر لهم وعبورهم إياه، وكذلك عن الإفساد الذى سيفسدونه فى الأرض مرتين حين يَعْلُون علوًّا كبيرا قبل أن يسلط الله عليهم من ينتقم منهم. فهل يمكن أن يُفْهَم من هذه الآيات القرآنية أنه عليه السلام لم يكن فى بداية هجرته للمدينة يرى فى ديانة اليهود شيئا مختلفا عما جاء به؟ ليس ذلك فقط، بل معروفٌ أنه عليه السلام، عند مهاجَره للمدينة، قد كتب معاهدة بين طوائف سكانها يتضح منها أن اليهود شىء، والمسلمين شىء آخر، وأن دين هؤلاء غير دين أولئك. وهذا نص الكلام: "كتاب من محمد النبى رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة من دون الناس. وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصَرٍ عليهم. وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم". فما الرأى فى هذا الكلام؟ من البيّن الجلىّ أن كاتب المقال يهرف باطلاً، ويتنفس كذبًا ومَيْنًا. إنه يريد أن يقرر فى عقول القراء أن الرسول الكريم كان يتخبط فى دعوته ولا يدرى ماذا يفعل، وأنه لم يكن مرسلا من ربه، بل اخترع الإسلام اختراعا، وأنه لم يكن يعرف شيئا عن اليهود، بل كانت المعلومات تأتيه من تجاربه الشخصية وما يسمعه من الناس من حوله لا من الوحى، شأنه فى ذلك شأن أى إنسان آخر لا علاقة له بالسماءـ

كذلك يَكْذِب الكاتبُ حين يزعم أن الرسول والمسلمين قد استعاروا من اليهود بعض شعائرهم كالصلاة الجماعية فى أوقات منتظمة، والصيام، والقِبْلة، ومحرَّمات الطعام. ولنتأمل قوله إن استعارة هذه الشعائر قد تمت من قِبَل الرسول والمسلمين، وهو ما يفيد أن الإسلام ليس صناعة محمدية فحسب على ما فى ذلك من طامّة ثقيلة، بل يدخل معه فى الصناعة والاختراع المسلمون أيضا. وكأن الإسلام لعبة يعبث بها كل من هب ودب، ولا يقتصر أمرها على يد واحدة. ولنبدأ بالدعوى الأولى الخاصة بالصلاة الجماعية: لقد كان المسلمون يؤدون الصلاة جماعة منذ وقتٍ جِدِّ مبكرٍ فى مكة. يتضح ذلك من الأخبار التالية: جاء فى "الروض الأُتُف" للقاضى عياض: "قال ابن إسحاق: ذكر بعضُ أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شِعَاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك إلى ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: "أَيْ عَمِّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم (أو كما قال صلى الله عليه وسلم)، بعثني الله به رسولا إلى العباد. وأنت، أَيْ عَمِّ، أحقُّ مَنْ بذلتُ له النصيحة ودعوتُه إلى الهدى، وأحقّ مَنْ أجابني إليه وأعانني عليه"، أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكنْ والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيتُ. وذكروا أنه قال لعلي: أَيْ بُنَيَّ، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنتُ بالله وبرسول الله وصدَّقْتُه بما جاء به وصلّيتُ معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أَمَا إنه لم يَدْعُك إلا إلى خير فالزمه". وفى سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّوْا ذهبوا في الشِّعاب فاسْتَخْفَوْا بصلاتهم من قومهم. فبَيْنَا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعْبٍ من شِعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم. فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلَحْي بعير فشجَّه، فكان أول دم أُهْرِيق في الإسلام".

بل إن المسلمين قد أدَّوْا شعيرة الجمعة قبل أن يصل النبى عليه السلام إلى المدينة ويرى وجه اليهود أو حتى قَفَاهم. وننقل هنا ما جاء فى "زاد الميعاد" لابن الجوزى: "قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين كُفَّ بصره، فإذا خرجتُ به إلى الجمعة فسمع الأذان بها استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة. فمكث حينًا على ذلك، فقلت: إن هذا لَعَجْزٌ ألا أسأله عن هذا. فخرجت به كما كنت أخرج ، فلما سمع الأذان للجمعة استغفر له فقلت: يا أبتاه، أرأيتَ استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعتَ الأذان يوم الجمعة؟ قال: أي بُنَيَّ، كان أسعد أول من جمَّع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هزم النبيت من حَرَّة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. قلت: فكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا. قال البيهقي ومحمد بن إسحاق: إذا ذكر سماعه من الراوي وكان الراوي ثقة استقام الإسناد، وهذا حديث حسن صحيح الإسناد. انتهى. قلت: وهذا كان مبدأ الجمعة. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام بقباء في بني عمرو بن عوف كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده. قال ابن إسحاق: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله ما لم يقل) أنه قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد أيها الناس، فقدِّموا لأنفسكم. تَعْلَمُنَّ والله ليصعقنَّ أحدكم، ثم ليَدَعَنَّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلَّغك وآتيتُك مالا وأفضلتُ عليك؟ فما قَدَّمْتَ لنفسك؟ فلَيَنْظُرَنَّ يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لَيَنْظُرَنَّ قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشِقٍّ من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تُجْزَى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: "إن الحمد لله أحمده وأستعينه. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله. قد أفلح من زيَّنه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس. إنه أحسن الحديث وأبلغه. أَحِبّوا ما أَحَبَّ الله. أَحِبّوا الله من كل قلوبكم، ولا تملُّوا كلام الله وذِكْره، ولا تَقْسُ عنه قلوبكم، فإنه مِنْ كل ما يخلق الله يختار ويصطفي. قد سماه الله خِيرَته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالحَ من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام. فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تُقَاتِه، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابُّوا بروح الله بينكم. إن الله يغضب أن يُنْكَث عهده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

ولا ينبغى أن ننسى أن الصلاة الأسبوعية عندنا إنما تُؤدَّى يوم الجمعة لا السبت، وأنه ورد عن الرسول الكريم أن اليهود والنصارى قد ضيَّعوا الجمعة: فاختار الأولون السبت، والآخَرون الأحد حسبما ورد فى الحديث التالى: "روى الدارقطني عن عثمان بن أحمد بن السماك قال: نا أحمد بن محمد بن غالب الباهلي قال: نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني قال: نا المغيرة بن عبد قال: حدثني مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: أَذِن النبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمِّع بمكة ولا يبدي لهم، فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تَجْهَر فيه اليهود بالزَّبُور لِسَبْتهم فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقرَّبوا إلى الله بركعتين. قال: فأوَّلُ من جَمَّع مصعب بن عمير، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجمَّع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك". وفى ضوء هذا ينبغى أن نفهم قول النبى للمسلمين عن يوم الجمعة: "أضلَّتْه اليهود والنصارى، وهداكم الله إليه". وكذلك من المعروف أن النبى لم يستحبّ أن يكون بوق اليهود (أو ناقوس النصارى) هو أداة نداء المسلمين للصلاة. بل إنه لم يكن مستريحا للاتجاه إلى بيت المقدس بعد مهاجَره إلى المدينة وظل يبتهل إلى الله أن يأذن له فى التوجه إلى البيت الحرام حتى أنزل سبحانه وتعالى عليه الآيات التى تعطيه الإذن بذلك. ولتوضيح هذه النقطة لا بد أن نعرف أنه عليه السلام كان إذا صلَّى وهو بمكة يقوم جنوب الكعبة مُوَلِّيًا وجهه نحو الشَّمال، فتكون قبلته الكعبة وبيت المقدس جميعا، ثم لما هاجر لم يعد من الممكن استقبال القبلتين جميعًا معا، إذ لم يعد موجودا فى الشمال الآن إلا بيت المقدس. وكان عليه السلام يريد أن تكون قبلته إلى الكعبة لا إلى بيت المقدس حتى لا يشترك فى نفس القبلة مع اليهود. ولم تكن الأمور قد ساءت بَعْدُ بين الفريقين حتى يقال، كما يزعم بعض المستشرقين كذبًا، إنه عليه السلام قد جاملهم فى البداية بالصلاة إلى قبلتهم كى يكسبهم فى دينه، ثم لما عجز عن أن يجعلهم من أتباعه قام بتغيير القبلة بعد أن لم يعد للمجاملة معنى! ذلك أن القِبْلَة قد حُوِّلَت قبل غزوة بدر، أى قبل وقوع أىٍّ من المصادمات أو حتى الخلافات الأولية بين اليهود والمسلمين، فلا معنى إذن لمثل هذه التفسيرات السخيفة المتنطعة التى يراد من ورائها الإيهام بأن الإسلام ما هو إلا تعبير عن مواقف الرسول وآرائه، ولا وشيجة تصله بالسماء! فحقيقة الأمر إذن أن مسألة القِبْلَة قد جَرَتْ على خلاف ما ادَّعَى الكاتب، إذ كان المسلمون قبل الهجرة يصلّون إلى الشمال ميمِّمين وجوههم حيال بيت المقدس (وحيال الكعبة فى نفس الوقت)، ثم لما هاجر الرسول لم يرتح إلى الصلاة إلى قبلة اليهود، لكنه لم يتحول عنها رغم هذا إلا بعد أن استجابت السماء ونزل الوحى بالإذن له بذلك! وإلى القارئ ما جاء فى "الدُّرَر فى اختصار المَغَازِى والسِّيَر" لابن عبد البر عن هذا الموضوع: "وصُرِفَت القِبْلة عن بيت المقدس إلى الكعبة في السنة الثانية على رأس ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر شهرا، من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وذلك قبل بدر بشهرين". وفوق هذا فصلاة الجماعة فى الإسلام لا تحتاج لكهنوت كما هو الحال فى اليهودية، التى توجب أن يرأس طقوسها كاهن من سلالة هارون عليه السلام حسبما ينص العهد القديم، بل يصح أن يؤمها أى فرد من المسلمين. وفضلا عن ذلك فمفردات الصلاة فى الإسلام من أفعال وأقوال تختلف تمام الاختلاف عن مثيلاتها فى صلاة اليهود. وهذا كله مما يؤكد أن الإسلام حريص على تمايز المسلمين عن اليهود وغير اليهود، فكيف يزعم زاعم أنه، صلى الله عليه وسلم، قد استعار من اليهود شعائر العبادات الإسلامية؟

ثم هل يُعْقَل، لو كان الإسلام قد استعار من اليهود شعيرة الصلاة الجماعية، أن يسخر هؤلاء اليهود أنفسهم من تلك الشعيرة نفسها فيتخذوها هُزُوًا ولَعِبًا كلما سمعوا النداء إليها؟ قال تعالى: "وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هُزُوًا ولَعِبًا. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" (المائدة/ 58). وأدهى من ذلك وأمرّ أن يلجأوا إلى أساليب التآمر الخبيث فى حربهم لدين محمد، وليس هذا أسلوب الواثق من نفسه تجاه من يستمدون منه شعائرهم ويقتدون به، بل أسلوب الحاقد الذى يؤرّقه ما فى يد الآخرين من الجواهر الأصيلة النفيسة، والملتوى الذى لا يعرف المواجهة الصريحة واحترام النفس. وفى فضح هذه الأساليب المجرمة يقول لله عز وجل: "وإذا جاؤوكم قالو: آمنّا. وقد دخلوا بالكفر، وهم قد خرجوا به. والله أعلم بما كانوا يكتمون" (المائدة/ 61). فلماذا ينافقون المسلمين لو كانوا يَرَوْن أن المسلمين يستعيرون منهم عباداتهم وأساليب تنظيمها؟ بل لقد كانوا يتواصَوْن بالتظاهر بالدخول فى دين أولئك المسلمين أنفسهم أول النهار ثم إعلان الخروج منه آخر اليوم بغيةَ تشكيكهم فى دينهم، إذ كانوا يتصورون أن الصحابة سوف يرتابون عندئذ فى الإسلام ويتوهمون أن به عيوبًا فاتتهم وتنبَّه اليهودُ لها فدفعتهم إلى تركه بعدما خبروه عن قرب؟ قال جل جلاله: "وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب: آمِنُوا بالذى أُنْزِل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَه لعلهم يرجعون" (آل عمران/ 72). لا، لا. لا يمكن أن يكون هذا هو أسلوب المطمئن إلى نفسه الواثق بما فى يده الذى يرى الآخرين ينقلون عنه عباداتهم وصور أدائها! بل إنهم هم أنفسهم قد لاحظوا مع الغيظ المر الشديد أن الرسول عليه السلام لا يترك شيئا مما يفعلونه إلا خالفهم فيه، فما معنى هذه الافتراءات الرخيصة؟ عن أنس بن مالك رضي الله عنه : "كانت اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النبي رسولَ الله عن ذلك، فأنزل الله: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيض.ِ قُل:ْ هُوَ أَذًى، فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض"ِ (البقرة/ 222)، فقال : "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهودَ فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفَنا فيه". رواه مسلم في صحيحه.

وبالمناسبة فقد ترجم بلاشير المستشرقُ الفرنسىُّ الآيةَ الأخيرةَ على النحو التالى: "وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب: آمِنُوا بالذى أُنْزِل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَه لعلهم يرجعون عن ضلالهم"، مضيفا إلى النص القرآنى الكريم هذه الكلمات الثلاث الدنيئة السامة: "de leur erreur: عن ضلالهم"، التى يريد أن يقول من خلالها إن اليهود كانوا يعتقدون فى ضمائرهم أن المسلمين على ضلال، وإنهم كانوا يعملون على هدايتهم من ضلالهم (انظر كتابى: "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه"/ ط2/ دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 59). لكن هذا لا يمكن أن يكون، فالذى يعتقد أنه على حق ويريد أن يهدى الآخرين من ضلالهم لا يلجأ لمثل هذه الأساليب التآمرية الوضيعة، وبخاصة فى مجال الضمائر والإصلاح والأديان! ثم ما الذى كان اليهود يبغونه من وراء هذا؟ أكانوا يريدون هداية المسلمين إلى اليهودية؟ أبدا، لأن اليهود لا يَدْعُون أحدا إلى دينهم كما هو معروف، إذ يزعمون أن الله هو إلههم الخاص بهم يراعيهم من دون العالمين! أم كانوا يقصدون أن الوثنية الجاهلية أفضل من دين التوحيد كما قالوا للمشركين حين سألوهم: أىُّ الدينين أفضل: الإسلام أم الوثنية؟ فما كان جواب الضلاليين (الذين يزعم بلاشير العريق فى الضلالة مثلهم أنهم كانوا يريدون هداية المسلمين من ضلالهم) إلا أن قالوا إن دين الشرك خير من دين التوحيد: "ألم تر إلى الذين أُوتُوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجِبْت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أَهْدَى من الذين آمنوا سبيلا؟* أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن اللهُ فلن تجد له نصيرا" (النساء/ 51- 52)؟ نعم بكل تأكيد هذا ما كانوا يريدونه، فهل أمثال هؤلاء يمكن أن يدور فى عقولِهم النجسةِ العملُ على هداية أحد من ضلاله؟ إن هذا التفسير لا يمكن أن يدور فى ذهن أى شخص يحترم الحقيقة ولا يعرف الخبث ولا التواء الضمير. وهذا يدل على أن المؤامرة على الإسلام لا تزال ماضية فى طريقها على أشُدّها لا تعرف الهدوء ولا التوقف ولا التراجع إلى الحق المبين! وبالمناسبة أيضا فبلاشير هذا كان من أصدقاء طه حسين المقربين، وطه حسين (كما نعرف) كان يتعاون مع اليهود ثقافيا وأكاديميا ويعاونهم على الخروج من مصر إلى فلسطين أيام الصراع العربى الصهيونى على مَسْرَى النبى الكريم قبل أن تُحْسَم جولته الأولى بامتلاخ الأمم المتحدة والقوى الكبرى المجرمة لتلك الأرض المباركة من أيدى العرب والمسلمين وإعطائها لليهود، كما كان يزعم أن القرآن يعمل على التقرب منهم ويستعين بالأساطير الخرافية لهذا الغرض حسبما بَيَّنّا فى كتابنا "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكذلك فى عدد من الدراسات التى نُشِرَتْ فى بعض المواقع المشباكية. فالأمر، كما يشاهد القارئ، مثل شبكة الأوانى المستطرقة: كل إناء منها يوصل إلى كل إناء آخر، ويساويه فى مدى ارتفاع السائل الذى يحويه وفى نوعيته وفى كل خَصِيصَةٍ أخرى من خصائصه!

أما بالنسبة لما قاله كاتب الموسوعة عن استعارة الرسول المزعومة لشعيرة الصوم من اليهود فإنى أحيل القارئ إلى ما كتبته ذات الموسوعة فى مادة "Fasting and Fast- Days"، إذ قالت إن الصوم موجود فى كل الأديان رغم اختلاف أشكاله. أى أن اليهودية ليست وحدها التى تعرف الصوم، حتى إذا شرعه الإسلام كان ذلك بالضرورة متابَعَةً لليهودية بالذات. يقول القرآن فى هذا الصدد: "يا أيها الذين آمنوا، كُتِب عليكم الصيام كما كُتِب على الذين مِنْ قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة/ 183). ونضيف إلى هذا أن المسلمين كانوا يصومون، مثل العرب، يوم عاشوراء فى مكة قبل أن يهاجروا إلى يثرب ويلتقوا باليهود هناك. وهذا يتعارض مع ما قاله كاتب المادة من أن الرسول حينما هاجر ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء صامه تقليدا لهم. صحيح أنه وجدهم يصومونه كما جاء فى بعض الروايات، لكنه كان يصومه هو والمسلمون قبل الهجرة كسائر العرب كما قلنا لتونا. كل ما هنالك أنه سأل عن السبب الذى يصومه من أجله اليهود، فلما أُخْبِر أنهم يصومونه ابتهاجا بانفلاق البحر لموسى ونجاته هو وقومه من مطاردة فرعون ردَّ بأن المسلمين أجدر بصيامه ابتهاجا بنجاة ذلك النبى الكريم وحصول المعجزة الإلهية على يديه بوصفه أخًا له فى الرسالة. ولا بد أن نعرف أن يوم عاشوراء عند المسلمين يختلف عنه عند اليهود: فهو عندنا العاشر من المحرم، وهو شهر قمرى، على حين أنه عندهم يقع يوم الكفارة، الذى يتبع التوقيت العبرى، إذ هو العاشر من شهر تسرى، فهما توقيتان مختلفان تماما كما نرى. والملاحظ أن كاتب المادة الخاصة بالصيام فى "الموسوعة اليهودية" قد أهمل ما قاله صاحب مادة "Muhammad" من أن امتداد الصيام فى الإسلام لمدة شهر كامل مأخوذ من النصارى، إذ نراه بدلا من ذلك يقول بأن الرسول قد استعار صوم رمضان من اليهودية أيضا. وهو، كما ترى، تناقضٌ فِجّ، علاوة على أن مدة أى نوع من الصوم عند النصارى ليست شهرًا كما هو معروف، كما أن توقيت الصيام عندهم يختلف عن توقيتنا!

ليس ذلك فحسب، فصيام اليهود ينحصر فى الامتناع عن الأكل والشرب كما يقول واضع مادة "الصيام" فى الموسوعة المذكورة، بل إن بعض الأصوام عندهم يجوز فيها الأكل والشرب أيضا ما عدا اللحم والخمر حسبما جاء فى المادة التى نحن بصددها، أما فى الإسلام فيمتنع الصائم عن الأكل والشرب، وكذلك النكاح أيضا، علاوة على ما لفت إليه الرسول الكريم من أن الصيام عن هذه الثلاثة لا يكفى، إذ لا بد أن يصوم المسلم معها عن الغِيبَة والنميمة وقول الزور والعمل به...إلخ. أى أن الصيام فى الإسلام ليس صياما بدنيا فقط بل أخلاقى أيضا. كذلك فالصيام الفرض عند اليهود متعدِّدٌ وموزَّعٌ على مدار العام، أما فى الإسلام فليس إلا رمضان. ولا ننس أن صومنا يجرى على التوقيت القمرى، بخلاف صيامهم. كما أنهم يبدأون الصيام من شروق الشمس، وينتهون منه حين تبدو أول نجوم المساء. أما فى ديننا فنصوم من الفجر (وليس من الشروق كما كتب واضع المادة)، ونُفْطِر مع الغروب. فكيف يقال بعد هذا كله إن الرسول قد استعار شعيرة الصوم من اليهود؟ ومع ذلك فينبغى أن نقول كلمة سريعة عن الصوم عند النصارى كى يتبين الحق من الباطل فى هذه النقطة، فهم ( كما جاء فى مادة "Fasting" فى "thefreedictionary.com" [تحرير Farlex]، و"The New Advent Catholic Encyclopedia") يصومون أصواما متعددة تختلف من مذهب لمذهب، ومن بلد لبلد، علاوة على أن الصيام عندهم متعدد وموزع على فصول السنة أيضا بخلافه فى دين سيد الرسل . أما عن كيفية الصوم فالكاثوليك يكتفون فى صيامهم بوجبة واحدة خالية من اللحوم وما إليها يتناولونها فى منتصف النهار، وقد يتناولون إلى جانبها وجبتين أُخْرَيَيْنِ خفيفتين فى أول اليوم وآخره، أما الأرثوذكس فيمتنعون عن جميع الأطعمة الحيوانية وزيت الزيتون، وربما باقى الزيوت الأخرى أيضا، إلى جانب الخمر والكحوليات. وفى البروتستانتية نراهم يختلفون ما بين الاعتقاد فى أهمية الصوم أو عدم أهميته فى الحصول على الخلاص. لكن النصارى على تباين مذاهبهم لا يمتنعون عن الجماع كما نفعل نحن. وهو ما يبين بكل جلاء أن صيامنا يختلف اختلافا شديدا عن صيام أهل الصليب أيضا.

وتبقى دعوى الكاتب بأن القرآن لم يأت فى مجال التشريعات الطعامية بشىء يخالف ما فى شريعة اليهود، وهذه دعوى يكذّبها الواقع الذى يفقأ عيون المدلّسين، فقارئ القرآن يعلم تمام العلم أنه لم يحرم من الأطعمة إلا "الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكَّيتم وما ذُبِح على النُّصُب"، مع السماح للمضطر أن يتناول من ذلك على قدر الضرورة لا يعدوها (المائدة/ 3). وكان سبحانه قد حرّم على اليهود جزاءَ بغيهم "كُلّ ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم" (الأنعام/ 146). وقد اعترض يهود المدينة على إباحة الإسلام لبعض الأطعمة التى يحرمونها هم، فرد القرآن عليهم قائلا: "كُلُّ الطعام كان حِلاًّ لبنى إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنَزَّل التوراة. قل: فأْتُوا بالتوراة فاتْلُوها إن كنتم صادقين* فمن افترى على الله الكذبَ من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون" (آل عمران/ 93- 94). ذلك أنهم لا يأكلون مثلا الجمل ولا الأرنب ولا الوَبْر ولا حيوان البحر عديم الزعانف والفلوس (تثنية/ 14/ 7، 11)، أما المسلمون فليس عليهم فى أكلها من حرج. كذلك فالإسلام يشدد فى تحريم الخمر تشديدا مطلقا حتى لَيُضْرَب بها المثل فى التحريم الذى لا تساهل فيه ولا مخرج منه، على عكس ما هو الأمر فى اليهودية، وكذلك النصرانية. فكيف بعد هذا كله يزعم الكاتب أن دين محمد لم يأت فى مجال الأطعمة إلا بما لدى اليهود؟ وبعد فإنه لا يضير الإسلامَ فى شىء أن تتشابه بعض شرائعه مع شرائع التوراة أو الإنجيل لأن المصدر واحد، وهو وحى السماء، إلا أن القول بأن الرسول الكريم قد استمد تشريعاته استمدادا من اليهود أو النصارى أنفسهم لا عن طريق الوحى هو شىء مختلف عما نحن بسبيله هنا كما لا يخفى على كل من له عينان للإبصار، وأذنان للسمع، وقلب للتفقه والاعتبار.

ويزعم الكاتب أيضا أن الإسلام، منذ بداية أمره حتى الفترة المكية المتأخرة، لم يكن يختلف فى شىء عن اليهودية والنصرانية، وأن الرسول لم يكن يوجه دعوته إلا إلى مشركى العرب، وأن اشتراط الإيمان بنبوته عليه السلام لم يُطْرَح على بساط الاعتقاد إلا فى المدينة، إذ لم تكن مهمته آنئذٍ إرساء القواعد اللاهوتية، بل الدعوة إلى القيم الخلقية ليس إلا، مع النص على أن ما جاء به حينذاك ليس شيئا غير ما عند "أهل الكتاب". ولست أدرى ماذا يمكن أن يقال لمثل هذا الكائن الذى يبدو وكأنه قد فقد عقله، وإن كان فى واقع الأمر لم يفقده، بل فَقَدَ، وبملء وعيه وتخطيطه وخبثه، خُلُقَ الصدق واحترام حقائق التاريخ ومراعاة نصوص الدين الذى يتحدث عنه، وكأنه يتحدث عن دينٍ ضاعت كتبه فى مراحل ما قبل التاريخ!

إن القرآن المكى يفيض بالنصوص التى تتحدث عن رسالة محمد، وتضعه مع الرسل والأنبياء السابقين فى نفس السياق، وتقيس ما يلقاه من قومه على ما كان نظراؤه من أنبياء الأمم الأخرى يَلْقَوْنه، وأن الله هو رب السماوات والأرضين وخالق الكون كله ومدبّر أمره، وهو الرازق المنعم، والرحمن الرحيم، والشديد العقاب ذو الطَّوْل، وأن القرآن هو وحى السماء، نزل به الروح الأمين جبريل على قلبه ليكون من المنذرين، وأن الله قد تكفل بحفظه، وأن هناك بعثا وحشرا وحسابا وثوابا وعقابا، وأن من يجحد بذلك فهو من أهل الجحيم حيث العذاب الدائم الذى لا يطاق. أليست هذه كلها أمورا اعتقادية؟ بطبيعة الحال كانت هناك توجيهات أخلاقية ودعوة إلى الإصلاح الاجتماعى، لكن كانت هناك أيضا مسائل اعتقادية تتعلق (كما قلت) بالله والرسل والملائكة والشياطين والجنة والنار، فبأى حق يَكْذِب الكاتب الصفيق ويَدَّعِى أن الإسلام فى المرحلة المكية لم يكن سوى مجموعة من التوجيهات الخلقية لا أكثر ولا أقل، وأن الإيمان بنبوة محمد لم يكن جزءا من هذا الدين حينذاك؟ إن هذا عبثٌ دونه عبثُ الأطفال السفهاء! وما هكذا تكون حروب الرجال لخصومهم! ولكن متى كان أمثال الكاتب يعرفون معنى للرجولة أو الشرف فى خصوماتهم مع الإسلام؟ إننا هنا إزاء نسخة أخرى من يهود المدينة، الذين لم يكن لهم قَطّ موقفٌ رجولىٌّ رغم كل الجعجعات والمؤامرات التى برعوا فيها، والتى كانت تقع مع هذا على رؤوسهم فى كل مرة وقوعَ الصواعق المدمرة، حتى انتهى أمرهم مع سيدنا رسول الله إلى ما انتهى إليه جَرّاءَ غدرهم وكفرهم وسفاهتهم وسفالتهم! ولن أقف الآن إلا عند النصوص القرآنية المكية التى تنصّ على نبوّة الرسول الكريم وتدعو إلى الإيمان به: "ألر كتابٌ أُحْكِمتْ آياته ثم فُصِّلتْ من لدُنْ حكيمٍ خبير* ألاّ تعبدوا إلا الله. إننى لكم منه نذير وبشير" (هود/ 1- 2)، "وبالحق أنزلناه، وبالحق نَزَل. وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا* وقرآنًا فَرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْثٍ، ونزَّلناه تنزيلا" (الإسراء/ 105- 106)، "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قومهم منذرين* قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابًا أُنْزِل من بعد موسى يَهْدِى إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم* يا قومنا، أجيبوا داعىَ الله وآمِنوابه يغفرْ لكم من ذنوبكم ويُجِرْكم من عذاب أليم* ومن لا يُجِبْ داعِىَ الله فليس بُمْعجِزٍ فى الأرض، وليس له من دونه أولياء. أولئك فى ضلالٍ مبين" (الأحقاف/ 29- 32)، "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل..." (الأحقاف/ 35)، "الذين يتّبعون الرسولَ النبىّ الأُمِّىّ..." (الأعراف/ 157)، "قل: إنما أنا بشرٌ مثلكم يُوحَى إلىَّ أنما إلهكم إلهٌ واحدٌ، فاستقيموا إليه واستغفِروه، وويلٌ للمشركين" (فصلت/ 6)، "قل: يا أيها الناس، إنى رسول الله إليكم جميعا" (الأعراف/ 158)، "فآمِنُوا بالله ورسوله النبىّ الأُمِّىّ الذى يؤمن بالله وكلماته" (الأعراف/ 158)، "وقال الرسول: يا رب، إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا" (الفرقان/ 57)، "قل: سبحان ربى! هل كنتُ إلا بشرًا رسولا؟" (الإسراء/ 93)، "إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعونَ رسولا* فعصى فرعونُ الرسولَ فأخذناه أَخْذًا وبيلاً* فكيف تتقون إن كفرتم يومًا يجعل الوِلْدان شِيبًا؟" (المزمل/ 15- 16)، "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا" (الجن/ 23)، "وكذلك جعلنا لكل نبىٍّ عدوًّا شياطينَ الإنس والجن" (الأنعام/ 112)، "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" (الأنبياء/ 107)، "وما أرسلناك إلا كافَّةً للناس بشيرًا ونذيرًا" (سبأ/ 28)...إلخ. بل إن هناك (كما نرى) آيات تنص نصًّا على أن رسالته عليه الصلاة والسلام موجهة إلى الناس جميعا لا إلى قومه فحسب، فضلا عن الآيات 29- 32 من سورة "الأحقاف"، التى تشير إلى أنه لم يكن رسولا إلى الإنس وحدهم بل إلى الجن أيضا، كما أن آيات سورة "الأعراف" موجهة إلى العالمين وكذلك اليهود أنفسهم، وهو ما يفضح بكل قوةٍ مزاعم هذا الأفاك! وقد انصب تكذيب المشركين من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام على إنكارهم لنبوته واشتراطهم أن ترسل السماء نبيًّا من الملائكة لا من البشر وأن يأتيهم بما يقترحونه عليه من آيات: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم" (يوسف/ 109)، "بل هو شاعر. فليأتنا بآية كما أُرْسِل الأولون" (الأنبياء/ 5)، "وقالوا: لن نؤمن لك حتى تَفْجُر لنا من الأرض ينبوعا* أو تكون لك جنة من نخيلٍ وعنبٍ فتفجِّر الأنهار خلالها تفجيرا* أو تُسْقِط السماء كما زعمت علينا كِسَفًا أو تأتىَ بالله والملائكة قبيلا* أو يكون لك بيتٌ من زُخْرُف أو تَرْقَى فى السماء، ولن نؤمن لرقيّك حتى تُنَزِّل علنا كتابًا نقرؤه" (الإسراء/ 90- 93) "وما منع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهُدَى إلا أن قالوا: أًبَعَثَ اللهُ بشرًا رسولا؟* قل: لو كان فى الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئنين لنَزَّلْنا عليهم من السماء مَلَكًا رسولا" (الإسراء/ 94- 95)، فكيف يقال بعد هذا كله إن دعوة محمد فى مرحلتها المكية كانت تخلو من الكلام عن نبوته ولا تشترط الإيمان به صلى الله عليه وسلم؟

أما عن زعم كاتبنا بأن الآيات المكية المتأخرة ذاتها تنص على أن ما جاء به الرسول الكريم ليس شيئا آخر سوى ما عند "أهل الكتاب: men of the revelation"، أى اليهود والنصارى كما يقول، فلسوف أفاجئ القارئ بما يجعله يفغر فاه دهشا لجرأة الكاتب العجيبة وقدرته الفذة على الاختراع والتدليس دون أن يطرف له جفن، وأقول له إن القرآن إذا ذكر "أهل الكتاب" فإنما يذكرهم فى مقام المجادلة لهم والزراية عليهم وتخطتئتهم واتهامهم بالعناد والكفر، اللهم إلا عندما يعلن أحد منهم إيمانه بمحمد ويعتنق الإسلام مثلما هو الأمر فى الآية قبل الأخيرة من سورة "آل عمران" مثلا، وإن المواضع الإحدى والثلاثين التى ورد ذكرهم فيها فى كتاب الله كلها آيات مدنية ما عدا مرة واحدة يتيمة هى قوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن..." (العنكبوت/ 46)، وهى (كما ترى) فى الجدال والخلاف أيضا لا فى الإشارة إلى تناغم الدعوة المحمدية مع ما عندهم كما يزعم مؤلف المادة! أما كلمة "يهودى" (مرة واحدة)، وكلمة "يهود" (8 مرات)، وكلمة "نصرانى" (مرة واحدة)، وكلمة "نصارى" (14 مرة) فلم يرد منها شىء البتة فى الوحى المكى، كما أن السياقات التى وردت فيها هى كلها سياقات اتهام وتهديد بمصيرٍ أليم، اللهم إلا حين تقول إن باب النجاة مفتوح لهم كما هو مفتوح للمسلمين بشرط أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر، أى يعتنقوا دعوة محمد ويدخلوا الإسلام، أو إنهم قد أسلموا فعلا كما هو الحال فى آيات سورة "المائدة" المشهورة التى يظن بعض الناس أنها تُثْنِى على النصارى بما هم نصارى، مع أنها تقول بصريح اللسان إن القساوسة والرهبان الذين ورد ذكرهم فيها قد سمعوا ما أُنْزِل إلى الرسول ففاضت أعينهم من الدمع تأثرا بآيات الله وأعلنوا إيمانهم بمحمد عليه السلام! عجبى من هذا الكذب الوقح الوجه، السميك الجلد! على أن القرآن مع هذا قد يشير، فى خطابه للنبى عليه السلام فى المرحلة المكية، إلى "الذين يقرأون الكتاب من قبلك" أو إلى "أهل الذكر"، لكن هذه الإشارات إنما تتحدث عن الذين كانوا يتوقعون منهم مجيئه أو أولئك الذين صدَّقوا فعلا برسالته بعد أن أعلن بها، وتستشهد بهم على أن ما جاء به هو الحق الذى لا ريب فيه، كما فى حالة ورقة بن نوفل مثلا. أما "أهل الكتاب" أو "اليهود والنصارى" فكَلاّ ثم كَلاّ، وهذه آيات القرآن موجودة لمن يريد أن يرجع إليها.

وكذلك هى موجودة لمن يريد أن يتحقق من كذب المؤلف فى زعمه أيضا أن الإسلام فى مكة لم يأت بشىء يختلف عما عند اليهود والنصارى: فالمعروف أن القرآن المكىّ يؤكد أنه سبحانه وتعالى "لا تدركه الأبصار" وأنه "ليس كمثله شىء" وأنه "على كل شىء قدير"، وأنه "هو القوىّ المتين"، وهذا يتعارض مع ما يقوله العهد القديم مثلا من أن يعقوب قد ظل يصارعه، عزَّتْ قدرته، طوال الليل ممسكا به بطريقة يصعب معها أن يفلت منه مما لم يجد الله معه بُدًّا من أن يضربه ضربة مؤلمة على حُقّ فخذه، وباركه فوق البيعة ربما إعجابا بمهارته فى المصارعة، تلك المهارة التى تفوّق فيها على الله، إذ أمسك بتلابيبه إمساكة لم يستطع أن يتفلفص منها إلا بعد أن نزل على شرطه وأعطاه البركة، وكأننا فى مصارعة بين "فتوَّتَيْن" فى "مولد" أحد الأولياء، "شىء لله يا سيدنا الولىّ"! ولا أدرى كيف فاتت هذه صلاح جاهين فلم يضمّنها رائعته "الليلة الكبيرة" حتى تكمل وتحلو وتبقى ليلة فُلَّلِيّة! (تكوين/ 32/ 25- 31، و35/ 109)، كما يتعارض مع ما يقوله العهد القديم أيضا من أن موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعين رجلا من قومه قد رأَوُا الله "وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ الشَّفَّافِ وَكَذَاتِ السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ. 11... فَرَأُوا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا" (خروج/ 24/ 10- 11). الله أكبر! ما هذا الهنا الذى نحن فيه؟ وبالمثل ينفى القرآن عن رب العزة أنه يمكن أن يلحقه تعب فيحتاج من ثم إلى شىء من الراحة بعد أن فرغ من خلق السماوات والأرض (ق/ 38)، على عكس ما نقرأ فى سفر "التكوين" (2/ 1- 3) من أنه سبحانه، بعد أن انتهى من خلقهما فى ستة أيام، "استراح فى اليوم السابع". كما أن القرآن منذ وقت مبكر فى مكة قد حمل على من يجعلون لله ولدا بما فيهم النصارى، الذين خطّأهم فى قولهم ببنوة عيسى عليه السلام لله مؤكدا فى نصوص عنيفة أنه ليس إلا عبدا له سبحانه أنعم الله عليه وجعله نبيا لبنى إسرائيل (الأنعام/ 101، والإسراء/ 111، والكهف/ 4- 5، ومريم/ 30- 40، 88- 95، والأنبياء/ 22، والمؤمنون/ 91، والفرقان/ 2، والزخرف/ 57- 65 مثلا). ونحن نعلم أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد وجدوا أنفسهم فى موقفٍ حَرِجٍ لا يُحْسَدون عليه حينما سألهم القساوسة فى مجلس النجاشى بتحريضٍ من رسولَىْ قريش عن عقيدتهم فى عيسى عليه السلام، لكنهم رغم ذلك لم يجمجموا ولم يجاملوا، بل صَدَعوا بما تقوله سورة "مريم" من أنه عليه السلام ليس إلا عبدًا نبيًّا، وهو ما لَقِىَ القبولَ من العاهل الحبشى الذى فتح الله قلبه لنور الحق وأعلن أن ما قالوه لا يختلف عما يؤمن هو به فى ذلك النبى الكريم أدنى اختلاف! ومعروف أيضا أن النصارى يؤمنون بتوارث البشر عن أبيهم آدم وأمهم حواء ما يسمونه: "الخطيئة الأصلية"، كما أن اليهود يؤمنون بامتداد العقاب للجيل الثالث والرابع من ذرية المخطئ لا لشىءٍ سوى أنهم من سلالته (خروج/ 20/ 5، و34/ 7، وتثنية/ 5/ 10)، فجاء القرآن يحطم هذا الاعتقاد الذى لا معنى له ولا عدل فيه، مكررا بعبارات متنوعة وفى مواضع مختلفة من آياته "أن لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى* وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم/ 38- 39). ومن عجب، وأمور القرآنِ كلها عجب فى عجب، أن النص القرآنى الحالى يستبق الأمر ويرد مقدما على كل من تسوّل له نفسُه الهجومَ الكاذبَ عليه، فنراه فى الآيتين السابقتين على آيتينا هاتين يلفت الأنظار إلى أن هذا المبدأ قد نُصَّ عليه نَصًّا فى صحف موسى، على خلاف ما هو مثبت الآن فى العهد القديم من أن العقاب على الخطإ يطول الجيل الثالث والرابع من ذرية المخطئين! ثم يقول الكذاب إن الإسلام لم يأت فى مكة بشىء جديد ليس عند اليهود النصارى! الحق أن القرآن المكىّ لم يأت فقط بأشياء ليست فى يد اليهود والنصارى، بل يخطّئهم أيضا ويعلّمهم الصواب الذى كان عندهم يوما لكنهم أَخْفَوْه أو مَحَوْه! ونكتفى بهذه الخطوط العامة، وفى ميدان العقيدة فقط، فلا ندخل فى أخطاء الكتاب المقدس التى ترشدنا إليها المقارنة بينه وبين القرآن الكريم أو الاختلافات الموجودة بين الكتابين فى مسائل العبادات والمواريث والنجاسات والمعاملات أو الطريقة البشعة التى صوَّر بها مؤلفو الكتاب المقدس رسلَ الله وأنبياءه فجعلوهم قتلةً مجرمين، وزناةً متهتكين، وللجنس مع المحارم ممارسين، وشِرِّيبى خمرٍ سكّيرين، وبعبادة الأوثان راضين، فجاء القرآن وعدل الصورة بحيث تليق بمن اصطفاهم الله وجعلهم نبيين مصلحين، وإلا فلن ننتهى! على أن الكاتب قد تجاهل أن العكس فى مسألة التأثر التشريعى هو الصحيح، إذ نقل اليهودُ الذين كانوا يعيشون فى المجتمع الإسلامى غَيْرَ قليل من تشريعات الإسلام وجعلوها جزءا لا يتجزأ من عباداتهم وأحوالهم الشخصية. ولأترك أحد المتخصصين فى لغة اليهود وآدابهم، وهو د. محمد جلاء إدريس، يُلْقِى بعض الضوء على هذه النقطة، إذ جاء ردُّه على سؤالٍ سُئِلَه عن مدى تأثير الفقه الإسلامى على نظيره اليهودى على النحو التالى: " عاش اليهود في بيئة عربية إسلامية على مدى 1400 سنة، فمن الطبيعي أن ينقل هؤلاء معهم بعد هجرتهم إلى إسرائيل التراث العربي والإسلامي والمصري على وجه الخصوص، وهذا التأثير كان له عدة مظاهر منها حفظهم للقرآن واستشهاداتهم بآياته، وكذلك الحديث وبعض الجمل الشعبية الأخرى مثل "عليّ الطلاق"، "والله العظيم" و "أقسم بالله". ومن اللافت للنظر أيضاً نقل الأفكار الإسلامية مثل التأثر بالجبرية والجبريين، وبعضهم تأثر بالفقه الإسلامي والمهدي المنتظر والفكر الشيعي. فقد أخذت طائفة القرائين (من اليهود) عن الفقه الإسلامي تحريم زوجة الأب، وقد اعترف علماؤهم اعترافًا صريحًا في ذلك بالأخذ عن مذاهب المسلمين، وتأثيرات إسلامية في مجال العبادات اليهودية كثيرة مثل غسل الرجلين والذراعين ومسح الأذنين والمسح على الرأس، كما اشترطوا ضرورة اغتسال المحتلم للصلاة، وأبطل موسى بن ميمون سرية الصلاة وجعلها جهرًا مخالفًا بذلك شرائع التلمود ومقلدًا للمسلمين، فظهر ما أُطْلِق عليه: "الإسلاميات" في العقيدة اليهودية، وكتب الفقه لدى اليهود على غرار الفقه الإسلامي" (من حوار أجراه معه منير أديب بعنوان "الاستشراق الصليبي" فى مجلة "المنار" المشباكية).

وفى العلاقة بين الرسول واليهود فى يثرب يقول الكاتب إنهم لم يعودوا قادرين مع الأيام على السكوت إزاء ما كان القرآن يحرّفه من روايات الكتاب المقدس عن شخصياتهم التاريخية مثل إبراهيم، الذى يزعم صاحبنا أن القرآن قد صيّره عربيا ونسب إليه بناء الكعبة. وبالمثل يزعم أن الرسول لم يكن يطيق أن يصحح له أحد شيئا من معلوماته المضطربة، ومن ثم أخذ يمطر اليهود بشتائمه العنيفة بعد أن كان يكتفى فى بداية أمره معهم بالهمز واللمز. وحين كانوا يستشهدون بالتوراة على صحة ما يقولون كان رده عليهم أنهم "كالحمار يحمل أسفارا". ولأن معرفته بالتوراة كانت معرفة غير مباشرة حسبما يقول الأفاك، فقد اتهمهم بأنهم لا يفهمونها كما ينبغى أو أنهم يتعمدون إخفاء معناها الحقيقى. ثم يضيف الكاتب بالباطل أنه كان واضحا من سياق الأحداث أن عدوانه عليهم قادم لا محالة، لولا أن كراهيته كانت متجهة فى ذلك الوقت إلى القرشيين، الذين كان ينظر إلى تأبّيهم عليه وموقفهم من أتباعه على أنه إهانة شخصية له ليس من سبيل إلى محوها غير شن الحرب عليهم، ومن ثم نزلت النصوص القرآنية تترى فى الحض على الجهاد وتدمير الحياة نفسها بوصفه جزءا لا يتجزأ من الإيمان. صحيح أن النصوص القرآنية الأولى فى هذا الصدد كانت تحصر دوافع القتال فى رد العدوان، إلا أن الأمر اختلف بعد ذلك حسبما يزعم الكاتب، فرأينا الآيات تحض على المبادرة بالهجوم على الآخرين: فإما اعتنقوا الإسلام، وإما استحقوا القتل.

ويمضى الرجل فى كذبه وتدليسه فى وقائع التاريخ وحقائق الأخبار فيتهم النبى الكريم بأنه كان يحقد على اليهود لأنهم كشفوا جهله بالتوراة ولم يَرْضَوْا أن يدخلوا فى دينه الزائف. وفاته أن التاريخ مسجَّل لم يضع أو يعبث بحقائقه أحد كما ضاعت التوراة فزيَّفها اليهود ولعبت أيديهم النجسة فيها، ثم ادّعَوْا أن عُزَيْرًا قد استعادها كلمةً كلمةً من الذاكرة لم يخرم منها حرفا واحدا. والذين يقرأون كلام صاحبنا من الأوربيين دون أن يكون لديهم علم بما حدث بين النبى واليهود سوف يصدقون كذب الرجل، فيظنون أن النبى فعلا كان صاحب اليد السفلى فى العلم بالتوراة! لكن ماذا يكون الحال يا ترى لو عرفوا أن بعض أحبار اليهود فى المدينة قد أسلموا نزولا على صوت الحق النابع من أعماق ضمائرهم، وأن الذين عاندوا فلم يدخلوا فى دين الرسول قد فضحهم الله على ألسنة أقاربهم ممن كُتِب لهم شرف اعتناق الإسلام؟ لننظر فى قصة عبد الله بن سلام ومُخَيْرِيق وحُيَىّ بن أخطب مثلا لنرى أين الحقيقة وأين الباطل.

يقول ابن هشام فى "السيرة النبوية" عن عبد الله بن سلام وظروف اعتناقه دين محمد: "قال ابن إسحاق: وكان من حديث عبد الله بن سلام كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حَبْرًا عالما، قال: لما سمعتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكَّف له، فكنت مُسِرًّا لذلك صامتًا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجلٌ حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة. فلما سمعتُ الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّرْتُ فقالت لي عمتي حين سمعتْ تكبيري: خيَّبَك الله! والله لو كنتَ سمعتَ بموسى بن عمران قادما ما زدت. قال: فقلت لها: أَيْ عَمَّة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعِث بما بُعِث به. فقالت: أي ابن اخي، أهو النبي الذي كنا نُخْبَر أنه يُبْعَث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذا. قال: ثم خرجتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ، ثم رجعتُ إلى أهل بيتي فأمرتُهم فأسلموا. قال: وكتمتُ إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، إن يهود قومٌ ُبهْت، وإني أُحِبّ أن تُدْخِلني في بعض بيوتك وتغيِّبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني. قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم: أيُّ رجلٍ الحُصَيْنُ بن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحَبْرنا وعالِمنا. قال: فلما فرغوا من قولهم خرجتُ عليهم فقلتُ لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومن به وأصدّقه وأعرفه. فقالوا: كذبت، ثم واقعوا بي. قال: فقلت: يا لرسول الله صلى الله عليه وسلم! ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قومٌ بُهْت، أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: فأظهرتُ إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحَسُنَ إسلامها".

وعن مُخَيْرِيق يقول ابن هشام أيضا: "قال ابن إسحاق: وكان من حديث مخيريق، وكان حَبْرًا عَالِمًا، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في عِلْمه، وغَلَبَ عليه إِلْفُ دِينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أُحُد، وكان يوم أُحُد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون إنّ نصر محمد عليكم لحقّ. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سَبْتَ لكم! ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، وعهد إلي من وراءه من قومه: إن قُتِلْتُ هذا اليوم فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتل حتى قُتِل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، يقول: مخيريق خَيْرُ يهود. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامّة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها".

وأخيرا هذا حيث صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، فلننصت جيدا إلى ما يرويه كذلك ابن هشام لنعرف ما كان يدور خلف الستار: "قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حُدِّثْتُ عن صفية بنت حُيَيّ بن أخطب أنها قالت: كنتُ أَحَبَّ وَلَدِ أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قَطّ مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قُبَاء في بني عمرو بن عوف غَدَا عليه أبي حُيَيّ بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسَيْن. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى. قالت: فهَشِشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعتُ عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حُيَيّ بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله. قال: أتَعْرِفه وتُثْبِته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوتُه والله ما بَقِيتُ!".
فأما أن القرآن أو حتى المسلمين يقولون إن إبراهيم كان عربيا فلا أدرى من أين للكاتب بهذا الكلام؟ إن كل ما يقولونه هو أنه أبو إسماعيل، الذى تربى بين أَظْهُر العرب وتزوج منهم، فصارت ذريته جزءا من هؤلاء العرب. فإبراهيم إذن هو جدهم (أو "أبوهم" بتعبير القرآن)، لكنه هو نفسه لم يكن عربيا. وهذا كلام يعرفه كل إنسان، فكان أحرى بالكاتب (لو كان ممن يحترمون أنفسهم وينزلون على كلمة التاريخ وأخلاق العلماء فى عدم كتمان الحقيقة والبعد عن التلاعب بها تبعا لأهواء الباحث وعصبيته الدينية أو القومية أو القبلية) أن يراعيه فيما يخطه قلمه! وبالنسبة لذهاب إبراهيم إلى الحجاز وبنائه هو وإسماعيل الكعبة لا بد أن ننبه القارئ إلى أن هذه الرواية ليست من ابتداع القرآن، بل كان العرب يرددونها طوال تاريخهم قبل الإسلام، ولا نعرف أن اليهود قد أنكروها عليهم يوما، بل لم يحدث أَنْ كذّبوا النبى بشأنها رغم كثرة اعتراضاتهم السخيفة التى كانوا يشغبون بها عليه، فما الذى جَدَّ الآن حتى يتهم الكاتبُ رسولَ الله بأنه يستقى معلوماته التاريخية عن اليهود من مصادر غير موثوقة من هنا وههنا؟ لو أن إبراهيم عليه السلام لم يذهب إلى الحجاز، أكان اليهود قد سكتوا كل هذه المدة المتطاولة فلم يردوا على العرب ما كانوا يقولون؟ إن اليهود لا ينكرون أن العرب إسماعيليون، فما وجه الصعوبة إذن، أو ما وجه الاستحالة فى أن يذهب إبراهيم إلى البلد الذى يقيم فيه ابنه والذى أصهر إلى أهله وتزوج امرأة من نسائه؟ ثم لماذا يخترع العرب هذه القصة؟ لقد كانوا يستطيعون أن ينسبوا بناء الكعبة إلى نبى عربى مثل هُودٍ أو صالحٍ مثلا حتى يكون الشرف الحاصل من هذا الإنجاز عربيا، فلماذا لم يفعلوا واختاروا إبراهيم بدلا من ذلك؟ هل كانوا يريدون التقرب من اليهود؟ لكن أين فى تصرفاتهم أو أشعارهم أو أمثالهم ما يدل على أنهم كانوا يعملون على هذا التقرب؟ وما الذى كان يمثله اليهود فى ذلك الوقت عالميا أو محليا حتى يفكر العرب قى التقرب منهم؟ لقد كان اليهود غرباء طارئين على بلاد العرب لجأوا إليها هروبا من الاضطهاد الذى أنزله الرومان بهم فى بيت المقدس، وكان الأوس والخزرج فى يثرب يجيرونهم. وناسٌ مثلهم لا يمكن أن يشكِّلوا لأهل الديار أية أهمية، فضلا عن أن أخلاق اليهود ونفسيتهم الملتوية وجشعهم وحبهم الجارف للمال وحقدهم على البشر جميعا ليست مما يبعث العرب على التفكير فى التشرف بهم! ثم إن العلاقة بين اليثربيين واليهود لم تكن علاقة مودة حتى يقال إن أهل يثرب كانوا حريصين على التقرب منهم. والنص التالى من "السيرة الحلبية"، وهو متعلق بالآية 90 من سورة "البقرة"، يلقى الضوء على طبيعة تلك العلاقة التى لا يمكن أبدا أن ترشِّح لظهور مثل تلك الرغبة المزعومة عند العرب فى التقرب من يهود والابتهاج بالانتساب إليهم: "من ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهُدَاه ما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أَهْلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثان، وكانوا أهل كتابٍ عندهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمانُ نبيٍّ يُبْعَث الآن يقتلكم قَتْلَ عادٍ وإِرَم، أي يستأصلكم بالقتل. فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا. ففي ذلك نزلت هذه الآية في "البقرة": "ولمّا جاءهم كتابٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم وكانوا من قَبْلُ يستفتِحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به! فلعنة الله على الكافرين!". وعلى أية حال فلم يكن سائر العرب خارج يثرب يهتمون باليهود، بل ربما لم يكونوا على علم بوجودهم هناك، إذ لم تكن ليثرب فى نظر العرب آنذاك أية أهمية، على عكس ما حدث بعد الهجرة النبوية إليها حيث اقتربت مكانتها فى الضمير الإسلامى من مكانة أم القرى

لقراءة القسم الثاني من المقال انقر أدناه

القسم الثاني


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى