
ثقافة بدون إغفال
إن النهوض بالمجتمع يتطلب النهوض بالفرد لكن النهوض بالفرد يقتضي النهوض بالثقافة، التي هي المكون الأصلي لفكر الإنسان وصانعة توجهاته
وقيمه وسلوكه، فالفرد في المجتمع ما هو إلاّ ثمرة ثقافة مجتمعه، إن هي سمت وارتفعت سما معها في سلوكه وتفكيره ومبادئه وقيمه، وإن هي هوت
وتدنت هوى متدنياً معها، ولعل ذلك يفسر لنا مانراه من تخلف في مجتمعات العالم الثالث التي ترتفع فيها نسبة الفساد والتسيّب والإهمال واللامبالاة،
بسبب ما تعاني منه تلك المجتمعات من تدنٍ في ثقافتها، وإذن لابد من بذل الحرص والإجتهاد في الإعتناء بالثقافة والنهوض بها إن أردنا نهوضاً
للمجتمع وقضاء على كثير من آفاته وعيوبه.
وفي مجتمعنا، من الواضح أن الثقافة لا تنال ما تستحق من الرعاية والإهتمام ولعل أبرز دليل على ذلك، عدم الإعتراف بجسد مستقل للثقافة يضمها
لتنمو وتكبر وتتبلور في داخله، فقد ظلت مسؤولية رعاية الثقافة في المجتمع مسندة إلى وزارة التعليم العالي، وثانٍ غلى الحرس الوطني، وثالث إلى
رعاية الشباب وهكذا.....، ثم لما استُشعر عدم صواب هذا التشتت، ضُمت أجزاء الثقافة المبعثرة وأُسندت جميعها إلى وزارة الإعلام بإستثناء أجزاء
بسيطة في بعض الأجهزة. لكن الجمع بين الثقافة والإعلام في بوتقة واحدة، مع ما قد يظهر بينهما من تقارب، هو لا يخدم الثقافة كما ينبغي بل إنه يغمطها حقها من الرعاية والإعتناء، فالواقع يشير إلى أن هناك إختلافاً في المفهوم أو وظيفة بين الإعلام والثقافة، وهو إختلاف يحتم الفصل بينهما،
فالإعلام يُراد منه في أحيان كثيرة أن يكون موجهاً ليخدم أغراضاً محددة كالتوافق مع السياسة العامة للبلد أو الدفاع عن مصالحه والحفاظ على حقوقه،
أو نشر الوعي بين الناس حول أمور الحياة كالشؤون السياسية أو الإقتصادية أو الصحية أو البيئية أة الإستهلاكية أو غير ذلك، وهي كلها مجالات
تقوم على مخاطبة ما في الواقع من حقائق ومعالجتها وإيصالها للجماهير بما يخدم الصالح العام، أما الثقافة فليست كذلك، الثقافة تتعلق بنواحي الفكر
والإبتكار والإبداع، فهي تتجه إلى مخاطبة العقول ولا يهمها في شئ إيصال الحقائق القائمة. ومن هنا فإن الثقافة والإعلام يسيران في مسارين
مختلفين مما يُحتم عدم امتزاجهما وذوبان أحدهما في الآخر.
إن هذا لا يعني إغفال ما يُبذل حالياً في وزارة الإعلام والثقافة من جهود التنشيط الوسط الثقافي والقضاء على ما يكتنفه من الركود، إلاّ أن ذلك لا
يكفي، فالنهوض بالثقافة كما ينبغي يتطلب ميزانية مستقلة وجهازاً ثقافياً متكاملاً وقيادة مستقلة تصنع الأستراتيجيات وتضع الخطط بما يحقق
نهوضاً فعلياً لعالمنا الثقافي، وذلك ما يجعلنا نرى أهمية فصل الثقافة عن الإعلام لتكون هيئة مستقلة أو وزارة تعمل على توفير بيئة ثقافية مناسبة
تتبرعم فيها عوامل التحفيز على الإبداع، وتتمتع بقدر كبير من الحرية والإستقلال.