الثلاثاء ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم محمد شداد الحراق

جريمة الانتماء في زمن العولمة

يسير العالم المعاصر في اتجاه التحرر من كل أشكال الانتماء، بحيث يتم تفكيك كل الشبكات العلائقية التي تربط الإنسان بمحيطه وجذوره، ويتم تجاوز الكثير من القيم التي كانت في الماضي جوهر وجود الإنسان وأهم خواصه ومميزاته.

في زمن الانفتاح غير المشروط وإزالة الحواجز الجمركية والنفسية والثقافية، وفي زمن سلطة الأموال والشركات العملاقة والمشاريع المتعددة الجنسيات، ظهر نوع جديد من الإنسان يمكن اختزاله في ثنائية التحرر والاستهلاك، وهونوع يستطيع أن يتأقلم مع هذا التعولم الجديد، وأن يتفاعل معه، لأن لكل عولمة إنسانها الذي يناسبها- كما يقول الدكتور طه عبد الرحمان-.

ولاشك أن العولمة المعاصرة قد ساهمت في صنع عقلية وتشكيل نفسية الإنسان الذي يتعامل معها وبها في كل شؤون حياته. وليس غريبا أن نجد هذا الإنسان يختلف عن سابقه الذي صنعته ظروف تاريخية قاهرة وشروط حضارية قاسية. يختلف عن ذلك الإنسان الذي تربى على مائدة القيم والمبادئ والذي حمل أوسمة النضال والتضحية، وتغذى بمياه الحب والتعاون والإيثار والفداء.

لقد تغير الكثير من المفاهيم في هذا السياق العولمي المعاصر، ولكن أخطر ما تغير هومفهوم الوطن والوطنية والمواطنة، بل إن هذه المفاهيم أضحت مناقضة لما تسعى إليه العولمة من قيم. فالعولمة والمواطنة ضدان لا يجتمعان ولا يتواصلان، لأن المنطلقات مختلفة، ولأن المقاصد والأهداف متباينة... فلا يمكن الجمع بين غريزة الانتماء وعقيدة التحرر، ولا يمكن الجمع بين الولاء للذات والولاء للوطن والجماعة.

إن العولمة تسعى إلى خلق مناخ نفسي وأخلاقي جديد.. وتعمل على ترسيخ قيم ومفاهيم جديدة انقلابية مغايرة تؤسس لنمط حياتي غريب وشاذ، ربما لم نتمكن بعد من استيعابه أوتصوره، لأنه نمط مخالف للكثير من الثوابت والمسلمات والمقدسات التي آمن بها وتربى عليها جيل ما قبل العولمة، الجيل الذي نشأ على عشق التراب، فسقاه بعرقه ودمائه، الجيل الذي حمل في كيانه أكثر من بطاقة انتماء للوطن، للقبيلة، للدين، للغة، للتاريخ، للإنسانية... فليس من السهل إقناع هذا الجيل الأصيل بتغيير جلدته أوتبديل دمه أوالتنكر لتاريخه وذاكرته.
الإنسان العولمي القادم ما يزال في طور التشكل والإعداد، وهناك آليات كثيرة مسخرة لصنعه وصياغة خريطته الوراثية، تحاول ضبط طوله وعرضه، وتعمل على توحيد خلاياه ونبضات قلبه. يتم الآن صنع لقاحات جديدة تستهدف تجميد مركز الشعور بالهوية والانتماء عند الإنسان، وتسعى إلى فك كل ارتباطاته التقليدية الاجتماعية والدينية والجغرافية.

الإنسان العولمي لا يعترف بوطن ولا يعتز بانتماء. تتحكم فيه قيم المصلحة والمتعة والسلطة. لا يحترم ماضيا ولا حاضرا، لا يقدس دينا ولا لغة، تتساوى عنده الأمانة والخيانة، يتعانق في ملته الخير مع الشر، مستعد للتنازل عن كل شيء من أجل لا شيء. . . الكل عنده قابل للبيع والشراء. تجارته تجاوزت الأشياء إلى عرض القيم للمزايدة والمناقصة، لا وازع يمنعه ولا ضمير يؤنبه ولا دين يضبطه ولا أخلاق تزجره.

الإنسان العولمي يتمرد على الثوابت، فيعادي إنسانيته وخصوصيته البشرية، لأن جيناته المزروعة ترفض كل نوع من أنواع الانتماء. يتمرد الذكر على ذكورته، وتتمرد الأنثى على أنوثتها، لأن الانتماء إلى جنس بعينه سجن بيولوجي ونظرة أحادية منغلقة إلى الكائن البشري. يتمرد هذا الإنسان على كل المؤسسات الاجتماعية، فيتجاوز الأسرة، ويرفض الاعتراف بحرمتها وقداسة كيانها، لأنه يعتبرها قيدا اجتماعيا وكهنوتا متجاوزا. يثور على شجرة العائلة فيقطع الأغصان، وينثر الأوراق، ويستأصل الجذور، لأن هذه الشجرة تفرض عليه نوعا من الانتماء القبلي الرجعي المتجاوز.

في سياق العولمة ستذوب المؤسسات الأيديولوجية وتفقد جاذبيتها وقدرتها على الاستقطاب، لأنها ستفقد القواعد الجماهيرية الملتزمة بخطابها الفكري والعقدي والسياسي. سيصيب الحقول السياسية الجفاف والقحط، لأن الانخراط يعني الانتماء، والانتماء جريمة شنعاء في شريعة الإنسان العولمي. وفي هذا السياق ستفقد الكثير من القيم الاجتماعية آثارها النفسية على الإنسان، فالتقاليد والأبوة والحب والطقوس الاجتماعية مجرد ارتباطات ماضوية قديمة لم يعد لها معنى، وقيود أخلاقية تناقض مبدأ التحرر والانعتاق.

الإنسان العولمي لا يعترف بقانون ولا شريعة ولا تعاليم، لا يحترم كنيسة ولا مسجدا ولا معبدا، إلهه في جيبه، وحب الذات وعشق المال أهم المبادئ في ملته واعتقاده. يطيل الصلاة في محراب الشهوة، ويسجد لكل معبود جديد. تستهويه قيم الاستبدال والتغيير. إذا رأى المال قال هذا ربي، وإذا رأى الجمال قال هذا ربي هذا أحسن.. علاقاته عمرها قصير، ومعشوقاته كل يوم هي في شأن. حركة عقارب الساعة عنده سريعة الدوران، لا تلتزم بمقياس فيزيائي. الشمس والقمر عنده مخلوقات رجعية لا تريد التجديد والتغيير، ولا تخرج عن محور أومدار. وكوكب الأرض عنده مثال للتبعية، لأنه لم يستطع التخلص من مجموعته الشمسية...

بعد هذا وكل هذا علينا أن نتخيل الثوب الجديد الذي ستلبسه الأرض والسماء يوم تنجح عولمة هذا النموذج البشرى الشاذ والمشوه.. إذا ظلت هناك أرض أوسماء؟؟و


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى