الخميس ٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم عمرو صابح

جمال عبد الناصر و صدام حسين.. الأصل و الصورة

"ان الشعب المصري لم يمارس ترف النضال من فوق منابر الخطابة، أو من دهاليز المناورات السياسية، وإنما مارس دوره فى وضح النهار، وتحت النور، وفى ميادين الخطر، بكل أعباءه ومشاقه المادية والمعنوية، وكان الشعب المصري وسوف يكون دائماً طليعة قوى التحرير.

لقد اكتسب الشعب المصري عبر نضاله الممتد دخيرة من الخبرة لا تعوض، وقد كنا ندرك أن الاستعمار الأمريكى يسعى إلى إحداث انقسام فى الأمة العربية، وكان تصورنا، وربما طموحنا، ان كل الأطراف العربية سوف تتسلح بقدر كاف من الوعى، يحقق لها احباط مسعى الاستعمار الأمريكي.

ولست أخفي على سيادتكم، اننى أتساءل أحياناً لماذا لم تتلق قواتكم على الجبهة فى أى وقت من الأوقات أمراً بالاشتباك مع العدو؟

لماذا لم تقم طائرة من طائراتكم بالإغارة على مواقعه؟

لماذا لا يوجه العدو اشتبكاته نحو قواتكم،ولماذا لا يوجه طائراته نحوها؟

ان تركيز العدو كله على الجبهة المصرية، والنار ضد العدو كلها من الجبهة المصرية، وذلك شرف نعتز به، ونعتبره شهادة لنا عن إدراك عميق بأنه ليس بالشعارات وحدها تدور الحرب وتتم معارك التحرير".

هذا جزء من رسالة الرئيس "جمال عبد الناصر" للرئيس العراقي" أحمد حسن البكر "فى 3 أغسطس 1970 قبيل وفاة "عبد الناصر" بشهر و25 يوم، وكلمات الرئيس عبد الناصر تكشف مدى الخلاف السياسي بين نظامه ونظام حكم البعث فى العراق تحت قيادة الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين.

أرسل الرئيس عبد الناصر تلك الرسالة للرئيس البكر بعد هجوم ضارى ومسيرات حزبية بعثية فى بغداد للهجوم عليه وعلى سياسات نظامه بعد قبوله لمبادرة روجرز فى يوليو 1970.

خلال تلك المسيرات البعثية، جرى اتهام عبد الناصر بالشيخوخة الثورية والعجز عن النضال، ودعوته لتسليم راية الثورة والنضال لبعث العراق!.

لم تكن تلك المسيرات البعثية المعادية لعبد الناصر هى الأولى، فمنذ انفصال سورية عن دولة الوحدة فى 28 سبتمبر 1961، والعلاقات الناصرية البعثية بالغة السوء فى مجملها، ولكن بعد وفاة عبد الناصر، بدأ البعثيون التباكي عليه ومحاولة القيام بدوره فى العالم العربى.

لذا من الغريب ان يرى البعض ان صدام حسين يمثل امتداداً لجمال عبد الناصر، فى مذكرات الضابط والمؤرخ الراحل "أحمد حمروش"، يقول انه خلال زيارته للعراق فى السبعينيات من القرن الماضى عندما كان صدام حسين نائباً للرئيس أحمد حسن البكر، قال له كبار المسئولين العراقيين: ان صدام حسين هو المؤهل لخلافة جمال عبد الناصر فى العالم العربى، بل انه سيكون عبد الناصر جديد خالى من أخطاء عبد الناصر القديم!!

فهل صدقت مقولات هؤلاء المسئولين فى العراق؟!!

هذا ما سوف نستعرضه معا عبر المقارنة بين الرئيسين الراحلين "جمال عبد الناصر" و "صدام حسين"، سياسياً وشخصياً وفكرياً ثم طريقة وفاة كليهما.

 سياسياً: هناك مشروع أمريكى للعالم العربي ممتد منذ الحرب العالمية الثانية حتى الأن، عبد الناصر عطله لمدة طويلة، صحيح أنه لم يخلق أليات استمرار تعطيله بعد رحيله، وان حكمه المبنى على التوازنات والجمع بين الأضداد، تسبب بعد موته فى خروج النقيض المتطرف له من قمة نظامه، لكن "عبد الناصر" يظل عامل رئيسي فى تعطيل الزحف الأمريكى على العالم العربي، لذا لا تخلو الأدبيات السياسية الأمريكية من المقولة التالية:

"فقدنا مصر 20 سنة فى عهد عبد الناصر ولا يمكن أن نسمح بفقدها مرة أخرى، ولن نسمح بظهور ناصر جديد".

فى الظاهر كان صدام حسين يواجه أمريكا، ولكن واقعياً للأسف تسببت سياساته فى إنجاح المشروع الأمريكى فى العالم العربى، بدءً من حربه ضد إيران، وصولاً لغزو الكويت ثم خراب العراق.

عقب قيام الثورة الإيرانية، استجاب الرئيس "صدام حسين " لنصائح السعوديين والأمريكيين التى تشجعه على خوض حرب ضد نظام الخمينى، خاصة ان استفزازات الخمينى للعراق لم تتوقف منذ استيلاءه على السلطة فى طهران.

فى الحقيقة كانت تلك الحرب خير هدية لنظام الخمينى المتشكك فى ولاءات قادة وضباط الجيش الشاهنشاهى، والراغب فى تصدير مشاكل نظامه للخارج عبر حرب ليتمكن من تصفية خصومه السياسيين فى الداخل سواء من بقايا النظام الشاهنشاهى، أو من حلفاءه فى الثورة من اليساريين والليبراليين والقوميين.

بعد 8 سنوات من حرب ضروس كان نظام صدام يحظى فيها بتمويل خليجى هائل وبتسليح غربي، كما كان الغرب يسلح إيران سراً كلما مالت كفة المعركة ضدها، قبل الخمينى وقف اطلاق النار بعد أن حطم جيش الشاه، وأنشأ جيشه العقائدي وحرسه الثورى، وأحكم قبضته على السلطة.

اعتبر الرئيس "صدام حسين"ما جرى نصراً للعراق.

تسببت تلك الحرب فى إفلاس الخزائن العراقية، بعد الحرب وعبر نصائح أمريكية أغرق السعوديون والكويتيون والإماراتيون الأسواق العالمية بالبترول مما تسبب فى إنخفاض ثمنه.

كان الهدف الرئيسي هو تركيع الاتحاد السوفيتى، والقضاء عليه لصالح الأمريكيين، ولكن كان من ضمن الأهداف الثانوية زيادة أزمة العراق المالية تمهيدا لإقناع الرئيس "صدام حسين " بضم دولة الكويت للعراق.

عبر نصيحة من "أبريل جلاسبى" السفيرة الأمريكية بالعراق، اتخذ الرئيس "صدام حسين" أكثر القرارات تهوراً وحماقة فى التاريخ العربي المعاصر بقراره غزو الكويت، مما أتاح فرصة ذهبية للغرب لكى يقوم بالإجهاز على العراق وهو ما تحقق بحرب 1991، التى دمرت العراق وأعادت القواعد الأمريكية للخليج العربي، وخرجت منها إسرائيل بانتصار سياسى هام عبر قبول العرب المشاركة فى مؤتمر مدريد للسلام.

كما انتصرت إيران أيضاً بتنازل صدام عن نصره المحدود فى حربه ضدها، وبالطائرات التى أرسلها لها هرباً من المحرقة الأمريكية خلال الحرب.

ترك الغرب صدام حسين يحكم العراق ليواصل ابتزازه لحكام الخليج، ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حان وقت الخلاص من صدام حسين لإعادة ترتيب العالم العربي وتصدير الإرهابيين المتأسلمين له مرة أخرى بعد استنفاذ الغرض الأمريكى منهم.
عندما أحس الرئيس"صدام حسين"بقرب سقوطه، تصالح مع الإخوان فى العراق، واستدعى الزرقاوى، ورتب أمور ما بعد سقوطه بتحالف البعثيين مع القاعديين، ولسخرية القدر كان فى ذلك أيضاً يلعب لمصلحة الهدف الأمريكى المتمثل فى الاستعانة بتيار الإسلام السياسي فى مواجهة النظم القومية الاستبداية، وإيقاد نيران الصراع السنى-الشيعى المسلح.

وافق حكام السعودية كعادتهم على حرب غزو العراق عام 2003، وابتهج ملالى طهران لقرار الغزو الذى سيسرع من عملية تحول العراق أرض مراقدهم المقدسة لولاية إيرانية.

انتهى نظام صدام حسين، وزال حكمه عقب الحرب، وتحول العراق لساحة حرب بالوكالة بين السعودية وبين إيران ممتدة من 2003 حتى الأن، بل وامتدت تلك الحرب بالوكالة إلى البحرين واليمن وسورية ولبنان.

 على المستوى الشخصى: كان الرئيس جمال عبد الناصر زاهداً فى متع الحياة، متقشفاً فى مأكله وملبسه، حريصاً على إبعاد أسرته عن السلطة وعن العمل السياسى، بينما كان الرئيس صدام حسين شديد الإسراف فى كل شئ، ملبسه، قصوره، تماثيله، حياته العاطفية، ربما يبرر البعض ذلك بثراء العراق مقارنة بمصر، ولكن هل قضى الرئيس صدام حسين على الفقر فى العراق قبل أن يبالغ فى استمتاعه بمتع الحياة؟

كما أن أبناء الرئيس صدام حسين وإخوته وعشيرته لعبوا أدوارا سياسية خطيرة طوال فترة حكمه.

رغم ان جمال عبد الناصر كان ضابطاً بالجيش المصرى، إلا أنه لم يقم بإرتداء الملابس العسكرية منذ توليه رئاسة الجمهورية حتى وفاته، بل انه خلال إعادة بناءه للجيش المصرى بعد هزيمة 1967، وأثناء زياراته المتعددة لجبهة القتال فى تلك الفترة ظل محتفظاً بملابسه المدنية.

على الجانب الأخر، ورغم ان الرئيس صدام حسين لم يكمل دراسته للحقوق، ولم يلتحق بأى كلية عسكرية، إلا أنه كان دائم الارتداء للملابس العسكرية، بل ومنح نفسه رتبة "مهيب الركن"وهى أعلى رتبة عسكرية عراقية، وظل حتى وفاته حريصاً على إرتداء الزى العسكرى.

بعد هزيمة مصر فى حرب 5 يونيو 1967، قرر عبد الناصر الاستقالة من منصبه، وعندما رفض الشعب المصرى والشعوب العربية استقالته، قام بأكبر عملية نقد سياسي لنظامه معترفاً بأخطاءه، بينما عقب حرب الخليج الثانية 1991 والتى شهدت عملية تدمير واسعة للعراق، وتسببت فى وفاة عشرات الألوف من مواطنى العراق، احتفل الرئيس صدام حسين ببقاء نظامه، وأطلق على الحرب إسم "أم المعارك"، ولم يتم إجراء أى مناقشات حول القرارات الكارثية التى أدت لتلك الحرب.

 على المستوى الفكرى: ترك الرئيس "جمال عبد الناصر"إرثاً فكرياً ضخماً تمثل فى كتبه "فلسفة الثورة"، "يوميات حرب فلسطين 1948"، "الميثاق"، "محاضر محادثات الوحدة الثلاثية"، "خطاباته لخروشوف حول القومية العربية والشيوعية"، "بيان 30 مارس"، "المجموعة الكاملة لخطاباته "، "مجلدات أوراقه الشخصية".

لم يترك الرئيس "صدام حسين " إرثاً فكرياً، ولكنه ترك 4 روايات تم نشرهم بإسم مستعار، ومجموعة من القصائد الشعرية، وكتاب يحوى مذكراته صاغه محاميه "خليل الدليمى".

 الوفاة: توفى الرئيس "جمال عبد الناصر "يوم 28 سبتمبر 1970 فجأة، وجاء التقرير الطبى عن وفاته ليصفها بالوفاة الطبيعية الناجمة عن أزمة قلبية، ولكن مازالت وفاته تثير الجدل حول كونها طبيعية أم عملية اغتيال جرت للخلاص منه بعدما أتم بناء الجيش المصرى، وأقام حائط الصواريخ على حافة القناة الغربية، ومما يساعد على ترجيح فرضية اغتياله، التغيرات التى جرت فى مصر وفى العالم العربى بعد اختفاءه من الحياة.
جاءت جنازة الرئيس "جمال عبد الناصر " كأكبر جنازة شهدها التاريخ، ولم تقتصر على مصر فقط، بل أقيمت له جنازات رمزية ضخمة فى كل بلدان العالم العربى وفى بعض دول أفريقيا وأسيا، وفى كل مكان تواجد فيه عرب فى العالم

توفى الرئيس "صدام حسين "على حبل المشنقة أمام الكاميرات، بعد محاكمة هزلية أقامها له العراقيون من أعوان الاحتلال الأمريكى، صدر الحكم بإعدامه، وفى أجواء درامية رسمها الأمريكيون بطريقة سينمائية، تم تنفيذ حكم الإعدام فى الرئيس صدام حسين بالشعبة المخصصة لمكافحة جواسيس إيران فى العراق، وشهد عملية إعدامه مجموعة من غلاة الشيعة العراقيين، الذين أخذوا فى الصياح بهتافات طائفية فى وجه صدام حسين خلال تنفيذ عملية إعدامه.

ظهر الرئيس "صدام حسين" خلال تنفيذ عملية إعدامه، شديد الثقة بنفسه، رابط الجأش، بالغ الشجاعة ومسيطر على أعصابه بطريقة يحسد عليها، بل انه تهكم على المحيطين به، وأدى الشهادة، وكان لافتاً للنظر انه بدا أقوى من القائمين بإعدامه، حتى انهم كانوا جميعاً ملثمين وهو الوحيد سافر الوجه بينهم.

أدى مشهد وفاة الرئيس صدام حسين على هذا النحو لتأجيج الصراع السنى - الشيعى، وقد كان هذا هدف الأمريكيين من تصوير مشهد إعدامه، كما ان إجراء عملية إعدامه فى صباح أول أيام عيد الأضحى تسبب فى موجة عارمة من الغضب فى العالمين العربى والإسلامى، وجاء ثبات الرئيس صدام حسين البطولى فى مواجهة جلاديه ليكرس صورته كبطل وشهيد فى مواجهة أعداءه، و عمت العالمين العربى والإسلامى حالة من الحزن الشديد عليه، وأقيمت له مئات الجنازات الرسمية، وأدى ملايين المسلمين صلاة الجنازة عليه، ولكن فى العراق منعت الحكومة العراقية إقامة جنازة له.

 نقطة أخيرة، فى الستينيات من القرن العشرين، بدأ جمال عبد الناصر مشروعاً طموحاً لتصنيع الصواريخ، أنتج بالفعل ثلاثة صواريخ حملت أسماء "القاهر " و "الظافر"و "الرائد"، كان هدف المشروع استخدام الصواريخ كسلاح قادر على ضرب إسرائيل محدودة الرقعة، وفى نفس الوقت كسلاح يستطيع موازنة تفوق الطيران الإسرائيلى، بعد هزيمة 1967 توقف المشروع.

خلال حرب الخليج الثانية سنة 1991، أمر الرئيس صدام حسين بإطلاق 39 صاروخ سكود على إسرائيل، وصل بعضها إلى تل أبيب، وبعيداً عن الخسائر التى سببتها تلك الصواريخ للكيان الصهيونى، كان قرار الرئيس صدام حسين يمثل نقلة استراتيجية خطيرة على مستقبل إسرائيل التى بدت رغم بطاريات صواريخ باتريوت المضادة لصواريخ سكود عاجزة عن تحمل معركة طويلة يتم إمطارها بالصواريخ خلالها، فيما بعد سيستفيد "حزب الله" اللبنانى من درس ضرب إسرائيل بالصواريخ، وسيقوم بتطبيقه بفعالية خلال حرب 2006.

يظل هذا القرار للرئيس صدام حسين واحداً من أهم قراراته، وأكثرها تأثيراً على مستقبل إسرائيل.

الاختلافات بين "جمال عبد الناصر"و "صدام حسين"تفوق أوجه الشبه بينهما، وللأسف لم يكن صدام حسين مؤهلاً لخلافة جمال عبد الناصر فى العالم العربى، ولم يستطع أن يتجاوز أخطاء عبد الناصر كما كان يحلم، بل ان أخطاء عبد الناصر مقارنة بأخطاء صدام حسين تحتاج إلى ميكروسكوب من أجل رؤيتها.

رحم الله جمال عبد الناصر وصدام حسين.


مشاركة منتدى

  • عندما يموت قائد في اي دولة يجعلوا منه بطلا ولكن في هذا المقال يريد الكاتب ان يجعل من الابطال اندل ويثير فتنه بين البعث و الناصريين... لكل شخص بالحياة اخطاء...وربما تسمى اخطاء من متظورنا ولكنها في الحقيقة افعال اجبارية فرضت على الواقع مما كان الخيار ان اي ما تفعله هو خاطىء..
    هذا مقال ليس هدفه تمجيد بجمال عبد الناصر ولكنه لاثارة الفتنه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى