حب العودة
هاتفتني جدتي مساء أمس، وصوتها مغطى بالدموع والأسئلة.. "لماذا لم تأتي هذا الصباح يا عيني؟".. "لأني لا أريد أن آتي وحدي، لقد وعدتك أن أحضره معي.. ولكنه يا جدتي لم يأتِ اليوم.. مرة أخرى لم يستطع أن يأتي".. قلتُ لها محاولة تخفيف وطأة الأمر، مع العلم بأنني أنا التي كنت أنتظر طقس الجلوس معه لنداعب فطائر جدتي بالسبانخ وإبريق الشاي في صباح حيفا.
أغلقتْ الهاتف. لم تقل لي إلى اللقاء.. فقد كانت هذه هي المرة الألف التي أجعلها تنتظرنا.. لا تغضب عليه.. بل عليّ أنا.. لأنها تعلم بأنه يحاول أن يأتي دائمًا، حاملاً معه صناديق أحلامٍ وصورٍ قد رسمها يومًا بدموعه، واشتياقه، وكلماته عن البلد..
قررتُ أن أضع حدًا لشلالات الأفكار المنهمرة على رأسي..ألقيتُ بنفسي على سريري الموسميّ، وغطيت جسدي بالغطاء الشتوي.. ونمت..
يصلني صوت أمي مناديًا.. توبخني لأني تأخرت في نومي وأنه ينتظرني منذ نصف ساعة.. وجدتي لا تكف عن الاتصال والانتظار. قمت من السرير بسرعة وجهزت نفسي للخروج.
كان جالسًا على الكنبة الكبيرة، يرتدي قميصه الأخضر الغامق، شعره مُرتب على غير عادته. الخصلات البيضاء المتزايدة على شعره لا تكف عن إغرائي..
نظر إليّ مبتسمًا، تبخرت تعابير الغضب التي خبرتني عنها أمي بمجرد أن رآني. أحضرتْ له أمي كأسًا من عصير الليمون.. فكان في نشوته.. ينتظرني ويشرب ليمون بلاده!
وقفت أمامه، أنتظرُ أي حركة منه.. نظر حوله يبحث عن أمي.. كانت في غرفتها.. أعتقدُ بأنها اتفقت معه على ذلك. ضمني إليه.. وكأنه خائف من أن يفقد لحظات آتية لضمي.. أو أنه سوف يضطر للذهاب قبل احتوائي بين يديه. نظر إلي وهو يستمر في صمته. لم يأت إلى هنا إلاّ ليمارس النظر، ويلتزم الصمت.. ويحبني من جديد.
رنّ هاتف البيت. شعرتُ أنها جدتي. لقد طال انتظارها لنا. سوف تَجهز الفطائر بعد قليل. لم أرد على الهاتف. حملتُ حقيبتي، وركضنا سويًا إلى أسفل البناية. دخلنا سيارتي الحمراء.. أنا مستعجلة، وهو يتأملني. أنا أبحث عن موسيقى تسعني، وهو يتأملني. لم يأبه للبحر، ولا للسماء، ولا للتراب.. ولا لملاءمة حقيقة البلد مع صورة تراكمت عنده وداخله. كنتُ أنا البلد. وشكلتْ تقاسيم جسدي صورًا للمدن والقرى التي أَحبها.
قررت أن أسمع "سميح شقير"، سألته إن كان يفضل سماع موسيقى أخرى؟ ولكني كنت أكلم نفسي. رنّ هاتفي النقال فإذ بجدتي تغرقني بالأسئلة من جديد.. أجبتها بسرعة قبل أن تفوتني لحظة من تأملاته.."خمس عشرة دقيقة وسنكون عندك"، أجبتها.. فجأة كان برق في السماء، رعد ومطر.. كرهتُ المطر قبل اليوم. كنتُ أخاف أن تمطر الدنيا وأنا وحدي. ولكنه بجانبي الآن، صامتًا، متأملاً فيّ وليس في المطر.
"اشتقتُ إليكِ.. اشتقتُ اشتقتُ.. وما أخرني.. إلا حراسُ الطرقِ إليكِ.. إلى وطني.."
قلتُ له بأننا لا نعثر على الأغاني، إنما هي التي تعثر علينا.. وتختار نفسها لتلائم مزاجنا الغريب.. كان سميح يغني كلماته الماضية.. ولكن هذه هي المرة الأولى التي لم تبكني فيها الأغنية. لأنها كانت تلائمه قبل أن يأتي اليوم. لكنه قد عاد. عاد ليأكل فطائر جدتي ويشرب من شايها الساخن، ويتأملني.. بعدها سنتجول في البلد سويًا. لنبحث عن أحلامٍ تركها هناك.. مع البيوت والبرتقال والقمح.
وصلنا حيفا. كانت جدتي تقف على شباك بيتها. بيتها في الطابق الرابع من البناية.
تضع منديلها البني على شعرها الأملس، لم أرها مع المنديل منذ أن مات جدي. ولكنها جميلة اليوم. أعتقد أن المنديل يعيدها إلى قريتها المهجرة. وبما أنه لم يأتِ إلى هنا قبل الآن، فهو ممتلئ حنينًا إلى رائحة خبز البلد وزيت الأرض، قررتْ أن تضع منديلها القديم.. لتحن معه إلى كل الأشياء التي كانت. ولتحنّ لوحدها الى جدي.
أمسك بيدي.. وركضنا إلى أعلى البناية. لم نكن جائعين بقدر ما كنا نستوحش الفطائر والسبانخ وانسياب رائحة الشاي إلى الرئة. لم نطرق باب بيت جدتي، ولم تنتظرنا أمام الباب كعادتها عندما لم نفِ بوعدنا في المجيء لأكثر من مرة. كانت في المطبخ، تضع لمساتها الأخيرة على الطعام المُشتهى.
"الله!" قال.. وقبّل رأس جدتي. وابتسم طويلاً، كأنه في حلمٍ، أو داخل أغنية يخاف أن تنتهي قبل أن يحفظ كلماتها. جلسنا حول المائدة، الفطائر، الزيتون، اللبنة وخبز الطابون، الزيت ورائحته، الشاي، الميرمية والنعناع.. لم يأكل الطعام وحده، كان يُشبع روحه وهو يتأملني.
لم أذكر يومًا استغرقت وجبة عشائي فيه أكثر من نصف ساعة، ولكن معه.. كان لنا أطول عشاء. كانت لقمة الفطائر تؤكل بعد أن يرمي على جدتي سؤالا إضافيا.. كان للأسئلة طابع آخر عندما تخرج منه. ملتفة بالحنين الذي لم اعتد عليه يومًا. كان ينتظر الأجوبة منها أكثر من أي إجابةً انتظرها مني يومًا. كان يعشق أنفاسها عندما تتذكر معه. وأنا صامتة، أتأمله.
بعدما انهينا متعتنا، طلبت جدتي منا أن لا نساعدها بالتنظيف. وبما أننا لم نر بعضنا البعض قبل اليوم، فيحق لنا كل الوقت الممنوع لعشاق اليوم عادةً. ومن جهتها فقد أشبعت انتظارها له خلال العشاء. خرجنا من المطبخ وجلسنا بجانب الشباك، نتأمل جبال الكرمل ليلاً، وإغراءات القمر المستمرة لإثارة شهوة الأرض. ولكن الأرض لا تشتهي إلا مثله عائدًا.
كان رأسي يحاول أن يصدق أنه نائمٌ على كتفه، جدتي تناديني أن أُحضر القهوة. ولكني كنت أحاول أن أقنع رأسي قليلاً بما يحصل.
ذهبتُ لأحمل القهوة عن جدتي، بالرغم من أنه لا يشرب القهوة مساءً، لكنه يرغبها الآن.
أثناء احتسائنا للقهوة، تابعت جدتي حديثها عن مواسم التين والرمان في قريتها، لم يذق التين يومًا إلا في الصور التي أرسلتها له. ولكن جدتي وعدته بأن تطعمه تينًا ورمانًا ريثما يعود مرة أخرى إلى حيفا. تثاءبتُ أثناء حديثهما، طلب مني أن استقلي قليلاً قبل أن نستمر في جولتنا الليلية..
قاطعته جدتي طالبةً أن ننام الليلة عندها، لنأكل المناقيش صباح اليوم التالي وبعدها سيكون النهار ملكنا للتجول في البلد.. ولكن كيف لنا أن نقضي هذه الليلة هكذا؟ على الشباك؟ رفضتُ طلب جدتي، قلت لها بأنه سيعود لزيارتها مرة أخرى، فهو باقٍ في حيفا.
ألحّ عليّ أن أستلقي قليلاً قبل أن نذهب. قبّلتُ وجه، دخلت غرفتها لأستلقي.. وتركته مع جدتي مسرورًا.
رنّ هاتفي، بحثتُ عنه مرميًا تحت الغطاء، كان هذا صوت جدتي.. انتظارها الأخير له أزعجها كثيرًا، عادت لتسألني عن سبب مقنع لعدم قدومه بعد؟.. أيقنت بأني على سريري، في غرفتي بالبيت.. أبحث عن بقايا حلمٍ توقف صدفةً. تناثر بين أشيائي التي تنتظره. حُراس الطرق يستمرون بمهمتهم.
سيبقى الوطن حتى يعود، سوف تشتري جدتي منديلاً جديدًا لتستقبله به وتتذكر معه قبل أن تجرف الأيام ما تبقى من أشلاء ذكرى..
سأبحث عنه بين وجوه العائدين يومًا، قبل أن تبرد فطائر جدتي، وأنسى وجهي..