حقنة الصمت
"أصرخ فيكم” مظفر النواب
"قم..صل نافلة الوصول تحية ّ
للخارجين الآن من صمت الثرى”
(محمد عبد الباري)
"إن الله لم يخلق شعوبا تستكين” فاروق جويدة
ذا ديدن آبائك و أجدادك إلى أن تبزغ فيهم نبيا مرسلا أو حكيما أو جاهلا أو مسيخا ملعونا، ها أنت ذا اخترت عن غير طواعية دين الأوائل؛ ملة الصمت.
لا شيء تحبه الآن أكثر من هذه المهنة الغربية،هكذا أطلقت على نفسك ’ الأخرس بن الأصمت’،أخطر ممتهن للصمت في الوجود.
لا عليك يا ابن الأصمت،فقد ولدت هكذا من دون صرخة،حتى حسبك الطبيب الانطوائي ميتا، مذ ذاك و أنت تقاوم في هذا الوجود رغبة الصراخ الدفينة؛ لأنك جئت من رغبة العدم، لذا سوف يتمترس الوطن بكامله ضدك، سيحاولون إسكاتك، سيسعون لإخراسك إن لثغت بأول الباءات أو الميمات أو الحاءات غير المنظمة،سيربيك والداك على قلة الكلام بزعم أنه يقلل الاحترام، سيقمعان هوايتك الأولى في النطق و التدخل في النقاش بينهما؛ بدعوى أنك صغير لا تفهم.
سيتجهان بك إلى مدرسة عمومية مكتوب على واجهتها “أول العلم صمت”؛ لذا ستبقى مطبقا فمك إلا فيما ندر، كنتَ تلعب و زملاءَك جميعا دور الكومبارس واقفين كحمير بيدر أمام عمود صامت.
بدأ عقلك يرتب الأشياء في معجم ذهنك، بدا أشبه بذاكرة تختزن الأسماء والأفعال والمدلولات، تكدسها من دون وعاء ثقافي في ناصيتك بالملايين، ها أنت ذا يا صغيري بدأت تحترف معي مهنة الصمت.
التلاميذ في القسم هم الآخرون صامتون، أولئك المعلمون كذلك لا يقولون شيئا، كل من يدور على مركزك من هذا النوع،حتى الثرى المحيطة بك لا تنجب أحدا إلا و يأخذ من جرعتك التي صُنعَت منذ زمن لأمثالك و مثلي و غيرنا، آه منك يا حقنة “صامتين samitin”، كان ذاك السبب الحقيقي و النسق المضمر الذي يفسر لك كاوس العدم و الصمت.
إنها حقنة يتلقاها كل من على هذه التربة العجيبة من أرض الله، فيغدو أن تسمع”صامتون و لله الحمد “كما تلازمك أفعال أمر أو أسماء فعل أمر تؤدي النسق نفسه “اصمت، صه،اسكت، اطرق،اطبق،اكتم،اخرس، تبكم،اقفل،اربط،أغلق... إنه مرض قديم يدعى متلازمة ’ اصمت أحسن".
حين بدأتَ تشب يا ابن الأصمت،كنتَ ترى الناس يشيرون لك ببلاغة صمتهم المعروفة وبعلامات تقول:
– لا تثرثر، ستندم على كل كلمة
– سيقول المدرس: اصمت، فالسكوت من ذهب
سيقول المدير: ضع خدمة الصامت على هاتفك
– سيقول ضابط الشرطة: عليك أن تلازم فمك وتحترز من فتحه، هكذا ستضمن التنفس من فمك وإلا سنغلقهما معا،
– سيقول المهرج: اسمع فقط و لا تنطق بكلمة
سيقول الشاعر: احفظ لسانك...
آه يا ابن قلمي كنتَ تصمت مخبئا في صدرك كل ما سمعتَ لكن إلى من تبوح بكل ثقلك؟ كنتَ تتألم مثل بهيمة بكماء و يزداد صمتك ريبة حين ترى وجوه الذين يأمرونك و هم صامتون أمام وجوه أخرى أكثر خشونة.أنتَ محاط بالمؤسسة أينما حللتَ، أنت مكمم، أرجو أن أفك عقدة لسانك حتى يفقه كل هؤلاء قولك.
كنتَ تمر بالشارع و تراقب ملامح الصمت؛ وجوه مكسوة بالخوف و الفرح، بالضجر والتطلع،بالانطواء و التفتح، بالتحفظ و المسخ، بالسذاجة و التصنع، بالخجل و التسلط؛ وجوه تحمل مفارقة ممثلين في مسرح القسوة، وجوه كائنة وتحاول أن تكون، ها أنت ذا صرتَ تعرفهم.
ألم أقل لك؟ لقد صرت الآن معلما حكيما،و الآن سوف تمارس مهنتك داخل فصلك الأحمق، ستحترف مهنة التدريس و التربية، سيدخل التلاميذ الصغار تباعا، يحيونك و أنت تنظر إليهم شزرا وخزيا وصمتا رهيبا، سيرفع أحدهم سبابته مستفسرا، و لن تزيد شيئا على كلمة ’اصمت’، ستتربع على كرسيك الخشبي و توزع الأدوار وتعلمهم من ذلك المقرر الفاشل الملعون الصامت عن كل الحقائق و التواريخ.
قد يحدث أن تصير ما شئت في هذه المدرسة إلا ناطقا صارخا،ستكون طبيبا في أوج ما تختار و ستمارس حرفتك على الأجساد في صمت رهيب أشبه بنقاش شواهد موتى،ستطلب تخديرهم و تنهاهم عن الكلام معك، لأنك احترفت الصمت من قبل، ستجعلهم ينتظرون في طابور طويل هذا الآتي، الذي لن يأتي؛ لأنهم لن يصرخوا كما هو مدون في لافتة أمام القاعة (المرجو التزام الصمت).
قد يصير أن تتشبع بقيم التدين الذي يرتضيه لك مجتمع الخرس،فتصير إماما على الناس و تصلي بهم في صمت مريب أشبه بالجنازات كل يوم، ستكرس وقتك جاهدا لإنهائهم عن الكلام في المسجد و خارجه، و تحذرهم من مغبة اللسان و أكل لحم الإنسان، ستقول لهم ( من صمت نجا) و تشير إليهم بيدك إلى أعلى، انظروا إلى لافتة كتب عليها( مقام الرجل للصمت)، ستعلم الصغار أن يصمتوا في حضرة أي شيء.
ربما ستصير كاتبا أو صحافيا مشهورا أو مغمورا، ستمارس طقس الصمت منزويا إلى ركن قصي من المدينة أو الغرفة أو الزاوية، ستكون مأجورا يا صديقي بالقوة، لأن لا وعيك حتى و إن حاول تخييل أي شيء فإنه محدود يحرسه وهم كبير متواضع عليه بالمقدس. ستكون صامتا عن قضايا الناس و تعيش في أوهام حقيقية بدعوى أنك كاتب فاشل أو أطروحي النزعة.
قد تشاء الأقدار أن يقحمك صمتك الفريد من دون معاناة في سلك الأمن أو الجيش، فتتأهل من ثكنة الصم لتغرسه في النفوس بالقوة. سيسكنك ذلك الدوغما دائما، فتكون فتى مطيعا لا تتحدث و لا تعصي أمرا، ستهشم عظام الثائرين و أنت الذي كنت طفلا صامتا طيلة حياتك، لا حق لك في الصراخ أو الاعتراض.
ربما ميزتك الصامتة قد تضمن لك أفاقا أخرى في الفن، لكنك مدمن صوامت منذ مهدك، ستمارس تقليدا دأب عليه من هم قبلك، ستأخذ ميكروفونا و تصدح بأعلى صوتك إلا أنك لا تقول شيئا. لأنك إن فعلت و خرجت عن ملة الصمت ستعيش معزولا و ستفقد جنسيتك و تنفى بعيدا عن موطنك، أقول لك يا ابن الأصمت: اذهب بعيدا و اصرخ كما تشاء...
يمكن أن لا تصبحً شيئا و تعتبر مرحلة الصمت تسبق العاصفة، فتصبح جاهلا منقطعا عن الدراسة خلافا لكل هؤلاء الأقنان، أقول لك جاهلا بمعنى الكلمة، و بكل ما تحمله من فوضى وعدمية، إذ ذاك سأطلق العنان للسانك يا صديقي الأخرس، أحررك صارخا مجلجلا صرخة مدوية ينفخ طنينها في أذن الصامتين؛ صرخة تذهلهم وتعلن أن عهدهم ولى، تبعثهم قائمين كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا يلثغون بلا لغة موضوعة.