الأربعاء ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٢٣
بقلم عبد الله المتقي

حوار مع الشاعرة والروائية التونسية لمياء المجيد

لمياء المجيد شاعرة وروائية تونسية أصيلة قليبية،لها مشاركات عديدة في ملتقيات وندوات أدبية، صدرت لها من المجاميع الشعرية: "حين حررت صمتي" و "موجات زفيري" و "من عمق البحر تأتي طقوسي"، وأخيرا اختارت لمياء أن تقتحم عالم الرواية لتصدر روايتها الأولى"رتق المرايا"التي صدرت عن دار زينب للنشر، لتكون موضوع هذا الحوار:

السّؤال الأوّل: من أنتِ لمياء في خِضمِّ هذه الأوبئة و الزّلازل و غلاء الأسعار؟

*أنا لمياء الإنسان الّتي تتعامل مع الإنسان بمجموعة من الالتزامات الأخلاقيّة الّتي ترشدنا إلى كيفيّة التّعامل مع بني جنسنا لنعيش بانسجام، في عالم يسوده الحبّ و يوحّده دون نظرٍ للونٍ و جنسٍ و لغةٍ و دينٍ و معتقدٍ.و أنا الإنسان لستُ في منأى عمّا يحصل حولي سواءٌ في بلدي أو في العالم بأسره من أوبئة و صراعات و نزاعات و حروب و كوارث بيئيّة و زلازل و احتباس حراريّ و غلاء أسعار و موت سريريّ للمقدرة الشّرائيّة و جُيوبٌ مخرومة. فكلّ ما يحدث في ظلّ الكوميديا السّوداء اليوم، ما من شأنه إلاّ أن يُرهقني.
رغم ضغوطات الحياة الاقتصاديّة و السّياسيّة و الاجتماعيّة، فإنّها بمرارتها تؤثّر عليَّ سلْبًا في الواقع المَعيش، و إيجابًا في الواقع الأدبي، إذ تخلق لي نوعًا من التوتّر الجيّد و المُثمر و تحسين الأداء و القوّة لِمجابهتها و ذلك بالكتابة. فضغوط الحياة هيَ المَخاضُ، لِيأتيَ الطَّلْقُ و عُسرُ الولادة... كلّ ضغطٍ هو مخاضٌ و ولادة لقصيدة جديدة، لنصّ جديد، كلّما اشتدّ الضّغط...كان النصّ أبهى و أعمق. و لكنّي لا أكتب فقط لنفسي؛ أكتب لِأَمَسَّ واقع حال النّاس و أُثيرَ غريزةَ أسئلتهم...لِأضعَ بعض العزاء لِهمومٍ تراكمت فيهم جرّاء ما يحصل حولهم و يتواصل و يتطوّر...لِأُميطَ اللّثامَ و أكشف؛ نقدًا و سُخريةً، توْريةً و تعريةً عسى يتغيّرُ شيءٌ الآن أو بعد حين... لِأُحارب آفات اجتماعيّة تتفاقمُ و تتفاقم... "أنا الإنسان"مهتمّة بقضايا البلد و الأرض و الإنسانيّة، أُقارعُ الحياة و خَبَايَا الزّمن، أَلِجُ المسكوت عنه، أستكشف أحْراشَ الرّوح و العقلو القلب، و أحفر في دواخلهم... و هذا لن يتمَّ لي إذا لم أكن مرتبطة بِخِضَمِّ ما يدور حوْلي، فالأديب و الشّاعر يجب أن يكون صاحب فكرٍ تطوّري، يأخذ بالمجتمع نحو الأفضل، مهتمّا بقضايا الوطن و الأرض و الإنسانيّة... و إلّا سَيُغرّد وحده و لا من يسمع صدى الصّوت...لى مدار التّاريخ و حتّى يومنا هذا واجه الكتّاب و الأدباء و الشّعراء الأوبئة و الأمراض في أعمالهم الأدبيّة من أفلام الإثارة إلى الرّوايات العميقة و الشّعريّة الّتي تكشف عن حالات الإنسان الأليمة ("الطّاعون"ألبرت كامي،"الحبّ زمن الكوليرا" قابريال قارسيّا ماركيز،" وعزفت الفرقة: السّياسة و النّاس و وباء الإيدز "شيلتس،" ديكاميرون "جيوفاني بوكاسيو، "المرض باعتباره مجازا" سوزان سونتاج، وغيرهم...

و لا أستثني نفسي في هذا السّياق، فقد كتبت قصائد عن الوباء (الكورونا: الأرض زمن الكورونا، العشق زمن الحَجْر)، عن غلاء الأسعار،عن العاملات الكادحات، الميز العنصريّ، الظّلم،الاغتيال،العاملين في سلك التّدريس و مشقة العمل، عن الأرض و ما تشكوه من تلوّث و غيره، عن السّلام، عن الحبّ...و أيضا في روايتي "رَتْقُ المرايا"، أمطتُ اللّثامَ عن عدّة جوانب ممّا نعانيه في مجتمعاتنا و عن مسائل مسكوت عنها...

السّؤال الثّاني: من أين جئت حرقة الكتابة و لعنتها الجميلة، و من أيّ الأبواب دخلت ورشاتها؟

*وجدتُني في منزلٍ تُشجّعني فيه أمّي على الدّراسة والتفوّق و تحسين الخطّ و الرّسم، و أبي الّذي سقاني رَذاذَ المطر؛ أدخلني مملكته، مكتبة و كتب صفراء قديمة، تُزهرُ حين أتصفّحُها، ألْتهمُ معانيها... كان الكتاب لا يُفارقُ أبي في أوقات فراغه و كثيرا ما كان يقترح عليَّ عناوين من مكتبته يُشوِّقُني لأطالعها. و بِحكمِ موقع منزلنا المُطلّ على البحر، سبحت في عمقه، تأمّلت في عمق سحره و تماسّه مع الأفق لِساعات، حدّثته و حدّثني... طالعت كتبا لا تُحصى على رماله منذ الصّغر. حتّى كان اليوم الّذي كتبت فيه قصّة و أنا ابنة السّنوات التّسع، لأتفاجأ بنشر معلّمي لها بمجلّة المدرسة، لتتوالى بعدها التّشجيعات من المدرّسين و الأساتذة في مراحل تعليمي المختلفة استحسانا لنصوصي.

السّؤال الثّالث: بدأت شاعرة و أصدرت أكثر من ديوان، ما حكاية هذا التحوّل من سُقوف المجاز إلى الرّواية؟
*صدرت لي ثلاث مجاميع شعريّة هي مُعنونة كالآتي: حين حرّرت صمتي، موجات زفيري، صخب الألوان: عن دار زينب للنّشر و التّوزيع.

عُرف الشّعرُ منذ القِدم أنّه ديوان العرب، و لكن مع تطوّر الأدب و تقدّم الزّمن صار العديد يقول بأنّ الرّواية ديوان العرب و سَحَبتِ البِساطَ من الشّعر و تَسَيَّدت كلّ ساحات الثّقافة و الإعلام، و هنا حَريٌّ أن نتساءل عن سبب التّراجع عن الإقبال على الشّعر لِمصلحة الرّواية؛ ملكة السّرد؟

لقد ابتعد الشّعر عن القصيدة الّتي تربّينا عليها و درّسوها لنا بالمعنى الشّفاهي الإنشادي و أصبح النّصّ الشّعريّ مُرْبِكًا مُركّبًا و هذا ما خلق ارتباكًا في علاقةٍ بالقارئ النّمطيّ الّذي استكان إلى أذنه الّتي تطربُ لِعجيجِ القوافي، الّذي يرى في الشّعر القصيدة ذات الكلام الموزون المُقفّى السّهلِ إدراكه.

الشّعر كتابة متأنّية، فيها بحثٌ و اختراق و اشتغال، و الشّعر قيمته في قدرته على البقاء و التجدّد...
و أغلب من يتعذّر عليه الشّعر بالمعنى المُربك يذهب للرّواية. لكنّ الرّواية اليوم لا ترقى كلّها إلى مستوى الرّوايات العالميّة ذات القيمة الإبداعيّة الجماليّة الّتي أحدثت انقلابا في فكر القرّاء لأنّها هي الأخرى صارت تخضع لِمُستلزمات السّوق و العرض و الطّلب خاصّة مع وجود جوائز للتّسابقو التّنافس و أُهملت القيمة الإبداعيّة، وكثيرٌ ممّن كتب وقع في هذا الفخّ فكان السّرد جافّا و لا يحمل في جمله جماليّات اللّغة. الرّواية ليست وصفًا لِحدثٍ معيّن فقط، بل تحتوي على شواهد و موسيقى و تلاعب بالألفاظ و الخيال و تخلق أبطالا و سردٌ في ثوبِ شعرٍ مُوشّى بالبلاغة و المجاز...

الأدب في رأيي هو المُنتصر مهما كان نوعه؛ شعرا أو رواية أو قصّة...بِمدى عمقه و جماليّته،و تبقى النّجاحات الفرديّة في إطار التميّز للأديب و ليس للنّوع الأدبي، لذلك تظهر أعمال و تتراجع أخرى حسب إقبال المُتلقّي القارئ...

و هنا يُطرحُ سؤال سبب تحوُّلي من سُقُوف المجاز إلى الرّواية و السّرد؟هل لأنّ الشّعر و الشّعراء فعلًا هم في أزمة حقيقيّة كما نسمع باستمرار؟ و أنّ اعتكاف الشّعراء عن كتابة الشّعر و تغيير قلمهم نحو الرّواية لانخفاض عدد قُرّاء الشّعر، و الّذي لا يُلاقي رَوَاجًا عاليًا في المعارض و دُورِ النّشر؟

الكتابة عندي مهما كان نوعها و جنسها، هيَ صرخةٌ في وجه العالم الأصمّ، و تطهيرٌ لِمَا يُثقلُ كَاهِلِي، و بحثٌ متواصلٌ عن الذّات و الآخر في عالمٍ شائك و مضطرب.

أقولُ ليس تحوّلاً أو تنكّرًا أو قلّةَ وفاءٍ، لأنّي لم أكُفَّ عن كتابة الشّعر، فالشّعر ضرورة أنطولوجيّة إنسانيّة تُلازمُني كًما ظلّي و لا غِنًى لي عنه سُمُوًّا على التّفاهة الّتي استشرت في كلّ شيء حولنا و قِيَمُ الحياة الّتي تحتضر أو تتوارى... حتّى روايتي"رَتْقُ المَرَايَا"، تمشي على الأرض بِثوْبِ الشّعر؛ و هنا ينتصر الشّعر على الرّواية، و لكنّ الشّعر لا يمكن أن يرتديَ ثياب الرّواية. من النّاحية التّجاريّة؛ تفوز الرّواية على الشّعر تحت شعار الإبداع و هناك مدارس و ورشات و دورات لتعليم كتابة الرّواية أو القصّة، في حين لا نجد ذلك بالنّسبة للشّعر، فإمّا أن تكون شاعرا أو لا. لكن في خِضَمِّ تصدُّرِ الرّواية اليوم و ما يُروَّجُ له من أزمة الشّعر و الشّعراء و الّذي أراه ضَرْبًا منَ المُخاتلةِ، ماهو إلأّ رغبة في الشّهرة و الكسب الماديّ لكثرة الجوائز المطروحة الّتي تحظى بها الرّواية و من حقّ الشّاعر البحث عن قُرّاء له في المجاليْن؛ الشّعر و الرّواية. هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أصبح الكثير من دُورِ النّشرِ لا تنشر الدّواوين الشّعريّة إلاّ إذا تمّ دفعُ كامل القيمة و لا تُروِّجُ لها في دور النّشر و المعارض الّتي تُقامُ مرّة واحدة في السّنة بما فيه الكفاية، هذا إنْ كانت مشاركةً أصلًا.

السِّؤال الرّابع: طقوس الكتابة تختلف من كاتب لآخر...قد تكون ليلا أو نهارا، و قد تكون موسيقى أو أشربةً معيّنة كالشّاي و القهوة، بالمناسبة، ماهي عادات و طقوس لمياء؟

*الكتابة عندي لا تأخذ المعنى الطُّقوسي بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهي تأتيني و كفى؛ بِشرابٍ أو بدونه، متحرّرة من الأمكنة و الأزمنة، قد تكون ليلا أو صباحا و أنا أتناول فطوري، قد تكون أثناء ممارستي نشاطا داخل البيت أو خارجه،أمام البحر، قد تكون في سيّارة، في مقهى، في فرحٍ، في عزاءٍ، في قاعة انتظارٍ... أو أكون نائمة، فأستفيق مع فكرة أو ومضة أو حلم... أو ضمن حديث سمعته أو محاورة...قد تكون الانطلاقة بكلمة أو جملة... ثمّ أُهذّبها و اُمَشِّطُ جدائل حروفها لِتستويَ مُجعَّدةً أو سَبْطَةً كلماتٍ و معانٍ حسب اللّحظة الشّعريّة الشّعوريّة و الأحداث... في هذا قد تُرافقُني الموسيقى الهادئة أو همس الموج، أو الهدوء و السّكون التامّ... قد تكون في لحظة تأمّلي و ذهوليو سكوني، و قد تكون في لحظة انتشائي و فرحي، أو لحظة حزني و استيائي و غضبي.

السّؤال الخامس: ما الّذي يُحفّزك على الدّخول إلى محراب الكتابة، حزن بوزن ثقيل، فرح أكبر من جبل، أمْ تأتيك و كفى؟

*كلّ من الثّلاث الّتي ذكرتها تحفّزُني على الدّخول إلى محراب الكتابة، و لكن أعتقد أنّ أشدّها إلهامًا و وقْعًا عليَّ هي الحزن بالوزن الثّقيل، و هذا أكيد يعود لحساسيّتي المُفرطة، و كم هي المرّات الّتي كتبت فيها بدموعي...

فرحٌ أكبرُ من جبلٍ، أجلْ، لأنّه يُبكيني أيضا، فيختلط الفرحُ... بالدّمعِ... بالحبرِ...ِ بالكلمات... أمّا الحالة الثّالثة، أنّها تأتيني و كفى، ليس بمعنى كفى الجافّة، و إنّما ال"كفى"الّتي يُخالطها استياء و حسرة و ألم و عدم رضى لوضعٍ ما، لحالة ما، أو لمشهد ما سلبًا أو إيجابًا و استحسانًا.

السّؤال السّادس:من أين أتيْت بهذا العنوان المُعلّق في سقف روايتك"رتق المرايا"؟

*هي عين الشّاعرة و الكاتبة و الرسّامة"الحسّاسة"ترى و تُخزّن بالذّاكرة لِأوانِ إفْصاحٍ،هي شُخُوصُنَا، حياتنا و المرايا، نغطّيها كثيرا لِتفضحنا بالانعكاس، لِتُعرّينا. في الموت؛ تُغَطَّى المرايا في غرفة الجُثمان أو الميّت عندنا... و لم أجدْ لِحدِّ السّاعة تفسيرا منطقيّا عقلانيّا ممّا يُقالُ و يُتداوَلُ ما يُضمّدُ و يُلجمُ كَمَّ تساؤلاتي...؟؟؟ هذا الخوف المجتمعي من المرآة العاكسة لِدَواخلنا حتّى في الموت... فكانت المرايا...و لِتتآلفَ؛ لِكثرة مرايانا و لِشدّة الكسور و الشّروخ و الشّظايا، كان لابدّ من إلصاقٍ، و كعادتي في الخروج عن المألوف، وجدتُ في الرّتقِ مقصدي و الّذي يستحيل مع المرايا، فالرّتق عادة يكون مع القماش أو الجلد أو غيره في ما يسهُلُ خيطه و رتقه. بحثتُ عن عنوان يستفزّ العين و السّمع، كَعتبةٍ أولى لِنصٍّ مُستفزّ لِعديد مرايانا... فكان"رَتْقُ المرايا".

السّؤال السّابع:من يقرأ نصّك الرّوائي سيُدركُ هذا الحضور الهائل من ذَوَاكِرِ الأمكنة الزّاخرة بالحياة و مُتغيّراتها و تحوّلاتها، فما الحكاية؟

*المكان... ذاكرة إنسان...الأمكنة نُخزِّنُ بما عشنا و نعيشه فيها ذكرياتنا، يُعاوِدُنا الحنين إليها للتفقّد و الزّيارة و شحن الذّكريات، و إن تعذّر ذلك... تَرانا نفتح أدراجًا و نسحب خيوطًا من الذّاكرة تُعيدُنا لتلك الأمكنة، والأمكنة تختلف باختلاف ذكرياتنا بها؛ حُلوةً سعيدةً كانت أمْ مُرّةً حزينةً. و في كلّ الحالات هي الذّكرى و شريطٌ من صورٍ و أحداثٍ أشْبهُ بفيلم في لحظة"الفلاش باك"يستدعي الماضي في الحضور للحاضر الآنيّ، أو أن نخزّن الجمالَ في الأمكنة و نحتفظ به ولا نريد العودة لها لِعلمنا أنّ الإنسان و الحضارة قد تدخّلا و دمّرا كلّ جميل بها، و ذا شأنُ الإنسانِ أيْنَمَا حلّ منذ الأزل؛ التّدمير بعد التّشييد و الإعمار، لَكأنّهُ فَسْخٌ متعمَّدٌ للجمال... و استدعاءٌ صريحٌ للقُبحِ في أبهى تجلّياته...هي دعوةٌ و صرخة ُ فزعٍ لِإعادة النّظر للمسار الّذي نحن بصدد انتهاجه قبل فواتِ الأوان...عسى تُبعثُ الرّوح و ننقذ ما يُمكن إنقاذه لِإعادة الحياة...

السّؤال الثّامن:يكتب محمّد كمال في تقديمه للرّواية: (تمزجين ألمك مع حكايات شخوصها لتدافعي عن المرأة و قضاياها انطلاقا من ذاتك المُنكتبة)، ما تعليقك؟

*كلّ كاتب حينما يكتب و يختار شخوصه، إنّما يُلبسُها أثوابًا و أقنعة منه و من الواقع المحيط بهو من المِخيالِ أيضا؛ هي إسقاطاتٌ أو تقمّص لشخصيّة لفترة. فالكاتب ليس بِمعزلٍ عن حياتهو واقعه و مجتمعه. حياتنا عمومًا، الألمُ فيها يطغى على لحظات الفرح المسروقة من الزّمن في زخم ما تعانيه من عدم استقرار سياسي و اضطراب مجتمعي نتيجة غلاء الأسعار و انتفاء العدل و المساواة و التّكافؤ الاجتماعي و اهتراء مفهوم الحبّ و الأثرة و التّعاون، أضف إلى الكوارثو الأوبئة و الحروب... فلكاتب لا يكتب فقط ما عايشه، بل يكتب بما يريد أن تكون عليه الحياة؛ يكتب عن الآمال الّتي اكتملت أو لم تكتمل، عن الألم و الفرح الّذي عاشه أو لم يعشه. بمعنى أنّه ليس كلّ ما يكتبه يعنيه، أحيانًا يكتب عمّا يريد أن يعنيه، و لكنّه مختلف تمامًا، و كلّ نصّ كُتبَ تحت ظرفٍ ما...و في زمنٍ ما... المُهمُّ للقارئ، ماذا تعني له هذه الكتابات؟ هل أفادته؟ هل أضافت له؟ أم انتهى المضمون عند آخر صفحة و إغلاق الكتاب و الكلّ أضحى من النّسيان...؟؟ الكاتب في نصّه يبدو حينًا و يختفي أحيانا، قد يكتب لِذاته و تضعه أمام تحدّي إعادة اكتشاف نفسه؛ وهي عمليّة تَجْسير بين عقل المرء الواعي و عقله اللّاواعي، و هنا سيجد قلمه يكتب بنفسه، و عقله الباطن قد قرّر الإفراج عن بعض مكنونه و الإفصاح عن بعض أسراره الّتي قد لا يعلمها الكاتب نفسه و لا يعيها إلّا بعد العودة لقراءتها. أو يكتب من ذاته عنها، وهو في الغالب له معرفة جيّدة بنفسه و مُتقدِّمٌ على غيره من النّاس الّذين يعيشون ضيوفًا على أنفسهم و لا يعرفون عنها إلّا القليل، وهو مسلكٌ صعبٌ على الكثير لعدّة أسباب من بينها الخوف من الوصول إلى معرفة موهومةٍ يلتبس فيها الصّواب بالخطإ.

حين يكتب الكاتب عن ذاته أو بعضا عنها و يُخاطب خلجات النّفس و العواطف و الأحوال و الآمال و الآلام، يمتلك بطاقةً تُخوِّلُ له الدّخولَ إلى قلوب النّاس دون عوائق لأنّه يَمَسُّ في وجدانهم أوتارًا يعزف بواسطتها... إنّ من يعرف نفسه، سيعرف غيره، و يصبح خبيرًا في النّفس الإنسانيّة، يُجيدُ الغَوْصَ في بحارها العميقة الغامضة و يُجيدُ تقريب الآخرين من أنفسهم بصورةٍ تعسُرُ على الكثيرين.

و الرّجل كما المرأة على حدّ سواء، مازالا غير خبيريْن بنفسيْهما في عديد الحالات. هذه الأخيرة مازالت تعاني سواء من الزّوج أو العائلة أو المُشغِّل و في غالب الأحيان لا تُفصح و تكتم و تغصّ بآلامها ضمانا للاستمراريّة و حفاظا على واجهة ناصعة أمام"المرآة المجتمع". أردت فتح نافذة كبيرة و بِجُرأة أكبر تسليط انعكاس فاضح لِما تعيشه كثيرات و يتكتّمن...تمرُّدًا على الخنوع و الخضوع و الدّونيّة... و ترسيخًا للمكانة العظيمة الّتي يجب أن تتبوَّأَها كأمّ و زوجة و أخت و عاملة بالقوّة و الإرادة و الفعل و ليس بالانكسار... هذا من ناحية، و من الجهة الأخرى من المعادلة؛ لا يُشفعُ لها أي المرأة أنّها في عديد الحالات هي المُتسبّبة فيما تُعانيه نتيجة تواصل التّمييز بين الذّكر و الأنثى في تربية عقيمة للأبناء على أساس الأفضليّة و سيطرة ثقافة الذّكورة.

السّؤال التّاسع: كمْ عينًا لك يا لمياء لِتريْ كلّ هذه المرايا المُنتشرة في روايتك؟

*هيَ العينُ"البَصيرة"كلّنا لنا عيون نرى بها، لكنّ النّظرة تختلف بين سطحيّة عابرة، و عميقة ثاقبة. و العين لا ترى نفسها إلّا بمرآة، و النّفس لا ترى شخصها إلّا بالتجرّد ثمّ توزيعها على ناظرٍ و منظورٍ، و حاكمٍ
و محكومٍ. فكان لِزامًا أن أتجرّد و أتأمّل في ما يسمح به مجالُ البصر و أُفق الفكر لِتكون لي المرايا واضحة بعد مسح البخار أو الغبار أو الضّباب، صافية جليّة صفاء يومٍ صحوِ.

السّؤال العاشر: إلى أين تُبحرين بروايتك ضدّ مجموع السّلوكيّات و الأفكار و القوانين و التّفسيرات الّتي من شأنها سيطرة الثّقافة الذّكورة في مجتمعاتنا؟

*ليس أفضل من الماء و البحر غسْلاً لِأدرانِ النّجاسة، لذا أُبحرُ في "رتق المرايا" لِأُميطَ اللّثام و أُعرّي- كما نتعرّى حين نغتسل- كلّ سلوكاتنا و أفكارنا و قوانيننا و عاداتنا المتناقضة و البالية. أردت توجيه عدسة الكاميرا؛ الزّوم المُقرِّب ليرى القارئ انعكاسه أو مَن حولَه، ليقفَ لحظة تأمّل، يحلّل و يتساءل و يستنتج، يرضى، يُفنّد، يرفض، يستحسن ما كُتب...أو يلعنُ كاتبته و يصفها بأبشع النّعوت لِجُرأتها – و كأنّه ضمنيّا يلعن نفسه لأنّها أو لأنّه من تعرّى -.ُبحرُ إلى حيث تنتفي ثقافة الذّكورة في مجتمعاتنا لِإرساء قيمِ المساواة و لا أفضليّة لجنسٍ على آخر. ُبحرُ إلى عالمٍ فيه "الإنسان" كلمة تشمل الكلّ. أُبحرُ إلى مُنتَجٍ إنسانيّ بِغَضِّ النّظر إن كان الكاتب امرأة أو رجلا، و أمقُتُ التّسميات و التّصنيفات من قبيل "كتابة نسويّة"و "أدب نسويّ". أنا ضدّ موقف "الإعراب في الأدب"؛ ماهو إلّا تمزيقٌ لِكِيانِ الأدب، و الأدبُ شعرًا كان أو نثرًا، هو تعبير عن فكرٍ أو قضيّةٍ أو طرح لمشكلة اسْتِجْلابًا للحلّ، و هذا مفهوم مغلوط اسْتحدثته الثّقافة الذّكوريّة الشّرقيّة المُتسلّطة لإبراز دونيّة الأنثى. النّصّ هو الأرضيّة للحكم عليه بالجوْدة أو الابتذال و لا دخْلَ للجنس؛ ذكورة أو أنوثة أو فئة عُمُريّة في أيّ عمليّة نقديّة أو تقويميّة، وحده النّصّ خاضعٌ للتّأويل و التّفصيل، فضْلًا عن أنّه حاضنةٌ جماليّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى