الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
حوار مفترض مع الشاعر الراحل محمد علي الهواري
بقلم عبد الرحيم العطري

حياة ملؤها الشعر والصمود

في العام 92 من القرن الفائت تعرفت على الراحل محمد علي الهواري، عرفته حينها أستاذا لمادة المسرح بالمعهد الملكي لتكوين الأطر بالرباط، كان يأتينا صباح كل ثلاثاء محملا بأسئلته الملتهبة، داعيا إيانا إلى قراءة الشعر لاكتشاف حقيقة العالم، كان في تمام الثامنة صباحا يقتعد الكرسي نفسه،و ينطلق في قراءة تاريخ أب الفنون، ينطلق من البدايات الإغريقية وما قبل الإغريقية ويعرج نحو التأسيس العربي وحكايا الرواد ويعود إلى الواقع والرهانات الجمالية، لكنه بين الفينة والأخرى ينعطف بنا، وكان ذاك أجمل انعطاف، نحو سنوات الجمر والرصاص ليحكي لنا زمنا موغلا في الرداءة أنتج كل ألوان القمع والتدجين والإيذاء، كان حينها يتحدث عن الفقيه البصري والمهدي بن بركة وكل الراحلين خطأ في زمن الأخطاء، يضيء أمامنا عتمة التاريخ المسكوت عنه، يتأمل دوائر دخان سيجارته،و يستمر في الحكي المكلوم، ثم ما يفتأ يتذكر أنه يدرس مادة المسرح، فيعود مجددا إلى الركح .

كان يأتينا باسم علي الكوفي، ولا أحد منا كان يعرفه بغير هذا الاسم، ربما هو جهلنا بتاريخ الأبطال والشهداء الذين كتبوا سيرة وطن لا يكتمل إلا في الأحلام، ربما هي فعلة دروس التاريخ المزيف التي جعلتنا في الشهادة الابتدائية نمتحن فقط فيمن بنى المدن والمآثر التاريخية، ولا ندرس بالمرة الاحتقانات المجتمعية التي عاش على إيقاعها المغرب لزمن طويل.

في العام 96 من نفس القرن ستتجدد علاقتي بالشاعر البهي محمد علي الهواري، حينها كنت قد التحقت بجريدة الميثاق الوطني بالرباط، كنت أصادفه بشكل يومي قرب مقهى مقابل لبنك المغرب، كنا نختلس الزمن ونجود على نفسينا بلقاء مسكون بالشجن والأهوال، نبث إلى بعضنا البعض شكوى الألم والضياع، كان الراحل يبكي زمنا عصيا على الفهم، حينئذ تعرفت أكثر على الشاعر والإنسان محمد علي الهواري...

دامت اللقيا على هذا المنوال إلى غاية فجر هذه الألفية، حينها غبت عن الرباط وغابت عني أخبار شاعرنا الجميل، كنت أقتنص أخباره خلال رحلاتي الخاطفة إلى الرباط، علمت حينها أن المرض بدأ يستعمر جسده النحيل، بدأت الأخبار الحزينة تتقاطر علي من جملة من أحبته الأوفياء إلى أن حمل إلي الشاعر العزيز محمود عبد الغني في يوليوز 2002 نبأ الرحيل الفادح، جاءني الخبر الفجائعي وأنا أستعد لتقديم إحدى المسرحيات بقاعة علال الفاسي بالرباط في إطار فعاليات المهرجان الوطني لمسرح الهواة، طلبت من الحضور الكريم أن يقف وقفة إجلال واحترام لروح الفقيد، تلونا الفاتحة ترحما عليه وانسكبت دموع الفراق على وجوه آل مسرح الهواة الذين يكنون له غير قليل من المودة والاحترام.

أهو مكر الصدف، أم هو الألم الباذخ الذي يرافقني دوما، كيف لي أن أنعي شاعرا وصحفيا ومسرحيا بهيا ومن على خشبة المسرح وعلى بعد دقائق معدودة من انطلاق عرض مسرحي؟

كانت الدموع حينها تهتاج مالحة في مقل الكثيرين من محبيه، ومع ذلك فقد غادرنا الشاعر الكبير في صمت، ودون أن ينتبه لموته كثير من زبانية المشهد الثقافي، رحل شاعر كبير امتهن " الصمود في رحم الإعصار " شاعر يكتب مسارات من الفداحة والابتهاج، يهدينا معان أخرى للإنسان والحياة، ويعلمنا في كل حين كيف نصنع الحياة وفي أحلك اللحظات.

في هذا الحوار المفترض الذي لم ينكتب إجراؤه واقعيا ندعوكم لاكتشاف بعض ملامح الشاعر الذي أهدى للمغرب ولكل المناضلين الشرفاء من الخليج إلى المحيط، وتحديدا في سنة 1964 ديوان شعريا اجترح له اسما قوي الدلالة "صامدون"، وفاء للذكرى وتحية للصمود وكل الدروس التي تعلمناها من الراحل محمد علي الهواري إليكم هذا الحوار المفترض من صميم الديوان.

- من يكون برأيك الشاعر محمد علي الهواري؟

أنا ابن الأرض يا سيدي، ابن التراب

أنا ثورة الأجيال عادت بعد طول غياب

أنا صمت القرون وذلها، عبد أحقاب

أنا موجة مارت بلا جزر في عباب

أنا من عاش كل العمر في كلمه

يقدمها جراحاته، ودموعه ودمه

وكانت له ربا، وحروبها الملهمة

- مع كل هذا الألم الرابض فوق الصدور، الكل يدعو إلى اقتراف الصمت، برأيك هل نصمت كي نشتري أمننا وخبزنا؟

أتريدنا أن نصمت؟

أتريدنا أن نصمت؟

أتريدنا أن نسكت

أن نلجم الفم واليراع.. وننصت

لأنين أمتنا.. بلى لن نصمت

دمر وفجر ما تشاء

حرق وهدم للمطابع والبناء

مزق وجمع للورق

فالشارع العفن الرصيف

والسوط والزنزانة والمسخ السخيف

والدرب يعرفنا ويعرف من نكون

- هل قدر علينا أن نهجر الفرح ونحتضن الحزن والألم؟

العيد في وطني يموت من الفزع

العيد طاعون مخيف

وعلى الوجوه دمامل دكناء

ذكرى النبي على الشرايين الحزينة

ودم مراق

صلبت بلا كفن جميل

ورمى بها الجزار في مستنقعات

من دماء من فزع

- لماذا يكتب الشاعر محمد علي الهواري الشعر؟

ما الحروف؟

ما الغنى.. ما الكلمات

ما تعابير العيون

وهوانا كان.. كان

قبل ميلاد اللغات

مثل رفات المقل

قبل ميلاد الحياة

كان.. لا تسأل متى

ما الحروف؟

وحروفي كلها أمست عبير

- المتأمل لمتنك الشعري سيكتشف أنه شعر ملتزم بقضية التحرر من ربقة الاستعباد، أليس كذلك؟

آمنت بالجرح المضمخ بالأنين

بالآه تبعث في ثرانا الأنبياء

آمنت بالجرح المعطر بالتراب

بالصرخة الحرة تعانق في الفضاء

صرخات عبد ثائر غضبي الفداء

آمنت بالقدم المشقق، بالعذاب

آمنت يا رفقاء دربي بالطريق

آمنت بالإنسان يبعث في إباء

بالجرح يبعث، بالعذاب وبالأنين

بالآه تسمعها الجموع، فتهدر

كل الدروب لها نداء

- الدار البيضاء المدينة الغائرة جدا في قلبك، كيف يتمثلها الشاعر فيك؟

إنها المدينة التي لم ترض يوما بالذل، المدينة التي يموت فيها إنسان ويخلق ألف إنسان، المدينة الثائرة المعطاء

فليعلم الجبناء أنا من هنا

بالأمس ثورتنا تفجر رعدها

واليوم نزحف من هنا

لتدك أقدام إلا ما جلادها

لتدوس أفواج الرعايا أسيادها

- محمد علي الهواري مناضل بهي بامتياز عانق تجربة المنفى وتذوق كرها من طعم زمن الرصاص، كيف تنظر إلى تلك التجربة؟

صلبوا الحقيقة والصباح

وكسوا دروب الأرض بالدم والجراح

الحب والأشواق ماتت

والصبح والخبز الملطخ بالدماء

- تظل الثورة والوحدة العربية من أبرز الانشغالات المركزية في ديوانك "صامدون"، حبذا لو آخذتمونا إلى هذا العبق الوحدوي عبر نص من اختياركم؟

يا أمتي، الشعب ثار بأرضنا العربية

وهنا نعيش على القيود ضحية

الشعب في أجزاء أمتنا الأبية

داس المذلة صانعا قدرا بغضبته العتيقة

يا أمتي كل الشعوب

كل العبيد

ثارت على الذل الرهيب

وهنا، هنا نحيا على ثقل القيود.

ملحوظة: كل الإجابات المحتملة للشاعر الراحل مأخوذة من قصائد ديوانه "صامدون" الذي تفضلت لجنة أصدقاء محمد علي الهواري بنشره في حلة أنيقة في يوليه تموز 2003.


مشاركة منتدى

  • اهلا اخي الكريم عبد الرحيم العطري والله إن فقدان هذا العلم الخالد محمد علي الهواري لنكسة كبرى للشعر المناضل بالمغرب
    انا شخصيا لم اكن اهتم لهذا الشاعر جيدا لكني لما قرأت اعماله وجدت روح الوطنية تفوح من ثناياها

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى