دفء الكلمات مع نبض الحروف
القصة بين كل الأنواع الأدبية، إذ حلت لدى الشعوب الحديثة محل الملحمة القديمة أو السيَر الشعبية، ووقفت موقفا ً وسطا ً بينها وبين التاريخ، لأحداث المجتمع وحركته، فأنها تقدم وسيلة إبداعية فذة لأستحضار إجماع الثقافة الروحية لشعب معين، ونقدها بكل ما تحمله تلك الثقافة من مؤشرات التاريخ.
ظلت القصة القصيرة هي النوع الأدبي الأكثر شهرة في مجال السرديات إلى جانب الرواية، وتشترك القصة القصيرة والرواية في فن السرد عامة، ويستطيع الكاتب من خلالهما تبليغ رسالة سردية تحاكي الواقع وتعبّر عنه.
يبدو للمتأمل للمشهد الأدبي المعاصر، أن عهدا ً جديدا ً للقصة القصيرة جدا ً قادم الينا، حيث تظهر الى واجهة الأحداث الثقافية والأنشطة لتتبؤا مكانة ملحوظة بين فنون السرد الآخرى، القصة الومضة تأتي كآخر حبة في عنقود فن القص الأدبي، وآخر حدود التكثيف، متخلصة من الإسهاب ومن المتشابه والتمهيد والتدرج والمعاني الفرعية.
يقول الناقد الأدبي الدكتور حسين حمودة:
(خلال العقود الثلاثة الماضية، تصاعدت أشكال قصصية مثلت إختبارا ً لحدود النوع القصصي القصير، وذهبت في ذلك مذاهب شتى، تمثلت خلالها القصة القصيرة لغة الشعر وأدواته، أو استلهمت روح"الأمثولة"أو الخاطرة أو اللوحة القصصية، وتم ّ طرح نتاج قصصي جديد، فرض نفسه فأنتبه إليه النقاد، وبدأوا يبحثون عن تسميات مناسبة له، وعن سمات أساسية في تكوينه، وخوض هذه الأشكال القصصية الجديدة قد بدأ في الأدبين العربي والغربي في فترات شبه متقاربة، يردها أغلب الباحثين الى العقود القليلة الأخيرة الماضبة).
القصة القصيرة جدا ً تحمل روح الرياضيات والشعر، فكل كلمة من كلماتها رمز إشاري له دلالاته المتعددة، كما أن تكثيفها الشديد هو تكثيف مجازي له ظلال والوان طيفية لا نهائية، يقول الأديب منير عتيبة:
(القصة القصيرة جدا ً هي إبداع مقطر، وذكاء في الكتابة والتلقي، وعمق في الفكر، ومجال في اللغة، وهي أصعب كثيرا ً في كتابتها من القصة القصيرة).
من هنا دخل الكاتب عدنان عبدالواحد الربيعي في مجموعته القصصية (دفء) هذا الميدان مؤمنا ً بأهمية قصة الومضة، والتي تتطلب موهبة أصيلة، ومهارة فنية عالية، ومتمكن في الأصل من فن السرد، ومستوعبا ً لتقنيات الكتابة القصصية.
القصة الومضة هي بالفعل أدب حكمة وليست أدب حكي، وكما يقول (أ.مجدي شلبي): (هي عبارة عن حكمة ترتدي ثوب القص، ولأن أصل القصة الومضة هو أدب التوقيعات، وليس أدب القص).
اطمئنان..
على أخيه أسند ظهره مُطمئنا ً
فوجد نفسه على الأرض
يدرك من أعماق قلبه معنى الأخوة وينتهي المشهد على أرض الواقع، دائما ً يتردد على مسامعنا حين يتألم أحدنا أول ما يقوله كلمة (أخ) لأن الأخ هو الأقرب، وهو الملجأ في الضّراء قبل السّراء، كل منا يدرك معنى الإخوة، فأن الخلافات واردة بين الإخوة ولكن الدم أقوى من أي خلاف.
ضحك..
ضحك بمرارة، بكوا بحرارة
الإحباط وخيبات الأمل هما جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة التي نعيشها، موجعة أكثر، تتعدى الروح وتبعث ألما ً غريبا ً، خلل في السيطرة على المشاعر، في الخيبات ليس هناك دموع حزن، قد تكون حوادث لم نشأ نعيشها، وإنها لا تتعدى كونها دروس تعلـّمنا منها ما يجب أن نتعلمه.
حبر..
حين أهمل قلمه، جف ّ الحبر
لم يعد للحياة طعم ولم يعد للقلب إبتسامة جميلة، لم نعد كما كان، أصبح يستجدي الضحكة حتى لو كانت بسمة، فتأتي باهتة لا تعني سوى مزيدا ً من الحسرة على ما فات، جف ّ حبر القلم ولم يجف ّ حبر القلب.
إنعكاس..
رمى حجرا ً، أزعجه إنعكاس القمر في الماء دوامات دائرية تهدأ مع الوقت، هكذا.. يتزن ّ العقل بالقلب، وتستيقظ فيه بواعث الحكمة، لا تكون الحكمة الإ بما صنع الزمان، القمر يبحث في داخله الآلام الموجعة من صرخات الذكريات، توجيه الإنتباه بوعي داخل نفسه، وتركيز إنتباهه على ما يحدث داخل نفسه.
وعلى الرغم من قلة الكتابة النقدية إلا أن هناك أتجاه من النقاد الذين لا يؤمنون بالقصة القصيرة جدا ً، لندرة كتابتها عن باقي الأجناس الأدبية، ولكن مالا يعلمه الكثيرون أن هناك الكثير من الأدباء العرب استخدموها بأعتبارها جزء من كتاباتهم ومنهم: (نجيب محفوظ، رضوى عاشور، زكريا تامر، بثينة العيسى، جبران خليل جبران، فاروق مواسي... وغيرهم).
وقد كتب كبار الكتّاب الكلاسيكيين هذااللون القصصي منذ عقود طويلة وفي مقدمتهم (إيفان تورغينيف، إيفان بونين، فرانز كافكا، أرنست همنغواي، آرثر كلارك، فريدريك براون، ليديا ديفيز، أوغوستومونتيروسو).
يقول الناقد والكاتب الكوبي من أصل إيطالي (إيتالوكالفينو) عن الكاتب الغواتيمالي (أوغوستومونتيروسو): (تعتبر القصص المتناهية الصغر التي أبدعها مونتيروسو من دون منازع، من أجمل القصص في العالم، لقد كان هذا الكاتب بحق ظاهرة فريدة لا تتكرر في عالم الآداب المكتوبة باللغة الإسبانية، كان بارعا ً في الإيجاز البليغ).
من هنا نخرج بمفهوم أن ومضات الكاتب (عدنان الربيعي) هي إشارات ولمعات خفيفة، وتبسمات لأوضاع قيمية وإنسانية، أعطى لهذا العمل الأدبي نوعا ً من الجمالية والفنية الأدبية، مما جعل مضمونه يطابق الوعي الإجتماعي، ويصوغ عالما ً من العلاقات والمظاهر التي تدخل في نطاق التركيب الواقعي والخيالي.
سراب...
رأى السراب، سكب الماء
وهم بصري يناقض الوعي، خلف دخان ضبابية الكلمة، صور وهمية تفسرها العين عبر مسارات تخترق خطوط الأفق.
عثرة...
كعادته منذ فترة ليست بالقصيرة تعثّـّر.
تأفف ضجرا ً استقام فرأى رجلا بصيرا لا يضع قدمه على الأرض حتى يتأكد بعصاه أنها آمنة تصبب عرقا ً صمت مطبق على المكان إلا من آهات وشهقات، الأعمى ليس من لا يبصر، ولا عمى اسوأ من ألا يلاحظ أحدهم وجودك، تعثر ووقف عندما أحس بهواء بارد يلفح وجهه المتعرق، ومعصم يده قابضة على العصا، أحس بإحساس رجل بصير أمامه.
خذلان... تجمّعوا حوله ازداد حماسه
وعندما هم ّ بدخول غرفة المدير لم يجد أحدا ً خلفه كان له طريق يسعى ويجتهد للوصول اليه، لخلق بيئة عمل وفق علاقات جيدة، لكن خذله زملائه في العمل وتركوه وحيدا ً، يقف تائها ّ، حائرا ً، أغفل قلبه وفكره ما أسهلها من كلمات، وما أصعبها من حياة، عندما يتركك زملائك في العمل وحيدا ً، وتفقد مصداقيتهم.
أما النصوص (نظرة ثاقبة، بصل، ملح، حنين مبكر، صرصر، حُزن، فلّين، تجميل، جدار آخر، تؤأم، صبغ، سِدرة، ذاكرة، مُنذ، ممنوع الوقوف، تناقض حريق، حذاء، لا مبالاة، فات الأوان، أمنيتان، إدعاع، بكاء، جوع، دفء، بغي، نسيان، غريم، جائزة، رد، وميض، غضب، شمعة، سقوط، محكمة، قاعدة، اسم، لعنة، ذكريات، اعتقال، لصق، إحتساء، شبيه)، فنجد أن الكاتب (عدنان الربيعي) لديه الأهتمام بالفكرة والموضوع، ولذيه دراية بفن القصة القصيرة جدا ً وأركانها وتقنياتها، وجاءت المجموعة القصصية (دفء) بأسلوب سردي ولغة شعرية تصويرية، فالقصص تحلق في فضاء رمزي وتدعو الى التفكير والتعمق والنظر، وأعتمد نجاح هذه القصص على عمق الفكرة ووضوح وجهة نظر الكاتب.
وفي النهاية، كما يشير الناقد شوقي بدر:
(أن القصة القصيرة جدا ً موجودة بشكل جيد جدا ً في العالم العربي، ولكن ينبغي على الحركة النقدية مواكبة تقدمها وإقامة مؤتمرات علمية لها).