الأحد ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

دوائرُ تضيقُ حول تَلقي الرِّواية العربيَّة

بفعل الرمزية و الانزياح تتكسر البـُنى في الأجناس الأدبيَّة، بما هما يعيدان إنتاج الواقع من منظور تفاضلي، وفيه يتم تجاوز الرؤية التقليدية للإنسان و للفن و للعالم. و على ضوء ذلك، فما كانت لدوحة الأدب، باعتبار هذا الأخير فنا بامتياز، إلا أن تتبنى هذا الكم الزاخر من التأويلات و التفسيرات، لمختلف الظواهر النفسية والاجتماعية و التاريخية، التي يتوسل بها الكاتب بغية إيصال مشروعه الثقافي إلى القراء والمهتمين. إن إعادة كتابة التاريخ روائيا، مثلا، يتم فيه الخروج عن جمود تقريرية الأحداث، ونقلها في تسلسلها الزمني، إلى سيولة المادة الحكائية، و قفزها المستمر على الأقنوم السردي. وفي هذا يظهر مدى سعة صدر الأدب، في احتوائه كل ما يؤرق الإنسان على مدى التاريخ.

تظل الرواية الجنس الأدبي القادر على خلخلة الظواهر الاجتماعية و النفسية و التاريخية، فهي لا تكتفي بنقل الأحداث و التجارب فحسب، بل تعيد تشكيل وعي جديد، وتحسس بأهمية الإنسان، كعنصر بنيوي، في هذا العالم، عن طريق تحريره من الأوهام، وترسيخ نظرته الفنية للواقع. فعلى حسب القيمة الفنية والأدبية للمشروع الثقافي، الذي يحمله الروائي و يؤمن به، يستحق شرف التقدير والاحترام. مادام الهدف و الرسالة، التي يصْبو إليه الكاتب نبيلة، يخدم بها الذاكرة الجماعية، ويكشف بها عن علاقات تؤسس للوظيفة الجديدة للرواية، التي جاءت بها الحداثة في الأدب.

وفي سياق آخر، كانت هزيمة حرب الستة أيام، التي تكبدتها الجيوش العربية سنة 1967، حسب الدكتور شكري عزيز الماضي، منعطفا تاريخيا خطيرا، أدخل الرواية في عنق الزجاجة، ووضعتها ـ أي الهزيمة ـ أمام لا يقينية العالم. وهذا نجم عنه تفسخ أيْديولوجي وحزبي، عانت منه الأنظمة العربية، مما انعكس بشكل قوي على جوهر الأدب. ومن أهم إفرازات المرحلة، هو غياب الديمقراطية والحرية، اللتين تعتبران دافعتان رئيستان نحو تأسيس خطاب روائي جديد، بما هو يؤمن بالاختلاف و التعدد الذي يجئ بحجم الكون. فأنـَّى لهذا الجنس الأدبي المدلل، وزئبقي المزاج أن ينمو بشكل طبيعي في جو موبوء، ومهيض الجناح، و ناقص الأكسجين؟ بالموازاة، كيف سيتكيف الخطاب الروائي مع جفاء الواقع و تنطـُّعه؟ وإلى أي حد ساهم هذا الواقع في خلخلة و تخييب أفق انتظار القارئ العربي؟

وفي الموضوع ذاته استحضرني كتاب "الأدب العربي و تحديات الحداثة" لعبد الله أبو هيف، استفتى فيه كبار الروائيين العرب على ضوء سؤال جوهري، مفاده هو: كيف ينظر الروائيون العرب إلى واقع الرواية العربية؟

من بين الروائيين العرب، الذين تم استجوابهم، نجد: الطاهر وطار من الجزائر و مبارك ربيع من المغرب ويحيى يخلف من فلسطين و واسيني الأعرج من الجزائر ... ففي أجوبتهم ركزوا، تقريبا، على عدم حصول التراكم الروائي الكافي، الذي يسمح بإصدار أحكام قيمة على واقع الرواية في البلاد العربيَّة. وفي هذا ما يوضحه الروائي الطاهر وطار أن عـُمرها كان قصيرا، بالمقارنة مع تاريخ الرواية عند الغرب. ولعل ذلك يعزى، حسب وطار، إلى صدفة اكتشاف هذا الجنس الأدبي اللغوي، كسائر الأجناس الأدبية الأخرى، المسرح مثلا. فمن الطبيعي، بل من البديهي أن تتحرك آليات الحفر و التنقيب العربيين، من أجل تأصيل هذا الوافد الجديد، أسوة بباقي الأجناس الأدبية الأخرى.

غير أن مبارك ربيع سلك سمـْتا آخر، في جوابه عن سؤال عبد الله أبو هيف. حيث ركز على ثنائية الناقد و الكاتب من جهة، وعلى أهمية جنس الرواية في تشخيص الدّاء العربي من جهة أخرى. مشيرا، في جوابه، إلى التطور المتسارع الذي سَلخ عنها ـ أي الرواية ـ عباءة التقليدية.
إلا أن الروائي الفلسطيني يحيى يخلف أكد على أن الرواية الفلسطينية، والتي هي قسيم الرواية العربية، فقدت بريقها و لمعانها، وانحدرت انحدارا شديدا نحو اللاجدوى والانحطاط، بل هوَت إلى مشارف الإسفاف والرطانة. بفعل الظروف الصَّعبة، التي يمر منها الشعب الفلسطيني، حيث امتدت يد الغطرسة الصهيونية الغاشمة، في بيروت، إلى اغتيال أهم رموز الأدب الفلسطيني، وعلى رأسهم صاحب رائعة "رجال في الشمس"، غسان كنفاني. والتي ظلت، فيها، العبارة "لم لمْ تدقوا جدران الخزان؟" ماثلة في أذهان المتيَّمين بالفن الروائي العربي الهادف . إن لا حديث عن الفن الروائي العربي، حسب يخلف، في ظل تناسل النكسات و الهزائم العربية، والانتقال بالمجتمع العربي نفسه من الصراع العمودي إلى الصراع الأفقي، وفي هذا ما يوضح أن قمع الحريات العامة سببٌ مباشر في فشل المشروع الثقافي العربي.

أما واسيني الأعرج، قيصر الجيل الجديد في الرواية العربية، الذي جاء بعد جيل الرواد من أمثال: الراحل حنا مينة و الطاهر وطار و محمد ديب و غائب طعمة فرمان، ونجيب محفوظ وآخرون... فكان له رأيٌ آخرُ بخصوص واقع الرواية العربيَّة. حيث أكد، في جوابه، على مدى تشبُّت الجيل الجديد، بما تتمخض عنه الدراسات الأدبيَّة الحديثة، في الغرب، لمواكبة الفعل الروائي، من زاوية علاقة النص بالقارئ، وأشكال تلقي النص السردي الحداثي. ويبدو في ما تقدم أن واسيني، في جوابه، كان يدافع عن الارتباط العضوي بما جادت به النظريات الحديثة، في الغرب، بخصوص تفكيك النص السردي إلى وحدات و عناصر داخل بنية مغلقة، وعلاقتها بالمضمون الحكائي. فلا حديث عن رواية عربية، مادامت بعيدة كل البعد عن المنطق الجدلي بين الشكل و المضمون. يقول واسيني "فالأزمة، إذن، ليست أزمة رواية بقدر ما هي أزمة مجتمع و تركيبة طبقية مفلسة، ما تزال تمارس حضورها الاجتماعي، حتى الآن و بشكل تعسفي". والمشكلة، هنا، هي أن الإبداع الروائي لا يستطيع أن يقدم الأجمل، إلا في ضوء فهم جيد و جديد لمكانيزمات العلاقة التي تؤلف بين الرواية و المتلقي، مادام هذا الأخير كائنا لغويا بامتياز. و الحالة هاته، سيظل عبد الرحمان منيف الراعي المتميز لهذه الآصرة، التي تجمع بين طرفي الإبداع من خلال أهم رواياته، سيما وأنه يحاصر المتلقي، انطلاقا من الوصيد الأول لنصه الإبداعي، ويجعله بين جنازتين، مطرقة الزمان وسندان المكان. ففي روايته "الآن... هنا" الصادرة عن دار التنوير، تـُحلق الرواية في سماء عربية موبوءة وهـَّنها الوجل وهدها الخوف من مصير معتم، يسكنها القمع و التعذيب و انعدام الحرية، ومن شدة الهول يصبح الإنسان مجردا من انسانيته. من هنا، كانت السلطة القمعية تنشط في الاعتقالات، و سحق الإنسان و الزجّ به في غياهب السُّجون.

إن الرواية بهذا البناء، تصبح وثيقة شاهدة على التنكيل و السَّحل في تاريخ الأدب العربي. يقول عبد الرحمان منيف "اكتشفوا ذات ليلة، أنني أصبحت قادرا على ترك العربة بمفردي واستعمال العكازين..."، ولئن كان تعذيب الجسد يعتبر طريقا غير مُلتو أمام الجلادين، نحو اعتراف طالع العريفي صديق الكاتب، وهو الرجل البسيط بمواقفه وانتماءاته السياسية و الأيديولوجية، قبل الزج به في غياهب سجون العمورية، فإن إنسانية الإنسان تنتفي في جحر هؤلاء السَّيَّافين، يقول عبد الرحمان منيف: "في وقت ما، وحين بدأ جسدي يغادرني، يتركني و حدي أصارع هؤلاء القتلة، أخذوا يرشون على الماء. كنت أعود من المكان البعيد، الذي وصلت إليه نتيجة الماء البارد، نتيجة الماء الساخن، إلى أن غبت تماما عن الوعي...". تضعنا الوشائج أما اعتراف بعْدي، بوجود ذات متلقية للخطاب الروائي، بل متفاعلة تضرم النار في الهشيم. إن احترافية الكتابة الإبداعيَّة، تجعل من الروائي قريبا، يتحسس تنفس المتلقي، بل يقلبه يمنة و يسرة بين بنانه كيف يشاء. فمن خلال لعبة الضمير، الذي يلجأ إليها الروائي، يستفز و يثير غضب المتلقي، ويدفع به نحو المشاركة الفعلية في صناعة الحدث، حتى يصبح للمتلقي موقف، سيظل وشما لا يمحي أبدا.

يتجلى لنا، في ضوء ما تقدم، أن العملية الابداعية لا تبرح البتة دائرة التلقي. فعندما يبدع الروائي، يكون قد فسح جسورا تواصلية مع القارئ، لأن الإبداع خاضع للعملية النقدية وتحت إمارتها. فسواء تعرفنا على واقع الرواية العربية أو غير العربية، أو حتى درسنا مختلف تلاوين انتماءاتها الاجتماعية و السياسية، فلن يجدي، ذلك، نفعا إذا ما أهملنا واقع المتلقي، أو تم التغاضي عن ظروفه المادية و الاجتماعية و السياسية، لأن بالمتلقي يتم استكمال الدورة الإبداعية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى