رسالة مستعجلة!
ثارت ثائرة ولدي قاسم، فأقام الدنيا ولم يقعدها، وكسّر وحطّم وصرّخ، وقلب عليّ الدنيا أعاليها أسافلها، مستنكرا رسالتي التي أرسلتها له، والمكونة من جملة واحدة، هكذا نصها:
"الشيخ فالح مات." مما استنفر أعصاب قاسم وشنّجها، فصرخ، ليلمّ الدنيا عليه، وهو يقول لمن حوله:
" كيف يرسل لي أبي هذه الرسالة المقتضبة عن زوج خالتي، بقوله: "الشيخ فالح مات"؟ وهل الشيخ فالح نكرة إلى هذا الحد، ليكتب لي أبي هذه الجملة المقتضبة "الشيخ فالح مات" دون مقدمات، أو تمهيد للموضوع، أو تلطيف لجو الوفاة!" أليس للشيخ فالح مقام عندنا، أقلّه أنه زوج خالتي؟ ألم يعش معها عمراً طويلاً على الحلوة والمُرّة، وما أزال أذكر أنه زارنا ذات مرّة، برفقة خالتي مسعودة.
ولكنني استدركت أن ابني قاسم المدمن على حوارات "تشاتنج" المفرغة من مضمونها، لم يكن على حق في ثورته هذه، فأنا لم أخطىء معه بهذه الجملة المقتضبة، إذ أنني لدى سماعي الخبر، اتصلت معه بالهاتف المحمول عدّة مرات، لأُبلغه بذلك، ولكن المدمن على جنون "التشاتنج" كالعادة يشاهد اسمي ورقمي على هاتفه فلا يرد، ومثل كل مرّة كنت أشتاق إليه، فأتصل به، فلا يرد، أحتاجه فأهاتفه، فلا يرد، تحصل مناسبة عائلية فأهاتفه، فلا يرد، أمرض فأذهب إلى المستشفى، فأتصل به فلا يرد..
وهذه المرّة مثل كل المرات، هاتفته ثلاث مرات متتاليات، وكان يشاهد اسمي ورقمي على شاشة هاتفه، فلا يرد، ذلك لأنه مجذوب "للتشاتنج" بلا توقف..ونظراً لأهمية الخبر، وضرورة وصوله ساخناً، اضطررت إلى أن أكتب له هذه الرسالة المستعجلة، وأصلاً، اسمها على الهاتف المحمول "رسالة قصيرة" نعم كتبت له هذا النص: "الشيخ فالح مات".
وأما قصة الشيخ فالح هذا الذي لا يزيد طوله على الستين سنتيمتر، ولكن عمره كان يزيد على الستين سنة، فكان يطيل طوله باسم الشيخ، بدل فالح حاف، فتبدأ منذ أن جاء من منطقة مجهولة عليّ على الأقل، ولا أعرف كيف اهتدى إلى امرأة معروفة لدينا في الحارة اسمها مسعودة! لست متأكداً من كونها قد تزوجت من قبل أم إنها بقيت دون زواج حتى ذلك الاهتداء السعيد، ولكنني أعرف أنها كانت معروفة بخدماتها في حارتنا، وفي تجولها من بيت إلى بيت، تخدم هنا وهناك، فتأخذ مصروفها، وتحصل من هذه البيوت على الطعام والشراب والملابس والتبغ "الهيشي" وما يستتبعه من أدوية مخففة للآلام..
باختصار خطب الشيخ فالح ابنة حارتنا مسعودة، التي كانت في الخمسينات من العمر، وبقيت هكذا في الحارة تروح وتأتي بطولها النحيل مثل قرن الخروب، ووجهها الأسمر المدقدق بكدمات الزمن الظالم، والذي يشبه محماسة القهوة القديمة، وكانت أسنانها مهترئة بفعل دخان "الهيشي" الذي كانت تنغمس فيه، كلما التقت شخصاً يحمل علبة صفيح محشوة بهذا التبغ البلدي الخشن، فتعبىء عبوة من تبغه في ورقة بيضاء شفافة صغيرة، فتلحس طرفها، ثم تلفها، فتلتف وتلتصق ببعضها، فتضعها في فمها، محشورة بين السنين الناشبين إلى خارج الحدود، وتطبق عليها بشفتين مجففتين، مثل التين المجفف، وتقدح بقداحتها المعدنية عدة قدحات، فإذا ما اشتعلت القداحة، أشعلت بوز السيجارة، التي لا تلبث أن تعجج دخانها، فتقتلنا برائحتها المخدرة. وحسب معرفتي، فلم يخطبها أحد، ولم يتزوجها أحد، ولم تكن أصلاً على بال أحد، وبعد أن تعدت الخامسة والخمسين، تقدم لها الشيخ فالح بمواصفاته الستينية، فخطبها، فما كان منها إلا أن قبلته على الفور، فتزوجها..
وهكذا عاش الشيخ فالح ومسعودة في غرفة تسوية مترين تحت عمارة، وحمام نصف متري في حوش العمارة.. وحسب ما قالت مسعودة فإن الشيخ فالح لم يعرف الشغل طيلة حياته، ولهذا تزوج مسعودة التي صارت تحضر له الطعام من البيوت التي تعمل في تنظيفها وخدمة أصحابها، وتحضر لهما الملابس من بيوت الأجاويد، وانسحب هذا على مفروشات البيت التي كانت تجمعها مما يستغني عنه أصحاب البيوت التي تخدم فيها.. وبصفتها تعيش في حارتنا، فكانت تمر على بيتنا، فتخدم زوجتي، وتحصل على ما فيه النصيب..واستمرت علاقاتنا بها فترة سنوات طويلة، لدرجة أن زوجتي التي تحترمها إنسانياً، صارت تقول لها: "يا أختي مسعودة" وتبعاً لذلك، صار الأولاد يقولوا لها: "يا خالتي مسعودة".
وكثيراً ما يجلس الشيخ فالح ومسعودة في غرفتهما المترين في قبو العمارة، فتجده يقفز بقدرة قادر فوق طاولة مستندة إلى حائط الشباك، فيقف بطوله النصف متري، وهو يتشبث بكلتا يديه بحافة الشباك، فيقفز عدة قفزات إلى أعلى فوق الطاولة، ليطل من هناك على شباك امرأة تظهر في العمارة المجاورة، ثم يقفز ويقفز ويقفز، ليستطيل قليلاً فيشاهد اطلالة المرأة "المحصنة الغافلة" من الشباك، فتقول له "مُدخِّنةُ الهيشي" بِسنَّيها المشيرين نحوه:
لماذا تنط على الطاولة يا شيخ فالح مثل السعدان؟ فيتنهد الشيخ فالح قائلاً لها:
"آآآآآآآخ يا مسعودة!" فتقول له زوجته المتعوسة:
لماذا تتأوه بقلب مجروح يا شيخ فالح؟ فيجيبها متلهفاً وعيناه على شباك الجارة، دون أن يلتفت إلى مسعودة:
"هل عمرك جربت الحب يا مسعودة؟ شوفي المرأة التي تقف هناك على الشباك... آآآآآآخ! بحبها يا مسعودة!" فتقول له بنابيها الشاهدين على قردنته:
"حبّك بُرص، وعشرة خُرس إن شالله!"
وهكذا استمرت عيشة مسعودة والشيخ فالح، يجمعهما الحظ المائل والقبو المعتم، كما "يلتم المتعوس على خائبة الرجاء" إلى أن أخذ الله وداعته، فجلست مسعودة تبكي حظها العاثر.. لم تصرخ، ولم تولول، ولكنها نقلت الخبر إلى أختها بالتقادم، والتي بدورها أبلغتني إياه، فاتصلت بولدي قاسم لأبلغه، ولكنه كالعادة يشاهد اسمي ورقم هاتفي على شاشة هاتفه المحمول، فيتجاهلني، ولا يرد على مكالماتي المتكررة، ذلك لأنه مجذوب لحوارات (التشاتنج) التي لا أفهم منها شيئاً!