الأحد ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩

رواية الخاصرة الرخوة

سلطانة العلمي

فاصلة حادة

دويُّ انفجار يُرعب الأنفس القريبة والبعيدة منه. ولكنّ الفضول البشريّ أقوى من كلّ نوازع الخوف...أو ربّما هي ردّة فعلٍ للتأكد ممّا سمعته أذناه...كلّما تقدّم من مكان ذلك الدويّ ازداد تأكّدا بأنّ ظنونه ومخاوفه على حقّ"في مكانها"... أشخاص هاربون من الموت يعلو وجوههم رعب يسبقه حبّ حياة"الحياة"... منهم من يجري ومنهم من يسلك ما استطاع الى الهروب سبيلا... تساءل وكلّه أمنيات ودعاء بأن لا تكون (أصيل) قد جاءت الى هاته السّوق بعدما أعطاها ما طلبت منه؛ لكي تشتري بعض المستلزمات.

لم يكن وحده من يجري عكس اتجاه الفارّين وبنفس قوّتهم وسرعة نبضاتهم الهلوعة... توقّف عند رؤيته أوّل جسم ملقيّ"ملقى" على الأرض...كانت تلك أوّل مرّة يرى ذاك المنظر... بقايا حياة ام بقايا موت ام بقايا انسان... إمرأة... وفوق شفتيها تشققات جفاف وكأنّه "وكأنّ"القحط مرَّ من هنا... وغطّى وجهها لون الرّماد الباهت المطفيِّ القاسي... وكأنّها ما كانت مُمسكة"تمسك" بِيَد الحياة منذ قليل في نزهة لاقتناء بعض المشتريات"للتّسوّق".

أحسّ بفشل يضرب ركبتيه، يشل حركة رجليه وكأنّ حاجزا بينه وبين الموت قد رُفع، ليتمكّن من النّظر إليه في وجهه المجهول. قطعت تلك اللّحظة كل ارتباط لأحاسيسه بما يجري من حوله. وبينما هو في قمّة التوهان أحسّ بيد تربّت على كتفه، وصوت يشقّ أصواتا تأتي من بعيد تقول: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله... وصوت يكلّمه قائلا: وحّدِ الله وحدّ الله وحدّ الله!

وكأنّه يعود الى الحياة قادما من العدم حيث تتغيّر المعتقدات والحقائق والبديهيات...تذكّر أصيل بعدما وحدّ الله...وأخذ ينظر في كلّ الاتجاهات عسى أن لا يرى شيئا يدلّه عليها بين ذاك الدّمار، كألوان ثيابها او حقيبة يدها او جسم مرميّ لا حياة فيه يشبهها... بالكاد وقف على رجليه وكأنّه من بين الضحايا ذوي الجروح العميقة. راح يندفع بسرعة كطفل بدأ المشي لتوّه، ينظر لهاته الجثة ولتلك، ويأمل أن لا تكون لأصيل... كَثُر الواصلون لمكان الانفجار، بدأ يزدحم وصار يسرع اكثر واكثر في بحثه، وكأنّ رؤيته لأوّل جثة أكسبته حالةً من الإعتياد على رؤية الجثث...ما عاد يجزع منها ومن معالمها المشوّهة... فكل ما كان يهمه وجه حبيبته التي أحسّ بشوق جارفٍ لها... وكأنّه لم يرها لسنوات طوال... كلّ شيء فيه يبحث عنها ويريدها سليمة لم يمسسها سوء.

غطّى بحثه السريع مكان الانفجار، ولم يجد شيئا، شعر ببعض الارتياح رغم أنّ المكان والظرف لا يَمتّان للراحة بشيء. وقف لبرهة يرمي أبصاره في كل الاتجاهات ويلتفت حول نفسه لعلّه يرى مكانا لم يبحث فيه، فانتبه لسيارات الإسعاف وقد اخذت بعضا من الضحايا مسرعة... وتذكّر حبيبة قلبه، زوجته وهي تقول له هذا الصّباح وهو ذاهب لعمله؛ بأنّها ستذهب لهذا السوق بالذات؛ لتقتني بعض المستلزمات؛ فاستنفرت حواسه. أسرع نحو المسعفين يسأل اذا ما رأوا بين الضحايا امراة متوسطة الطول بشرتها بيضاء وعيناها سودوان وشعرها طويل أسود، فردّ عليه أحد المسعفين: بعض الجثت فقدت ملامحها وعليه الذهاب للمشفى للبحث والتأكد... أحسّ بالضياع وبعدم الحيلة وبالتّعب والانكسار، وكأنّ أمراض القرن أصابته فجأة. كم هو بحاجة لأن يضمّها بين ذراعيه بشوقه الموجوع وقلبه الخائف، كم هو بحاجة الى أن يقول لها كم يحبّها، وإنّ"وأنّ" هموم الدنيا وانشغالاتها والازمات والمشاكل لم تسمح لحبّهما بالتنفس طبيعيا.

كم هو بحاجة لبعض البكاء لكن رجولته"كبرياءه" نجحت حاليا في ردّه.

ثارت عليه أحاسيسه مؤنبّة.

كم انت غبي... نسيت بأن الحياة وُجدت لكي تُعاش لا لتؤجّل الى حين تسمح الظروف.
وبينما هو بقمّة الضياع رنّ هاتفه الذي نسيَ بأنه يملكه "نسيه"... أسرع لإخراجه من جيبه وبينما هو يهمّ بإغلاق الخط على المتصل رأى اسم زوجته ففتح الخط مسرعا وهو يقول: أصيل أين انت حبيبتي فردّت عليه: انا بالبيت.. لماذا تأخرت هكذا والغذاء سيبرد"ووجبة الغداء ستبرد".. فقال: أنت بخير؟.. انت بالبيت؟.. أنا قادم.

. حبيبتي...مسافة الطريق وسأكون معك.. لا تقطعي الخط كلّميني إلى أن أصل

سلطانة العلمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى