
«رواية مدينة العميان»الكاتب الروائي رضا سُليمان

المريض
الصفوة كلمة أو صفة حميدة لأهلها، مقيتة لمَن هم دونهم، كلمة لها بريق ولمعان ترسم على وجوه بسمات، وهى كلمة سوداء مثل أنياب ضباع وأظفار سباع تُجمد دماء الكراهية في وجوه أخرى لا حصر لها.
بعد ليلة طويلة ينتفض "سميح" ليخرج من كابوس مزعج يهرب فيه أمام سياط الصفوة تُلهب ظهره حتى إن الدماء تقاطرت للترك خلفه خطًا طويلا متعرجًا، يستيقظ وقد احمرت عيناه، يشعر بدوار مقيت مع تزايد ذلك الطنين الذى لم يفارقه لحظة واحدة.

هبط ليلة أمس إلى الشارع، اختلط بالجموع، لكن طنين الذبابة لم يفارقه، بعد ساعة من السير والهرولة بدأ يهش، في حركات لا إرادية متوترة، ذلك الذباب من حوله حتى إن بعض المارة وقف يتأمله في دهشة، لكنه لم يهتم بأمرهم، بل دُهش من تأملهم له وكأن حركاته المتوترة لهش الذباب أمر طبيعي ولا يجب أن يُدهش أحد بسببها، ولما لم تنجح حركاته في إبعاد الطنين عن أذنيه، ظل يهش أكثر وهو يجري بين الناس ويتأمل الفضاء حول رأسه الذي يحركه بشكل دائري مثل كرة مثقوبة تتقلب في غير انتظام.
بعد دورة في عدة شوارع مزدحمة أو خاوية لم يفارقه الطنين، يقرر العودة إلى شقته بعد أن أُنهِكت قواه وشعر بألم رهيب في أكثر من مكان في جسده، وإن كان أكثر ما يؤلمه قدماه بعدما شعر بتورمهما داخل الحذاء الذى ضاق لدرجة لا توصف.
يلقى بجسده الضخم فوق السرير، الشقة يعيش فيها وحده منذ انفصاله عن تلك الفتاة التي ما تزوجته إلا لتأخذ أمواله، فهو لم يشعر بعاطفتها تميل نحوه منذ اليوم الأول الذى شاهدها فيه، وحتى بعد الزواج حدثت أمور غريبة لم يجد فيها لحظة تلاقى واحدة، دائما ما كانت تُشعره بأنه شخص غريب عنها، فالنظرات واللمسات تختلف تعبيراتها إن صدرت من شخص محب عن مماثلتها إن صدرت من شخص غير محب.
وقد تأكد من رغبتها في استنزاف أمواله خلال الشهور الأولى للزواج حينما كانت تعود من الخارج وقد اشترت أشياء كثيرة وتخبره بأسعارها فيجدها باهظة الثمن، في البداية يتقبل الأمر على أنها لا تجيد الشراء، فالشراء موهبة، ومَن لا يتفوق فيها سوف يسقط ضحية لأى بائع، يخبرها بأنه سوف يرافقها المرة القادمة ليدربها على الشراء وكيفية التعامل مع الباعة، فمعظمهم قد احترفوا بعض أساليب النصب، لكنها رفضت، وكررت فعلتها واشترت أيضًا بأسعار باهظة..!! ولما تجول بالقرب من بعض المحلات وجد نفسه يبحث عن السلع التي اشترتها زوجته ويحرك عينيه يمينًا ويسارًا وهو يقارن بين السلع وما اشترته ثم يتذكر الأسعار ويقارن فإذا بالفارق كبير للغاية.
تأكد أيضًا من شكوكه حينما طلبت منه ذات يوم أن يقدم لها هدية، ولم تكن ثمة مناسبة لتقديم هدية على أية حال، وأن تكون الهدية إحدى الشقق التى ورثها عن والدته الراحلة، إنه يمتلك ثلاث شقق، يسكنون واحدة ويؤجر اثنتين بنظام المفروش ومن دخلهما وراتب ضئيل من وظيفة ثانوية، كان قد حصل عليها كنوع من المجاملة قدمها أحد المعارف لوالدته بعد وفاة أبيه، كان يعيش سميح.
الشقق التى يمتلكها لم تكن في الماضي تعنى له الكثير، لكن مع مرور السنوات وتغير الظروف في الدول المجاورة، يصل العديد من أهلها يبحثون عن شقق للإيجار، ولما زاد الطلب ارتفعت القيمة ليرتفع دخل "سميح مناع"، ويكون هذا، بدون أن يعي، السبب الرئيس في زواجه.
وإن كان لم يرفض طلبها في أن يتنازل لها عن إحدى الشقق فهو أيضًا لم ينفذ تلك الخطوة، خطوة لم يرفضها تمامًا وكان سينفذها ذات يوم، لكن طبيعته الكسولة (لم يدرك يومًا أن طبيعته حذرة) كانت السبب في تأجيل تلك الخطوة، ويا لها من صفة حسنة، الكسول، تلك التي جعلته لا يتنازل حتى أظهرت خبيئتها وهى تلوِّح له بهجره إن لم يحقق مطلبها، ولما فَطِنَ لرغبتها وتأكد من شكوكه قرر أن ينفصل عنها ولكن في هدوء، وبدأ يضع خطة محكمة التفاصيل كي يحدث الانفصال بشكل طبيعي.
لكنها تخبره ذات ليلة، كان يقترب لمداعبتها، بأنها حامل، ثم تستغل فرحته الكبيرة وتعيد طلبها بأن يتنازل لها عن إحدى شقق الطابق، يعدها بشفتين مرتعشتين، من أثر انفعاله الناتج عن سعادة كادت تذهب بعقله، بأنه سوف يفعل ذلك في أقرب فرصة، لكن عليهما الأن ترتيب حياتهما الجديد، فالمرأة الحامل يجب معاملتها بطريقة مختلفة كل الاختلاف عن طريقة التعامل مع المرأة غير الحامل، ومنزل ينتظر مولود، غير منزل لا ينتظر مولود، هكذا كان يتحدث وهو يتحرك في المكان جيئة وذهابًا ولا يدرى ماذا يفعل، فهو يتمنى لو يضمها إلي صدره لكنه كان يخشى أن يتسبب في أي أذى لهذا الجنين المستقر بداخل أحشائها، حتى إنه توقف على مسافة ثلاث خطوات وقد ثبَتَّ نظراته على بطنها الذى شعر بتكور الجنين بداخله، وأسهب في وصف أنه لشيء عظيم أن يحمل إنسان في داخله إنسان آخر، يتكون وينمو يوم بعد يوم، يتشكل الجسد لتظهر له سيقان وأذرع، رأس تنقش فيه عيون وفم وبينهما أنف وعلى جانبيه أذنان، يُنهى انفعاله بقوله "يا له من شيء عظيم يا "س. ع." أن تنمو بذرتي في أرضك بشكل رائع ونتلقى إنسانًا جديدًا".
تغيرت نظرته، يجب عليه أن يعيد ترتيب تفاصيل حياته خلال الفترة المقبلة، لكنه وإن كان يرتب تفاصيل حياته المقبلة من أجل أسرة سعيدة، كانت زوجته تلح في طلبها بدرجة أدخلت الشك إلى قلبه، فكان يبتكر أسباب التأجيل ويتحمل على إثرها نوبات خصام وهجر غير مبررة، يحاول إصلاحها بهدايا باهظة الثمن، أو يتركها تشتري قطع ذهبية حتى تهدأ..!!
بعد شهور، كان خلالها يشعر بزوجته وقد استغلته أكثر مما يجب، يتأمل بطنها الذي لم يبرز إلى الأمام ولو سنتيميترًا واحدًا أكثر من المعتاد، لم يسألها بطبيعة الحال، هو كالعادة ينتظر أن تجرى الأحداث إلى المكان أو الاتجاه الذى يتمخض عن سؤاله ويجعله سؤالًا طبيعيًا.
ذات مساء كان يجلس شاردًا، ثم يعود إلى اللحظة بأن يضرب بظهر يده، في حركة لا إرادية تلك الذبابة التى تطن بجوار أذنه، ثم يرتد بجذعه إلى الخلف ليبحث عنها في قلب الفراغ حوله فلا يجدها، يشتاط غيظًا لأنه يعلم أنها سوف تختفى .. سوف تتلاشى من الوجود قبل أن يرتد إليه طرفه، إنها تظهر خصيصي لتطن إلى جوار أذنه ثم تتلاشى.
تقترب منه زوجته "س. ع." لتقف إلى جواره صامتة، يتأمل نظراتها المتفحصة، ينظر إلى نفسه لعله يجد ما يثير نظراتها حتى إنه يرفع راحتيه أمام عينيه يتأملهما في دهشة قبل أن يتوجه إليها متسائلا:
ماذا يا "س. ع."؟! لماذا تنظرين نحوى هكذا؟!
في هدوء تمد يدها لتمسح على شعره، ينتفض مرتدًا إلى الخلف وقد جحظت عيناه، بينما ترتعد هى وتعود إلى الخلف خطوة في فزع وقد اتسعت حدقاتها حد الرعب، تبتلع لعابها الشحيح، تقول:
أعرف طبيبًا رائعًا .. يجب أن نعرضك عليه.
يتأملها في دهشة، يقف ليدور حولها في دائرة كاملة، حَرِصَ على أن تكون دائرة واسعة هى مركزها وكأنه يخشى أن تنقض عليه لتمسك به فجأة، يتوقف عند نفس النقطة التى بدأ منها حتى إنه حرَّك قدميه عدة مرات لتطابق موقعها لحظة بدايته.