

زيارة عن زيارة بتفرِق «14» «كنافة الحريّة»

قمت في السنوات الأخيرة بمئات الزيارات لأسرى وأسيرات في سجون الاحتلال، وكان لكلّ زيارة مذاق آخر.
لكن اليوم قمت بزيارة مغايرة.
شاركت يوم السبت 22.07.2023 في مركز يافا الثقافي/ مخيم بلاطة حفل إشهار كتاب "النذير، الخروج إلى الجهاد" لفهد صوالحي، ابن مخيم بلاطة، وكان في حينه أسيراً يقبع خلف القضبان ويحلم بحريّة حتميّة قريبة.
قلت في حينه: "يصوّر لنا فهد طفولة ابن المخيم السليبة... نشاهد في الكتاب سيناريو ولادة مقاوم؛ طفل يجمع الحجارة، ثمّ مراقب، ثمّ رامي حجارة، وتتطوّر إلى الزجاجة الحارقة (المولوتوف)، قارورة زجاجيّة وقطعة قماش ومادة سائلة مشتعلة وأعواد ثقاب، ويتحوّل للمقلاع، إلى الحزام الناسف، إلى الحقيبة المفخّخة ومنها إلى السيّارة المفخّخة (سيارة الموت) وإلى الصاروخ. تتطوّر تراتيله من سورة الحجر إلى المولوتوف إلى الكوع إلى العبوة إلى الحزام الناسف ودعاء ختم الجهاد يرافقه حاملاً تذكرة سفير للشهادة...رسم خارطة انضمامه لصفوف المقاومة... وتلقّيه خبر استشهاد رائد فتوح حجة خلال تلك الفترة (زوج أخته ووالد ثلاثة أطفال)، وزيارة المقبرة ليتوزّع على قبور الشهداء، جاءهم يعاهدهم على اللحاق بهم أو يعاتبهم على رحيلهم الذي كان...صوّر فرحته بالمسدس الأول، وطقوس التحضير للاستشهادي؛ التصوير والوصيّة والحلاقة واللبس وها هو علاء "لبس الحزام خلال إلقائه الوصيّة وكان فرحاً به وكأنه إكسسوار لثياب يوم العيد أو يوم عرسه... وساعة للفرح لدى المقاوم وهدية الزواج ونقوط العرس قنبلة يدويّة، وعلي يبيع حليّ زوجته لاقتناء مسدّس".
أنهى فهد كتابه قائلاً بصريح العبارة: "الأخبار واضحة. رح نروّح من البوابة ومش رح ننجبر لحفر نفق جديد، إن شاء الله".

وها هو فهد يتحرّر بصفقة الطوفان.
التقيته برفقة أخيه مراد (حامِل حمله خلال الأسر، فلكلّ منهم من قام بهذه المهمّة السيزيفيّة المُضنية)، وتجولّنا في طرقات نابلس وأزقّتها وحاراتها، وبالأخص حارة الياسمينة وعبق تاريخها. حدّثني عن وضع الأسرى بعد الطوفان، تضييقات وتنكيل وضرب وتجويع وتبريد "ما شفناه بكلّ السنين اللّي مرقت" وشتم ومسبّات وحِقد ولؤم يتطاير من أعين السجّان، ممّا كان يفرح الأسير ويزيده شماتةً بسجّانه، وصوّر لي بالتصوير البطيء (سلو موشين) ساعة سماعه خبر الترويحة: "نقلونا فجر الأربعاء بالبوسطة إلى سجن عوفر، لم تكن نقلة عاديّة، وحال وصولنا أدخلوني إلى غرفة ضابط الشاباك، بادر قائلاً: "لا تنسى موعد مقابلة الضابط يوم 24 الشهر في مركز حوارة"، لم أستوعب ما سمعته أذناي، سألته ثانية وثالثة ورابعة ليعيد عليّ ما سمعته لأستوعب أنّ الترويحة للمخيم ولبس إبعاد".
وصلنا خلال تجوالنا إلى حلويات الأقصى في البلدة القديمة ليتذوّق "كنافة الحريّة" بعد كلّ سنين الأسر، وهناك كانت مفاجأة كبيرة حيث التقيت بعزير لم يذقها عشرات السنوات، منذ كان طالباً في جامعة النجاح بداية القرن الفائت.
أهديته نسخة من مجموعتي القصصيّة "على شرفة حيفا"، عربون صداقة إلى حين لقاء يجمعنا على شرفة الحريّة.
تناولنا ترتيب ندوة قريبة لمناقشة "النذير" في عمان، وطباعة نسخة جديدة منه.
كتب لي فهد في الإهداء: "إهداء إلى أستاذنا وملهمنا حسن عبادي. من فهد صوالحي".
آمل بحريّة قريبة لجميع أسرى الحريّة.
اعذرني غسّان؛ والله زيارة عن زيارة بتفرق.