سارتر والوجودية
كان سارتر يكره طفولته، وكل شيء ينتمي إليها، على عكس كل الناس. قال ذلك في مذكراته بعنوان "الكلمات"، التي كتبها عندما كان في الخمسين من عمره، تصف طفولته حتى سن الثانية عشر. شيء غريب بالنسبة لزعيم الفلسفة الوجودية الفرنسية وإمامها الأكبر.
مذكرات سارتر كانت عبارة عن هجوم مرير على والديه وجديه والمجتمع البرجوازي الذي ولد فيه. من منظور وجودي وماركسي بحت. ولم نسمع عن كاتب آخر قام بمثل هذا الهجوم على أقرب الناس لديه. فكيف كانت طفولة بطل قصتنا هذه، التي يصفها بأنها بائسة؟
ولد سارتر في باريس عام 1905م، العام الذي نشر فيه أينشتين نظرية النسبية الخاصة، التي ساوى فيها الطاقة بالكتلة في معادلته الشهيرة (E=MC2). والد سارتر كان ضابطا بالبحرية الفرنسية، أصيب بأمراض القولون عندما كان يخدم في أندونيسية، وتوفي عندما كان عمر جان 15 شهرا. تاركا الأم، آن ماري، بدون مال أو وظيفة. فلم تجد مندوحة عن الرجوع بابنها، لكي تعيش في كنف والديها، شارلز ولويسة شويتزر في باريس.
بعد تقاعد الجد، كان عليه العمل في التدريس حتى يستطيع الإنفاق على ابنته وطفلها. الأم كان عليها العمل كمدبرة منزل لوالديها، تحت اشرافهم وسلطاتهم الأبوية. وكتب سارتر يقول: " لم تكن والدته ترفض المصروف اليومي، إنما كان الجدان يتناسيا إعطائها أي مصروف جيب."
كان جان الصغير، ببراءة الأطفال، يعد والدته أنه عندما يكبر، سوف يتزوجها وينقذها من الحرمان الذي تكابده. المهم هنا أن سارتر الطفل، كان يلاحظ أسلوب معاملة الجدين لوالدته. الذي يدل على برجوازية وهيبوقراطية واستغلال وأنانية مغلفة بمظاهر كاذبة خادعة.
كان الجد طويل القامة وسيما ملتحيا، له سلطة أبوية طاغية في بيته، مثل سلطة السيد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ الخالدة، بين القصرين.
أبقى الجد حفيده جان بول سارتر في المنزل حتى بلغ سن العاشرة. كان يحضر له المدرسين لتعليمه بالمنزل، بدلا من إرساله للمدارس الحكومية التي كانت دون المستوى، واختلاطه بالتلاميذ الأقل ذكاء. علامة أخرى تدل على الأنانية والبرجوازية والهيبوقراطية.
لهذا بقي جان خمس سنوات في المنزل قبل أن يلتحق بالمدرسة، يتلقى تعليما رديئا من مدرسين غير منتظمين، ومحروما من مصاحبة أطفال في مثل سنه. لقد كان شبه المسجون في شقة جده.
حتى حالته الصحية كانت مهملة. إهمال جديه في ملاحظة وعلاج ورم في عينه اليمنى، تسبب في فقده البصر بهذه العين، وأعطاه هذا الشكل المميز المشهور به. مثال آخر من الهيبوقراطية التي تتظاهر بالاهتمام بالآخرين والعطف عليهم، لكنها في الواقع تخفى اللامبالاة والأنانية.
لكن، رب ضارة نافعة. سجن الطفل جان في شقة جده بالدور السادس في أحد أحياء باريس، جعله يعيش في عالم الكتب التي كانت في مكتبة جده. هذه الكتب، كانت الأم تقرأ له القصص والحكايات. الكلمات والصور في هذه الكتب، هي عالمي الذي كنت أود أن أعيشه وأتفاعل معه، كما يقول سارتر.
كان يعرف القراءة منذ سن الثالثة، وبتشجيع من جدته، كان يعتقد أنه طفل موهوب. ثم أخذ الخطوة التالية، وبدأ يؤلف الكتب بنفسه وهو طفل. لكن الجد شارلز، عندما شعر بأن الحفيد يريد أن يصبح كاتبا، أجلس الحفيد جان في حجره وخاطبه مخاطبة رجل لرجل، قائلا بما يفيد، إن الكتابة مهنة لا تغني ولا تشبع من جوع. في هذه اللحظة الحاسمة، قرر سارتر أن يصبح كاتبا، ويأخذ الكتابة مهنته الرئيسية.
لكن سارتر كان يحتقر الأدب التقليدي، والمعلومات التي تعلمها من جده وكتبه، التي لا ترى الأدب سوى وسيلة للتثقف والخلاص وتطهير النفس. في مذكراته "الكلمات"، يقول سارتر بأن هذا ليست وظيفة الأدب. إنه لا يرى الأدب سوى مرآة نرى فيها أنفسنا.
آخر مراحل تعليم سارتر، كانت تشمل أفضل المدارس والجامعات الفرنسية. منها مدرسة المعلمين العليا، وكانت تقبل أوائل خريجي الجامعات. بعد التخرج، رسب سارتر في امتحان اختيار مدرسين للفلسفة. لكنه في المحاولة الثانية، نجح وكان ترتيبه الأول.
جاء الثاني في الترتيب "سيمون بيوفوار". كانا قد تقابلا لتوهما قبل الامتحان في ربيع سنة 1929م. وظلا حبيبين وصديقين وزميلين في الفلسفة والسياسة، منذ ذلك الحين ولمدة تزيد على الخمسين سنة. حتى وفاة سارتر، كانا يرفضان الزواج ويعتبرانها فكرة برجوازية.
سيمون بيوفوار، أثرت العلوم السياسية والفلسفة الوجودية الفرنسية بكتاباتها. التي شملت القصص القصيرة والروايات ودراسات عن المرأة، وعن الشيخوخة، والعديد من المقالات الفلسفية. معظم ما نعرفه عن أفكار سارتر، نجد آثاره في سيرتها الذاتية التي نشرت في أربع مجلدات.
بدأ كلاهما، جان بول سارتر وسيمون بيوفوار، تدريس الفلسفة في الجامعة. سارتر في كلية لي هافر، وسيمون في مارسيليا. في عامي 1933م و1934م، ترك سارتر التدريس، الذي يعتبره سجنا له ولتلاميذه. وحصل على منحة دراسية من المعهد الفرنسي ببرلين. ولم يكن سارتر أو سيمون لهما دراية أو اهتمام بالسياسة في ذلك الوقت. كلاهما كانا يكرهان العالم البرجوازي، وقررا العمل على تحطيمه. لكن عن طريق الأدب والكتابة، لا عن طريق السياسة.
أثناء هذه الفترة، عندما كانت ألمانيا ترزح تحت حكم النازية، تعرف سارتر على الجديد من القضايا الفلسفية المعاصرة، الوجودية والفينومينولوجيا. هذه الأفكار الجديدة، مع الفلسفة الغربية التقليدية، هي مصادر المعرفة التي أمدت جان بول سارتر بما يلزمه، لكي يقوم بأعماله الفلسفية والأدبية.
كان سارتر يفكر جديا في بناء فلسفة جادة، تصلح كدليل وهادي للحياة في هذا العالم المعاصر المليء بالقلاقل والاضطرابات. عن طريق النظر والتأمل في هذا العالم، ومكان الإنسان فيه، وماذا يتطلب لكي نكون بني آدميين.
فإلى من، من الفلاسفة القدامى، يولي سارتر وجهه، ومن منهم يبتعد عنه؟ ابتعد سارتر عن كل الفلاسفة التجريبيين، لوك وهيوم وغيرهم. لأن التجريبيين يقصرون المعرفة على الحواس. المعرفة عندهم، هي ما أراه وأسمعه وأشمه وألمسه.
وإلى من يتجه سارتر الآن؟ من هم الفلاسفة الذين نهل منهم سارتر واشتق أفكاره الغنية عن الفلسفة الوجودية. اتجه أولا إلى ديكارت. أعظم الفلاسفة الفرنسيين المحدثين. تأثير ديكارت على سارتر واضح وجلي. كوجيتو ديكارت الشهير "أنا أفكر، إذن أنا موجود". الفلسفة تبدأ من التأكيد المطلق على الوعي بالنفس. أنا ككائن مفكر، موجود.
ثاني منهل نهل منه سارتر، هو فلسفة الفينومينولوجيا لإدمون هيوسيرل (1859-1938م)، ومارتن هيدجر (1889-1976م). كلمة فينومينولوجيا، مشتقة من كلمة يونانية تعني الظواهر. أي أن هذه الفلسفة تدرس ظواهر الأشياء. لقد درس سارتر هذه الفلسفة الجديدة بتعمق، عندما كان في المعهد الفرنسي ببرلين.
إدمون هيوسيرل، كان مثل ديكارت، أستاذ الرياضيات والفيزياء بجامعة فريبورج بألمانيا من عام 1916م إلى عام 1929م. لقد حاول هيوسيرل جعل الفلسفة شيء مؤكد مثل العلوم الرياضية. (برتراند رسل والفريد ويتهد فيما بعد، حاولا جعل العلوم الرياضية شيئا مؤكدا ولكنهما، بعد 20 عاما من الجهد المتواصل، فشلا فشلا ذريعا. رجاء مراجعة مقالي بعنوان علم الرياضيات ورحلة البحث عن الحقيقة. فهي قصة ممتعة.)
هيوسيرل وديكارت، كلاهما بدأ من "أنا أفكر". لكنهما انفصلا بعد ذلك. ديكارت قال "إذن أنا موجود"، أما هيوسيل، فقد قال "إذن الوعي موجود". الوعي بالطبع بشيء ما. وكان اهتمام هيوسيرل بهذا الشيء الخارجي، الذي يمكن أن أعيه. ويركز على معرفتنا بهذا الشيء.
مارتن هيدجر، الفيلسوف الوجودي الألماني العظيم، كان تلميذا لهيوسيرل ومساعدا له، وخليفته في تدريس الفلسفة في جامعة فريبورج. لكنه يختلف عن هيوسيرل في أن هيدجر يركز على وجود الإنسان نفسه.
وجد سارتر أيضا، أفكارا عديدة في فلسفة هيجل وماركس وكيركجار ونيتشه وداروين. الصراع حتى الموت، والعلاقة بين السيد والعبد، والوعي غير سعيد، وموت الرب، والاغتراب، كلها مفاهيم غير غريبة علينا. جاءت في أعمال هؤلاء الفلاسفة السابقين.
هذه المواد الفلسفية والعلمية مع خبرته الأكاديمية، ساعدت سارتر على بناء صرح الفلسفة الوجودية الفرنسية. قام بتدعيمها بالقصص القصيرة والروايات والمسرحيات والمقالات السياسية. الآن نذهب إلى وجودية سارتر لنرى ماذا يقول.
تعلم سارتر من هيوسيرل، أن الوعي مرجعي، دائما يشير إلى شيء ما خارج نفسه. ثم قسم الوعي إلى قسمين: منعكس، وغير منعكس.
الوعي غير منعكس، هو الوعي المباشر قبل أن يشوبه تفكير أو انعكاسات فلسفية. عندما أقرأ رواية مثلا، يكون بطل الرواية هو موضوع الوعي غير المنعس. وعندما أجري خلف الأوتوبيس للحاق به، يكون الأوتوبيس موضوع الوعي غير المنعكس. الوعي هنا لا يشمل "الأنا" أو النفس. أي لا يشمل الفاعل، وإنما فقط المفعول به.
أما الوعي المنعكس، فهو الوعي الذي ينعكس على نفسه. أي الوعي الذي يعي الوعي. وهنا، كما يقول سارتر، يمكننا اكتشاف النفس أو "الأنا". وهي منطقة عفوية تأتي فيها الأفكار وتذهب حسب مزاجها وإرادتها هي، لا إرادتنا نحن.
هذه العفوية، هي نوع من الحرية المهزوزة حسب تعبير سارتر. التأمل فيها، يقودنا إلى القلق. في الواقع، نحن نجاهد لكي نسيطر على هذه الأفكار العفوية. وعندما نفشل، نصاب بالأمراض العصابية والنفسية. كلام كبير يحتاج إلى شرح.
أخبرنا سارتر بالمرأة التي سبت زوجها ولعنته، لأنه تركها وحدها لكي يذهب إلى عمله. ما الخطأ في ذلك؟ لأنها كانت تخاف، إن تركها زوجها وحدها، أن تذهب إلى النافذة وتقف أمامها عارية مثل المومسات. إنها تعرف أنها حرة لكي تفعل ذلك.
يعتقد سارتر أن هذا يحدث لنا أيضا. كم مرة ذهبنا إلى برج الجزيرة وفكرنا في القفز من أعلاه؟ أو القفز أمام الأوتوبيس أو القطار وهو مسرع. في رواية الغثيان لسارتر، جلس روكنتين بطل الرواية في الحديقة أمام جزع شجرة كبيرة، تطفو جذورها على سطح الأرض في شكل عقد كبيرة تمتد كأنها أذرع أخطبوط.
فجأة، اختفت كل الأفكار في ذهنه. ولم ير الشجرة كشجرة. إنما رأى جذعها أمامه كعقد سوداء مثل العجين، شاهدها كشيء متوحش وكتلة مرعبة من الوجود.
الوجود ليس فقط غير ضروري، لكنه أيضا عبث وسخف وكلام فارغ. لذلك، وجود الإنسان سخف في هذا العالم السخيف. العملية عبارة عن عبث في عبث.
بالرغم من ذلك، الإنسان موجود. الإنسان وجد نفسه في هذا العالم الذي لا معنى له بدون أن يأخذ رأيه أحد. لكن، ما هي العلاقة بين الإنسان وهذا العالم؟
عندما نبحث هذا السؤال، نجد فقط وجود وعدم. عندما أبحث عن صديق لي في المقهى ولا أجده، هذا عدم في صورة حقيقة. عدم وجود الصديق حدث حقيقي، وقع أمامي وقمت بمشاهدته.
نفس الشيء، ماضي الإنسان غير موجود، عبارة عن عدم. أنا في الحاضر، غير أنا في الماضي. وأنا في الحاضر، أختلف عن أنا الذي سيكون في المستقبل. أنا كوجود، خلفي عدم وأمامي عدم. أنا وجود بين عدمين.
القلق يأتي من خوفي ألا أجد نفسي في المستقبل. هذا القلق سببه، اكتشافي أنني كنفس، غير مستقرة وغير ثابتة مع الزمن. النفس هنا، شيء يجب تكوينه وترميمه من لحظة إلى أخرى، أي طول الوقت.
ليس المطلوب فقط بناء النفس، ولكن بناء العالم أيضا. كيف أبني هذا العالم؟ عن طريق منحه قيم. في هذه الحالة، تصبح حريتي هي مقدرتي على الاختيار بين هذه القيم الموضوعة. وحسب رأي سارتر، الحياة تقدر قيمتها، بقدر ما أعطيها من قيم.
لكن اختياري بين هذه القيم، غير مبني على وصايا عشر أو تعاليم دينية أو عادات وتعاليم موروثة. إنما هو اختيار حر. أي مجموعة قيم نختارها بمحض إرادتنا، تكون مثل غيرها من المجموعات الأخرى. هذا يؤدي إلى المزيد من القلق. هنا القلق هو قلق اختيار.
إذا وجدت كتلة كبيرة من الصخر، تسد الطريق وتمنع المرور. هذه حقيقة لا أستطيع تغييرها. لكن لدي الحرية لكي أفسر معنى وجودها. ربما تعني أنها مجرد عائق يجب أن أتخطاه. أو تعني أنني فشلت في مواصلة السير في هذا الطريق. أو يمكن أن أنظر إليها كلوحة فنية تندمج مع الوسط المحيط بها. أو مجرد عينة صخرية تصلح للأغراض العلمية. تفسيرنا للواقع، هو الذي يخلق عالمنا الذي نعيش فيه.
بدلا من مواجهة مسؤولياتنا الناتجة عن حرياتنا في تفسير عالمنا الذي نعيش فيه، يهرب الناس من الحرية والمسؤولية، ويكتفون بلوم الآخرين أو بلوم القدر. إننا أحرار طالما لنا خيارات.
هل فلسفة سارتر، فلسفة تشاؤمية تعكس المأزق الذي يجد فيه الإنسان نفسه في هذا العالم؟ ينفي سارتر هذا بشدة. ويدعي أن فلسفته جعلت كل منا بطلا في حد ذاته.
بالرغم من مواجهة الإنسان للموت وسخف هذا الوجود. إلا أنه اختار أن يخلق قيمه وعالمه. قيمة بعد قيمة. يحملها على أكتافه، مثل سيسيفوس، بطل الأساطير الإغريقية، بدون شكوى، إلى حافة الوجود. ثم يتركها تسقط، لكي يكرر هذا العمل أبد الآبدين.
جاء على لسان ماثيو، أستاذ الفلسفة في رواية "عصر العقلانية" لسارتر ما يبين فلسفته باختصار: "لقد كان حرا، حرا من كل شيء. حرا لكي يتصرف كحيوان، أو كآلة...في استطاعته أن يفعل ما يريد. ولا أحد من حقه أن ينصحه...إنه وحيد وحر، في سكون موحش، بدون عذر. محكوم عليه بالاختيار، محكوم عليه بالحرية إلى الأبد."
في كتاب سارتر "الوجودية مذهب إنساني" جاء ما يلي: "إن الوجودية فلسفة متفائلة، إنها فلسفة تضع الإنسان في مواجهة ذاته. حرا يختار لنفسه ما يشاء. وهذا أمر مزعج، لا يعجب الكثير من الناس."
نظرة الناس للوجودية قد تتعقد، لأننا نجد فلسفتين لا فلسفة واحدة. فهناك الوجوديون المسيحيون وعلى رأسهم "جابريل مارسيل" و"يسبرز"، والاثنان كاثوليكيان مخلصان لدينهما. وهناك الوجوديون الملحدون، على رأسهم "هيدجر" وسارتر والوجوديون الفرنسيون.
لكن الوجوديون عموما، سواء المسيحيون أو الملحدون، يؤمنون جميعا بأن الوجود، سابق على الماهية. أو أن الذاتية تبدأ أولا قبل الخصائص. فما معني هذا الكلام؟
المعروف منذ بداية الفلسفة اليونانية، أن الماهية تسبق الوجود. الماهية هي ما نحصل عليه عندما نقوم بتعريف الشيء. وهي في لغة أفلاطون "المثل" بمعنى الصفة. الصفة أو الصورة أو الوظيفة أو الخصائص...إلخ، كلها أشياء تأتي بعد أن يوجد الشيء أولا.
السكينة مثلا، قد صاغها حرفي، طبقا لفكرة لديه عن السكاكين. طبقا لخبرة سابقة في صنع السكاكين. إذن ماهية السكين، أي مجموع صفاتها وشكلها وتركيبها، كلها سبقت وجودها.
يقول سارتر إن هذا، وفقا للفكر الغربي المعتاد، ينطبق على الإنسان أيضا. الإنسان كانت ماهيته أو صورته في عقل الرب أولا، ثم قام الرب بخلقه. ونحن عندما نفكر في الرب كخالق، نفكر فيه كخالق أعظم. إرادة الرب تسير جنبا إلى جنب مع عملية الخلق.
النظريات الإلحادية، في القرن الثامن عشر، قضت على فكرة الرب فلسفيا. لكنها أبقت على فكرة، "الماهية تسبق الوجود". وظلت هذه الفكرة موجودة عند ديدرو وفولتير وكانط. الإنسان له طبيعة بشرية هي ما يصاغ عليه الإنسان. وهي التي تجعلنا نشترك في نفس الصفات.
لكن الوجودية الملحدة، والتي يمثلها سارتر، تعلن بوضوح وجلاء تامين، أن الرب لم يكن موجودا عندما خلق الإنسان. الإنسان وجد قبل أن تتضح معالمه وتتبين صفاته. وهذا ما يقوله شارل دارون بالنسبة للإنسان، وبالنسبة لكل الكائنات. فهي ليست لها صورة مسبقة، وإنما وجدت بالصدفة. لذلك كما يقول هيدجر، الواقع الإنساني هو الذي يحدد ماهيته. أي أن الوجود سابق على الماهية.
ماذا نعني بأن الوجود سابق على الماهية؟ هذا يعني أن الإنسان يوجد أولا، ثم يتعرف إلى نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي. فتكون له صفاته، ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده وتحدد قيمه.
إن لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة، فذلك لأنه قد بدأ من الصفر مثل السبورة الممسوحة أو برواز الصورة الفارغ. وهو لن يكون شيئا إلا بعد ذلك. لن يكون سوى ما قدره هو لنفسه. الإنسان مشروع يمتلك حياة ذاتية لها كرامة. وليس جلمود صخر أو شيء مثل الطحالب.
الإنسان مسئول عن نفسه. ومسئول عن كل الناس، كما يقول سارتر. الإنسان حر، لكنه لا يستطيع أن يتجاوز ذاتيته الإنسانية. إذا اختار الإنسان لنفسه، يختار لكل الناس. وعندما أقوم بتزوير الانتخابات، أطلب من كل الناس أن تفعل نفس الشيء، بذلك، نعيش في عالم مزور كله غش وخداع.
عملية اختيار الإنسان لنفسه، تؤثر في كل الناس من ناحية، وتساهم في خلق الإنسان كما نتصوره وكما نظن أنه يجب أن يكون. كأنما نقول لكل الناس، اختاروا كما اخترنا. وإذا قررت التدين والخضوع إلى المشيئة. فعملك هذا هو إلزام لكل البشرية أن تفعل نفس الشيء.
القلق الذي يكابده الوجوديون، هو قلق المسئولية. المسئولية تجاه الآخرين. لا يمثل حاجزا يفصلهم عن العمل، وإنما جزء من العمل وشرط لقيامه. الإلحاد عند الوجوديين الملحدين، لا يترتب عليه هدم للقيم. لأن القيم الخلقية باقية ولازمة للفكر الوجودي الملحد.
الوجودية كما يقول سارتر، ليست فلسفة تأمل وسكون. لأنها تحدد الإنسان طبقا لما يفعله. وليست فلسفة متشائمة، لأنها تضع مصير الإنسان بين يديه. بذلك تكون أكثر الفلسفات تفاؤلا. هي تدفع الإنسان للعمل، وترى أنه لا خلاص ولا أمل إلا في العمل. العمل هو سبب استمرار الحياة. الوجودية عند سارتر، هي فلسفة أخلاق وعمل والتزام.