الخميس ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم جورج سلوم

سرقات أدبية..!!

وكنّا نسرقُ الحبَّ سرقة..

وكنتُ عندها كاللصّ الظريف يدخل إليها من النافذة التي تتركها مفتوحةً قصداً..وكانت سيّدة الموقف لأنّها قادرةٌ على إنهاء الحبّ بمجرّد أن تومئ لي بأنّ زوجها سيأتي الآن..وكنت أعرف بأنه لن يأتي ومع ذلك كنت أهرب وألوذ بالفرار..راضياً بما سرقتُه من جعبتها!

كانت سعيدةً بأنها قائدة الجلسة تفتتحها عندما تريد وتنهيها بحركةٍ من يدها..أو تقطيبةٍ من حاجبيها بمعنى كفى..فنكفّ عمّا نحن به وكأنّما انقطعت الكهرباء عن أجهزتنا

وكنت مُجبَراً أن أقبّلها بعيون مفتوحة بينما تبقى عيناها مغمضتين كعلامة للاسترسال في الحب.. لأنّ ارتجاف أجفانها فقط يعني نهاية القبلة.. وانسحاب أصابعها وانقلابها من الاسترخاء للتشنّج يعني أن هناك حدٌّ ما تمّ تجاوزه..والخطوط الحمراء عندها مطّاطة ومرتبطة بأهوائها، كشرطيّ المرور في بلادنا يعفّ عنك أحياناً لو تجاوزت إشارته الحمراء، ويطلق صافرته أحياناً عليك ولو كانت أنوارك خضراء..فتبقى تحت رحمة مزاجه المتقلّب.

قالت لي على الهاتف:

 أين أنت الآن ؟..سآتي أنا إليك بين التاسعة والعاشرة

ولا تنتظر جواباً أو اعتذاراً.. وتثق في نفسها بأنّه مرحّبٌ بها دوماً..وبأنني يجب أن أتركَ ما لي وما عليّ من أجل موعدها الذي ضرَبَته لوحدها ولا رأيَ للشريك المنصاع والمطياع أبداً..
وفعلاً خرجتُ من عملي الوظيفيّ بإجازةٍ ساعيّة..وتذرّعت لربِّ العمل بأنّ أمراً ما جلل يجبرني على التواجد في البيت لمدّة ساعة فقط وسأعود..

وتركتُ باب شقتي مفتوحاً لتسهيل الدخول للصّ الذي يصعد الدرج بلا صوت ويدخل على رؤوس أصابعه، ولا يقرع باباً..يدخل ويقفل الباب خلفه ليسرق ما يمكن سرقته ويخرج من الباب نفسه ولا يحمل معه شيئاً ممّا سرقه..بل قد يكون أعطى لصاحب البيت شيئاً على سبيل الصدَقة..أو فتح له جعبته لمدة ساعة ليسرق من محرّماته ما طاب له وما تيسّر في عجالة الموقف وحمأته.

كلانا سارقان يا امرأة..وكلانا لصوص نسرق وقتنا ونسرق بعضنا مما لا نملك..وقد يكون المسروق هو زوجك المسكين لأننا نلعب بخاصّته ونتلاعب بها ونعيث بها فساداً..كلانا خائفان متخفّيان يا صديقتي، حذران من بابٍ يُطرَق فجأة أو عينٍ ترى أو لسانٍ يفضح وكانت تبرّر فعلتها قائلة:

 نحن لا نسرقه..بل هو الذي يسرقك لأنني أنا لك، وهو متطفّلٌ عليك..أنا شجرة مثمرة لا أعترف بصاحب الحقل كمالكٍ لي وسيّدٍ عليّ ولو كنت في أرضه..أنا ملكٌ للعصافير الطيّارة من حولي..تلك التي تتناولني من فوق السياج..ولن يستطيع المزارع منع العصافير من الإتيان عليّ..والتغريد فوق غصوني المورقة ولا ارتشاف رحيق أزهاري الملوّنة ولا النقر من تفاحاتي الشهيّة

وقلت لها:

 نعم..ولكنّ العصفور قد يقع في شبكة الصياد فينتف ريشه..أو قد ترديه بندقيةٌ تكمُن له..
 فليكن..وليدفع العصفور ثمن لذّاته المسروقة، ولن تُتّهَمَ الشجرة بأنها مكّنت عصفوراً طائشاً من امتطائها..وستبقى مغروسة في حقل صاحبها شمّاءَ يسقيها من عرقه ويعتزُّ بها ويعتقد بأنه يحمي حياضها من وطء العابرين..وينسى الدبابير التي تحوم حولها والعصافير التي تنام بحضنها وتنقرها.

عندما استراحَتْ مستندةً إلى صدري تجترّ لهاثها الحار وتستمتع بإيقاع قلبي المرتجف والواجف..قالت:

 والشجرة المثمرة قد تستلذّ بمنح عطائها لعصفورٍ طيّار لأنه خفيف الظلّ.. وتحجب لذائذها عن مزارعٍ يمتطي غصونها شرعاً كالوحش ويهزّها في ليالي الحصاد، ويحصي محصوله فإن لم يعجبه عاقبها وقد يقتطعها

 وأنا كلما ذقتُ ثمارَكِ ازداد هيامي بها وشوقي إليها وشغفي بها..وأرى في كلّ يوم طعماً جديداً فلا أملّها ولا أشبع من عصارتها

ودقائق الحبّ المستعجل لها نهاية سريعة، وعندما تقرّر الخروج من عندي لابدّ لي من أن أستكشف الشارع من نافذتي والدرجات الذي ستنزل عليها.. وعندما أعطيها الأمان تخرج بلا حيف ولا وجل..وكأنّها ما فعلت شيئاً.. ولا أدري ما مصدر الخوف الذي ينتابني لساعاتٍ بعدها..أخائفٌ منها أم عليها ؟..أم خائفٌ من ذنبٍ اقترفته ؟

حتى أنني أحلف على نفسي بألا أنجرف إليها ثانية..وأقسم..ولكنني سرعان ما أحنث بقسمي

لم لا تخاف ولا تخجل تلك المرأة ويظلّ رأسها مرفوعاً بينما أطأطئ لها رأسي وأرفع لها قبّعتي وأخفض لها جناح الذل ؟

ويلي من عيونها الآمرة والناهية..وتبّاً لعيوني الخجلة الهيّابة كلّما التقت بعينيها!

وبين الفينة والأخرى تبرّر فِعالَها قائلة:

 وماذا يخسر زوجي من لقائي بك ؟..ها أنا كما أنا ولم أنقص وزناً ممّا تسرقه مني..ولم تتعطّل فيّ قطعة أو آلة ممّا يعتمل في جسدي..وسأبقى معه كما يريد ويهوى عندما يريدني..بل على العكس أعطيه ما يبتغيه بكامل الرّضى والقبول،وهل تمنّعت شجرة على زارعها ؟
فأقول مستغرباً:

 طيّب..ولو علمتِ يوماً بأنّ زوجك يسرقكِ مع امرأة أخرى ؟

أجابت بعد تفكير:
 لن أفعل شيئاً
قلت:
 ولو تطوّر الأمر به إلى تجاهلكِ وإهمالك؟!
أجابت بلا تردّد:

 لن يستطيع ذلك..عندها سأبحث عن التي يشركني بها ويفضّلها عليّ ولو وجدتها أجمل مني سأبرّر له فعلته وأطبطب على قفاه وأقول له أحسنت الاختيار..لكن ثق بأنّ ذلك لن يحدث
 حسناً..ولو جئتِ إليّ ووجدتِ سيدةً أخرى عندي تسرقكِ وتسرق خاصّتها وأسرقها ونتسارق الحبَّ خلسة..ونمارس السرقة كالعصافير خارج أعشاش الزوجية؟

 فليكن أيها العصفور الطيّار..ولن يمنعك أحد من الطيران طالما خلقك الله بجناحين..طِرْ أينما تريد وحيثما تهوى ونقّل فؤادك من عشٍّ إلى عشّ، ولكن عُدْ إليّ عندما أدعوك متلهّفاً ملهوفاً

قلت:

 لا أرى مبرّراً للسرقات التي نقوم بها مهما برّرتِ وجمّلتِ واختلقتِ من الأعذار..فالسرقة غير مشروعة ونهايتها سوداء كنهاية أيّ لص مهما تأخّرت خاتمته

قالت مبتسمة:

 ما نقوم به ليس إلا سرقات أدبيّة..كالشعراء يستعيرون أبياتاً وأفكاراً من بعضهم يضمّنونها في قصائدهم ولا ضير من ذلك ما داموا لا ينشرونها على الملأ باسمهم..وحقوق النشر مازالت محفوظة!

وبعد سنتين من السرقات (الأدبية) طلّقها زوجها بناءً على رغبتها.. وجاءتني يومها بلا موعد ولا استئذان..قالت:

 أصبحتُ طليقة..ككتابٍ مفتوح بلا عنوان..وبلا مؤلّف يمهرني باسمه..لا بل وبلا غلافٍ قاسٍ يأتمر بأمر دار النشر..وحقوق النشر والطبع والنحل غير محفوظة..قصقص الآن من أوراقي ما شئت..بعثرها..اسرق من يوميّاتي وقصصي القصيرة سرقاتك الأدبية وضمّنها في مؤلّفاتك ومذكراتك..اكتب عليها بأحبارك..وإن شئت ضع اسمك في خاتمتها فهي وصاحبتها لك..إن شئت فلتكتب كتابك عليّ اليوم وليس غداً.

لا أدري لماذا عافت نفسي يومها سرقاتي الأدبية من تلك الشاعرة .. واستنسر عصفوري فوق غصونها لأول مرّة ورآها خفيضةً عليه..وما عادت تروقه تفاحاتها، وما اشتهى النسر تفاحة من شجرة مهما مالت بغصونها إليه، ولا زهرة مهما تلوّنت وفاح عطرها..يومها ارتقى النسر إلى عليائه وطار عنها يبحث عن عصفورة جديدة يسترقها من عشّها بالأدب أو بقلّة الأدب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى