السبت ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦

سكوت.. يوسف شاهين.. 80 عاما من الجنون

اختلف معه ما شئت فلن يغضب لأنه يعشق الاختلاف ويراه حقا بشريا لكل الناس، ولكنك لن تستطيع تجاهل موهبته أو رؤيته كفنان أو مشواره في عالم الإخراج السينمائي على مدى اكثر من 60 عاما، انه المخرج يوسف شاهين الذي يحتفل هذا العام بعيد ميلاده الثمانين الذي يوافق يوم أمس السادس والعشرين من يناير(كانون الاول)، ورغم هذه السنوات ما زال شاهين فنانا يحلق في الفضاء بأجنحة شاب في الثمانين من عمره.

أسفرت تجربة شاهين الفنية على مدار 60 عاما عن 40 فيلما روائيا وأربعة أفلام تسجيلية عكست موقفه من الحياة والوطن والبشر، واستطاع خلالها أن يحافظ على قدرته على التنفس الفني ليسبح خارج السياق حينا وبعيدا عن السياق في معظم الأحيان.

ولد يوسف شاهين في 26 يناير 1926 بمدينة الإسكندرية لأسرة مسيحية تعود جذورها إلى لبنان، ورغم بساطة حال هذه الأسرة إلا أنها سعت لإلحاق ابنها بمدارس الأثرياء فتم إلحاقه بمدرسة «فيكتوريا كولدج» وتمكن شاهين من إتقان اللغتين الإنجليزية والفرنسية في سن مبكر، مما ساعده على الاتصال بالثقافة الغربية، والاحتكاك بشكل شخصي بالثقافة الشعبية المصرية وأيضا الاتصال بالثقافة العربية والإسلامية كل هذه الثقافات أثرت بشكل مباشر على وجدان شاهين وأفلامه.

وبعد أن أنهى شاهين دراسته في «فيكتوريا كولدج» التحق بجامعة الإسكندرية، لكنه سرعان ما قطع عامه الدراسي الأول ليطير إلى الولايات المتحدة الأميركية لدراسة التمثيل والإخراج في «لوس أنجليس» وكان ذلك عام 1946، وبعد أن درس التمثيل والإخراج لمدة عامين تلقى العديد من العروض للبقاء في الولايات المتحدة الأميركية للتدريس في معاهدها وجامعاتها، ولكنه قرر العودة للوطن عام 1948.

مشروع شاهين: كان شاهين يخطط لنفسه أن يصبح ممثلا لا مخرجا وافتقاده للعديد من سمات نجوم ذلك العصر من الوسامة والتكوين الجسدي، كان السبب في تغيير مساره ليصبح واحدا من عظماء فن الإخراج، في الوطن العربي وكان أول أفلامه «بابا أمين» عام 1950.

وفي عام 1951 قدم شاهين «ابن النيل» الذي يروي فيه حكاية الفلاح الذي يهجر زوجته وعائلته وأرضه وقريته ويذهب إلى المدينة بحثا عن المغامرات والمجهول؛ وعن هذا الفيلم يقول يوسف شاهين «لقد نبعت فكرة الفيلم من تذمري الشديد من الأحلام البرجوازية لعائلتي التي كانت ترى أن ابناء الطبقة البرجوازية الكبيرة هم خيرة الناس، حادث بسيط وعابر افهمني أن ابناء الطبقة البرجوازية هؤلاء ليسوا خيرة الناس، كنت وقتها في الثامنة من عمري حين ذهبنا في رحلة صيد مع بعض عائلات الطبقة البرجوازية، هيأنا أنفسنا واستيقظنا في الرابعة صباحا ووصلنا في الثامنة لمكان العين، قلت لأمي إني جائع، فأجابتني انني قليل الأدب لأنني جائع كيف أجوع وهم لم يحضروا بعد الفطور، فمشيت وابتعدت عن المكان وشممت رائحة خبز ورأيت بدوية تخبز فوقفت أمامها وكأنها فهمت وقرأت عيني، تركت الرغيف الذي كانت تخبزه وراحت إلى الخيمة وفتحت صندوقا لم تجد فيه شيئا فذهبت إلى جارتها وأحضرت منها قطعة جبن ووضعتها في الرغيف وأعطتني إياه» لم أنس هذه الحادثة قط وهي التي فجرت «ابن النيل» كانوا يحتقرون الفلاح ويصفونه بأبشع الصفات، «اكتشفت إنسانية الفلاح». ويظل حلم الممثل يلح عليه فيخرج علينا في «باب الحديد» ممثلا رائعا عام 1958 مع هند رستم في سيناريو لعبد الحي أديب، وحوار محمد أبو سيف يظهر في شخصية «قناوي» مهوسا ببائعة المرطبات «هنومة» المجنون بها لدرجة الاستعداد للموت معها، ويحصد الإعجاب بأدائه التمثيلي في هذا الفيلم ويطرح أول علامات الاستفهام، هل كان شاهين يمثل دور «قناوي» أم يمثل دوره هو شخصيا «كفنان» يغازله التمثيل بين الحين والآخر.

ويوغل شاهين في غابات أحلامه المتوحشة ليظهر كممثل في فيلم «فجر يوم جديد» عام 1964، وفيلم «إسكندرية ليه» و«اليوم السادس» و«إسكندرية كمان وكمان» إنه يصر على أن يكون في الفيلم ممثلا مشاركا وبطلا في الخيال.

أفلام ذاتية جدا: وبعد أفلام «بابا أمين 49/1950، وابن النيل 51، وسيدة القطار52، ونساء بلا رجال 53» ثبت يوسف شاهين أقدامه في السينما بفيلمه «صراع في الوادي» عام 1954 وباب الحديد عام 1958 والأخير يؤرخ له كواحد من أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، لكن القفزة الأولى الكبرى لشاهين أتت عام 1963 بفيلم «الناصر صلاح الدين» الذي رشحه لإخراجه المخرج الراحل عز الدين ذو الفقار، وهو الفيلم الذي قال عنه «كان فيلما قويا كنت أمشي في الشوارع وأجد الأفيشات (الناصر) الناصر وبس ولا صلاح الدين ولا شاهين حتى بقي فيلم عن جمال عبد الناصر».

في عام 1965 سافر شاهين إلى لبنان لمدة عام ونصف العام، أما لماذا سافر؟ فيجيب عن هذا السؤال قائلا «شعرت بالرعب مما يحدث حولى وداخلي» ثم يصمت ويقول «سافرت مضطرا!».

وفي بيروت يخرج شاهين فيلمين هما «بياع الخواتم» عام 1965 و«رمال من ذهب» عام 1966، ثم يلتقي بالكاتب محمد حسنين هيكل الذي يقول له «ارجع الريس عاوزك»، ويعود شاهين الذي كان يمتلك سيارة ومنزلا في لبنان إلى القاهرة ليبقى من دون منزل أو سيارة ولا يملك أحيانا سوى عشرة جنيهات.

وما كاد شاهين يعود إلى مصر حتى زلزلته صدمة هزيمة يونيو 1967، وبدأ يتساءل أين الخلل؟ وكيف ولماذا هذا الانهيار ومن انهزم؟ وحاول شاهين الحصول على إجابات عن هذه التساؤلات في أفلامه الجديدة فكان فيلم «الأرض» 1969، «الاختيار» 1970 و«العصفور» 1973.

وانطلقت ردود فعل شاهين تجاه الهزيمة من تأمل عميق للواقع الاجتماعي المصري ومن تحليل هادئ للبنيان الذي قامت عليه الايديولوجيا السائدة ومن نظرة ثاقبة إلى العوامل التي أدت إلى انهيار البنيان وسقوط مؤسساته وإلى الهزيمة، انها هزيمة طبقة بكاملها وهزيمة للمشروع الحضاري لهذه الطبقة التي سمحت للفساد أن ينتشر وانفردت بالسلطة وفضلت مصالحها الضيقة على مصالح الشعب ومستقبله.

وفي عام 1977 تعرض شاهين لخطر الموت واحتاج لجراحة سريعة ودقيقة في القلب، وقتها بدأ يواجه حقيقة نفسه ويعيد اكتشافها. ومن هنا جاء فيلم «إسكندرية ليه» 1978، ويواصل شاهين رحلة الحساب والاكتشاف معا لنفسه في فيلم «حدوتة مصرية» 1982 الذي أخذه شاهين عن فكرة للكاتب الراحل يوسف ادريس وكتب السيناريو بنفسه ليستعرض طفولته ويخضع لمحاكمة شاملة يقيمها الطفل الكامن في أعماقه، في المحاكمة تكتشف والدته وزوجته وشقيقته أحلامه في غزو هوليوود والمهرجانات العالمية. وتتواصل رؤيته لذاته في «إسكندرية ليه- إسكندرية كمان وكمان- ثم المهاجر- ثم المصير- والآخر».

وطوال مشوار يوسف شاهين السينمائي كان يبحث عن المعادلة الاقتصادية التي تحرره من أي قيود على إبداعه فجرب مع بداياته مطلع الخمسينات الإنتاج المصري الخالص في «أفلام صراع في الوادي- ابن النيل- باب الحديد» ومع سيطرة الدولة على الإنتاج السينمائي ووجد بالخريطة بأفلام مثل «الأرض»، ثم أوقفت الدولة الإنتاج ليتجه هو في السبعينات ويطير خارج السرب إلى الدول العربية ليقدم إنتاجا مشتركا عربيا مثل «العصفور» مع الجزائر، ثم يضيق الحال بالرؤية السياسية العربية ليتطلع في الثمانينات إلى الغرب وتحديدا إلى فرنسا فيقدم أفلام «اليوم السادس» وغيره ثم في نهاية التسعينات يقدم مع وزارة الإعلام المصرية إنتاجا مشتركا معها هي وفرنسا من خلال شركته فتأتي أفلام «الآخر» ثم «سكوت هنصور» و«إسكندرية نيويورك».

قضايا واتهامات: في كل فيلم قضية وفي كل ندوة اتهام، هذا هو يوسف شاهين والاتهامات التي وجهت إليه جاءت في علاقته بالغرب، حيث أنها علاقة متهمة بالتبعية أحيانا والعمالة أحيانا أخرى ويستند المتهمون إلى العلاقة «التمويلية» بفرنسا ثم انتمائه الواضح إلى الفرانكفونية التي تحول إلى واحد من أبرز رموزها في العالم العربي.

وقد أتهم شاهين في فيلم «إسكندرية ليه» عام 1978 حين قدم الفيلم الذي كتبه محسن زايد وقدم فيه فريد شوقي ونجلاء فتحي شخصيتين يهوديتين لأب وابنته، وفي فيلم «الاختيار» عام 1970 يقف ليقاتل من أجل أفكاره، انه البطل أو يوسف شاهين نفسه ويواجه الانفصام الحاد في شخصيته كمثقف يحمل بداخله الهزيمة والانكسار.

ويوسف شاهين الذي تلقى حكم وقف عرض فيلمه «المهاجر» ومصادرة نسخة أثناء وضع اللمسات النهائية لفيلم «المصير» في 11 سبتمبر 1995 لم يندهش ولم يتوقف عن المعارضة حتى في لجان التحكيم التي دعى إليها في المهرجانات الدولية، حيث دعى كعضو لجنة تحكيم في أحد المهرجانات واكتشف أن معه في اللجنة الإسرائيلي «مناحم جولان» الذي يفخر بأنه ضرب مصر في العدوان الثلاثي عام 1956 فرفض شاهين الذهاب لأسباب قال انها مرضية ولكنهم عرفوا السبب فاستبعدوا الإسرائيلي جولان الذي رفع قضية ضمن هذا المهرجان فيما بعد وكسبها.

وفاز يوسف شاهين بجائزة الدولة التقديرية في مصر وكرمه الرئيس جمال عبد الناصر ثم السادات، وقد كرمته العديد من مهرجانات العالم، لكن جائزة مهرجان «كان» السينمائية التي منحت له بمناسبة مرور خمسين عاما على بدء المهرجان، كان لها مذاقها الخاص لديه، حيث لم يحصل عليها سوى ثلاثة مخرجين في العالم كله كان هو أحدهم.

عن الشرق الأوسط


مشاركة منتدى

  • عنوان جميل لشخص مبدع.... لكن مع هذا الجنون هناك شخص يحمل مبدأ سامي ويمشي عليه ولا يحيد عنه له شخصية معقدة بتركيبة فريدة حقيقةً ويتضح ذلك جلياً في تعقّد تركيبة أفلامه حيث يغلب على معظم أفلامه صعوبةالاستيعاب لموضوع الفيلم ولم شمل أجزائه أي التشتت يعني معظم أفلامه للنخبة فقط بالرغم من حمله لآلام الناس والاحساس بهم ومحبته لهم لم يستطع أن يخرج لهم الا عدد قليل جداَ من الأفلام التي يجدون أنفسهم خلالها علماً أنه لم يتخل عنهم في أفلامه أبداً كنت أتمنى عليه أن يخرج أفلاماً يستطيع هؤلاء الناس أن يفهموها وتكون متنفساً لهم...يوسف شاهين شخصية جديرة بالاحترام والتقديرو تستحق الكتابة عنها والغوص في معالمها...أطال الله في عمره وزاد في عطائه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى