الاثنين ٥ آب (أغسطس) ٢٠١٩
أسطورة الشخصية الخيميائية ..

سيميائية صوفية! الخيميائي لــباولو كويلو (أنموذجاً)

مريم الناصري

زاوية تساؤل/رؤية تعريفيّة..

إنّ القارئ الفطن الجوّال في عتبات النص الخيميائي الباحث عن أسطورة بطله (الراعي الأندلسي)، سيدرك إلَامَ يرمي باولو كويلو في الخيميائي؟، هل كيفية البحث عن أسطورتنا الشخصية مبتغاه؟، أم ما السبل التي تجعل كلّ واحد منا خيميائياً من دون أن يأخذ درساً واحداً في الكيمياء؟, لا سيما إذا لاحظنا أنّ (الخيمياء) كانت تُعرف قديماً عند العرب بأنّها (الكيمياء) التي تحوّل المعادن الرخيصة إلى الثمينة كالرصاص إلى الذهب مثلاً وكذا؛ فما بين (الكيميائي) الذي يعرف أسرار المعادن الصلبة والسائلة، و(السيميائي) الذي يفسّر لغة الإشارات ويفهم سر كلّ أيقونة وجودية حين تمدّه بإشارة ما؛ لينتج لنا باولو كويلو التركيبة الخيميائية أو بالأحرى سبيكته الإبداعية (الخيميائي (التي يفيد منها في التحرّي عن قدرات فتاه الحالم بالتجوال، فيمكننا أنْ نعرّف الخيميائي بأنّه: هو المتأمّل الذي يفكّك تركيبة الإشارات الوجودية بعقلنة الكيميائي, ويحلّلها بفطرة قلب الصوفي وتأملاته المستمرة للأشياء مهما صغر أثر وجودها.

ويبيّن لنا د.علي زيعور التقارب والتماهي بين التصوّف والكيمياء بقوله: ((إنّ التداخل والتفاعل المستمر بين التصوّف وعلم الصنعة أو الكيمياء, الذي كان مكتفياً بالسحر والتقديس, إنّ علم الصنعة علم من عند الله, وصنعة شريفة بل هو أفضل صنعة على الأطلاق, يسعى إلى تحويل المعدن الخسيس إلى ذهب ورفع العادي إلى الشريف؛ يسلب خواصاً ويقيم خواصاً جديدة فاضلة, كاملة, سامية,...))[1].

والسيمياء في بُعدها الإنساني هي ((هي محاولة لتسجيل الحب الإنساني في قلب الأشياء, أكثر من كونها وصفاً للظواهر الموضوعية))[2]؛ فما دمنا نبحث في سيميائية اللغة الخيميائية، نجد أنّ صلة الربط ذات علاقة وطيدة بتعريف دي سوسير للغة بأنّها: ((نسق سيميائي يقوم على اعتباطية العلاقات ولا قيمة للأجزاء إلاّ ضمن الكلّ))[3]. فإذا كانت اللغة لا تكتمل قيمتها إلاّ ضمن دائرة نصها المكتوب أو المنطوق (الخطابي)، فالقارئ أيضاً ملتزم بهذا القيد الكلّي، إذ لا قيمة هادفة للنص ومتعة مرافقة له، إلاّ ضمن مكوناته الكُلّية التي تشكّل بنياته السردية وتبلور حكايته؛ وباولو في جوهر فكرته دائم الحثِّ لبطله، ليجعل منه خيميائياً ضمن العالم الذي يعيش فيه وما يحيط حوله أو مثلما يسميه بـ (روح العالم / اللغة الكونية)، وأن لا يهمل تفصيلاً واحداً يكون دليله، فالكون عبارة عن لغة من الإشارات، واللغة نظاماً من الإشارات، فأيّ سرِّ يجمع بين المحكي و لغته؟.

و إذا علمنا أنّ أحداث الرواية (الخيميائي) لباولو كويلو[4]، تدور حول راعِ أندلسي هو الفتى (سانتياغو) الذي يرعى نعاجه في مراعي إسبانيا، وكان يحب التجوال في المدن بعيداً عن قريته التي نشأ فيها، وخلال تجواله كان يبيع الصوف كلّما دعته الحاجة إلى المال، لم يكن له صديق يرافقه ويحدثه سوى كتبه و نعاجه ونفسه التي دائماً ما تقاطع حواراته معهما، وعلى الرغم من كونه فلاحاً بسيطاً إلاّ أنّ والداه إهتمّا بتعليمه فدرس اللاتينية والإسبانية واللاهوت، فكانا يطمحان بأن يجعلا منه كاهناً إلاّ أنّه كان يحلم بالسفر والتجوال في مدن العالم بحرية ليخبر الحياة يفوق ما يدركانه له، فتحقق حلمه بالسفر الذي يمثل الخطوة الأولى في اقتفاء أثر أسطورته الشخصية.

 قراءة في الرواية (وقفات و تعقيبات):

في إهدائه يقول باولو:《 إلى ج. الخيميائي الذي يعرف أسرار الإنجاز العظيم ويستخدمها 》ص5 ؛ يستوقفك إهدائه الضّاج بأسئلةٍ؛ عن أيّهم يتحدث، وما سرِّه العظيم، وكيفية التوظيف لهذا المنجز العظيم في مسار حياة الخيميائي؟. وحين نكمل أحداث الرواية نجد أنّ أول ليلة من سفره قضاها الراعي (سانتياغو) في باحة كنسية مهجورة فيها شجرة جميز ضخمة قرب الغرفة الملحقة بالمذبح التي تكون موضع كنزه بعد عودته من رحلته الطويلة المليئة بالإشارات من مصر إلى أسبانيا، راوده ذات الحلم الذي راوده قبل أسبوع ؛ بأنّ طفلاً كان يلهو مع نعاجه طلب منه بعدما أمسك بيده وقاده إلى أهرامات مصر، قائلاً له إذا جئت إلى هنا ستجد كنزاً مخبوءاً وقبل أنْ يحدد المكان له يفيق من الحلم؛ إذ روى حلمه إلى غجرية -تذكر أنّها تفسر الأحلام في طريقه إلى مدينة طريفا-، قائلةً له بإنّ حلمه جاء بلغة العالمين وأجد صعوبة بالغة في تفسيره على الرغم من بساطته-(( إنّ الأشياء البسيطة هي الأكثر غرابة، والعلماء وحدهم يستطيعون إدراكها)) ص31-، ومادام أراك إيّاه طفلاً فأنّه موجود فعلاً، إذ شرطت عليه قبل تفسيره كونه لا يملك مالاً بأنْ يُعطيها عشر الكنز وقد أقسم على ذلك. وعندما وصل مدينة (طريفا) من أجل جز الصوف وبيعه لأحد تجارها هناك، إلتقاه شيخ كبير، إسمه (الملك ملكي صادق) الذي يصدّق له الحلم عن الكنز المخبوء، وأنّ عليه السعي وراء تحقيق أسطورته الشخصية، في البدء لم يشأ تصديقه لكن بعدما كشف له عن تفاصيل حياته منذ طفولته أدرك مصداق كلماته له، وأيضاً شرط مقابل أن يدله على الطريق بأن يعطيه عشر نعاجه (ستة خراف)، لم يوافق الراعي في البدء على هكذا مجازفة، وصراع إجتاحه بأن يمضي وراء ضوء الإشارات التي تدله على طريق حلمه أم لا؟!، لكن تذكيره بأسطورته الشخصية وبأنّه عليه إنجازها، حافزاً ليؤمن بحلمه أكثر، ورغبته التي تولد من روح الكون، إذ ((إنّ روح الكون تغتذي بسعادة البشر، أو بشقائهم ورغباتهم وحسدهم. إنّ إنجاز الأسطورة الشخصية هو الواجب الوحيد المفروض على البشر. ليس الكل سوى شيء، وعندما ترغب في شيء ما فإنّ الكون بأسره يطاوعك على القيام بتحقيق رغبتك)) 37-38.

 يوافق الراعي ويمضي نحو تحقيق حلمه، متذكّراً ما قاله ملكي، بأنْ ((لا تنسَ، ليس الكل إلاّ واحداً، ولا تنس لغة الإشارات، ولا تنسَ خصوصاً الذهاب إلى نهاية أسطورتك الشخصية)) ص45؛ لكن قبل سفره نحو أفريقيا لبلوغ صحراء مصر ليرى الأهرامات يتعرض للسرقة، مما يجعله يؤجل حلمه لمدة عام يعمل في مدينة طنجة في محلٍّ للبلور (كريستال) ليجمع مال تذكرة السفر، تعلم الكثير في هذا المحل، كسب لغة جديدة العربية، وبعد عام يسافر مع إحدى القوافل نحو الفيوم (مصر)، وأثناء رحلته يلتقي الإنكليزي الساعي خلف أسطورته الشخصية على ما يبدو، باحثاً عن خيميائي في الصحراء العربية، ليعلمه أسرار الخيمياء وإنجازها العظيم، يصبح رفيقه أثناء رحلة القافلة، لا سيما أنهما يتكلمان ذات اللغة الإسبانية، لا يترك الراعي كتاباً واحداً من كتب الإنكليزي إلاّ وقرأه التي تتحدث عن الخيمياء وخفاياها، محاولة منه لتعلم فكّ رموزها ورسومها الغامضة، سعياً خلف الذهب المتحوّل بفعل جزء صغير من حجر الفلاسفة؛ فالرحلة لم تكن استكشافية وإنّما كانت معرفية أيضاً, إذ لا معرفة من دون تجربة تحققها ولا تجربة من دون معرفة تنتجها.

 الإنجاز العظيم / الإنسان بوصفه وجوداً منجزاً.

ينطلق باولو من فكرة روح العالم ليعرّف لنا عن ماهية الإنجاز العظيم في الخيمياء الكيميائية، فروح العالم ((يمثل اللغة التي تتوصل بفضلها الأشياء، أنّ هذا الاكتشاف هو الذي أطلقوا عليه اسم الإنجاز العظيم، المكون من جزء سائل و جزء صلب)) ص97، يسمى الجزء السائل ب(إكسير الحياة) وهو لا يقتصر على شفاء الأمراض وإنّما يمنع الخيميائي من أن يهرم - تكاد تقترب فكرته من سر الخلود-، وأما الجزء الصلب منه مشهور بـ (حجر الفلاسفة) الذي له قدرة خارقة على تحويل كميات كبيرة من المعادن الرخيصة ذهباً. وهذا ما تساءل عنه (د.علي زيعور): ((ما التصوّف أزاء الكيمياء؟ إنّه تحويل البدن, وتحويل الإنساني العادي إلى أشرف وأسمى وأنبل,..., وهو أرفع علم))[5].

والإنجاز العظيم في الوجود الذي يمثل إكتماله (الإنسان)؛ من هذا المبدأ يفلسف أفكاره باولو كويلو ويجعلها قابلة للصياغة وفقاً لقدرة الإنسان وسعيه الدؤوب خلف أحلامه ورغباته، محققاً أسطورته الشخصية (سر خلوده)، فضلاً عن كشفه الأسرار الوجودية، والتعامل معها بوصفها الكل الواحد الذي يكون ضمنه عبر التأمّل، وإتباع القلب والحب، فما ((الأشياء جميعها، ليست سوى تجليات لمظهر واحد أوحد)) ص97، إذ يؤمن باولو بفكرة الوحدانية لله ، وبأنّ لكلّ عنصر من عناصر الوجود له دوره في النظام الكوني، لن يأخذ أحد مكان الآخر إلّا إذا أنتهى دوره أو تغير للأفضل، فالرصاص مثلاً لن يصبح ذهباً إلّا إذا حدث تغييراً كيميائياً في تركيبته، والإنسان كالرصاص عليه أنْ يتعرّض لأكثر من تغيرٍ كيميائي واحد في حياته كي يحقق أسطورته الشخصية عبر كسبه معارف وجودية، يغتنم من خلالها قلبه ضوء الذهب وحجر فلسفته، فإذا كانت الخيمياء الكيميائية المعدن تعطي ذهباً، فإنّ عطاء الخيمياء الوجودية المعرفة للإنجاز العظيم(الإنسان), ضوءاً لا ينطفئ نوره ولا يحتجب عالمه في قلب المتأمّل للوجود!.

وعليه فإذا كان الإنجاز العظيم في الكيمياء يتمثل في جزء صلب (حجر الفلاسفة)، وجزء سائل (إكسير الحياة)، فالإنجاز العظيم في الوجود يتجلّى بـ(الإنسان) في جزء منه أسطورته الشخصية (حجر حكمته)، وجزء منه يتمثل في اقتفاء أثر الإشارات وكشف الأسرار الوجودية بقلب يعتاش على الحب والتأمل (إكسير البقاء)؛ فأنّ إنجاز الكاتب يتشكّل في جمعه بين الكيميائي والصوفي في الخيميائي، أيّ كيميائية سيميائية تجمعهما؟.

 الحب والتأمّل .. سيمياء صوفية!

يتمثل عالم الصوفي في ((رؤى طفولية, أو نظرة الولد والبدائي والفنان, ونظرة التجربة المباشرة, والوهلة الأولى للأشياء والعالم. فالحلم دنياه, ويعبر بلغة الحلم التي مكثّفة, ورمزية, مقنّعة. وكما أنّ الحلم لا يخضع للمنطق والمألوف, ويقفز فوق القيود والسائد والإكراهات المجتمعية))[6]؛ لذا تساؤل يخالج النفس، ما دمنا نرى إشارتي الحب والتأمّل ترافقان خيميائي الصحراء، هل الخيميائي صوفي؟، أم أنّ الخيميائية مرحلة من مراحل الصوفية، وربما العكس؟!. ففي طريق البحث عن الخيميائي يلتقي الراعي بفتاة من واحة الصحراء (فاطمة) قرب بئر الماء حيث ترد إليه النسوة للتزود بالماء، تدلهما على طريقه بإتجاه الجنوب، يقع الراعي في حبها، لا سيما أنهما سألا أكثر من واحدة نفت وجوده أو عدم سماعهن بسيرته. وأثناء هذه المدة يتعرف الراعي على فاطمة أكثر ويخبرها عن حياته وحلمه وكنزه، إذ يعتمل في صدره صراع بين البقاء في الواحة من أجل حب حياته أو يتركه من أجل تحقيق أسطورته الشخصية والعثور على كنزه المخبوء ثم يعود لها.

وقبل أن يلتقي الراعي بخيميائي الصحراء، تعترضه حادثة في الواحة حين يقرأ إشارة تعارك الصقور بأنّها دلالة خطر قادمة ينبأ بها شيخ الواحة (كبير القادة), ولم يصدقه ويُتهم هو الخيميائي بأنّهما جاسوسان, لكن الأخير أخبرهما بأنّ صديقه قادر على تحويل نفسه إلى ريحٍ عاتية, وإذا لم يفلح صديقه بعد ثلاثة أيام , للقائد حرية أن يفعل بهما ما يشاء هذا ما شرطاه على كبيرة قادة الواحة. ظلّ هاجس التحوّل يجول في عقل الراعي ويعصر قلبه بيأسٍ عن كيفية تحوّله إلى ريحٍ, لكنّ الخيميائي ما زال يردد عليه: (( تذكّر ما قلته لك؛ إنّ العالم ليس سوى الجزء المرئي من الله. ووظيفة الخيمياء هي ببساطة, إحلال الكمال الروحي على الصعيد المادي)) ص161-162.

بقي الفتى في يوماه الأخيرين يتأمل الصحراء, يصغي إلى قلبه, وهي تصغي إلى خوفه الذي يسكنه, كانا كلاهما يتكلمان لغة واحدة, وإلى أن جاء اليوم المتفق فيه التحوّل, وبلغة الصحراء التي لا يسمعها سواه, وبطريقة عجائبية وهبت له الصحراء رمالها بعد أنْ طلبت منه التكلم إلى الريح وطلب المساعدة منها لكي تهب نسائمها؛ إذ ((وصلت الريح إلى الفتى, ولامست وجهه. لقد سمعت حواره مع الصحراء, لأنّ الرياح تعرف دائماً كلّ شيء, وهي تتجوّل في العالم, دون أنْ يكون لها مهد ولا لحد. قال الفتى: ساعديني, لقد سمعت فيكِ ذات يوم, صوت حبيبتي. ومن علّمك التكلّم بلغة الصحراء ولغة الريح؟. قلبي))ص163-164؛ كانت الريح أثناء تأمله للصحراء وحواره معها تصغي لهما بإمعانٍ، فهي تودُّ معرفة الكثير عن لغة روح العالم لأنّها تجهلها رغم قدرتها على إحداث الكثير من الكوارث الطبيعية إلّا أنّها تفتقر إلى الحبِّ الذي يمكّنها من الإتحاد مع روح العالم وفهم لغة الكون. لذا تطلب الريح منه أنّ يطلب من السماء أنّ تحوّله لأنّ الشمس أدركت الحب قبلها, فضلاً عن رؤيتها للناس الذين ينظرون للسماء عندما كانوا يتكلمون عن الحب, لكنه على الرغم من ذلك لا يستطيع التكلم معها من دون مساعدتها وإحداث تلك الزوبعة الترابية التي تحجب ضوء الشمس عن نظره.ص166

إنّ عروج روح الفتى للسماء لكي تكلم مع الشمس رحلة يملؤها التساؤل والحب وفيض من المعرفة الكونية, وتمازج روحي وتمكّن لفهم خطاب الكون, ولتتضاءل تلك المسافات المادية بينهما قدر المستطاع. فبعد سؤال الفتى للشمس بأنّها تعرف الحب, تجيبه: ((وأعرف روح العالم, لأنّ بيننا أحاديث طويلة دارت أثناء سفرنا اللامتناهي في الكون. تقول لي إنّ مشكلتها الأخطر هي أنّ المعادن والنباتات, وحدهما قد أدركتا حتى الآن, أنّ الكل شيء واحد أوحد. لهذا ليس من الضروري أن يكون الحديد شبيهاً بالنحاس, والنحاس شبيهاً بالذهب. لكلٍّ وظيفته المناسبة في إطار هذا الكل الواحد. ولو أن اليد التي كتبت هذا كلّه توقفت في اليوم الخامس لغدا الجميع سيمفونية سلام. ولكن هناك اليوم السادس))ص168.

وهذا اليوم هو اليوم الذي تمَّ فيه الإنجاز العظيم للكون, بفضل اليد التي تدرك العلّة التي من أجلها خلقت الكائنات, وتوغل روح الفتى في روح العالم عبّر تحوّلها إلى ريحٍ إنّما هو تدبير سامٍ يدفع بالكون إلى نقطة ما يتحول عندها ليغدو أفضل مما كان, فروح العالم ما هي إلّا روح الله التي توغّلت في الفتى وصيّرته ريحاً. ومن أجل ذلك يستمر في الاسترسال بحديثه مع الشمس حول كيميائية التحوّل وقيمته المعرفية بضوء الحب:

((قال الفتى: ومن أجل ذلك, كانت الخيمياء. ليبحث كل إنسان عن كنزه ويجده, ويغدو بعد ذلك في حالة أفضل مما كان عليه في حياته السابقة. سوف يؤدي الرصاص دوره حتّى تنتفى الحاجة في العالم إلى الرصاص, عندئذ ينبغي له أن يتحوّل ذهباً. بإمكان الخيميائيين أن يحققوا هذا التحوّل, ويبيّنوا لنا أنّنا عندما نسعى إلى أن نكون أفضل حالاً مما كنا عليه فإنّ كلَّ شيء يغدو أفضل من حولنا))ص169.

إنّ الصوفي يوصل للآخر قيم القلب, وتجاربه وروحه, ويجعل الآخر يعيش بحدسه كما هو يحيا ويعاني؛ فاللقاء بين الخيميائي والفتى صورة أخرى عن الشيخ الصوفي ومريده في البحث عن المعرفة العليا والإهتداء إلى طريق التمازج الروحي بين الإنسان والطبيعة (الصحراء, الريح, الشمس,..) وتماهي لغة الكون وروح العالم فيهما أو تحوّل أحدهما مكان الآخر ليؤدي وظيفة ما ليحقق أسطورته الشخصية عبر بُنية الحب وتأويل لغة الحلم. وهذا ما نجده في الفن الصوفي الذي ((يرفع إنسانه إلى ما فوق الواقع أو يصنعه في واقعٍ آخر, وفوق مكبوتاته وهمومه اللاواعية؛ فهو من يطل على اللاوعي وعالم الحلم والطفولة والوهلة الأولى والتجربة المباشرة والعفوية))[7].

ولعل من أبرز سمات الالتقاء بين الصوفي والخيميائي هي قراءة الإشارات والتأمّل والحب واتباع القلب، وهذه الخصال الأربع تجلّت في الخيميائي الوجودي المعرفة للكون، وسعيه خلف أسطورته الشخصية عبر فكرة الكنز المخبوء، قارئاً الكون عبر موشور حبة رمل من رمال الصحراء كزمردة مضيئة. وما نحن إلّا ضمن الكل الواحد، في ذات كلّ واحد منا يكمن السر العظيم، قلة من يسعون لإدراكه وتعلم كيفية استعماله. فالموازاة بين ((التصوف وعلم الصنعة تدهش بسطوعها؛ والفرعان نتاجان بلونين مختلفين للبنى عينها, ويقومان على هيكلين متشابهين, أنّهما بنية واحدة, ذهنية واحدة ومسعى واحد))[8]. لكن التصوف عالم معنوي وروحي, في حين علم الصنعة عالم مادي, يسطع بضوء ذهبه, مثّل دافعاً للفتى في البحث عن أسطورته, إذ ((يعبّر الصوفي عن الذاتي في الإنسان, وعن ما يهم المتكلم لا ما يهم المخاطب والغير, فهو ينطوي على حميميته ليتدبر عالمها الغامض الواضح, ومن ثمّة لينكفئ على اللامعبّر عنه واللامعروف بعقل للعقل))[9].

وختاماً إنّ الخيميائي لباولو كويلو؛ عالم فنطازي (فنتاستيكي) السرد يقترب من الواقعية السحرية في رؤآه, جمع بين الصوفي والكيميائي, ليظهر لنا الكاتب أنّ قارئ العارف بقلبه وكيمائية حلمه هو ما نسمّيه بـ(الخيميائي), وهو من يظفر في نهاية الأمر, كاسباً لغة الكون وتماهيه مع روح العالم فضلاً عن كسبه لكنزه الذي كان قربه ولم يدركه إلّا بعد وعيه بحقيقة أسطورته الشخصية وغاية وجوده.

روافد البحث:

1ــ الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم(القطاع اللاواعي في الذات العربية), د. علي زيعور, دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع, لبنان-بيروت, ط2, 1984م, ص70.
2ــ النار التحليل النفسي لأحلام اليقظة, جاستون باشلار, تر: درويش الحلوجي, دار كنعان, دمشق, ط1, 2011م.
3ــ القراءة النسقية سلطة البينية ووهم المحايثة, أحمد يوسف, منشورات الاختلاف, الجزائر, ط1, ص117.
4ــ الخيميائي, باولو كويلو, تر: جواد صيداوي, شركة المطبوعات للتوزيع والنشر, ط18, 2009م.
5ــ الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم(القطاع اللاواعي في الذات العربية), ص70.
6ــ نفسه, ص48.
7ــ نفسه والصفحة.
8ــ نفسه, ص71.
9ــ نفسه, ص48.

مريم الناصري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى