الأربعاء ٣١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم أحمد نور الدين

شمعة وحيدة تضيء ظلمة الليل

تمخض الغروب عن ظلمة ثقيلة، وشعشعت في فضاء الحجرة أنوار هاربة من الشارع، تفر من عيون السيارت لتلوذ بالحجرة حيث تومض وميض الإحتضار، ثم تخبو إلى الأبد آخذة معها قطعاً من النفس التائهة وسط الخيالات.

شعرت زينب بخدر في ساقها اليمنى، وحركتها ببطئ في محاولة لاسترجاع الشعور الذي غيبه طول الرقاد. كانت تجلس في كنبة صغيرة بمقابلها نافذة، وتحمل بيدها جهاز راديو صغير تستعين به على قتل الوحشة، في غياب التيار الكهربائي الذي يغيب معه التلفاز، والضوء، وباقي المسارت. وأطلقت تنهيدة قصيرة ضاعت في ثنايا الأصوات المبعثرة والمشوشة للراديو، بعدما يئست من العثور على صوت مؤنس أو لحن شجي. وغزا وعيها بغتة شعور بالقلق والتوجس، ثم رفعت يدها وأدنتها من عينيها لتقرأ الوقت على ضوء شمعة تبث ضياءها الواني من على تربيزا بالقرب من الكنبة. إنها الثامنة والنصف مساءاً، وزوجها، الذي اعتاد أن يؤوب من عمله عند السابعة والنصف من كل مساء، لم يحضر بعد.

بعد أن أطفأت جهاز الراديو ووضعته على الترابيزا بجانب الشمعة، نهضت زينب من مجلسها وارتفقت حافة النافذة مرسلة بناظريها إلى أسفل، فأبصرت تيارات العابرين للزقاق بخاطر قلق وبال مضطرب. كم من الوقت يلزم كي يصبح الانتظار والقلق تاريخاً يطويه الزمان إلى الأبد؟ متى يعود زوجها وما الذي يعتاق عودته في هذه الساعة؟ هل حكم عليها بأن تكون من المنتظرين أبداً؟ أليس لهذا الانتظار من نهاية؟ أم أنه عهد متواصل لا ينته إلا تحت التراب؟ ونفخت في الهواء يأساً وضجراً وهي تتابع بعينيها السوداوين فتاة في نحو السابعة عشر تتجه صعوداً نحو الشارع العام بثياب زاهية الألوان، وخطوات سريعة تشق الظلمة كما تخرق سهام الضوء لب السواد.

قال لها الطبيب «لا تفقدي الأمل بالله». وقالت في سرها «الأمل بالله خير، لكنه لا يكفي وحيداً»، فلا بد أن يكون ثمة أمل فيها وفي زوجها أيضاً. ولكن الطبيب أكد أنها وزوجها على أتم ما تكون الصحة والقدرة السليمة على الإنجاب. ورغم ذلك فها هو العام الثالث بعد الزواج ينصرم دون إثمار تطيب له القلوب الوجافة أو يهدأ له روع النفوس المترقبة، وقد أمضتها معزوفة الإنتظار التي لا بد من سماعها طوعاً أو كرهاً.

«ترى ما الذي يأخرك حتى الآن؟»، تساءلت وهي ترمي ببصرها إلى آخر الزقاق باحثة عن شبح له يلوح فيطفئ نار القلق في صدرها، لكنه لم يكن في مرمى بصرها سوى أشباح غريبة هائمة تعكس بعض ملامحها مصابيح السيارات، إلى هياكل أبنية، وبعض الأشجار المورقة. وشعرت بالقلق يتمدد في داخلها ليعم كل وعيها ويفيض إلى قلبها المطرب أبداً. واسترجعت بذاكرتها ما دار بينهما هذا الصباح قبل انطلاقته إلى العمل علها تعثر على ما يبرر هذا التأخير، لكن ذاكرتها لم تسعفها بغير تلك الابتسامة على شفتيه يطالعها بها كل صباح قبل خروجه من البيت، تفيض حناناً وتشع تفاؤلاً، كأنما تقول لها بأن الحياة مستمرة، وبأن الأمل لم يمت بعد. إن تلك الإبتسامة، رغم ضآلتها قياساً على وجع النهار وكثافة همه، تشكل لها سبباً فريداً ودافعاً إضافياً لمواصلة الحياة. وكلما استعادت تصور الابتسامة الرقيقة على شفتيه وهو على أهبة الاستعداد للمغادرة، يشيع في صدرها إحساس شامل بالامتنان، ويسري في اعتقادها أن فيها سر ما يبث في داخلها كل ذلك التفاؤل والاطمئنان.

بيد أن ذلك لم يكن ليشفي القلق المتغلغل في أعصابها، ولم يكن ليخمد ثورات التأجج بالحيرة والخوف في نفسها المتذبذبة ما بين طيف شفاف من الأمان والسكينة وشبح كثيف من الرعب والاضطراب. رغم أن التقارير والطبيب أكدوا جمعياً بأنها وزوجها لا يحول بينهما وبين الإنجاب حائل، فإن شيئاً ما يوحي لها بأن في الأمر سر مكتوم. ولا تعرف لهذا الخاطر مصدراً بطبيعة الحال، لكنها تشعر على نحو لا يدع مجال للشك بأن أمراً ما يحتجب عن إدراكها، وأنه لو تم لها الإحاطة به علماً لانقلبت حياتها رأساً على عقب. ولم تكن أيضاً لتعرف مصدر التستر والكتمان. هل هو زوجها؟ الطبيب؟ الناس؟ الله؟ ليست تدري على الإطلاق، وذاك مبعث الحيرة، ومنبت الخوف.

يتناهى إلى سمعها كل يوم الكثير من القصص عن أزواج هجروا أزواجهم بعد مرور مدة طويلة دون إنجاب، أو قاموا بالتزوج من أخريات سراً أو علناً. وكانت مثل هذه القصص خليقة بأن تحدث في داخلها أعنف أمواج الاضطراب والتبلبل، وكانت كلما وقعت فريسة لإحدى تلك الأمواج تراءى لها عن بعد وجه زوجها يشع بتلك الإبتسامة التي تضاهي الشمس نوراً ودفئاً، ويبدأ الوجه بالدنو منها محاطاً بهالة واسعة من النور والطمأنينة التي تكشح كل سجف الظلمة والوحشة من حولها وتنفذ عميقاً إلى قلبها، فتنتشلها من لجة القلق، وتغرقها في سكينة وادعة، وعندها يستحيل عليها أن تفكر، مجرد تفكير، بزوجها مقروناً بذرة من شك أو غبرة من ريبة. يصبح زوجها عند ذاك طهارة خالصة تجل عن أي مكر أو خداع، ويغضها الندم لما فرط منها في حقه من تفكير ظالم.

الوقت يمر في قلق، والمساء يوغل عميقاً في ظلمة ليلية ثقيلة كالهم، ولا تزال على موقفها من النافذة، تطالع ما يبدو لها من وجه الدنيا بعين ساهمة وطرف حزين. كيف قدر لحياتها أن تنعطف هذا المنعطف العسير؟ أين واقع اليوم المقيت من أحلام الصبا الراعشة؟ وكيف لم يخطر لها في بال يوم اهتز عطفاها برغبة الزواج أنه قد يحمل لها المستقبل كل هذه التعاسة وكل هذا الشقاء؟ إنها شقية بين الأزواج ما في ذلك من شك. وتوارد إلى ذهنها في لحظة خاطر أليم ألقى على منكبيها بثقل خيل لها أن ساقيها ستنهاران تحته، وبأنها ستهوي على الأرض فتنسحق تحت ثقل ذاك الخاطر كما تنسحق حبات العنب تحت وطئ النعال. إن سعادة الرجل في الزواج لا تكتمل بغير الذرية، هذا ما وعته دوماً، وهو المتعارف منذ الأزل، فأنى له بذاك السرور الصافي الذي لا يخبو له ألق في صيف أو شتاء؟ ومن أين له بتلك الابتسامة الدائمة يودعها بها كلما حان فراق أو لاح انطلاق؟ وشعرت بدوار في الرأس، وثقل في النفس تلتاع له الروح ألماً وقنوطاً. وتبدى لها الأمر في تلك اللحظة يقيناً لا يناقضه شك.. أجل.. وهل يبسم المرء لغير ما سرور يلاقيه بعد ضيق يكابده؟ أوليس زوجها حلقة عادية في سلسلة الرجال؟ وبه من الرغائب والطبائع ما بهم؟ ألم يقلق في صدره ذاك الشوق الأزلي إلى رؤية الوليد؟

ولكن ألم يؤكد الطبيب بأنها قادرة على الإنجاب كزوجها سواء بسواء؟ فلماذا يقدم زوجها على الزواجد بغيرها ما دام الأمل الذي أشعله الطبيب لم يخمد بعد؟ ألا يعد ذلك خطوة غير مبررة، خاصة وأنه لا إثبات على أن الخلل فيها وليس فيه؟ وعاد الشك يترنح في داخلها من جديد، وشعرت بأنها تفقد ثقتها باليقين نفسه. ثم خالت حياتها سحابة هشة من الشك واللوعة والشجن. ثم مرت بها لحظات من الألم أفاقت منها على رغبة عميقة عمق الطفولة المتوارية خلف هموم العمر وأستاره، وقالت لنفسها في لوعة وتحسر:" ألا ليتني أصحو بغتة من كابوسي هذا على ما انقضى من حياة موفورة السعادة ودائمة الصفاء. ليتني أعود الطفلة التي كنت، تلهو بحبات السكر، وتهيم بأوراق الورد الساكن حوش بيتنا القديم" وانتبهت إلى ما تأدى بها الفكر إليه من شطط فسرى في نفسها شعور بالأسى وأرسلت بنظرها إلى آخر الزقاق معللة النفس بالرؤية المأمولة، لكنه لم يعد إليها بغير الخيبة، وقالت لنفسها في قلق شديد:" لقد تأخر كثيراً.. لا بد أن يكون في الأمر ما هو خارج على المألوف.." ثم وجدت نفسها تعاني إحساساً مضافاً على ما كانت عليه من حيرة وقلق.. إنه الخوف. شعرت بخوف يمازجه إشفاق، وتمنت أن يكون زوجها على خير ما يرام. حتى أن أمراً غريباً وقع في نفسها في تلك اللحظة موقع الدهشة والاستغراب، فقد تمنت أن يكون زوجها بخير بصرف النظر عما يقترفه من فعل، والمكان الذي يقضي فيه هذه الدقائق التي تمر بنفسها حمماً لاهبة. ليكن في حضن الشيطان نفسه، لكن ليكن على خير. ثم لم تملك أن تخيلت زوجها في حضن امرأة غريبة، وتأملت المشهد بغرابة وإنكار شاعرة بما أثاره في داخلها من كراهية. ووجدت نفسها تحاول، دون تفكير تقريباً، أن تتسقط ما يدور بين زوجها والمرأة من كلام وما يتصل بينهما من دعابة ومناغاة. وأفاقت من خاطرها هذا على ضيق شديد في الصدر، وتناهت بها الغربة حتى أوشكت على البكاء، ونفست عن كربها بنفخة طويلة خالتها تخرج من أعماقها لساناً من لهب. وعادت تنظر في ساعة يدها، فطالعتها الساعة بوجه لا مبال ينطق بالساعة التاسعة التي وصل إليها الزمن وراح يجتازها بثوان حثيثة رغم ما فيها من ثقل وعذاب.

ثم انسرب البرد إلى داخلها حتى كاد أن يرجفها، فغادرت مواقفها من النافذة، وتقهقرت إلى الوراء بعدما أعياها طول الانتظار، وعادت تجلس جلستها الأولى في الكنبة. وقامت بثني ركبتيها جاعلة ساقيها تحت فخذيها النحيلين، ثم انكمشت على نفسها وقد غطت صدرها بذراعين تشابكا لصد ما أمكن من البرد. وغاب فكرها في سحابة من الشرود، ولم يسعفها التجلد في ضبط ما نهض في أحشائها من قلق واضطراب. ثم رنت بعينين محزونتين إلى الشعلة الذابلة في رأس الشمعة، ثم قالت لنفسها:«عندما يأتي بالسلامة، لا بد من فعل شيء». لقد رسخ في اعتقادها أنه لا يمكن للحياة أن تسير على هذا المنوال إلى الأبد، وقررت بتصميم أن تفعل شيئاً يغير ما ركنت إليه الأيام من جمود وعذاب. ستقول له بأنه أفضل رجل عرفته في حياتها، وبأنه لولا ابتسامته المشرقة أبداً، لكانت كل صباحاتها ليلاً مظلماً مكفهراً، ولماتت هماً وكمداً، وبأنها ما كانت لتحسب نفسها في عداد الأحياء لولا ما جمع بينهما من وشائج العشرة والمودة. وبالرغم من ذلك كله، ستقول له، فلا مناص من فعل شيء ما، لا بد من تغيير عميق يطال من الحياة جذورها الضاربة في تربة الركود وأوحال الشقاء. غير أنها لم تكن قادرة، رغم ما ركبها من تصميم، على تحديد ما تريده بالضبط. هل تريد الطلاق؟ وهل تقوى على العيش بعده؟ أم تنقب له بنفسها عن عروس يجرب معها حظه من الإنجاب كما يقع في الأفلام؟ هل تقتل نفسها لتستريح؟ هل وهل... ولا جواب.

استمر الوقت في سيره الواني، وراحت زينب تغرق رويدا رويدا في بحر لجي من الخدر والنعاس. ثم كانت لحظات غابت فيها عن الواقع المحسوس، فتاهت وسط أخيلة غريبة تثير من النفس مواضع الشجن والرهبة، ثم عادت نفسها المهيضة إلى تخوم الواقع كرة أخرى، بيد أن الأخيلة ما كانت لتكف عن جذبها، فراحت تتأرجح ما بين صحو سقيم ومنام مضطرب لا تسكن له ساكنة. رأت فيما يرى النائم أشباحاً وخيالات وأسئلة ضخمة تلوح كالألم القاهر في النزع الأخير. رأت زوجها شابكاً ذراعه بذراع لم يظهر له صاحب فبدا كعضو زائد في جسد زوجها الذي راح يمشي بخطوات بطيئة تعلو شفتيه تلك الابتسامة المشرقة إياها. وسمعت قهقهات مجهولة المصدر تبعها على الأثر نواح حزين. ثم ترامى من اللامكان صوت سميك يقول بهدوء الحكماء:" العمر ليل طويل" وتخلل ذاك التيار المنعرج من الهذيان والهلوسة لحظات خاطفة من الصحو المفعم وحشة وغرابة... ثم كان أن طرق أذنيها الصوت المألوف، ومرت ثوان وفتح الباب، ثم دخل عليها من كانت تنتظر كل ذاك الوقت الطويل، وقد شاعت من مقدمه في نفسها يقظة الحياة، وانبعث في صدرها حبور مسكر تبش له الروح، فأقبل عليها وأقبلت، بيد أن خاطراً غامضاً اعترض تدفق السعادة في حناياها فأوقعها لحظة في حيرة وقلق، ولكنه سرعان ما توارى خلف إشعاع النور الساطع، فتخففت روحها من أثقالها، واستسلمت لدفئ البهجة بعد طول العذاب...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى