شيوخ ابن خلدون وتأثيرهم في فكره من خلال ” العِبَرْ “ - القسم الثاني والأخير
هذا هو القسم الثاني من الدراسة ، لقراءة القسم الأول من انقر على الرابط
4) ابن مرزوق : ( 711-781 ه / 1311-1379 م ) محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بم مرزوق العجيسي، يُكنّى أبا عبد الله من أهل تلمسان ويُلقّب من الألقاب المشرقيّة بشمس الدين ترجم له ابن الخطيب في الإحاطة ترجمة وافية وقف بها إلى عهد أبي عنان مشيرا إلى خصاله وإلمامه بالفقه والآداب والشعر قائلا : « مشارك في فنون من أصول وفروع وتفسير، يكتب ويشعر ويقيّد ويؤلّف.»
رحل إلى الشرق مرّة أولى وأخذ عن العديد من علماء عصره بمصر والحجاز والتقى بمشاهير القضاة والفقهاء، من أبرزهم قاضي القضاة عز الدين محمد بن جماعة الكناني وجلال الدين القزويني ودرس بكل من بجاية وتونس وتلمسان. قلّده أبو الحسن المريني منصب إمام الجمعة وخطبة جامع القرويين بفاس، كما عيّنه أمير غرناطة إمامة جامع الحمراء سنة 753 (1352م) ودرّس بمدرستها، له عديد التصانيف منها ما ذكرها ابن الخطيب والعسقلاني والمقّري الحفيد، وهي :
– عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من سمع من المشايخ دون من أجاز من أئمة المغرب والشام والحجاز. ومنها ما ذكره حاجّي خليفة في كشف الظنون وهي :
– أشرف الطرف للملك الأشرف. [ شعبان، سلطان مصر ].
– تيسير المرام في شرح عمدة الأحكام، وهو شرح لكتاب القاضي تقي الدين ابن دقيق العيد الذي كتبه بعنوان ” عمدة الأحكام في الحديث .“
– شرح على فروع ابن الحاجب في الفقه المالكي.
– إظهار صدق المودّة في شرف قصيدة البردة. وهو كتاب وضعه حول قصيدة ” الكواكب الدرّية في مدح خير البريّة “ الشهيرة بالبردة الميميّة للبوصيري. ويقول حاجّي خليفة بأنه شرح عظيم.
– إيضاح السّالك على ألفيّة بن مالك في النحو.
– شرح كتاب الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى. لم يكمله.
– نهاية الأمل في شرح الجمل. وهو شرح لكتاب الخونجي في المنطق، والمذكور سابقا.
ومن كتبه التي وصلت إلينا، كتاب :
– مسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن، درسته الباحثة شاتز ميللر ضمن كتابها الصادر سنة 1982، وقد سبق أن نشره ليڤي بروفنسال سنة 1925
تتلمذ ابن مرزوق على يد المشاهير، منهم ابن عبد الرفيع وابن عبد السّلام وابن عصفور ويشير ابن خلدون إلى أنّه « كان ملازما لمجلس الشيخين ابني الإمام بتلمسان.» (7/529)
شهدت حياته عديد التقلبات والمفاجآت، سجن وامتحن وتقلّد المناصب الرفيعة خاصة في عهد السلطان أبي سالم المريني حيث اُعتبر الآمر النّاهي لمدّة سنتين، « انصرفت إليه الوجوه وخضعت له الرّقاب ووطئ عتبته الأشراف والوزراء وعطف على بابه القوّاد والأمراء وصار زمام الدّولة بيده. » (7/414) ويؤكّد ابن الخطيب على هذه الحظوة قائلا: « إذا انصرف تبعته الدّنيا وسارت بين يديه الوزراء ووقفت ببابه الأمراء، قد وسع الكلّ لحظة وشملهم بحسب الرّتب والأموال رعيه ... لكنّ رضى النّاس غاية لا تدرك والحقد بين بني آدم قديم. »
دخل ابن مرزوق في خدمة ثمانية سلاطين وهم أبو الحجاج بن الأحمر بغرناطة وأبو الحسن المريني وابناه أبو عنان وأبو سالم بفاس، وأبو إسحاق وأبو البقاء خالد أبو العباس بإفريقية لدى الحفصيين، وأخيرا الأشرف شعبان بالقاهرة. تجشّم وكابد العديد من المحن وشارك في الاستيلاء على السلطة باسم أميره وسلطانه أبي سالم، إثر مقتل أبي عنان وواجه منافسة حادة وعنيفة أدت إلى مقتل أبي سالم وانتهت بنفيه خارج المغرب الأقصى فارتحل إلى إفريقية حيث نصّبه أبو إسحاق إمام جامع الموحّدين وكانت له علاقات طيِّبة مع ابن عرفة. لكنّ وصول أبي العبّاس إلى السلطة جعله في وضعية حرجة(7/531) وعزل عن منصب الخطابة فارتحل إلى القاهرة سنة 772 ه حيث تولى التدريس إلى أن توفي بها.
إنَّ هذا التلخيص لمسيرة ابن مرزوق غير كاف للإلمام بحياة هذه الشخصيّة المتميّزة التي أجبرت على مغادرة مسقط رأسها ببلاد الغرب الأقصى أولا، ثمَّ إفريقية ثانيا بسبب قهر السّلطة وتعسف الأمراء والسلاطين واللجوء إلى مصر تماما مثل ابن خلدون.
رغم المكانة والحظوة والعلم والآثار الكتابية التي خلّفها ابن مرزوق، والتي تدلّ على مساهمته الفعّالة في الحياة الفكرية والفقهية في عصره، ورغم الألم الذي أصابه طيلة حياته باستثناء سنتي الحكم في عهد أبي سالم، فإن صاحب العبر سعى إلى التقليص من شأنه، فيروي ترجمته بشيء من التصغير ويصفه بصاحبنا مثلما وصف المقّري، فيدمجه ضمن أشياخه لكنه يقول : « ومنهم صاحبنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن مرزوق من أهل تلمسان. »(7/528) وبينه وبين شيخه 21 سنة، ولا يسبغ عليه صفة الفقيه مثلما أسبغها على غيره من الشيوخ، وعندما يكون مجبرا على ذكر كيفية حصوله على الحظوة لدى السلطان أبي سالم المريني، يقول : «...واصطفى من خواصه خطيب أبيه الفقيه، أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزرق.» (7/404) فصفة الفقه هنا لا تعود على الابن بل على الأب.
عندما انقلب أبو عنان على والده أبي الحسن، وفي خضم الفتنة، لجأ ابن مرزوق إلى غرناطة إلى أن تمّت دعوته إلى فاس من قبل السلطان الجديد لذي قُتل بدوره سنة 759، ويشير ابن خلدون إلى أن ابن مرزوق عندما كان متواجدا بالأندلس ربط علاقة بأبي سالم ابن أبي الحسن المريني الذي شرّده أخوه أبو عنان إذ يقول : « وكان ابن مرزوق يداخله وهو بالأندلس ويستخدم له ويفاوضه في أموره وربما كان يكاتبه... ويداخل زعماء قومه في الأخذ بدعوته. »(7/531)
إنّ مثل هذه العلاقات المريبة لا يمكن أن تَخفى على أحد وخاصة على أبي عنان الذي حبس ابن خلدون وصديقه أبا عبد الله الحفصي صاحب بجاية لمجرد الشّك في أمرهما، في حين أنه استدعى شخصيّا ابن مرزوق للقدوم عليه من غرناطة، « ونظمه في أكابر أهل مجلسه، وكان يقرأ الكتب بين يديه في مجلسه العليّ ويدرس في نوبته مع من يدرس في مجلسه منهم. »(7/530)
ويسمح ابن خلدون لنفسه بالشك في أمر ابن مرزوق ويستعمل كلمة ” ربما “ متجاهلا ممارساته الشخصية خلال نفس الفترة الزمنية وتقلّباته بين هذا الأمير وذلك الوزير. صحيح أنّ ابن مرزوق قد دعا لأبي سالم، لكن ذلك كان إثر مقتل أبي عنان مباشرة، وكان عليه تحديد موقفه، وقد استند في ذلك إلى إمكانيّات ابن خلدون نفسه الذي يقول : «... ولمّا أجاز السلطان أبو سالم من الأندلس لطلب ملكه... وكان الخطيب ابن مرزوق بفاس فبثَّ دعوته سرًّا واستعان بي على أمره... فقصدني ابن مرزوق في ذلك. »(7/540)
إضافة إلى خطة المظالم في آخر عهده، فإنّ صاحب العبر لم يعترف لابن مرزوق بأيّ جميل وفسّر بأن المأساة التي لقيها أبو سالم كانت نتيجة لسوء تصرف وزيره ابن مرزوق الذي « غلب على هواه وأفرد بخالصته وكبح الشكائم عن قربه... ولم يزل ابن مرزوق آخذا في سعايته بي وبأمثالي من أهل الدولة، غيرة ومنافسة إلى أن انتفض الأمر على السلطان بسببه. »(7/545) في حين أن ابن الخطيب يفسر نفس هذه المأساة ويجد في تصرّفات ابن مرزوق محاولة للعدل بين مختلف الوزراء ورجال الدولة برعايته لهم، « لكنّ رضى النّاس غاية لا تدرك والحقد بين بني آدم قديم. »
بمواقفه تجاه المقّري وابن مرزوق، يتّضح لنا أن ابن خلدون أراد أن يحشر نفسه ضمن مجموعة العلماء والفقهاء المتميزين، وضمن كبار رجال الدولة ببلاد المغرب ويبرز ذلك جليّا عندما يتكلم عن المنافسة والغيرة والحسد الذي زعم أنه لاحظه من ابن مرزوق « فانقبضت وقصّرت الخطو. »(7/545) وعندما يتكلّم عن نفسه مباشرة اثر ابن مرزوق الذي اصطفاه السلطان أبو سالم وجعله من أقرب المقربين إليه، يردف قائلا: « ...وجعل إلى مؤلف هذا الكتاب توقيعه وكتابة سرّه. »(7/404)
لقد حلّ ابن خلدون بالقاهرة في شهر ذي القعدة سنة 784 (جانفي 1383م) أي بعد وفاة ابن مرزوق بثلاث سنوات فقط، ولا يمكن أن يكون على غير علم بمؤلفات شيخه المذكور أعلاه والتي ضرب ابن خلدون عنها صفحا. فطريقته هذه في التعريف بشيوخه دليل على تمييز عاطفي إلى أبعد الحدود مشوب بتأثيرات سياسة.
5) الشريف الحسني: محمد ابن أحمد بن علي بن يحيى أبو عبد الله التلمساني العلوي (710-771 / 1310-1369)، رفع بعض المترجمين نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ويدافع ابن خلدون عن هذا الانتساب ضد من شكك فيه قائلا : « ... وربما يغمز فيه بعض الفجرة ممن لا يروعه دينه ولا معرفته بالأنساب ببعض من اللغو لا يلتفت إليه»(7/536) ويبدو منتصرا إليه ولوالده الشريف أبو العباس أحمد « ذو النسب الواضح السالم من الريبة عند كافة أهل المغرب »(7/548) الذي احتفى به وساعده على العبور إلى الأندلس في رحلته الأولى سنة 764، إذ يقول صاحب العبر بأن والد المترجم له أنزله « ببيته [ بسبتة ] إزاء المسجد الجامع، ورأيت منه ما لا يقدر مثله من الملوك وأركبني الحرّاقة ليلة سفري، يباشر دحرجتها إلى الماء بيده. »(7/549)
ينتمي الحسني إلى عائلة شريفة منتحلة للعلم والأدب والشعر، ودرس على يد ابني الإمام في الفقه والأصول وعلم الكلام، كما أخذ عن الآبلي العلوم العقلية، وعن ابن عبد السلام الذي درس معه كتابي الإشارات والشفاء لابن سينا إضافة إلى بعض تلاخيص ابن رشد لأرسطو. وصفه ابن خلدون بالإمام العالم القدوة، فارس المعقول والمنقول. ويشير ابن القنفد إلى أنه وضع كتابا في شرح جُمل الخونجي في المنطق ويؤكد ذلك الونشريسي في وفياته وابن القاضي في لقط الفرائد. لقي كلّ الكرامة والتبجيل من السلطان المريني أبي عنان ثم امتحنه واعتقله وأقصاه عن مجالسه وعاد إلى تلمسان لدى الأمير أبي حمّو الذي زوّجه ابنته وبنى له مدرسة يدرس بها إلى أن توفي.
6) الشريف السبتي : ( ت : 761 ه / 1359 م ) أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني السبتي الغرناطي.
خلافا لبعض الشيوخ الآخرين، لا يخصص ابن خلدون إلاّ جملة واحدة لهذا الشيخ، ومع أنّها بليغة المعنى، فهي غير كافية للتعريف به، فهو يصفه بـ« شيخ الدنيا جلالة وعلما ووقارا ورياسة، إمام اللسان فصاحة وبيانا وتقدما في نظمه ونثره وترسلاته.» (7/535) إذ يتبيّن لنا بأن الشريف السبتي هذا قد حظي بعديد الترجمات المسهبة وأطنب ابن الخطيب في ذكر خصاله قائلا : « الشيخ الأستاذ الشريف، نسيج وحده وفريد دهره إغرابًا في الوقار، وحسن السمت وأصالة البيت، وتبحّرًا في علوم اللسان، وإجهازًا في فصل القضايا وانفرادًا ببلاغة الخطبة وسبقًا في ميدان الدهاء والرجاحة، ... الجانح إلى الإيالة النصرية من مدينة سبتة.»
يتبيّن لنا من خلال الترجمات المتعدّدة بأن له إلماما بعديد المعارف، فهو نحوي، لغوي، شاعر، عروضي، فقيه، تولّى منصب قاضي الجماعة بعديد المدن مثل مالقة ووادي آش وغرناطة حيث أضيفت له خطّة الخطابة بجامع الحمراء. له عديد المصنّفات :
• الدرّة النحوية في شرح الآجروميّة : مقدمة في النحو لمحمد بن محمد بن داوود الصنهاجي المعروف بابن آجروم المتوفى سنة 723 (1323م).
– رفع الحجب المستورة على محاسن المقصورة : شرح لمقصورة حازم القرطاجنّي المتوفى سنة 684 (1285م) وهي قصيدة ميميّة في النحو.
– جهد المُقِلّ : ديوان شعر.
– شرح القصيدة الخزرجيّة في العروض والقوافي : كتاب وضعه لشرح القصيدة المعروفة بـ ” الرّامزة “ في البحر الطويل وضعها عبد الله بن محمد المالكي الأندلسي، أبو محمد الخزرجي المتوفى سنة 626 (1229م) في علمَيْ العروض والقافية.
نلاحظ بأن كل المؤلّفات المنسوبة إليه كانت في النحو والشعر وليس لها علاقة بالفقه والقضاء وهذا أمر شاذ بالنسبة لعالم فقيه وقاض قبل كل شيء. ولنا أن نتساءل عن سبب تغاضي ابن خلدون عن ذكر هذه المؤلّفات لشيخه وخاصة اختصاصه في النحو والشعر والعروض. فهل يكون ذلك لتبرير قصوره في هذا الميدان كما يدّعي عندما يقول : « ثم أخذت نفسي بالشعر، انثال علي منه بحور، توسطت بين الإجادة والقصور ... فإني كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة، وتفرّغت للعلم فقط.» (7/541 و 640) في حين أنه يشير بالكتاب الأوّل إلى حوار دار مع شيخه هذا حول الشعر والشعراء، أراد من خلاله ابن خلدون أن يعترف له شيخه بالكفاءة في نظم الشعر فيقول : « ولقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، وكان شيخ هذه الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها ... واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه، فسألته يوما : ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ »(1/797-798) ثم أسمعه بعض الأبيات من نظمه وطلب رأيه فيها « فقلت : أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعلّه السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت، فسكت معجبا، ثم قال لي : يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم.» (1/797-798)
يبدو أن ابن خلدون يجيد فعلا الشعر وذلك بشهادة شيخه هذا وبشهادة صديقه ابن الخطيب الذي شكاه مرّة عدم تمكّنه من النظم الجيّد قائلا : « ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له : أجد استصعابا عليّ في نظم الشعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلا ... فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال : لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك ؟ »(1/797-798) لقد غيّر ابن خلدون رأيه في الشعر وفي نظمه واعتبره غير صالح أو غير مناسب لشخصه ومرتبته وقد خصّص لذلك فصلا بالكتاب الأوّل بعنوان : ”في ترفّع أهل المراتب عن انتحال الشعر“ حيث يقول : « ... فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو الكذب والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفا. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين وتغير الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة ومذمّة لأهل المناصب الكبيرة.» (1/797-798) وبما أن المعطيات والمفاهيم والرؤى والأهداف من الشعر قد تغيّرت بمرّ العصور، وظهرت أنماط جديدة في الكتابة الشعريّة، فمن الأجدر بالنسبة إليه، أن يترفّع عن هذا النوع، فهو « يبدو محافظا وضد كل تجديد ... انتقد الشعراء الذين مدحوا الملوك... [ لكنّه ] لا يأنف من التقرّب والتوسّل لسلاطين عصره.»
إثر انكساراته المتتالية خلال تجربته السياسية، يبدو أن ابن خلدون لم ينظم الشعر بعد اعتزاله بقلعة بني سلامة إلاّ مجبرا مقهورا، فوضع بعض الأبيات لأبي العباس الحفصي لإبعاد تهمة رفض مدحه وتجنّب المؤامرة التي سعى ابن عرفة وجماعته لحياكتها ضدّه أو لاستجداء الطنبغا الجوباني كي يعيد له إدارة خانقاه بيبرس.
7) عبد المهيمن الحضرمي : (675-749 / 1276-1348) بن محمد بن عبد المهيمن يُكنّى أبا محمد. نشأ بسبتة ضمن عائلة ثريّة وأخذ عن والده ثم انتقل إلى غرناطة ومالقة بالأندلس حيث درس على يد العديد من الشيوخ وخاصة منهم ابن البناء، وعاد إلى المغرب فأخذ عن ابن عبد الرفيع وابن الغمّاز وأبو عبد الله الشريف الحسيني المذكور سابقا. ويذكر ابن الخطيب بأن للمترجم له، عديد المراسلات مع علماء الشرق من بينهم ابن تيميّة. استخدمه المرينيون في كتابة الإنشاء منذ عهد أبو سعيد عثمان (710-731 / 1331-1348.) وابنه أبو الحسن علي (731-749 / 1331-1348.) الذي رافقه في حملته على إفريقية فتوفي بها بالطاعون ودُفن بمقبرة الزلاّج.
يتحدّث ابن خلدون عن شيخه هذا بكل إجلال وإعجاب ويشير إلى الترجمة المطوّلة التي وضعها ابن الخطيب قائلا : « ...وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة، فليطالع هناك من أحب الوقوف عليه.» (7/523)
استغلّ ابن خلدون إقامة شيخه هذا بتونس فدرس على يده الحديث اعتمادا على الروايات الستة المعروفة لدى أصحاب مذهب مالك، إضافة إلى كتاب الموطأ ومقدّمة ابن الصّلاح. ويبدو بأن الحضرمي قد عرّفه أو عمّق معه كتاب ”السّير“ لابن إسحاق وهو الكتاب الوحيد في السّير والتاريخ عموما الذي يشير إليه صاحب العبر قبل رحيله عن تونس وانتقاله إلى المغرب الأقصى. أما أثر هذا الشيخ في فكر ابن خلدون، فمن الواضح أنه كان في مجال الحديث والفقه المالكي أكثر من التّاريخ. ومثل الآبلي، استقبل بيت ابن خلدون الشيخ الحضرمي هذا، حيث مكث به حوالي ثلاثة أشهر خاصّة خلال ثورة القبائل على أبي الحسن المريني بالقيروان فيقول بأنه « ... توارى في بيتنا خشية أن يُصاب معهم بمكروه.» (7/523)
8) السطّي : محمد بن علي بن سليمان، (ت 750 ه / 1349 م ) أبو عبد الله، وصفه ابن خلدون بـ « شيخ الفتيا بالمغرب وإمام مذهب مالك. »(7/513) نشأ بفاس وأخذ علمه عن مشيختها فأصبح « لا يُجاَرى حفظا وفهما »(7/513) في الفقه. وأشار ابن القاضي بأنه « كان يعتبر خزانة مذهب مالك مع مشاركة تامة في الحديث والأصلين واللسان ... لا يتكلّم في المجلس حتّى يُسأل. » كان من بين العلماء الذين استقدمهم أبو الحسن معه إلى إفريقيّة فكان من أعضاء مجلسه العلمي وتوفي غريقا في أسطوله عند محاولة العودة من تونس إلى المغرب ونجى السلطان من هذه الكارثة بأعجوبة قرب سواحل مدينة الجزائر. وهو الذي اعترف بكفاءة الفقيه التونسي ابن عبد السلام الهوّاري أمام السلطان أبي الحسن المريني وطالب بضرورة ملازمة الفقهاء المغاربة لمجلسه للأخذ عنه.
9) الزواوي : أبو العبّاس أحمد بن محمد بن علي بن إدريس (ت 750 ه / 1349 م ). ذكر الونشريسي في وفياته بأنه « هلك غريقا في البحر مع من هلك » واعتبره ابن الخطيب من كبار القُرّاء قائلا : « الشيخ الفذ الشهير في الترنّم بألحان القرآن» وأشار ابن حجر العسقلاني إنه « عمل فهرستة مقروئاته ومروياته في مجلّدة.»
يبدو بأن الزواوي قد تخصّص في القراءات ودرس كتب أبي عمرو الدّاني وابن شريح الإشبيلي واعتبره ابن خلدون « إمام المقرئين بالمغرب »(7/513) « كان إماما في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا يجاري. وله مع ذلك صوت من مزامير آل داود وكان يصلّي بالسلطان التراويح ويقرأ عليه بعض الأحيان حزبه.» (7/525-526) أمّا ابن القاضي فذكر إنّه « كانت له نوادر حسنة فاق أقرانه بها وكان يضحك أبا الحسن المريني»
10) ابن الصفّار : أبو عبد الله محمد المرّاكشي (ت 761 ه / 1360 م ) وصفه ابن القنفد بالشيخ الصّالح الشهير الأستاذ البليغ في القراءة، وأشار الونشريسي إلى حسن إحاطته بعلم العربيّة. مرّاكشي الأصل وقدم على فاس وتوفّي بها. اعتبره ابن خلدون إماما في القراءات وكان ممّن يقرأ على السلطان المريني، أخذ علمه عن ابن رشيد الفهري وغيره من شيوخ المغرب.
1. ابن شعيب : (ت 749 ه / 1348م ) أبو العبّاس أحمد الجزنائي التازي. عرّفه ابن الخطيب باسم « أحمد بن محمد بن شعيب الكرياني من أهل فاس، يكنّى أبا العبّاس ويعرف بابن شعيب من كريانة، قبيلة من قبائل الرّيف الغربي... من أهل المعرفة بصناعة الطب، مشاركا في الفنون وخصوصا في علم الأدب ... والغالب عليه العلوم الفلسفيّة وقد مُقت لذلك وتهتّك في علم الكيمياء...» درس العلوم العقليّة بالأندلس وكان من المقرّبين من السلطان أبو سعيد المريني وابنه أبو الحسن، قدم إلى إفريقيّة ضمن موكبه وتوفي بالطاعون، وقد أشار ابن الخطيب إلى هيامه بجارية روميّة توفيت فأصبح « في تأوّهٍ دائم وأسف متمادٍ وله فيها أشعار بديعة في غرض الرثاء» وأكّد ابن خلدون على براعته في الأدب واللسان والعلوم العقليّة كما أورد بعض الأبيات من شعره.
2. ابن النجّار : (ت 749 ه / 1348م ) أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي التلمساني، من أهل تلمسان، انتقل إلى سبتة، تتلمذ على الآبلي وابن البنّاء فأصبح إماما في علم النجامة وأحكامها، قرّبه أبو الحسن المريني وكان ضمن علماء مجلسه. استقدمه معه إلى إفريقيّة وتوفّي بتونس بالطاعون. وصفه ابن الخطيب بالشيخ التعاليمي وأكّد الونشريسي من أنه من شيوخ التعاليم.
3. ابن الصبّاغ : (ت 750 ه / 1349 م ) محمد بن محمد المكناسي أبو عبد الله، كان عالما بالعلوم العقليّة والنقليّة، عارفا بالحديث، ملمّا بكتاب الموطأ، أخذ عن الآبلي، ويعتبر من المقرّبين من أبي الحسن المريني، حضر معه اجتياح إفريقيّة وهلك غريقا في أسطوله.
4. الجزولي : أبو عبد الله محمد بن عبد الرزّاق (ت 759 ه / 1358م ) تولى منصب القضاء بفاس في عهد أبي الحسن وعزله أبو عنان وولّى مكانه المقّري. أخذ عن شيوخ فاس، رحل إلى تونس وأخذ عن ابن عبد الرفيع وتخصّص في الفقه والحديث ثم استدعاه أبو عنان من جديد وضمّه إلى مجلسه وكان من بين الذين يقرؤون عليه القرآن والحديث إلى أن توفّي. ويشير ابن القاضي إلى أنه أخذ التصوّف عن أبيه ولبس الخرقة.
5. البرجي : أبو القاسم محمد بن يحيى الغرناطي الغسّاني، (ت 786 ه / 1384م) دخل في خدمة أبي عنان وأبي سالم، كانت له ميول أدبيّة وشعريّة، تولّى منصب القضاء بفاس ثم قضاء العسكر. كلّفه أبو عنان بإيصال رسالة إلى الحرم النبوي فكان سفير السلطان إلى الحجاز ومصر سنة 756 (1355 م) وكان من بين المصادر التي استعملها ابن خلدون للتعرّف على البلاد المصريّة.
6. ابن عبد النّور : أبو عبد الله محمد بن عبد الله الندرومي، (ت 749ه/1348م) تتلمذ على ابني الإمام بتلمسان واقترحاه على السلطان أبو الحسن كي يضمّه إلى مجلسه فقرّبه وولاّه قضاء العسكر، ورافقه في حملته على إفريقيّة وتوفي بالطاعون بتونس. يشير ابن خلدون من أن والده كان مولعا بعلم الكيمياء ”عفا الله عنه“. « له تفنن في سائر العلوم وله تصانيف في عدة علوم، واختصر تفسير الإمام فخر الدين ابن الخطيب...»
7. الكوسي : (؟) أبو عبد الله، ليست لدينا معلومات عن هذا الشيخ الذي لا يذكره ابن خلدون إلاّ مرّة واحدة عندما يتحدّث عن أسانيده في الإلمام بموطأ مالك فيقول : « ... ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناطة، سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره.» (7/689) ويبدو من أن الكوسي هذا لم يخرج من الأندلس ولم يكن تحت سلطة بني مرين، ولم نجد أثرا لترجمته لدى ابن الخطيب أو غيره، وربما أخطأ ابن خلدون أو الناسخ في كتابة لقبه، ومن المتأكّد من أن صاحب العبر قد التقى بهذا الشيخ خلال إقامته الأولى بغرناطة.
8. ابن رضوان : عبد الله بن يوسف النجّاري المالقي، أبو القاسم. (ت 783 ه / 1381 م ) أسهب ابن خلدون في التعريف به رغم إنه لا يعتبره شيخه لتقارب السن بينهما، لكنه يعترف بأنه أخذ عنه الكثير فيقول : « ... فلما قدم علينا بتونس صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخا، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما أفدت منهم.» (7/514) واعتبره من مفاخر المغرب فيلتقي هنا مع ابن الخطيب في تعداد خصاله ويبدو من أنه كان وديعا عارفا بحدود مشمولاته ونظرا لهذه الخصال المتعدّدة، نجح في الحفاظ على مكانته مع عدّة سلاطين، ولم يُعزل إلاّ في عهد أبي سالم، فعوّضه ابن خلدون في منصبه. توفي بمراكش.
إن هذا السرد الممِلّ لثمانية وعشرين شيخا ذكرهم ابن خلدون شخصيّا في التعريف وبعضهم بالكتاب الأوّل، كان ضروريّا لاكتشاف مدى تأثير كل واحد منهم في فكر ابن خلدون واستجلاء التوجّه المهيمن الذي انحاز إليه.
لقد حرص صاحب العبر على ترجمة هؤلاء الشيوخ لاعتقاده في ضرورة إقناع القارئ بانتمائه إلى مجموعة من أبرز ما أنتجت بلاد المغرب في عصره. لكن مجرّد المقارنة الكميّة بين ما خصّصه لكل واحد منهم، تبرز لنا بجلاء إن درجة تأثّره بهذا أو ذاك الشيخ كانت متفاوتة كثيرا، إذ يتصدّر الآبلي دون منازع قائمة الشيوخ من حيث الأهميّة ويليه البلفيقي والحسني والمقّري وابن رضوان...
وانطلاقا من المواد التي أخذها ابن خلدون عن شيوخه، تتبيّن لنا ثلاثة اتجاهات معرفيّة كانت تتجاذب اهتمامات صاحب العبر :
– الاتجاه الأوّل : تسيطر عليه المدرسة التلمسانيّة ويمثّلها تلامذة ابني الإمام وتتجسّد في شيوخ ابن خلدون وهم : الآبلي، المقّري، ابن مرزوق، الحسني، وبدرجة أقلّ ابن شعيب وابن الصبّاغ وابن عبد النور وابن النجّار. هؤلاء كان لهم الفضل في تكوينه العقلي وفي تفكيره الفلسفي ورؤيته النقديّة للأشياء بدرجة تظل نسبيّة وحسبما تسمح به إمكانيات العصر وحدوده.
– الاتجاه الثاني : وهو التوجّه التقليدي النقلي الفقهي، تهيمن عليه المدرسة الفاسيّة ويمثلها البلفيقي والشريف السبتي والسطّي والزواوي وابن الصفّار والجزولي والكوسي. هذا التوجّه يجسّد المدرسة المحافظة التي كان لها الأثر النهائي في بلورة فكر ابن خلدون.
– الاتجاه الثالث : يمكن أن نقترح وصفه بالتوجّه الأدواتي العملي والسياسي الذي ساعده على مباشرة بلاطات الأمراء والسلاطين وملاحظة كيفيّة التعامل الفعلي معهم، ويمثّلهم عبد المهيمن الحضرمي والبرجي وابن رضوان.
أما شيوخه بتونس فلم يكن لهم أي دور رئيسي سوى تلقينه أبجديّات القراءة والكتابة والمطالعة الموجّهة نحو العلوم الدينيّة التي يتلقّاها أي صبيّ وأيّ شاب يصبو إلى أن يكون من بين النخبة العالمة في مرحلة لاحقة.
إضافة إلى هؤلاء الشيوخ لا ينبغي أن نغفل عمّن كان له تأثير في تكوينه العقلي والسياسي بموجب مباشرته لهم واحتكاكه بهم وحواراته معهم وهم إبراهيم ابن زرزر اليهودي وابن ودرار الوزير وأخيرا لسان الدين ابن الخطيب.
1) إبراهيم ابن زرزر اليهودي : ليست لدينا معطيات كافية حول هذه الشخصيّة سوى ما ذكره ابن خلدون الذي يشير إلى أنّه قد تعرّف عليه ببلاط أبي عنان، كان مهتمّا بالعلوم الفلكيّة والتنجيم إلى جانب الطبّ. لجأ إلى فاس خلال الحرب الأهليّة التي قامت بين الإمارات المسيحية بإسبانيا بين بيدرو القاسي ملك قشتالة وأعدائه داخل نفس العائلة المالكة من ناحية وبين مملكة أراجون وملكها بيدرو الرابع (حكم بين سنتي 1336 و1387). كما يذكره ابن الخطيب في معرض ترجمته لأبي القاسم محمد بن علي بن سودة ألمري الذي يعدّه من شيوخ ابن زرزر قائلا : « إبراهيم ابن زرزار اليهودي فارس ذينك الفنين الطب والتعديل، الحبر، طبيب الدّار السلطانيّة.» ويشير إليه إشارة مقتضبة عبد الهادي تازي في كتابه جامع القرويين.
خلال هذه الأحداث لجأ ابن زرزر إذا إلى البلاط المريني بدعوة من أبي عنان، فيقول ابن خلدون : « ... وكان لقيني بمجلس السلطان أبي عنان وقد استدعاه يستطبّه، وهو يومئذ بدار ابن الأحمر بالأندلس.» (7/551) ثم التقى به مرّة ثانية ببلاط ملك قشتالة حيث « أثنى عليَّ عنده طبيبه إبراهيم ابن زرزر اليهودي المقدم في الطب والنجامة.» (7/551)
استغلّ ابن خلدون هذه الفرصة الأخيرة كي يستقي منه بعض المعلومات الغيبيّة التنجيميّة ومن بينها سؤاله حول ” شخصيّة تاريخيّة عظيمة مرتقبة “ كثر الحديث حول إمكانية ظهورها في ذلك العصر « تتغلب على الممالك، وتقلب الدول، وتستولي على أكثر المعمور ... كتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي، طبيب ملك الإفرنج ابن أذفونش ومنجّمه.» (7/733) الذي أكّد ظهور هذه الشخصيّة لسنة 684 ( 1285 م ) واعتقد ابن خلدون في ذلك ووصل التنبؤات بأحداث تيمور الأعرج فذكرها له عند لقائه به على أبواب دمشق. في حين إن ابن قاضي شهبة جعل خروج تيمور من بلاده نحو الغرب للغزو سنة 786 ( 1287 م ) قائلا : « ... وكان ابتداء خروج هذا الرجل من نحو سنتين من بلاده وأخبروا عن كثرة من معه من العساكر.» ونفس التاريخ يقدمه لنا ابن إيّاس ويمكن تفسير هذا التفاوت الزمني بين ما أورده ابن زرزر من ناحية وابن شهبة وابن إيّاس من ناحية أخرى ببعد المسافة الفاصلة بين الشرق والأندلس حيث تصل المعلومة الشفوية وقد تراكمت عليها أخبار محوّرة عن تاريخ الخروج الفعلي لهذا الغازي التّتري، إذ ليس في الأمر تنجيم أو علم فلكي، بل مجرّد أنباء متناقلة يستغلّها أصحاب الذهن الفطن لصالحهم.
إن فضول ابن خلدون ليس المعطى الوحيد الدافع لاهتمامه بهذا الجانب المعرفي الغيبي فهو يؤمن صراحة بهذا ” العلم “ وبإمكانيّة الكشف عن أحداث المستقبل مع إمكانيّة الفِعْلِ فيها. فالتكهّن بوقوع الأحداث حسب رأيه ممكن إذ يقول بالكتاب الأوّل : « ... وقد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبؤة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة ... ولعلّها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظاهر، لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبؤة كما تخمد الكواكب.» (1/127) أي إنّه يعترف بأن الفكر البشري في المجال الإسلامي، به اتّجاه يدفع نحو وضع حدّ للتنبّؤ والتكهّن تبعا لتحليل فكري يظلّ دينيّا بدرجة أولى، ورغم ذلك نجد ابن خلدون يدفع بهذا الفكر نحو الاتجاه المقابل، ويعبّر بالتالي عن توجّه تقليدي، ونلاحظ تمسُّكه بهذا الاعتقاد في المجالات الموازية للتكهّن والتنبّؤ وهي السّحر والطلسمات، فيقول « ليس كل ما حرمه الشّارع من العلوم بمنكر الثبوت، فقد ثبت أن السّحر حق مع حظره. لكن حسبنا من العلم ما علمنا.» (1/668) ثم يبرّر سلوكيات من يباشر مثل هذه الأفكار والتصرّفات فيصبغ عليها تزكية إلاهيّة قائلا : « ... . وقد شَهِدتُ جماعة بأرض المغرب ممن اتصل بذلك، فأظهر الغرائب وخرق العوائد وتصرّف في الوجود بتأييد الله. »(1/690) ومن خلال محاولته الفصل بين مختلف هذه الظواهر وتصنيفها وتبويبها بإيجاد سلّم معرفي يفرّق بين الوحي والكهانة والرؤيا والسحر والطلسمات، فإنه في الأخير يعترف بها كلّها ويعتقد فيها ويؤمن بجدواها ويقدِّم نفسه شاهدا على بعض ” تجلّياتها “ قائلا : « ... وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة، واطلعت بها على أمور كنت أتشوف عليها من أحوالي ... »(1/132) أي إنّه مارس شخصيّا عمليّة الكشف عن مستقبله غير إن « القدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء»(1/132) كما يؤكّد توجّهه هذا عندما يقول : « من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه، ويكفينا في ردّ ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي، فإنها جاءت بعمل مطّرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء وحدس.» (1/148) وينعكس هذا الاعتقاد على تنظيره الفلسفي فيعزو أعمار الدول إلى افتراضات ومزاعم الأطبّاء والمنجّميتن فيقول : « اعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرون سنةً وهي سنو القمر الكبرى عند المنجمين، ويختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا وينقص ... ولا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة وعشرون إلا في الصور النادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السلام وقليل من قوم عاد وثمود.» (1/213)
يصادق ابن خلدون على تحليل المنجّمين حول ثروات الشرق مقارنة بأحوال المغرب قائلا : « ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفور أموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب والسهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب؛ وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره، وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة في الأعمال التي هي سببه.» (1/458) فالتحليل الاجتماعي والحضاري الذي تصدّى ابن خلدون لتقديمه لنا، لا يتعارض حسب رأيه مع التحليل الغيبي الفلكي، بل هو مكمّل له. هذا التوجّه التوفيقي سينسحب على مجمل أفكاره وتحليلاته. إنه لم يكن محايدا، فالحياد عنصر من عناصر المنهجيّة في البحث، ولم يكن مجرّد ملاحظ لظواهر وأحداث عصره. والحل الذي ارتضاه ووضعه لم يكن صورة لما هو كائن فحسب، بل لما ينبغي أن يتواصل على منواله الفكر والممارسة. لقد كان ابن خلدون منخرطا أشدّ الانخراط في أحداث عصره بممارسة الحسابات والتوقّعات التنجيميّة التي كانت متفشّية بين أهل بلاد المغرب وغيرها من المجالات الجغرافيّة الأخرى سواء بالعالم الإسلامي أو بأوروبا، كما تبنّتها النخبة العالمة والمتسلطنة.
لقد تأرجح ابن خلدون كثيرا بين التفكير الغيبي والتفكير العقلي ولم يكن تفكيره ذاك غريبا أو شاذا، بل كان يعكس المنحى العام للعديد من فقهاء وعلماء عصره. فمحاولته الأولى للتوجّه نحو نقد الظواهر الخارقة لطبيعة الأشياء، تمّ طمسها بوضع حدٍّ لفضوله بواسطة مجموعة من ”العارفين“ ذوي التجربة والممارسة والسلطة في آن واحد ومن بينهم الآتي ذكره.
2) فارس بن ميمون بن ودرار : هو أحد رجال الدولة المرينيّة منذ عهد السلطان أبي الحسن الذي استعمله سفيرا لسلطان مصر محمد بن قلاوون لتعريفه بانتصاراته الحربيّة وببسط نفوذه على بلاد المغرب الأقصى وكان وزيرا وقائدا من قادة جيش أبي عنان ضد بني عبد الواد بتلمسان وضد الحفصيين بقسنطينة وإفريقيّة لكنّه أذعن لشيوخ ورؤساء القبائل الثائرة ضدّ أبي عنان واتفق رأيه مع رأي قادة جيشه الذين ضاق ذرعهم « بشأن النفقات والأبعاد في المذاهب، وارتكاب الخطر في دخول إفريقية، فتمشّت رجالاتهم في الانفضاض عن السلطان، وداخلوا الوزير فارس بن ميمون، فوافقهم عليه وأذن المشيخة والنقباء لمن تحت أيديهم من القبائل في اللحاق بالمغرب حتى تفرّدوا. ونمي الخبر إلى السلطان أنهم تآمروا في قتله ... وتقبّض [ أبو عنان ] يوم دخوله [ فاس ] على وزيره فارس بن ميمون، اتهمه في مداخلة بني مرين في شأنه، وقتله ... قعصا بالرماح، وتقبّض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع منهم السجن.» (7/394)
التقى ابن خلدون بهذا الوزير قبل سنة 757 (1356 م) أي سنة تراجع القوّات المرينيّة وانسحابها نحو المغرب الأقصى، وهي السنة التي قتل فيها بن ودرار، وكان لابن خلدون خمسة وعشرين سنة من العمر على أقصى تقدير، فطرح عليه تساؤلا حول خبر أورده ابن بطّوطة مفاده أن ملكا من ملوك الهند بدلهي كان يوزّع المال على رعيّته بسخاء مفرط وبواسطة منجنيقات « ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس»(1/228) واستغرب ابن خلدون هذا الخبر وكذّبته العامّة من الناس وأثار استخفاف الخاصّة، « فقال لي الوزير فارس، إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره...» ويقدّم له الوزير مثال الطفل المسجون مع والده الذي لم ير الغنم أبدا، وعندما أكل من لحمها سأل والده قائلا : هل الغنم مثل الفأر؟ ويواصل ابن خلدون حديثه : « ... لهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب ... وأنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء، فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمته وقوّته...» (1/228) أي إن ابن خلدون يجنح في آخر المطاف إلى رأي ابن ودرار القائل بأن ملك الهند هذا، من العظمة والقوّة والقدرة والثروة بمكان، يجبر العقل على تصديق رواية ابن بطّوطة. فمرونة التفكير التي عبّر عنها ابن خلدون في البداية، كبح جماحها هذا الوزير ووجّهها وجهة مخالفة، فابن خلدون « وان تبنّى عقليّة وضعيّة فإنه يأبى اتّباع مسار العقل حتى في ثنايا حيفه وضلالاته.»
في خضمّ هذه الذهنيّة المتكلّسة والمتحجّرة برزت شخصيّة غير عاديّة، متفتّحة، ذات توجّهات مختلفة عن الأغلبيّة من معاصريها وهي شخصيّة لسان الدين ابن الخطيب.
3) ابن الخطيب : تبادل ابن الخطيب مع ابن الخطيب صداقة متينة باعتراف كل واحد منهما رغم فارق السن، وكانت العلاقة متميّزة رغم ما شابها من انقباض حسب زعم ابن خلدون.
والملفت للانتباه أن هذه العلاقة لم تكن علاقة رصينة ومتحفّظة مثلما أراد ابن خلدون إقناعنا بها. فابن الخطيب ليس فقيها ولم يكن خطيبا بل أن تكوينه العلمي والمعرفي كان ينحو نحو الأدب والشعر والكتابة في مواضيع اعتبرت غريبة من قبل معاصريه. إذ يعدّد له ابن القاضي مثلا سبعة عشر تأليفا في مختلف المجالات بما فيها الطب كما أشار محقق كتاب روضة التعريف إلى أكثر من 55 تأليفا صنفها إلى مؤلفات كبرى ودواوين وأراجيز ورسائل ومقامات ورحلات ومن أشهر كتبه الأخرى نذكر كتابا حول الطاعون بعنوان : ”مقنعة السائل عن المرض الهائل.“ ويشير ابن خلدون والمقّري الحفيد إلى أن مجمل معارف ابن الخطيب التي تلقّاها عن شيوخه بغرناطة كانت في العلوم الفلسفيّة والطب والأدب، وإنه لازم الحكيم المشهور يحيى بن هذيل « فأخذ عنه الطب والتعاليم وصناعة التعديل»
يلمّح ابن خلدون إلى افتقار عائلة ابن الخطيب للإرث العلمي فيقول أنّ والده استعمل على مخازن الطعام لدى ملوك بني الأحمر(7/440) ولا يذكر من مؤلّفاته إلا كتاب الإحاطة وكتاب روضة التعريف الذي استعمل من قبل الفقهاء للتنديد به واتهامه بالزندقة. لكن تأثير ابن الخطيب في فكر ابن خلدون يبدو جليّا من خلال عديد المواضيع التي طرحها بالكتاب الأوّل من العبر ولا سيما بكتاب شفاء السائل حول التصوّف والمتصوّفين. إذ يشير ابن تاويت الطنجي إلى تأثّر ابن خلدون برؤية ابن الخطيب وينقل عنه عدّة أفكار وردت بروضة التعريف. ونفس هذه الملاحظة استنتجها محمد الكتّاني في تحقيقه لكتاب روضة التعريف حيث يقول : « ... وقد نقل عنه ابن خلدون في شفاء السائل والمقدّمة، آخذا بآرائه في مواضعها رغم ما كانت تقتضيه المعاصرة بينهما من تحفظ وعزوف عن ذلك.»
كما يورد ابن الخطيب رسالة شبه إباحيّة غضّ ابن خلدون عنها الطرف، نتبيّن من خلالها مدى تطوّر العلاقة القائمة بينهما فيقول ابن الخطيب : « ... ولمّا استقرّ [ ابن خلدون ] بالحضرة [ غرناطة ] جرت بيني وبينه مكاتبات أقطعها الظّرف جانبه ... فمن ذلك ما خاطبته به وقد تسرّى جارية روميّة اسمها هند صبيحة الابتناء بها :
أوصيك بالشيخ أبي بكرة • لا تأمننّ في حالة مكرة
واجتنب الشكّ إذا جئته • جنّبك الرحمان ما تكره
سيدي لا زلت تتصف بالوالج بين الخلاخل والدمالج وتركض فوقها ركض الهمالج . أخبرني كيف كانت الحال؟ ... فلله من عشيّة تمتعت من الربيع بفرش موشيّة ... و لله درّ القائل:
ومرّت فقالت : متى نلتقــي؟
فهشّ اشتياقا إليها الخبيــث
وكاد يمزّق سربالــــــه
فقلت : إليك يُساق الحديث.»
من خلال تتبّع ذكر ابن خلدون لصديقه، لاحظنا انتقالا طفيفا في وصفه، إذ يبدو بالكتاب الأوّل أكثر ألما وحسرة عليه وأكثر حنينا إليه من ذكره له بالتعريف.
فبالكتاب الأول نجده يصف ابن الخطيب بالشهيد ويضعه ضمن مجموعة من كبار الأدباء الذين استطاعوا ضمان استمراريّة اللسان المضري وتحكّموا في ملكة اللغة العربيّة بكل تبصّر قائلا : « ... ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت ونجم بها ابن بشرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم. ثم إبراهيم الساحلي الطريحيى وطبقته، وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه، وكان له في اللسان ملكة لا تدرك.» (1/779) أمّا بالتعريف أو ببقيّة الأخبار التي يذكره فيها بالجزء السابع من الكتاب الثالث، فيبدو ابن خلدون محايدا وفي بعض الأحيان شامتا :
« ... فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى، واتصلت حاله على ذلك.» (7/445) فكأن صاحب العِبر يلومه على نمط العيش الذي اختاره ابن الخطيب، وتتأكّد لنا هذه الملامة عندما نجدها أيضا لدى المقّري الحفيد الذي فهم من كلام ابن خلدون المذكور سابقا، نفس التوجّه في اللوم والمؤاخذة، فيقول : « ... وقد وقفت على كتاب للقاضي أبي الحسن [النبهاني] يخاطب به ابن الخطيب ويَعِظُهُ ويشير إلى ما اشتغل به من البنيان، وفيه ما يبيّن كلام ابن خلدون السابق وزيادة ويدلّ على ما ذكره ابن خلدون من أنّه سجّل عليه بأمور منكرة، وعند الله تجتمع الخصوم...»
لم يداري ابن الخطيب عن ممارساته وسلوكيّاته وعبّرت كتاباته عن ميولاته واهتماماته، فتمّ تأويلها في البداية ”على جانب كبير من الغرابة “ ووصلت التأويلات في آخر المطاف إلى تلبيسه تهمة الزندقة والكفر. ولدينا شهادة تثبت بأن هذه التهمة ما هي في الحقيقة إلاّ ذريعة تذرّع بها الفقهاء وأصحاب الامتيازات الجديدة ببلاط ابن الأحمر بغرناطة لإقصاء ابن الخطيب. وهذه الشهادة صادرة عن الونشريسي في تعليق له كتبه بخط يده على الصفحة الأولى من مخطوطة كتاب ” مثلى الطريقة في ذمّ الوثيقة “ لابن الخطيب، هذا التعليق أورده المقّري الحفيد في نفح الطيب حيث يقول الونشريسي : « جامع هذا الكلام [ أي ابن الخطيب ] المقيّد هذا بأوّل ورقة منه، قد كدّ نفسه في شيء لا يعني الأفاضل ولا يعود عليه في القيامة ولا في الدنيا بطائل، وأفنى طائفة من نفيس عمره في التماس مساوئ طائفة بهم تُستباح الفروج وتملك مشيّدات الدور والبروج وجعلهم أضحوكة لذوي الفتك والمجانة وانتزع عنهم جلباب الصدق والديانة، سامحه الله تعالى وغفر له.» ويكون رأي الونشريسي صحيحا عندما نتأمّل فحوى الرسالة التي وجّهها النبهاني من غرناطة لابن الخطيب وهو مقيم بسلا، وهي رسالة طويلة أوردها المقّري الحفيد في أزهار الرياض، رأينا من الضروري اقتطاف بعض الفقرات منها لإبراز أهميّة الصراع القائم بين الفقهاء والقضاة من ناحية وبين ذوي التوجّه المتحرّر من ربقة المنتصبين على الشريعة والذي يمثّله هنا ابن الخطيب.
يقول النبهاني في رسالته : « ... فشرعتم في الشراء وتشييد البناء وتركتم الاستعداد الهادم اللذّات، هيهات هيهات، تبنون ما لا تسكنون وتدّخرون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، أينما كنتم يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة، فأين الهرب ممّا هو كائن... والذي حملني على نصحكم ومراجعتكم في كثير من الأمور منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله... وقد قلت لكم غير مرّة عن أطراسكم المسودّة بما دعوتم إليه من البدعة والتلاعب بالشريعة : أن حقّها التخريق والتحريق ... فإن لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحده بالتوبة المكملة والاستغفار مع الانقطاع في أحد المواطن المكرّمة المعظّمة بالإجماع وهي طيبة أو مكّة أو بيت المقدس، فقد خسرتم صفقة رحلتكم، وتبيّن أن لغير وجه الله العظيم كانت نيّة هجرتكم... ووقعت في مكتوبكم كلمات أوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء والجهالة بمقادير الأشياء فيها : ريح صرصر وهو لغة القرآن، وقاع قرقر وهو لفظ سيّد العرب والعجم محمد ... » هنا ينتهي القسم الأوّل من الرسالة بتاريخ أواخر جمادى الأولى سنة 773، لكن النبهاني يستدرك مباشرة بعد وضع تاريخ كتابة الرسالة، وكأنّه قرّر تصعيد لهجة الخطاب وتحويله من النصيحة والوعظ واللوم إلى الطعن والتجريم والتهديد المباشر، مذكّرا إيّاه بتصرّفاته تجاهه عندما كان النبهاني قاضي قضاة دولة بني الأحمر وكان ابن الخطيب وزيرا بها. ويبدو من مضمون الرسالة بأن ابن الخطيب كان يتدخّل في شؤون القضاء بالتقليص من حدّة الأحكام الصادرة في حق المحكوم ضدّهم، فيقول النبهاني في هذا الصّدد : « ... فكابدتُ أيّام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعيّة وتهاونكم بالأمور الدينيّة... وذلك في جملة مسائل منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة... على كره منكم... ومنها مسألة ابن أبي العيش المثقف [المسجون] في السجن على آرائه المظلّة... فحملتم أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف [الحبس] من غير مبالاة بأحد... ومنها أن أحد الفتيان المتعلقين بكم توجّهت عليه مطالبة بدم قتيل وسبق المدّعَى عليه للذبح بغير سكّين... فأنفتم ذلك وسجنتم الطالب... وسرّحتم الفتى المطلوب على الفور... فإنّي أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة ورمي علمائها بالمنقصة على عادتكم وعادة المستخفّ ابن هذيل شيخكم منكر علم الجزئيّات القائل بعدم قدرة الربّ على جمع الممكنات...»
هذه ” الجرأة “ في التعبير، كتابة وسلوكا، والتي جسّدها ابن الخطيب، لم يستطع ابن خلدون مجاراتها حتى إنّه عندما أراد الترويح عن نفسه باقتناء مسكن بعيد عن أحياء القاهرة وصخبها، أتّهم بـ ” التبسّط بالسكنى على البحر، وبالإكثار من سماع المطربات ومعاشرة الأحداث.“
إن مواقف ابن الخطيب عبّرت عن الجموح الإنساني الطبيعي نحو الحريّة فكرا وممارسة، لكنّه اصطدم بمكبّلات الواقع الاجتماعي والديني التي تمّ التنظير إليها وفرضها على المتخيّل الجماعي منذ قرون خلت.
مظاهر مؤثّرات شيوخ ابن خلدون وتجلّيلتها :
لا يشذّ ابن خلدون عن هذا المسار أو عن هذه المرجعيّة فيقول : « ... ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف.» (1/477) فالله خلق الأرض للإنسان كي يُشرّف الخلق بصورته كلّه، وكي يكتمل هذا التشريف يتحتّم الاجتماع البشري في إطار المنظومة الدينيّة وتطبيق الشريعة بواسطة سلطة مركزيّة قويّة مدعومة من قِبل الفئة العالمة لتُشرّع تصرّفاتها تنظيرا وممارسة.
فالفكر الديني يعتقد بأن الإنسان مجبول على العدوانيّة بما اكتسبه فطريّا من نفس حيوانيّة، ولحماية الناس بعضهم من بعض ومن أجل حفظ النوع واستحقاق الاستخلاف الذي شرّف الله به عباده؛ لا بدّ من وازع لضبط الغرائز. ويتجسّد هذا الوازع في غلبة السلطان ويده القاهرة، حتّى إن كان هذا السلطان ظلوما، فهو خير من الإهمال والتسيّب والخروج عن مقاصد الشريعة.
مثل العديد من الفقهاء الذين سبقوه، عمل ابن خلدون على تثبيت هذه الرّؤى، فالعدل بالنسبة إليهم يظلّ نسبيّا، إذ هنالك ” العدل “ و” شبه العدل “، فالعدل المطلق لا يمكن أن يكون إلاّ إلاهيّا، أما العدل الأرضي وإن شابه الظلم فهو خير من الفوضى والفتن. ويقول ابن خلدون في هذا الإطار : « ... ثم إن هذا التعاون [ البشري ] لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع ... فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع ... فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلّط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة ... لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير ... وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهّم.» (1/489) ولقد حلّل أحمد عبد السلام مفهوم العدل لدى ابن خلدون فيقول : « ... إن ابن خلدون لم يستفد من جميع المفاهيم التي نجدها في مؤلّفات من سبقه ... ولم يحلّل فضيلة العدل في الأفراد إلاّ من الوجهة الدينيّة والتأسيسيّة الاجتماعيّة ضمن العدالة الشرعيّة... فاكتفى في هذا الميدان بكلام مجمل غالبه منقول ... وهو يميل إلى العدل المقيّد الذي يعرّفه بأنه ” العدل بالشرع “ وليس العدل المطلق الذي عرّفه الراغب الاصبهاني بذلك ” الذي لا يكون منسوخا في زمن من الأزمنة “ » لقد نجح فقهاء السلطة في قلب المفاهيم والمبادئ الإنسانيّة العليا التي أكّدها الخطاب القرآني، فجعلوا من « البيعة بيعة إكراه شرعيّة، والشورى إرغاما للأعيان، وتدجينا لسفلة المثقفين، والعدالة عدالة السلطة، والمساواة مساواة في واجب الطاعة والخضوع للحاكمين»
تلك هي الركائز الأساسيّة والمنطلقات الفكريّة لابن خلدون، وقد كان بإمكانه أن يرى غير ذلك، لأنّنا نستشفُّ من خلال بعض كتاباته بأنه كان على علم بأسباب التقدّم الفكري والتقني الذي بدأ يشهده العالم المسيحي آنذاك، فيعزو مثلا غلاء الأسعار بالأندلس إلى الحصار الذي فرضه النصارى على ما تبقّى من أراض بشبه الجزيرة الأيبيرية بيد المسلمين، كما لاحظ بكل تبصّر رفاهيّة التجّار المسيحيين الواردين على بلاد المغرب، ويشير إلى أن السبب في ذلك هو توفّر العمران وتعدد الأمم وكثرة السكّان، فيقول : « ... اعلم أن ما توفّر عمرانه من الأقطار وتعدّدت الأمم في جهاته وكثر ساكنه، اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم، وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما سيأتي ذكره من أنها سبب للثروة ... وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها ويشمخ سلطانها وتتفنن في اتخاذ المعاقل والحصون اختطاط المدن وتشييد الأمصار ... فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجّار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف.» (1/457) ويعترف ابن خلدون بتراجع وتدنّي الأوضاع الماديّة ببلاد المغرب مقارنة بالمجال المسيحي فيقول : « ... فإن نقص المال في المغرب وأفريقية، فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج، وإن نقص في مصر والشام، فلم ينقص في الهند والصين. وإنما هي الآلات والمكاسب والعمران.» (1/486) ويعبّر لنا بوعي تام عن مدى إلمامه بتطوّر العلوم بأوروبا فيقول : « ... كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة.» (1/633) لكنه لا يتفطّن إلى ضرورة الربط بين المعطى المادّي المزدهر والمعطى الفكري المتنوّع، وهذه الوضعيّة تختلف كليّا عن واقع الحياة المنغلقة والمتقوقعة ببلاد المغرب وبكامل المجال الإسلامي في ذلك العصر.
اعتقد بعض الباحثين في فكر ابن خلدون أن صاحب العبر كتب في ما لاحظ ولم يكتب في ما يجب أن يكون، لذلك لم يتّخذ موقفا من هذه المقارنات ولم يدفع بالتحليل إلى نهايته ولم يستنتج الفائدة، فكان حياده المزعوم تعبيرا عن العجز في استخراج العبرة واتخاذ المواقف التي يتطلّبها المنهج العقلي، « فالحياد في المواقف تهاون في أخلاق العلم.»
إن العدد الهائل من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة التي استشهد بها ابن خلدون عند كل ملاحظة ورفعا لكل التباس يمكن أن يحصل للقارئ؛ يجعلنا في شك من أمره ويدفعنا إلى الاعتقاد بأنه لا يعبّر عن ذلك بقناعة شخصيّة وطيدة في مرجعيّته الدينيّة فحسب، بل تعبّر كذلك عن خوفه من إمكانية تأويل آرائه بصفة مخالفة للاعتقادات العصر.
خاتمة :
إن طبيعة تفكير ابن خلدون الرّاسخة في الأصول الدينيّة دفعت به إلى أن يذهب أبعد من الفقهاء والعلماء الذين سبقوه في التشدّد. ولا يمكن أن نفصل بين مستويين للتفكير لديه، فنقول أن ابن خلدون العالم أو المنظّر لعلم التأريخ كان أكثر تحرّرا من ابن خلدون الفيلسوف أو الفقيه، لمجرّد اعتماده أحيانا على التجربة والمشاهدة، أو اعتمادا على دعوته القائلة بضرورة التفريق بين العلوم الطبيّة والفقه، بما أن الطبّ ليس من الوحي في شيء. فهذه الإشارات ” العلميّة “ لا تعتبر دليلا على ” الفكر المتحرّر لابن خلدون .“ فهؤلاء الأطباء إن لم تكن لهم عقول متحرّرة من كل شروط الأسطرة والانغلاق ضمن إطار معرفي متعال، لا يمكنهم أن يصلوا إلى التأكّد من أن الطب هو وسيلة أساسية من وسائل تحرّر الفرد والجماعة؛ بل سيكون كما رآه ابن خلدون وغيره من أصحاب النخبة العالية، وسيلة للمترفين من العلماء ومظهرا من مظاهر الحضارة الفانية.
لقد كان بإمكان ابن خلدون التفطّن لبعض الآفاق الأرحب، نظرا لِمَا توفّر لديه من إمكانيات معرفية وشيوخ عبَّر شخصيا عن فضلهم وقدرتهم وتفرّدهم مقارنة ببقية العلماء ممثلي الخط السائد والمهيمن. لكننا وجدناه في آخر المطاف يفضل الحلول التوفيقية على أساس التزام وتوجّه ديني، مذهبي، وسياسي وليس بناء على تفكير عقلي ومنطقي.