الخميس ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠
بقلم رشا السرميطي

صفٌ بلوريٌّ

هذا العام تحوّل الحلم إلى حقيقة مطلقة. ترفرف تلك الأمنية التي راودني طيفها منذ سنوات بعد أن خرجت من رأس الكاتب، وقد كنت أظنّ بأنّ هذا التَّغيير يحتاج لمعجزة ما وربّما كوكب آخر، وكأنّ الظّن شرك وخرافة، فجأة، سقطت جدران تلك الغرف المعتمة واختفت الأسقف التي كانت تستر صرخاتهم، ليغدو الصّف عن بعد بلوره. أصبح الطلاب فيها مثل العصافير والفراشات، نستطيع رؤيتهم جميعًا من جهات مختلفة بعيون ليست عاديَّة. كما يمكننا سماع الأصوات والأصداء التي انتشرت حولنا لنلتقط ما نشاء منها، ونغفل عمّا لا نريد.

أطلّ شهر تشرين وما زال الحال كما هو، تأخر الخريف وغاب المطر، بل يشتّد الخناق يومًا بعد الآخر على كافة الأصعدة: الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. تزدحم العقدة بخيوطها الرّفيعة، يتشابك الواقع مع الخيال فيرسم لنا المشهد غير المتوقّع. ثورة تكنولوجيَّة تقتلع جذور التّعليم التّقليديّ، تطمس معالمه بقوّة، تفضح عيوبه بشراسة، ليحتلّ أركان العمليّة التّعليميّة أدوات جديدة، تتجذّر بنا رغمًا عنّا، فرضتها سطوة الحالة الطارئة التي يمرّ بها العالم إبّان عدم انحسار فيروس الكورونا الذي حتّى اللحظة ما من أحد استطاع أن يجزم ماهيَّة حقيقة وجوده، وما طريقة علاجه، ولماذا مع كلّ هذا العلم الذي بلغه سكّان كوكب الأرض يعجزون اليوم عن فكّ الشّيفرة لمعرفة التّرميز الصّحيح لما نعيشه الآن.

ضوضاء شاهقة تدقّ جدران خزّان عتيق، أصوات مختلطة تتصادم بين مؤيّد ومعارض كلّ التّفاصيل تذوب بمحبرتي، تأخذ لون الياسمين وعطر الفرح بأنَّ المستقبل سيكون أجمل، تلحّ الدّواة على القلم كي نملأ القرطاس أملاً وحبّا. صحيح أن التَّعليم عن بعد نمط جديد يخترق أركان حياة المعلمين، يكسر أقفال روتينهم المعتاد، يمزّق خططهم القديمة، ويؤول بكلّ الأشياء في صندوق كتب عليه كلمة "فشل" كذلك يتطفّل على منازل الطلاب وأولياء الأمور، فلا يسلم منه شرّه أحد، يحكم السّلاسل حول أقدامنا وأيدينا، ينتهك أسرار بيوتنا، لكنّه حتمًا لن يتمكّن من أفواهنا لنجيب بصدق أمام جميع التّحديّات التي نعيشها، ماذا علينا أن نختار: هل نفتح الصّندوق؟ أنعلّم أولادنا ونحسّن عمليّة التّعليم بشراكة حقيقيّة ينسجم فيها المعلم والطالب وأولياء الأمور فلا نخسر أم نتوّقف كما يغرّد الجاهلون؟ ونهمل الصّندوق على رفّ النسيان، حينها فقط فجوتنا ستكبر.. تذكروا أنّ معاناة اليوم نتجت عن أخطائنا بالأمس.

إن كانت البرمجيّات المستخدمة من قبل المعلمين غير مناسبة، والمواقع والأدوات والوسائل وكذا الطريقة غير صحيحة، فالتمسوا العذر لهؤلاء القامات التي كادت أن تكون رسلاً، لنساعد بعضنا كي نمتلك الأدوات التي نحتاجها، ونقود العمليّة التّعليميّة بإتقان، لكي نرسم الطريق بمعالم نختارها فلا تختار الهزيمة نهاية لنا. الشّبكة العنكبوتية مليئة بمعلومات وبيانات ضخمة، وحش " العولمة" يخبئ في جيوبه النّافع والضّار، تمامًا كما الحياة فيها أشخاص كثيرون ومختلفون، ولكلّ فأس فلاح يزرع، وأرض تنبت فيها البراعم الخضراء التي ما إن يسقيها حتّى تزهر، ومابعد كدّ وتعب وانتظار، سيمضي هذا الوقت، حينها لابدّ أن نأكل من حلو الثِّمار.

منذ أيّام أتابع مواقع التّواصل الاجتماعيّ، أقرا ما يكتبون، أسمع ما يسجّلون، أدوّن ملاحظات على دفتري الأزرق، لضيق الوقت لا يمكنني أن أردّ هنا وهناك. ثمّة ساعات لا يمكن إضاعة جزء من ثانية واحدة منها، صدق القائل: الوقت كما السّيف. لكنّه اليوم يمزّقنا إربًا، نمرّ في القدس بحالة طارئة، الوقت يفلت من بين أصابعنا، وأخشى أن تسقط السّنة الدّراسيّة أيضًا كما فرّت حبّات الذّهب التي قبضنا عليها بشدّة على شاطئ هناك يوم نسينا أرواحنا وعدنا متفرقين ملتفحين بمعطف الحنين لغروب ناعم، نرجو أن يعود زمان المجد وتعلو الهمم بتعليم أفضل لطلابنا.

كيف لنا أن نرضى عن هذا الحال؟ ليس بسبب وجود مانع صحيّ التّعليم يتراجع، المنظومة تشيخ منذ سنوات، لكنّنا نتغاضى ونمارس حياتنا الطّبيعيّة، لكنّ عام الكورونا رفض التغافل، ولم يقبل عذرنا القديم، لوجود موقف ضروريّ علينا اتخاذ قرارات حاسمة، إنّها منحة لا نملك لاستثمارها وقتًا طويلاً، كي تعتمل بعقولنا وقلوبنا الاحتمالات، أعلم أنّها مخاطرة، لكنّ لها وجهين: إمّا أن تكبر الفجوة التّعليميّة وتزداد مناديل الحداد على جيل سيضل الطّريق فيلتقي بجيل ضاع قبله عام 1987م. والوجه الآخر أن نتعلم من تجاربنا وأخطائنا، ونوظّف كافة الطاقات والإمكانات والأشخاص فنخوض المغامرة وندقق بمقادير التّجربة التي من حسن حظنّا أن نشرف على سيرورة بحثها العلميّ، وما هو مطلوب منّا سوى التّوازن والإتزّان أمام تلك الأرياح العاتية، وتسجيل الملاحظات والنّتائج بدقّة كافية لأنّ تقود سفينتنا نحو البحر الذي نريد.

لمن يشتمون المعلمين والمعلمات: أغدقوا علينا بالحلول البنّاءة عوضًا عن النّقد وبناء الحواجز وتورية المطبّات.

للأكاديميين والمختصين بالتّكنولوجيا: مدد يا شيوخنا مدد ..ممّا تعرفون وتعلمون بأنّه الأفضل لطلابنا.

لكلّ قائد تربويّ في الميدان والصّف عن بعد: على مهل، السّياقة أخلاق، جميعنا سنبلغ آخر السّنة بأمان، فلماذا تركضون؟ أم تحبّون أن نجري وراءكم فقط؟

لأولياء الأمور: أعترف بأنّني أميل نحو كفّة الميزان لصالحكم، فجأة فرضت عليكم مسؤوليّة ثقيلة، رفضت الجبال أن تحملها، ولكنّ المعلّم لم يزل يحمل الأمانة جيلاً بعد الآخر.

لطلابي الأعزّاء: ثقتي بكم كبيرة، مؤمنة بأنّكم أروع متعلّمون، وقريبًا نطوّر أدواتنا معًا، أخشى أن تسبقونا..

المعلمون المحترمون، قادة المواقف: نحن أمام فرصة حقيقيّة لتطوير عمليّة التّعليم، في هذا الوقت الضّائع لن نحتاج لتوقيع مسؤول وموافقة وزير، لنمارس مهنتنا التي نحبّ، نمتلك الشّرعيّة لتخطيط المناهج في ظلّ عام الكورونا، ولأنّ التّعليم لم يعد وجاهيًا لا بدّ للمعلم أن يتغيّر أيضًا، ليواكب هذا التّجديد، ويحكم قبضته على مقود النّجاة، نحو مراسي الأفكار.

هل قلت مراسي الأفكار؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى