الثلاثاء ٣ آذار (مارس) ٢٠٢٠
قراءة نقدية في كتاب

«صورة العدو في شعر المتنبي-دراسة»

حسن طاهر أبو الرُّب

عرض الكتاب:

هذا كتاب للباحث الدكتور نوزاد شكر الميراني، وهو بعنوان"صورة العدو في شعر المتنبي _دراسة-"، وأصل الكتاب رسالة ماجستير كتبها الباحث وحصل بها على درجة الماجستير، ثم طبعت الرسالة في كتاب صدرعن دار الزمان للطباعة والنشر في دمشق سنة 2010م، ويشتمل على مائة واثنتين وخمسين ورقة من الحجم المتوسط.

ويتألف الكتاب من إهداء ومقدمة وتمهيد ثم ثلاثة فصول وخاتمة ثم المصادر والمراجع.

وقد تحدث في المقدمة عن أسباب اختياره للموضوع، وعن الدراسات السابقة، وخطة البحث، وفي التمهيد تحدث الباحث عن الصورة وأهميتها وظهورها لدى الغرب ولدى العرب ثم بيّن مفهومها لدى القدماء والمحدثين، وتحدث عن"العدو"لغة واصطلاحا، ثم عن المتنبي وأوضاع عصره. وفي الفصل الأول ناقش الباحث صورة العدو الفردي في ثلاثة مباحث،الأول صورة العدو الشخصي للمتنبي، وفي المبحث الثاني صورة عدو الممدوح وفي المبحث الثالث بيّن صورة الملك والقائد العَدُوَيْنِ. وفي الفصل الثاني تحدث عن صورة العدو الجماعي وقسّمه لثلاثة مباحث أيضاً وهي: صورة العدو الخارجي (الروم) ثم صورة العدو الداخلي (القبائل العربية) ثم صورة الناس أعداء، وفي الفصل الثالث وعنوانه"صورة العدو الذهني"تحدث الباحث في مبحثين، الأول صورة الزمان عدواً، والثاني صور أخرى نحو (الموت، المرض، الذل، الجهل، الفقر)، ولخص الباحث في الخاتمة أبرز النتائج التي توصل إليها.

وعلى هذا النحو سار الباحث في دراسته مستعرضاً شعر المتنبي،ولا شك في أن التوفيق حالفه في كثير مما فعل، يدلنا على ذلك ما بذله من جهد واضح، وهذا حقّ وواجبٌ على الذين اختاروا العلم طريقاً يوصلهم إلى حقيقة الأشياء، فيزدادوا به شرفاً، ويجددوا به حياةً، وينعموا منه في خير وفير..

غير أن الكتاب على ما فيه من رؤى جديدة تستحق التقدير، إلاّ أن صاحبه أخفق في جوانب متعددة، رأيتُ أنّ الواجب العلمي يقتضي عرضها، حتى إذا تهيأ لباحثنا الاطلاع عليها وأراد بعد ذلك طباعة كتابه مرة أخرى خرج كتابه على درجة كبيرة من السلامة في المضمون وفي الشكل أيضاً..

والحقّ، إني قمت بقراءة الكتاب غير مرة، ونظرتُ في كلماته وتراكيبه، وتتبعتُ الأشعار التي أتى بها الباحث بيتاً بيتاً، وما ذاك إلا لأني صحبتُ المتنبي ثلاث سنوات في مرحلة الماجستير، ووقفتُ على ديوانه من مصادر متعددة،قديمة وحديثة، ولا أكاد أترك شيئاً يُكتْبُ في هذا الشاعر إلاّ وقرأتُه بقلبي وعقلي وعينيّ،وقد سبق لي أن كتبت في النقد القديم الذي وُجِّه للشاعر، جاعلاً من وساطة القاضي الجرجاني قيمة نقدية تستحق الوقوف..

والآن، وأنا أعرضُ لكتاب هذا الباحث أقسّمُ نظراتي النقدية فيه إلى ثلاثة أقسام،الأول في مصادر البحث، والثاني ويتصل بمضمون الكتاب، والثالث الآخر ويتصل بالشكل، وسأجعلُ ما جاء به الباحث أساساً في العرض، حتى يتبين الأصحّ من الصحيح، والصواب من اللّبس،لأني أعتقد في الباحث عنايته بالصحيح دائماً، وهذا هو الأصل.

أولاً - مصادر البحث الرئيسة:

اعتمد الباحث في دراسته لصورة العدو في شعر المتنبي على شرح الشيخ عبد الرحمن البرقوقي دون سواه، ذاك الشرح الصادر عن دار الكتاب العربي في بيروت عام 1979م، ولم يذكر لنا شيئاً عن الشارح، ولا عن سبب هذا الاختيار، وإنما اكتفى بالقول:"وفيما يخص المصادر والمراجع كان اهتمام الباحث بديوان الشاعر يأتي بالدرجة الأساس.." ثم أحال القارئَ إلى الهامش رقم 1 وجاء فيه:"اعتمد البحث (الباحث) على ديوان الشاعر بشرح البرقوقي، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 1979م".

وأعجبُ هنا لأمرين،الأول: أنّ الباحث أهمل التعريف بالشارح ولم يشر إليه ولو بذكر موجز، والآخر لم يوضح سبب اختيار هذا الشارح دون سواه، الأمر الذي تسبب بغياب أسماء أشهر من شرحوا ديوان المتنبي، وكانوا أقرب إلى عصره، بدءاً بشرح ابن جني المسمى ب"بالفِسْر"وأبي العلاء المعري في شرحه المسمى ب"معجز أحمد"وشرح الإمام الواحدي، ثم شرح أبي البقاء العكبري، وانتهاءً بشرح اليازجي. وذاك أن الدراسة التي قام بها الباحث مقصورة على شاعر قديم، كثُرَ فيه الأخذُ والردّ، فلا غنى لأحد عما كتبه القدماء، حين تكون دراسته في موضوع قديم. ولا يعني هذا أن يُغْفِلَ الباحث ما كتبه المحدثون،إذ إنّ مهمته تقتضي أن يلج مسالك البحث أنّى كانت، ويستخرج لجمهور القرّاء كلّ جديد ومفيد.

لا أدري إذا كان الباحث ترك ذلك قصداً أم عن غير قصد؟ فالشيخ البرقوقي∙ عَلَمٌ يسمع به الناس ولا يعرفون عنه شيئاً..!! ولا أدري إن كان الباحث درس مقدمة شرح الشيخ البرقوقي أم اكتفى بالوقوف على الأشعار وشرحها. وهل كان اختيار هذا الشرح اختياراً ذاتياً أم نصيحة من مشرفه الدكتور لطيف محمد حسن جزاه الله كلّ خير.

إن تعدد الشروح لديوان شاعر ما كالمتنبي يدلّ دلالة واضحة على مدى اهتمام القدماء والمحدثين وعنايتهم بشعره. وقد قرأت مقدمة شرح الشيخ البرقوقي، ولمست عنايته بالمتنبي، واطلاعه الواسع على ما كتبه القدماء فيه، وقد ذكر أسباباً دفعته إلى شرح ديوان الشاعر يقول فيها:"..بيد أن المتداول من شروحه إنما هو العكبري والواحدي واليازجي حسبُ:

أما الواحدي فلأنه لم يطبع إلاّ في أوربّه وفي الهند فقط، كانت لذلك نسخة قليلة التداول في أيدي الناطقين بالضاد لندرته وغلاء ثمنه، ومن ثم كان في حكم غير المتداول. ثم هو – الواحدي – ومثله العكبري كلاهما موضوع ذلك الوضع الخلق البالي العقيم – بعثرة الأبيات وإثبات البيت ثم شرحه، وهكذا دواليك – وضع لا يتفق ومزاج هذا الجيل، ولا سيما من يبتغي حفظ الديوان واستظهاره، هذا إلى التحريف الكثير الذي ألمّ بالواحدي والعكبري معاً، وهنا لا يسع المرء إلاّ أن يأسف كلّ الأسف وتتقطع نفسه حسرات جرّاء ذلك الداء الخبيث العياء الذي ألمّ – ولا يزال يلمّ – بالمطبوعات العربية – داء التصحيف والتحريف – حتى لا يكاد يسلم منه كتاب عربي، فذهبَ بجمال التواليف وشوّه خلّقها وصار بها إلى حيث تنبو عنها الأحداق، وتتجافى عن قراءتها الأذواق، ويتخاذل الذهن.." ويتابع البرقوقي حديثه موضحاً عيب الواحدي والعكبري:"أقول: إنّ عيب الواحدي والعكبري هو ما ذكرتُ: وضع لا يتفق وروح العصر، وتحريف كثير شائع في الكتابين، ذلك إلى هفوات تلحق كُلاّ على حِدَته، وقصور في أو تقصير أو إقصار يُلمُّ بساحته،فإذا أردت أن تجتزئ بالعكبري – مثلاً- وتستغني به عن غيره فإنه لا يغني كلّ الغناء، وكذلك الواحدي. ويزيد الواحدي على العكبري أنه لا يحفل بتفسير المفردات ولا بالإعراب، وبأنه لا يفسر كثيراً من الأبيات، فكأنه موضوع للمنتهين. ولذا لا يؤاتي الشادين...". وحين نتأمل في كلام الشيخ البرقوقي، نجد أنه يسوق مجموعة أسباب، تناسب زمنه هو ولا توافق ما نحن عليه من النهضة والتطور في الطباعة والنشر، فشرحا الواحدي والعكبري طبعاً كثيراً بعد عصره، وانتشرا في أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، ثم إن دارس المتنبي يعلمُ الطريق الذي يسلكه، وما يحتاجه من معاجم في سبيل تفسير المفردات، وما وقع فيه العكبري والواحدي من تصحيف وأخطاء في الطباعة لم يسلم منها الشيخ نفسه..وأخيراً نجد الشيخ البرقوقي يتكئ كثيراً في شرحه على ما قاله الواحدي والعكبري وغيرهما معترفاً ما أصاب طبعته الأولى من أخطاء وذلك في مقدمة طبعته الثانية:"ورأيت في بعض عبارات القدامى من الشارحين غموضاً يجمل أن يوضح أو يستبدل به غيره، مما يوائم أذهان هذا الجيل..فكان أن أوردتُ فيه جميع تفاسير الشارحين – من متقدمين ومتأخرين – وأقوال نقدة المتنبي..فضلاً عن تصحيح الأخطاء التي ألمت بالشرح الأول.."

كان على الباحث أن لا يكتفي بشرح البرقوقي وحده،فموضوعه في شاعر قديم، وهناك من الشّارحين من هو أقربُ إلى عصر الشاعر من البرقوقي، وماذا عليه لو قارن بين تلك الشروح، وتخيّرَ الأفضل والأقرب إلى الدقة؟ ما دامت تلك الشروح وفيرة سهلة التناول، سواء في المكتبات الملموسة باليد أم المقروءة إلكترونياً؟؟

ولا أدري كيف يرجع الباحث إلى ما يقارب مائتي مصدر ومرجع ودورية، ولا أجد بينها مصادر ومراجع مفيدة ككتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي عبد العزيز الجرجاني، وكتاب أبو الطيب المتنبي في مصر والعراقين لمصطفى الشكعة، وكتاب مع المتنبي لطه حسين، وكتاب المتنبي يسترد أباه لعبد الغني الملاح...

أقول، لو اطلع الباحث على شروح المتنبي المتعددة، وهذه المصادر والمراجع لأفاد كثيراً مما يبحث عنه، ولقدّم للقارئ ولشداة الأدب دراسة رائعة مستوفاة، تسهم مع غيرها من الدراسات في رسم صورة واضحة لشعر المتنبي..

ثانياً- المضمون، واشتمل على الملاحظات الآتية:

 تجاوز الزمن الشعري:

نتج عن اعتماد الباحث على شرح الشيخ البرقوقي فقط، تجاوز الزمن الذي نظمت فيه الأشعار التي تعرض لها الباحث في بيان صورة العدو في شعر المتنبي،فالشيخ البرقوقي رتّب قصائد الشاعر وفق حرف الرويّ، ولم يُعْنَ بالزمن مطلقاً، فالقارئ يجد القصائد التي حرف رويّها الهمزة ثم الباء ثم التاء وهكذا إلى آخر الديوان..وكان بوسع الباحث أن يتجاوز هذا الترتيب المُلبس إلى ترتيب زمني يتتبع من خلاله أعداء الشاعر مرحلة مرحلة، كأن يجعل القسم الأول: أعداء الشاعر ما قبل سيف الدولة، والقسم الثاني: عند سيف الدولة، والقسم الثالث: عند كافور الإخشيدي، والرابع في العراق. وقد سار ابن جني والمعري والواحدي على ترتيب جلّ القصائد ترتيباً زمنياً ولم يختلفوا إلاّ في مقطوعات صغيرة كانت في المرحلة الأولى من حياة الشاعر، ثم جاء اليازجي وعبد الوهاب عزام ومصطفى سبيتي بعد ذلك وساروا على الطريق نفسه في الترتيب. يقول محقق شرح المعري في المقدمة:"..وقد وازنتُ بين شرح المعري وديوان المتنبي بتحقيق الدكتور عبد الوهاب عزام وشرح الواحدي فوجدت ثلاثتها متفقة على الترتيب المذكور في شرح المعري اللهم إلاّ قطعاً محدودة لا تتجاوز أصابع اليد مما نظمه في سنيّه الأولى..وهذه المقدمات تُلْفى في شرح ابن جني.."، ويشيد المحقق بما قام به أبو العلاء في هذا الشرح قائلاً:"والحقيقة أن شرح المعري هو أوفى الشروح استقصاء وإثباتاً لشعر المتنبي، فقد أثبت فيه من شعر الشاعر ما لا يكاد الباحث يجده في سواه..".
وقد وقع الباحث في خلط كبير نتيجة عدم اعتماد الترتيب الزمني لشعر المتنبي نجم عنه خطأ في النتائج، ومثال ذلك ما ورد في ص24 في الفصل الأول وفي المبحث الأول"صورة العدو الشخصي للمتنبي"فقد أتى بقول الشاعر:

(البسيط)

فالعيس أعقلُ من قوم رأيتهمُ عما يراه من الإحسان عميانا

وخلص إلى أن صورة الأعداء هنا كالعيس،"..وبذلك يصف الشاعر أعداءه بالجهل ومن هنا جاءت صفات أعداء المتنبي مستندة إلى محاولة الشاعر تجريد هؤلاء الأعداء من القيم والمعرفة بعد أن ألحقهم بالبهائم تارة وفي أخرى فضّل البهائم عليهم، وقد أدرك أعداؤه هذه الصور التي رسمها لهم فانفضوا عنه وخاصموه فساءت حاله معهم.."والصحيح أن هذا البيت قيل في قصيدة يمدح بها سعيد بن عبيد الله بن الحسن الأنطاكي الحمصي ، وهي من قصائد المرحلة الأولى قبل سيف الدولة، ولم يرَ بعدُ من أعدائه إلاّ القليل القليل، فكيف يرى الباحث أن أعداء الشاعر انفضوا عنه وخاصموه حين جعلهم كالعيس وفضّلها عليهم؟؟ وفي الصفحة ذاتها وبعد فقرتين من البيت السابق، يأتي الباحث بقول الشاعر: (الوافر)

وفي الأحباب مختصٌ بوجدٍ
وآخرُ يدّعي معه اشتراكا
إذا اشتبهت دموع في خدودٍ
تبيّن من بكى ممن تباكى

يجعل الباحث البيتين دليلاً على استعمال الشاعر للمدرك الحسي والذهني في تصوير ملامح العدو، حين يقول مقدماً لهما:"فالمدرك الحسي كما يرى الباحث يظهر من خلال الدموع التي تجري على الخدود، أما الذهني فيتضح من معرفة الشاعر لنياتهم العدوانية خلف الدموع، لذلك يفرّق الشاعر بين دموع الأحباب ودموع التماسيح"ثم يذكر البيتين ويعلق عليهما قائلاً:"تفصح الصورة عن انفعال العدو الكاذب ومحاولته إيهام الآخرين وتقربه إليهم بالبكاء الدالّ على المحبة..."

والصحيح أنّ هذه القصيدة هي آخر ما نظم الشاعر، وقد أنشدها في وداع عضد الدولة البويهي في شيراز، وهي قصيدة في مجملها شوق وحنين لعضد الدولة قبل أن يفارقه، وأراد الشاعر أن يؤكد صدق محبته، وأنه اختاره على غيره من الناس، واختص به دون سواه رغم أن بعض الناس يشرك في محبته أناساً آخرين وينافق لهم، وليس في القصيدة كلها شيء عن العداوة أو الأعداء. ولو اطلع الباحث الفاضل على القصيدة من مصدر آخر ووقف على مناسبتها ومفرداتها ومعانيها، لما وصل إلى هذا الحكم، ولما وضع البيتين في هذا الموضع، بعد أبيات قالها في المرحلة الأولى..!!

والأمر نفسه يكرره الباحث في ص29 الفقرة الثانية حين يتحدث عن موقف العلماء والأدباء في مجلس سيف الدولة من المتنبي القائم على الحسد، ويذكر الباحث بيتاً من أول قصيدة مدح بها الشاعر سيف الدولة وهو: غضبْتُ له لمّا رأيْتُ صفاتُه بلا واصفٍ والشعر تهذي طماطِمُه (الطويل)

ويعلق الكاتب قائلاً ص29 السطر الثاني عشر:"..إنها إشارة واضحة إلى عدم قدرة هؤلاء الشعراء على امتلاك الأدوات الشعرية التي تؤهلهم للإفصاح عن صفات الممدوح، فضلاً عما نستشفه من موازنة بين الشاعر وسواه من الشعراء الآخرين، فهو متقدم عليهم وهو متخلفون عنه، وما عجزهم ذاك إلاّ إفصاح عن كونهم متشاعرين.."ويستشهد بقول المتنبي:

أرى المتشاعرين غُروا بذمي
ومن ذا يحْمَدِ الداءَ العضالا (الوافر)

والصحيح أن هذا البيت (أرى المتشاعرين..)قاله الشاعر في قصيدة مدح بها بدر بن عمار في المرحلة الأولى قبل ذهابه لسيف الدولة بسنين، وكان يناسب حال الشعراء الحساد في مجلس بدر بن عمار، ولا يناسب الشعراء في مجلس سيف الدولة، فأبو فراس الحمداني ليس متشاعراً، ثمّ إن القصيدة الأولى التي أخذ منها الباحث (عجبتُ له لمّا رأيت صفاته..) هي الأولى في مدح سيف الدولة، وفيها تعريض بالشعراء، لكن هناك مسافة زمنية بين البيت الأول والثاني، ولكلّ منهما حال مختلف، كان على الباحث مراجعته لوضع البيت مكانه السليم من الدراسة. ومن الأمثلة على تجاوز الباحث الزمن في شعر المتنبي ما جاء به ص48 السطر الحادي عشر في سياق الحديث عن عداوة الشاعر للملوك والسلاطين، يقول الباحث:"وتتوالى إشارات المتنبي الواضحة في عداوته لهؤلاء الملوك والسلاطين."(ويستشهد بقوله):

وجنّبني قرب السلاطين مقْتُها
وما يقْتَضيني من جماجمها النسرُ (الطويل)

والبيت من قصيدة يمدح بها علي بن أحمد بن عامر الأنطاكي، وكانت قبل أن يلتقي الشاعر بسيف الدولة، أيْ من شعر المرحلة الأولى، لكن الباحث يعلق على البيت بقوله:"فثمّة تناقض بين فعل الشاعر وقوله الذي يدّعي تجنب السلاطين في حين عاش أغلب حياته مادحا لهم، قريباً منهم، بيد أنّ الصورة تؤكد كراهية الشاعر الشديدة لهم من خلال قطع رؤوسهم ورميها للنسور.."ثم يأتي الباحث ببيت آخر من المرحلة الأولى من حياة الشاعر ومن القصيدة السابقة نفسها وهو قوله:

وتضريبُ أعناقِ الملوكِ وأنْ ترى
لك الهبوات ُ السودُ والعسْكَرُ المجْرُ

والعيب هنا أن الباحث يصدر الحكم في عداوة الشاعر للملوك والسلاطين وحين يأتي بالشواهد يأتي بشعر من المرحلة الأولى قبل أن يلتقي سيف الدولة أو كافورا أو ابن العميد أو عضد الدولة، ولم يلتق قبل ذلك سوى ببدر بن عمار والي طبرية وبوالي الرملة طاهر بن الحسين العلوي وقد مدحهما الشاعر. وإنما المتنبي شاعرٌ، إذا غضب من أمير أو وزير ملَكَ عليه غضبه نفسه فعمم في الحكم وهو يقصدُ شخصاً بعينه، وعلى الباحث أن يتأمل البيت ويتأمل الموقف الذي قيل فيه، ولا يلجأ في حكمه إلى التعميم إلاّ إذا تعددت الشواهد التي يأتي بها، ودلّت على مراحل زمنية متعددة.

 هل رفض الشاعر حكم البويهيين؟

يقول الكاتب في ص20 السطر الثالث من كتابه:"..وعلى الرغم من مدح المتنبي لأعظم شخصية في هذه الدولة (البويهية)عضد الدولة وابن العميد إلاّ أنه كان رافضاً لحكمهما..".
والغريب أن الكاتب لم يعلل هذا الحكم مطلقاً، فكيف يرفض الشاعر حكم ابن العميد وحكم مولاه عضد الدولة البويهي ثم يذهب إليهما ويمدحهما بغرر القصائد، ويقبل عطاياهما في الوقت نفسه؟؟ ثم لماذا لم يشرْ الباحثُ إلى هذا الرفض حين تحدث عن الملك العدو ص43، واكتفى بذكر كافور الإخشيدي فقط!!؟

وكيف نفهم مدائحه في ابن العميد وعضد الدولة، وهو القائل في ابن العميد يوم الوداع : (الطويل)
تفضلـتْ الأيامُ بالجمعِ بيننا
فلمّا حمِدْنا لم تُدِمْنا على الحمـدِ
جعلْنَ وداعي واحداً لثلاثـةٍ
جمالِك والعلْمِ المبرّحِ والمجْــدِ
فجُدْ لي بقلبٍ إنْ رحلتُ فإنني
مُخلّفُ قلبي عندَ منْ فضْلُه عندي

وهو القائل في فراق عضد الدولة البويهي: (الوافر)

أروحُ وقد ختمْتَ على فؤادي
بحبّكَ أنْ يحلَّ به سواكا

وربما بنى الباحثُ حكمه على قول الشاعر في المرحلة الأولى:(المنسرح)

وإنما الناسُ بالملوكِ وما
تُفْلِحُ عُرْبٌ ملوكها عَجَمُ

لكنّ الشاعر هنا يشير إلى الخلفاء العباسيين الذين تحكّمَ بأمرهم الجندُ والقادة من العجم في عاصمة الخلافة بغداد، حتى قيل إنهم كانوا يعزلون ويولون من شاءوا ، وقد سخط المتنبي من هذه الحال، فلم يقرب الخلفاء، وعرّض بهم في كثير من المواضع. أما ابن العميد فقد ولي أمر أرجان وهي من بلاد فارس، من قبل عضد الدولة البويهي في شيراز.

 هل الشاعر تخيّل حسادا وهميين؟

يقول الباحث في ص26 الفقرة الأخيرة:"وانطلاقاً من تفاخره (الشاعر) فقد تخيل حسّاداً وهميين أصبح يعاديهم في أشعاره ويسخرُ منهم بعد أن امتلك من مقومات الفعل ما يثير حنقهم وغضبهم"ويأتي ببيتين للشاعر وهما قوله: وللحسادِ عذرٌ أن يشحّوا على نظري إليه وأن يذوبوا (الوافر)

فإني قد وصلتُ إلى مكانٍ
عليه تحسُدُ الحدَقَ القلوبُ

و هذان البيتان من قصيدة قالها الشاعر حين عاد سيف الدولة في مرضه ومطلعها:

أيدري ما أرابك من يريبُ
وهل ترقى إلى الفلْك الخطوبُ (الوافر)

وفي حلب عانى الشاعر من الحسّاد كأبي فراس وابن خالويه وغيرهما الذين لم يرُق لهم ما وصل إليه المتنبي من المكانة لدى سيف الدولة وبعد الصيت، ثم إنّ الباحث يستشهد بعد ذلك بفقرات بأبيات أخرى للشاعر نظمها في مدح سيف الدولة منها قوله:

أزلْ حسَدَ الحسّادِ عني بكبْتِهمْ
فأنتَ الذي صيّرتُهم لي حُسّدا (الطويل)

ويعلق الباحث في ص28 الفقرة الثالثة على هذا البيت قائلاً:"يبدو الشاعر مبتلياً بشرّ هؤلاء الحساد الذين يحاربهم، ولم يفكر في مداراتهم ليكسب ودّهم ويتعايش معهم، بل أعلن الحرب عليهم، وأنّ عدم استقراره في مكان أو عند أمير من الأمراء دليل على العمر الذي صرفه بين الحساد والخصوم..."ولا يستطيع أي قارئ هنا أن يفهم، كيف يكون الحساد هنا حقيقيين وهناك من المتخيلين، علما أن المكان واحد والأمير واحد.؟؟

 الإنسان يشبه الكلب لقبح الشكل؟

يقول الباحث في هجاء المتنبي لكافور ص50 السطر الرابع عشر:"وقد أطلق المتنبي لسانه في كافور وشبهه بأصناف الحيوانات (ويستشهد بقوله):

ما كنتُ أحسَبُني أحيا إلى زَمَنٍ يسيءُ بي فيه كلْبٌ وهو محمودُ (البسيط)

ومما قاله الباحث معلقاً على هذا البيت:"ولعل في تشبيهه بالكلب يريد قبح شكله..". وكم كنت أتمنى على الباحث لو اعتمد على غير شرح البرقوقي الذي روى (كلب)،إذ إنّ الواحدي رواها (عبد) وكذلك اليازجي ورواها المعري (كلب)، وبصرف النظر عن أصل الكلمة -علماً أنّ واجب الباحث الإشارة إلى روايات الشارحين إنْ اختلفت - فإنّ تشبيه الشاعر لكافور بالكلب لا يكون مطلقاً نتيجة الشكل،إذ لم يُقِمْ الباحث دليلاً على ذلك، فالكلب يمتاز بالخسة والدناءة وهذا ما أراده الشاعر، ولا أدري إذا نظر الباحث في شرح البرقوقي - الذي اعتمده -،إذ قال في شرح البيت:"ما كنت أظنّ أَجَلي يمتدّ بي إلى زمن يسيء إليّ فيه شرّ الخليقة، وأراني مع ذلك مضطراً إلى مدحه وحمده، ولا أستطيع أن أظهر الشكوى".

 المتنبي والساديّة:

يتهم الباحث الشاعر بأنه صاحب نزعة ساديّة وذلك لقوله:

نَثَرْتَهمُ فوق الأُحيْدِبِ كلِّه
كما نُثَرَتْ فوق العروس الدراهمُ (الطويل)

ويقول معلقاً ص76 السطر الرابع عشر:"ومن الغريب في الصورة أنّ هذا المشهد البشع تدحرج رؤوس القتلى مُشبّهٌ بمشهد فرح وطرب (كما نثرت فوق العروس الدراهم) حيث التنافر واضح بين المشهدين وليس من مخرج مفسر لاقتران هذين المشهدين المتناقضين إلاّ الركون إلى النزعة الساديّة المتلذذة بتعذيب المقابل..". وإذا كانت الساديّة التلذذ بتعذيب الآخر أو"هي الحاجة إلى إيلام الآخر أو انحراف في الغريزة الجنسية حيث يجد الشخص النشوة الجنسية حين يسبب إيلاما للآخرين". فهل توافق هذه الصفة شخصية المتنبي الإنسان الذي عُرفَ عنه الكبرياء والأنفة والفخر وحبّه للمعالي؟؟ ولو كان كذلك فلماذا نجده يتفطر قلبه شفقة ورحمة على بني كلاب حين تمردوا على سيف الدولة فهاجمهم، فحاول الشاعر تخفيف المصاب كما في قوله :
ترفقْ أيها المولى عليهــمْ
فإنّ الرفقَ بالجاني عتابُ
وعينُ المخطئين همُ وليسوا
بأولَ معشرٍ خَطِئوا فتابوا
وما جهلتْ أياديك البوادي
ولكنْ ربّما خفِيَ الصوابُ

ثم إنّ أحداً من الشارحين حتى البرقوقي لم يصل في هذه النظرة إلى ما وصل إليه باحثنا الفاضل، ولو أمعن الباحث النظر جيداً في البيت لوجد أن الشاعر شبّه جبل الأحيدب بالعروس،لأنّه اختضب بالدماء، كالعروس حين تلبس الثياب المصبوغة بالأحمر، وقد نقل البرقوقي عن العكبري قوله في شرح البيت:"وهذا من محاسن أبي الطيب، وقد أشار بهذا (والكلام للبرقوقي) إلى أنّ سيف الدولة تحكَّمَ في الروم قتلا وأسراً.."، ولربما دلّنا البيت على لفتة اجتماعية وهي أن ثوب العروس يغلب عليه اللون الأحمر في ذاك الزمان. والأحيدبُ جبل عليه قلعة الحدث، وهي قلعة حصينة بين مَلَطْية وسُمسْياط ومَرْعَش، وهي من الثغور الشامية التابعة للمسلمين ويقال لها الحمراء،لأنّ تربتها حمراء وفُتح هذا الحصن أيام سيدنا عمر بن الخطاب، وبقي المسلمون يتعهدونه حتى تولى سيف الدولة عمارته، ودافع عنه من الروم، وحَمَاه فترة طويلة.. ولعل أجمل تعليق قرأته في وصف المتنبي لحروب سيف الدولة ما كتبه طه حسين، فقد بدا معجباً بهذا الوصف معللاً له ومدافعاً عنه يقول:".. ومن هنا في وصف المتنبي لحروب سيف الدولة عند الثغور فتوة عربية اجتماعية، إن صحّ هذا الوصف، وترى هذه الفتوة العربية الاجتماعية تشيع في وصف المتنبي حيّة قوية مضطرمة شديدة الاضطراب، كأنها الكهرباء لا تكاد تتصل بهذا الشعر حتى ينتقل إليك ما صوّر فيه المتنبي من حياة هؤلاء المجاهدين، وما كان يملؤها من نشاط فيه الأمل والابتهاج، وفيه الاكتئاب والابئتاس...". ونراه في موضع آخر يدافع عن الشاعر أمام بلاشير وغيره ممن عابوا على المتنبي المبالغة والإغراق، يقول طه حسين:"وقد يقال إن المتنبي أغرق وأسرف، وعظّم من أمر هذه المواقع أكثر مما ينبغي..وأعرض عن تصوير الهزيمة، ولم يُعْنَ إلاّ بتصوير الانتصار، ولكن يجب أن نتفق،فلم يكن المتنبي مؤرخاً ولا محققاً، وإنما كان شاعراً، وشاعراً ليس غير. أستغفر الله،بل كان شاعراً يشترك في الجهاد، يذوق لذته، ويشقى بآلامه. فالذين يطالبون هذا الشاعر بالتاريخ وتصوير الحقّ كما وقع، يسرفون عليه، ويسرفون على أنفسهم، ويسرفون على الشعر نفسه...".

وما ضرّ الشاعر الذي يشارك في الحروب أن يصف ويتخيل ويقرّب لنا صورة النصر كما يراها هو؟ أليس الأحيْدبُ وقلعته الحدث أرضاً إسلامية غالية على المسلمين، ضحّوا من أجلها بأغلى ما يملكون، فكانت كالعروس، يدافع عنها، وتراق دونها الدماء؟؟ ألم يقل الشاعر قبل ذلك مفصحاً عن مبدئه هذا:

ديارُ اللواتي دارهنّ عزيزةٌ بطولِ القنا يحْفظنّ لا بالتمائمِ (الطويل)

فأين الساديّة إذن؟ وأين التنافر والتناقض في قوله؟؟

والمُعجِبُ في أمر الباحث أنه يكرر ما يقول في موضع آخر من دراسته، وتحديداً في ص77 السطر العاشر حين يأتي بقول الشاعر : قد سوّدتْ شجرَ الجبالِ شعورُهم فكأنّ فيه مُسفّةَ الغربانِ (الكامل)

ويعلّق قائلاً:"وتظهرُ في المقابلة بين الطرفين رغبة الشاعر وساديّته في رؤية دم الأعداء وهو يسيل بغزارة من أجسادهم النازفة، وهذا المنظر البشع المقزز يلتقي مع دواخله، فيوحي له بمنظر جمال النارنج على الغصون..".

ولا أدري أين الساديّة في هذا البيت؟ فالأشجار اسودّت من كثرة شعور الأعداء التي طيّرتها الريح فغطّتها، فكأن الغربان قد وقعت عليها، فبدا لونها أسود بعدما كان أخضر. ولو رأى الباحث في البيت مبالغة لوافق بعض الشارحين، وكان رأيه صحيحاً، لكنّ الحكم على الشاعر كلّما اتسع خياله بالوصف بالساديّة أمرٌ في غاية الغرابة، ولا سيما وهو يصف الأعداء..!!
الحكم على ظاهر اللفظ: يستشهد الباحث في الفصل الثاني من المبحث الثالث"صورة الناس الأعداء"في ص98 السطر الخامس بقول الشاعر:

ودهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صغارٌ
وإنْ كانتْ لهم جثثٌ ضخامُ
وما أنا بالعيش فيهـم
ولكنْ معدنُ الذهبُ الرّغامُ

ويقول:"إنّ صورة الناس في النص تدور ضمن إطار تفاخر المتنبي عليهم واحتقاره لهم، وأنّ الشاعر يميّزُ نفسه عنهم وإن عاش بينهم، فضلاً عما تكشفه الصورة من فقدان الوئام مع أهل عصره وعجزه عن تكوين علاقات اجتماعية معهم..."والباحث يقتبس رأيه هذا من رسالة ماجستير نوقشت للباحث"دياب قديد"في جامعة دمشق بكلية الآداب عام 1987.كما يظهر في هامش الكتاب. وكأنّ الباحث مقتنع بما رآه صاحب الرسالة لذا اقتبس رأيه. ومهما يكنْ، فإنّ الباحث هنا حكمَ على الشكلِ فقط، وخطف البيتين خطفاً من القصيدة ليدلل بأمثلة على صورة الناس الأعداء، وكان عليه قراءة القصيدة، والرجوع إلى المعاجم ليتبين معنى (ناس) في البيت الأول، ومن همُ المقصودون في البيتين؟

والبيتان على كل حال من قصيدة يمدح بها الشاعر المغيث بن علي العِجْلي ومطلعها وهي من شعر المرحلة الأولى:

فؤادٌ ما تسلّيه المُــدامُ
وعمـْرٌ مثلُ ما تهِبُ اللئامُ (الوافر)
ودهْرٌ ناسهُ ناس صغارٌ
وإنْ كانتْ لهمْ جُثثٌ ضِخامُ
وما أنا بالعيش فيهــم
ولكنْ معدنُ الذهبِ الرّغامُ
أرانبُ غيرَ أنّهُمُ ملوكٌ
مفتّحَـةٌ عيونُهـمُ نيــامُ
بأجسامٍ يحرُّ القتلُ فيها
وما أقْرانُها إلاّ الطَّعــامُ

وبالنظر في هذه الأبيات نجد أن هناك ضميراً متصلا يوضح المقصود بالناس، وهذا الضمير رابط يمتد تصاعدياً من البيت الثاني حتى الخامس على النحو الآتي: [لهم – فيهم – أنهم –عيونهم – فيها]

وهكذا، نجد أن المقصود بالناس ليس الناس جميعاً كما اعتقد الباحث! بل الملوك والحكام، الذين انغمسوا باللهو والملذات، فضخمت أجسامهم وثقلت عن الجهاد، وناموا كما تنام الأرانب. أمّا سائر الناس فلماذا يتعرض لهم الشاعر؟ وحياته أكثرها لدى الوجهاء والأمراء والشيوخ؟ وهم الذين بلاهم جيداً، وخَبر الفاسد من الصالح، وهم المسئولون عن الرعيّة..؟؟ وفي لسان العرب نجد أنّ (ناس) بمعنى الجماعة أو الفئة أو الطائفة، وقد أورد صاحب اللسان نقلاً عن ابن جني قوله:"ويحكى أن طائفة من الجنّ وافوا قوماً، فاستأذنوا عليهم، فقال لهم الناس: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجن. وذلك أن المعهود في الكلام إذا قيل للناس من أنتم قالوا: ناسٌ من بني فلان...وحكى ثعلب: جاءتك الناس معناه: جاءتك القبيلة أو القطعة..". لذا، فالمقصود من (ناس) في الأبيات جماعة الملوك والسلاطين وأصحاب الأمر، بدلالة عودة الضمير عليهم، لأنهم هم الذين نغّصوا على الشاعر حياته، علماً أننا لا ننكر أن الشاعر حين كان يضيق صدره من أحد كان يُعمم، فيذمّ الدنيا، وسائر الملوك..رغم أن المقصود بيّن واضح.

 الزمان كلمة فارسية؟

في المبحث الأول من الفصل الثالث، وحين يتحدث الباحث عن صورة الزمان عدواً، يقول في ص105 السطر السادس نقلا عن عباس محمود العقاد:"الزمان كلمة فارسية من اسم إله قديم عند الفرس اسمه (زروان) يكنى به عن الزمان. ولا يضيف الباحث كلمة واحدة بعد ذلك، لا تعليقاً ولا توضيحاً، وكأن الأمر ينتهي بهذه البساطة لدى القرّاء. ولست أدري ما الحكمة التي أرادها الباحث من هذا التفسير؟ ونسي أن عليه عند النقل أن يرجع إلى معاجم العربية الأصيلة ليتيقنّ من دقة ما ينقله،لأنّ المنقول دون توضيح وإبداء رأي يعدّ قبولاً وتعزيزاً لرأي الآخرين. ولقد نظرت في معجم المقاييس فرأيته يقول في الزمن:"الزاي والميم والنون أصل واحد يدل على وقت..ومن ذلك الزمان، وهو الحينُ قليله وكثيره، يقال: زمان وزمن والجمع أزمان وأزمنة. وكذا صاحب القاموس المحيط وصاحب الصحاح في اللغة وصاحب اللسان، فلم يُشرْ واحدٌ منهم إلى أنّ الزمان كلمة فارسية الأصل. لكنّ صاحب المُغرِب في ترتيب المُعْرِب قال إن كلمة (زمن) من الألفاظ المعرّبة لكنْ بفتح الزاي وبكسر الميم (زَمِنٌ) وهو الذي طال مرضه. ولعل الباحث كان على عجلة من أمره حين نقل عن العقاد، ولم يتنبه لضبط الكلمة، فوقع في خلط كبير.

ثالثاً- الشكـل، واشتمل على الملاحظات الآتية:

 ضبط الأبيات:

أول ما يلحظ القارئ وهو ينظر في متن الكتاب، خلوّ الأبيات الشعرية التي أتى بها الباحث من الضبط، حتى إذا عثر على بعض الأبيات وقد ضُبطتْ بعض كلماتها، وجَدَ أنها ضُبطَتْ بطريقة خاطئة، تُخِلُّ بالوزن العروضي، وتؤذي المعنى. كان على الباحث الفاضل الذي بذل جهداً واضحاً في كتابه أن يتمم عمله هذا، بسدّ الثغرات الشكلية التي تؤثر في المعنى المقصود، وتجنح بالقارئ بعيداً، وتُحَوّلُهُ عن وُجْهَته، فيدخل قارئاً طالباً للفائدة، ويخرجُ حائراً وقد أعْيتُهُ الأبيات عن الفهم الصحيح، وعن المتعة المنشودة، وليس عليّ أن أجمع الأبيات غير المضبوطة، فجلّها يحتاج إلى ضبط، ولكني آتي ببعض الأمثلة فقط لتوكيد ما أذهبُ إليه، وأنقلها على الوجه الذي أتى بها الباحث.

- ص29، قول الشاعر: أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمدُ الداءَ العُضالا
والصواب: أرى المُتشاعِرينَ غُرُوا بِذَمّي
وَمَنْ ذا يَحْمَدُ الدّاءَ العُضالا (الوافر)

 ص30، قول الشاعر: بأي لفظِ تقولُ الشِّعرَ زعنفةٌ

تجوزُ عندكَ لا عربٌ ولا عجمُ

فهناك خطأ في ضبط (لفظ) فقد حركها بالكسر، وذلك لا يستقيم مع الوزن، ثم ترك (عرب)و(عجم)

دون ضبط، وهذا مُلبِسٌ، والصواب هو:

بأيِّ لفظٍ تَقولُ الشِّعرَ زِعْنِفَةٌ

تجوزُ عنْدَكَ لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ (البسيط)

 ص34، قول الشاعر: فيا ابن كروسِ يا نصفَ أعمى
وإن تفخر فيا نصفَ البصير (الوافر)

فقد ضبط الباحث (كروس) ضبطاً غير صحيح، والصواب هو:

فيا ابنَ كَرَوَّسٍ يا نِصْفَ أعْمى
وإنْ تَفْخَرْ فيا نِصْفَ البَصيرِ

 ص36، قول الشاعر: كريشةِ بمهب الريح ساقطــة
لا تستقرُ على حالِ من القلق (البسيط)

والصواب: كَريشَةٍ بِمَهَبِّ الرّيحِ ساقِطَــةٍ
لا تَسْتَقِرُّ على حالٍ مِنَ القَلَق ِ

ص37، قول الشاعر:

ثناهم وبرقُ البيض في البيض صادقُ
عليهم وبرقُ البيضِ في البيض خلبُ (الطويل)
والصواب:

ثَناهُمْ وَبَرْقُ البيضِ في البيضِ صادِقُ
عَليهْمْ وَبَرْقُ البيضِ في البيضِ خُلَّبُ

وهكذا، فالأمثلة كثيرة جداً لا تكاد تخلو منها صفحة، والغريبُ أن الشيخ البرقوقي الذي اعتمده الباحث في دراسته قد ضبط الأبياتَ ضبطاً مُحْكَماً، وكان بوسع الباحث أن يفيد من ذلك، وقد يكون الباحث قد أوكلَ أمر طباعة الكتاب لغير متخصصٍ، علماً أنّ هذا لا يعدّ مبرراً في البحث العلمي الأصيل.

 عدم ذكر البحر العروضي للأبيات:

لا أدري لم أسْقَطَ الباحث ذكْرَ البحر العروضي، ولم يأتِ عليه البتّة، ففي الرسائل العلمية التي يكون موضوعها الشّعرُ يذكرُ الباحث عادة البحرَ الذي نظم الشاعر عليه قصيدته، فذلك يسهمُ في قراءة سليمة للأبيات، وربما حصل ذلك،لأنّ الباحث اعتمد على شرح الشيخ البرقوقي، والشيخ لمْ يُعْنَ بذكر ذلك، بينما عُنِيَ بعض الشارحين بذلك كالمعري والعكْبري ومصطفى سبيتي.

 تفسير المفردات:

ومن جُمْلة ما يلحظه القارئ للكتاب أيضاً أنّ صاحبَهُ يذكر معاني بعض المفردات ويُعرِض عن بعضها الآخر، والأصلُ أن يُعنى الباحثُ بتفسير المفرادت المشكِلة في دلالاتها، لا أنْ يفسرَ ما يشاء، ويترك ما يحتاج إلى توضيح، وأضربُ بعض الأمثلة على ذلك:

 ص45، حين يفسر معنى السِّدر في قول الشاعر:

لو تحرّفْتَ عن طريقِ الأعادي
رَبَطَ السّدرُ خيْلَهم والنخيلُ (الخفيف)

وقول الباحث في أثناء تفسيره للبيت:"فلو مال ممدوح الشاعر عن طريق الأعادي ويقصد بهم الروم لساروا حتى يربطوا خيلهم بشجر السّدر (النبق)...". فهو يفسّر المعروف بالمجهول،فالناس يعرفون السّدر ولكنهم يجهلون النّبق، ولو رجع لواحد من المعاجم كاللسان على سبيل المثال لوجد أن السّدِرَ نوعان: بريّ لا يُنتفعُ بورقه ويُسمّى الضّال، والثاني ينبتُ على الماء وثمَرُهُ يسمّى النَّبَق، وورقه يشبه ورق العنّاب غير أن ثمر العنّاب أحمر وثمر السّدر أصفر.

والقارئ يجد عشرات المفردات التي يمرّ عنها الباحث دون تفسير، وكأنها واضحة جليّة شائعة، ومن أمثلة ذلك: النّارنج: ص77 سطر11، والملاب: ص86 سطر7،والصحصحان ص89 سطر13، ويُعار وثؤاج والمتالي ص90 سطر8 و9...

 الخطأ برسم الكلمات وصياغتها:

وأكثر ما يلحظه القارئ تعدد الخطأ في رسم الكلمات وصياغتها وضبطها سواء التي صاغها الباحث أو التي نقلها عن البرقوقي بطريقة خاطئة،إذ إني تتبعت البرقوقي فوجدتُه ضابطاً للأبيات، حريصاً على الدقة، وإنما الخطأ في نقل الباحث، وأكثر الأخطاء يدخل تحت مسمّى يحبّ بعضنا أن يدعوها أخطاءً (مطبعية)، وقد أذهلني كثرتها وتنوعها، وأعتقد لو أنّ الباحث تأنّى قليلاً وأعاد قراءة ما كتب، أو عَرَضَ ما كتبه على متخصصٍ غيره لأفادَ كثيراً وأراحنا من هذا العناء، ومهما يكن الأمر فإني أعرض تلك الأخطاء مرتبة على النحو الآتي:

ص13 في التمهيد، السطر رقم1 وردَ:"آثر البحث أن يقف.."والصواب: آثرَ الباحثُ.
ص14 السطر 4:"زواج"والصواب: زاوَجَ بين الشكل والمضمون.
ص15 السطر 11:"أكدوا على أهميتها"والصواب: أكّدوا أهميّتها.
ص15 السطر 15:"يستعين بها الفنان في نقل تجاربه..الملتقي"والصواب: المُتَلقّي.
ص15 السطر18:"وسيؤكد البحث على الصورة"والصواب: سيؤكد الباحث الصورة.
ص16 السطر5:"وتشترك المعجمات على إن العدوان"والصواب:على أنّ أو في أنّ.
ص16 السطر6:"ويبدو إن"والصواب: ويبدو أنّ.
ص17 السطر12:"وإما في الفن.."والصواب: وأما في الفن.
ص19 السطر3:"وانعكست على شخصيته"والصواب: وانعكستْ في شخصيته.
ص19 السطر 11:"والأحواز"والصواب: والأهواز.
ص20 السطر9:"إلا إنه: والصواب: إلاّ أنّه.
ص31 السطر 1:"قوله يرمون"والصواب: يرومون.
ص33 السطر14:"له كسب خترير"والصواب: له كسْبُ خِنزيرٍ.
ص 34 السطر14، 15:"كروسِ"والصواب: كَرَوَّسٍ.
ص35 السطر7،9:"..مطروفة أوفت فيها حصرم"والصواب: مطروفةٌ أو فُتَّ فيها حِصْرِمُ.
:"يقلي مفارقة.."والصواب: يَقْلى (بمعنى يبغض).
ص41 السطر6،7:"فحب الجبان الحرب أورده التقى"والصواب: أوْرَدَهُ البَقا.
ص41 السطر 20:"يرى الجبان أن العجز عقل"والصواب: يرى الجُبناءُ.."
:"..وتلك خدعة الطبع اللئيم"والصواب: وتلك خديعةُ الطبعِ اللئيمِ
ص41 السطر22:"في مواجهت الخصم"والصواب: في مواجهة.."
ص46 السطر6:"أنّ الممدوح ذا سلوك"والصواب: ذو سلوك.
ص46 السطر11:"..صحّفَ قاريء..ولم يخطيء.."والصواب: قارئٌ..يخطئْ.
ص52 السطر1،6:"والتعيير"والصواب: التعبير.
:"ووضاعت"والصواب: ووضاعة.
ص54 السطر 7،16:"ويضرب به المثل في الشؤوم"والصواب:..في الشؤم.
:"وقفاً يصيحُ بها ألا من يصفع"والصواب: وَقَفا يصيحُ بها: ألا من يصْفَعُ.
ص58 السطر3،11:"وأسلم ابن شمشقيق أليته..ألا انثنى"والصواب: وأسْلَمَ ابنُ شُمُشْقيق ٍ أليَّتَهُ..ألاّ انثنى.
:"وترك لازمن"والصواب: وترك لازماً.
ص59 السطر14،15:"..وللطعن سورة إذ.."والصواب: وللطْعنِ سوْرَةٌ إذا...
:"..تتأزر.."والصواب: تتآزرُ.
ص75 السطر7:"أناس إذا لاقوا عدى فكأنما سلاح الذي.."والصواب: عِدَىً فكأنما:
ص78 الطسر11:"وكأن بها مثل الجنون فأصبحت.."والصواب: وكانَ بها مثلُ الجنون..
ص79 الهامش:"آمد- بلد بالثغور يقع بين الروم ودياربكر"والصواب: ديار بكر.
ص80 السطر9:"تبكي عليهن البطاريق في الدجى وهن لدينا ملقياتِ كواسد"
والصواب: تُبَكّي...وهنّ مُلقِياتٌ كواسِدُ"
ص80 السطر 16:"وأمسى السبايا ينتحبن بحرقة"والصواب: ينْتَحِبّنَ بِعَرْقَةٍ.
ص82 السطر 1:"فقاسمك العينين منه ولحظه سميك.."والصواب سَمِيُّكَ.
:"وأكبرُ منه همة بعثت به.."والصواب: وأَكْبَرَ..
ص84 السطر 2،3:"متحاربة مع ممدوحه (سف الدولة) والصواب: سيف الدولة.
:"وكان سيف الدولة يرددها بالقتال"والصواب: يَرُدُّها بالقتال.
ص88 السطر7،18:"فولت.. والغيث خلُّفت.."والصواب: فَوَلّتْ تريغُ الغيثَ والغيثُ خَلَّفتْ.
:"مضوا متسابقي الأعضاء فيه لأروسهم.."والصواب: لأرؤُسِهمْ.
ص90 السطر 9:"غطا بالعثير البيداء حتى.."غطى بالعِثْيَرِ..
ص91 السطر13:"فلم يُسرّحُ.."والصواب: فلمْ يَسْرَحْ.
ص92 السطر13:"واشمات مخلوق وإسخاط خالق"والصواب: وإشْماتِ.
ص107 السطر18:"أخون من مومسِ.."أخْوَنُ من مومِسٍ.
ص112 السطر15:"عدوى كل شيء.."والصواب: عَدُوّي كلُّ شيءٍ..
ص115 السطر8:"وتظهر أن كفتى.."والصواب: أنّ كفَّتَيْ.

المصادر والمراجع

- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم (ت 630هـ)، الكامل في التاريخ، بيروت، دار الفكر، 1978م.
2- البرقوقي، عبد الرحمن، شرح ديوان المتنبي، بيروت، دار الكتاب العربي،1979م.
3- بوخميس، بوفولة، الساديّة والمازوشية..قراءة سيكولوجية، مجلة شبكة العلوم النفسية العربية، تونس،2006م.
4- الجوهري،إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية، دار العلم للملايين، ط4، 1990م.
5- حسين، طه، مع المتنبي، مصر، دار المعارف، 1980م.
6- الحموي، ياقوت بن شهاب الدين بن عبد الله (574 - 626 هـ)، معجم البلدان، بيروت، دار الفكر، 1979م.
7- عبد الحق، صفي الدين عبد المؤمن البغدادي الحنبلي، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والقلاع،بيروت، دار الجيل. (د.ت)
8- ابن فارس، أحمد أبو الحسين بن زكريا(ت395هـ)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، طبعة دار الفكر، 1979م.
9 - الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب الشيرازي،(729 - 817 هـ) القاموس المحيط، عمان، دار الفكر للنشر التوزيع، 1984م.
10 - المطرزي، أبو الفتح ناصر الدين (ت610هـ)، حلب، مكتبة الاستقامة،1979م.
11- المعري، أبو العلاء أحمد بن عبد الله (363-449هـ) معجز أحمد، مصر، دار المعارف، ط2، 1992م.
12- ابن منظور،أبو الفضل جمال الدين بن مكرم، (630-711هـ) لسان العرب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1992.
13- الميراني، نوزاد، شكر، صورة العدو في شعر المتنبي – دراسة-، دمشق، دار الزمان للطباعة والنشر،2010 م.
14- الواحدي، أبو الحسن علي بن أحمد (398-468هـ)، ديوان أبي الطيب المتنبي، بيروت، دار القلم، 1992م.
15- اليازجي، العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، بيروت، دار الأرقم للطباعة والنشر، 1987م.

حسن طاهر أبو الرُّب

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى