طريق آخر
استيقظ ليجد نفسه بين رِمالٍ لا يعلم من الذي قد ألقى به إليها، ينظر حوله مشدوهًا، يفتّش عن شيء لا يعلم ما هو، بدأ ينادي بعلو صوته:
"مرحبًا، هل يوجد أحد هنا، هل من أحد هنا"
لكن دون جدوى ..
ولم يستطع الجلوس أكثر من ذلك، نهض وبدأ في السّير على غير هدى، سار مسافة يومين أو أكثر قبل أن يرتطم بمرآة كبيرة تقف في شموخ وسط صحراء قاحِلة ..
وقف أمام المرآة مقتربًا يُحدِّق بعينيه الحمراوين
كانتا حمراوين بطريقة غريبة، إحمرار داميٍ مخيف لا يعرف له سبب..
اقترب من المرآة أكثر فاتحًا فمه مندهشا مما يحدث ليلمح أنيابا طويلة لحيوان مفترس بين شفتيه لا يعلم ما الذي قد أتى بها إلى هنا!
رفع كفّيه إلى وجهه يفرك عينيه علّ إحمرارها أن يزول ليرى مخالِب عوضًا عن أظافِره النظيفة التي اعتاد تقليمها، رجع إلى الخلف وتتسارع دقات قلبه في خوف، يحدّق بيده ولا شيء فيها، إنها يده التي اعتادها بالأظافر المقلّمة ذاتها، لكن ما الذي تقوله تلك المرآة الحمقاء..!
رفع قدمه ليركلها، لكنّ الركلة لم تجدي نفعًا، على العكس، قد عادت عليه بالألم، وسقط أرضًا يتلوّى ممسكًا بقدمه الجريحة، فتح عينيه لينظر نحو موضع ألمه، لكنه قد لمحه في المرآة قبل أن يراه في أرض الواقع، قد جُرِح حافِره، مدّ يده لحافِره يتفقد جرحه قبل أن ينهض مذعورًا صارخًا:
"أقدامي، ما الذي يحدث بحق الجحيم، فلتنتهي تلك اللّعبة السحيقة"، والآن سقط على الأرض ضامًا ركبتيه إلى صدره وتعالى صوت بكائه، ورأسه بين كفّيه، مرّ على بكائه ساعتين متواصلتين دون جدوى..
ما إن رفع رأسه، حتى وجد قرنين يعلوانِها، رفع يده ليمسك بهما لكن لا شيء رفع رأسه صارخًا:
"ما الذي تحاولين قوله أيتها المرآة اللّعينة، أنا لا أملك قرنين، ها هو ذا رأسي أتحسسه بيدي التي لا تحمل مخالِب ما الذي يحدث"
وانخرط في نوبة بكاء طويلة ..
انتهت بصوت رفرفة أجنحة غُرابٍ تحطّ على رأسه بين قرنيه، وتتفاداهما، برسالةٍ يحملها إليه قد كُتِب فيها:
المخالب:
مخالبك التي تكرهها لم تظهر الآن، لطالما كنت تملكِها، قد نهشت الكثيرين بها، كنت أظنك تعلم أنك نهشتهم؟
الأنياب:
أمّا عن أنيابك، فقد سهرت وتعبت دأبًا لاكتسابِها وزرعها سمّها في كل من كانوا حولك، أرّقتك قبليّتك طويلًا، حاولت حماية أشياء غير حقيقية يتوهّمها عقلك، أنت أفصحت عن مخالِبك وسفكت دماء آخرين وانتشيت! لطالما انتشيت بذلك، وتعلم جيّدًا أنك انتشيت ورقصت، وخبّأت زجاجة نبيذ من نوعٍ فاخِر لكلّ مرّة ثأرت فيها لقبيلتك.
القرون:
لماذا تُغْضِبُك القرون الآن ..
لطالما أردتها، للتناطح بها من أجل السلطة التي كنت تنتظرها على أحرّ من الجمر، كنت تعتلي المنبر فتلعن السلطة، تنزل من عليه لتناطح كل من يقترب بلا رحمة، تمزقه إِرْبًا دون أن يرفّ لك جِفن.
عيناك الحمراوتان:
كانتا تلتهم لحمها الأبيض البضّ، تسترق النّظر كلما مُنِحت فرصة لذلك، تشتهيها لتساومها على نفسها مقابِل كسوة جديدة لأبنائها، تغتال أنوثتها، تعلم أنك ستنساها، كما تعلم جيّدًا أن لمستك ستبقى تجْلِدُها في سهادها ومنامها..
الحوافِر:
وحوافِرك التي تكرهها الآن، إنّها جيّدة للركل، ثق بي ستساعدك كثيرًا لركل أحدهم قد سقط للتو أقسمت على أن تؤازره وتحميه كما تفعل دائمًا!
عندما انتهى السطر الأخير من الرّسالة مزّقها ليستفيق من نومه صارخا، ليجد نفسه في سريره، يجمع أوكسجين الغرفة في رئتيه، يتحسس رأسه موضع أن كانا القرنين ويزيح الغطاء عن قدميه..
"أوه، مجرّد كابوس أحمق آخر"
يشعل سيجارة يدخنها في نهم، يلقيها على بلاط غرفته، يسحقها بقدمِه الممتلئة بفقاقيع قيح وحروق في مناطق متفرّقة..
يذهب ليستحمّ، ويتعطّر بأغلى عطورِه، يرتدى أبهى حُللِه، سحب أفخر زجاجة نبيذ إلى سيارته الفارهة، ينظر لساعته في لا مبالاة:
"الطريق من هنا مزدحم، لربّما عليّ أن أسْلُك الطريق الآخر".