طـه حسين والشعر الجاهلي
صدر كتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين عام 1926، وبعد صدوره تمّ سحبه من المكتبات وتقديم مؤلّفه لمحاكمة خرج منها بريئاً، فأعاد إصدار الكتاب في العام التالي بعنوان (في الأدب الجاهلي) بعدما حذف منه عدةَ فصولٍ يقال إنها تمسُّ المعتقدات الدينية.
تعرّض د. طه حسين لأقسى أنواع الهجوم والانتقاد بعد هذا الكتاب، وذلك بسبب الطرح الجديد والفريد الذي قدّمه وهو التشكيك في صحّة نسب الشعر الجاهلي إلى العصر الجاهلي، فكتبتْ المقالات وألّفتْ الكتب للردّ عليه والتعريض فيه، كان أشهرها كتاب (تحت راية القرآن) للأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والذي بلغ فيه درجةً من السخف تهجّم فيها على طه حسين شخصياً فسمّاه (النملة طاحين)، بدلاً من أن يناقش موضوع الكتاب ويخضعه للمحاكمة المنطقيّة، وحتى الآن لم أجد مقالة تردّ على فرضية طه حسين بالأدلة العقلية، بل اعتبر الكثيرون أنّ دراسته في فرنسا دليلٌ كافٍ لاتهامه بالعمالة لجهات خارجيّة، وأنه ينفّذ مشروعاً غربيّاً يهدف إلى هدم الثقافة العربية، فاضطر الرجلُ قسراً إلى الاعتذار تحت ضغط الظرف السياسي آنذاك.
إنّ هذا الكمّ الهائل من النقاشات والكتابات حول هذا الكتاب؛ يجعلني أتهيّبُ الكتابة عنه، لكني كما تعلّمتُ من طه حسين – ونقلاً عن ديكارت-: (على الباحث أن يتجرّد من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوّاً تاماً)، فيمكنني أن ألخّص مقولة الكتاب بما يلي: ( إنّ الأكثرية المطلقة مما نسمّيه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولةٌ بعد ظهور الإسلام)، ويرجع طه حسين فرضية نحل الشعر إلى عدة أسبابٍ منها:
1- النحل ظاهرة أدبية موجودة في جميع آداب الأمم القديمة، ولا سيما عند اليونان والرومان، وقد أثبتت الدراسات الحديثة ذلك.
2- الصراع السياسي والعصبيّة القبليّة أدّيا لوضع الكثير من الشعر على لسان الجاهليين، رغبةً من كلّ قبيلةٍ في إظهار أفضليّتها على غيرها، مفتخرةً بأمجادها وأبطالها وشعرائها.
3- القصص الشعبية التي تروى عن الجاهليين والأمم البائدة، والتي غالباً ما يلجأ مؤلّفوها إلى تزييها ببعض أبياتٍ من الشعر لا صلة لها بشخصيّات القصص، هذا إن وجدتْ هذه الشخصيات أصلاً.
4- الشعوبيّون الذين نسبوا شعراً للجاهليين يمدحون فيه ملوك الفرس قبل الإسلام، دون دليل تاريخي على ذلك.
5- إن الشعر الجاهلي وصل إلينا عن طريق الرواة، وهؤلاء الرواة كانوا على معرفةٍ عميقةٍ بأساليب الشعراء، مما ساعدهم على نحل الشعر كما يريدون، وكتبُ التراث تشير إلى اعتراف الرواة (خلف الأحمر - حمّاد الراوية) بوضعهم الكثير من الشعر الذي ينسب إلى الجاهليين.
ويضع طه حسين عدة أدلّة لإثبات فرضيّته، أهمّها أنّ لغة حمير (اليمن) كانت مختلفةً تماماً عن لغة قريش (الحجاز) قبل الإسلام، والتشابه الموجود بين اللغتين ليس أكثرَ من التشابه الموجود بين جميع اللغات الساميّة كالعربية والعبريّة والسريانية، فكيف يصحّ أن ننسب الشعر الجاهلي المنظوم بلغة قريش (التي هي لغة القرآن) إلى شعراء يمنيين كانو يتكلّمون لغةً أخرى قبل الإسلام؟
ويثير كتاب طه حسين موضوعاً آخر لا يقلّ أهميّةً وخطورةً وحساسيةً، وهو سؤالٌ قديمٌ دائمُ الحضور، أعني مشكلة "التأريخ"، فيشير إلى أن رواة الشعر الجاهلي (ولايمكننا تسميتهم بالمؤرّخين) قد نقلوه لنا مع جملةٍ من القصص والأساطير والأخبار، كقولهم إنّ قس بن ساعدة عاش سبعمائة عام، وإن حمّاد الراوية يقول مائة قصيدة على كل حرف من حروف المعجم، وإن الأصمعيّ يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة غير القصائد والمقطوعات، بالإضافة لأساطير العرب البائدة، والخرافات التي تحيط ولادة عمرو بن كلثوم الأسطوريّة، فكيف لنا أن نثق بما وصلنا من شعرٍ جاهلي على ذمّة هؤلاء الرواة الذين بالغوا وأسرفوا وتخيّلوا أساطير لا يقبلها العقل السليم.
نحن الآن لسنا بمعرض تفصيل أفكار الكتاب لنقدها أو تأييدها، فذلك يتطلّبُ كتاباً آخر، لكنا بمعرض الثناء على طه حسين لجرأته وشجاعته وموضوعيّته في البحث والتفكير، وإخلاصه لما تقتضيه مهنة الأديب والناقد من مسؤوليةٍ تجاه ما يصله من أدبٍ قديم، وما عليه إيصالُه إلى النشئ الجديد، وتكمن أهميّة الكتاب في رغبته الهادفة إلى نزع صفة القداسة عن كلّ ما أحاطه الناسُ بهالةٍ من القداسة، فغالباً ما يكون هذا التقديس لغايةٍ غير مقدّسة، كالصراع على السلطة في أحد الأزمنة، ونحن من الأمم التي تقدّس كل شيء قديم، وتصف العصورَ الغابرة كلَّها بالعصور الذهبية، كالعجوز الذي يتوهّم أنّ العالم كان مثالياً أيام شبابه، وأنه قد خرب الآن.
صحيحٌ أنّ الأكثريّة ترفض فرضيّة طه حسين في الشعر الجاهلي، وذلك لأن أكثرية الناس قد عصموا عقولهم عن التفكير، واستراحوا للكسل الذهني، واستسلموا لكل ما وصل إليهم دون بذل أي جهدٍ فكري، وبالمقابل فقد أدرك بعضُ المفكّرين ما وصل إليه طه حسين من كشف في تاريخ الأدب العربي، وقدّروا هذا الجهد الكبير الذي بذله للوصول إلى شيءٍ من الحقيقة، بعضهم صرّح بذلك، وبعضهم أضمر تأييده، فقد كان هذا الرجل الأعمى نافذ البصيرة، يرى ما لا يراه المبصرون، يقول نزار قباني في قصيدةٍ يرثي بها طه حسين:
(ارمِ نظّارتيكَ ما أنتَ أعمى / إنما نحن جوقةُ العميانِ)
أعتقدُ أنّ نزاراً لا يقصد بهذا البيت سوى فرضيّة طه حسين في الشعر الجاهلي.
مشاركة منتدى
6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017, 01:56, بقلم صلاح مانع
يفتقد العرب لمثل هؤلاء في عصرنا الحالي وهو احد اسباب دخولنا في معترك الحروب