طفلٌ على مَفرَقِ طرُق
في ليلةٍ باردةٍ من ليالي شتاءِ كانون الثاني من العام 1981 م، وُلِدَ الطفل "فداء" لوالدين فقيرين، وهما الشيخ "علي مصطفى" وزوجتهُ"أمينة" اللذان إختارا جبراً أن يقيما في بيتٍ قديم ورثهُ الشيخ عن والدهِ الذي ما تركَ لهُ سوى هذهِ الجدران و بعضاً من هذهِ الأسقُف ِ علّها تقيهِ ليالي الشتاء الباردة و هجير الصيف الحار، و أما بالعودة إلى تلك الليلة فهذهِ هي أولُ ولادة ٍ لأمينة و هذا هو الشيخ يستبشرُ أخيراً خيراً بإبنهِ الذي سَمّاهُ فداء ذلكَ البكر الذي يأملون أن يكون على قسماتِ وجههِ كل آمال الدفء التي افتقدتها هذه العائلة بعد عناء ٍ طويلٍ مع الإنجاب،وكأن شيئاً كان ينظرهم من بعيد و يقولُ لَهُم سَمّوا إبنُكُم "فداء" عسى أن تُفتَدى حياتُكم و عسى أن يُفتَدى فقرِكُم على وجهِ هذا المولود الجديد،، وقد عاشَ "فداء" في أحضانِ أسرتهِ الفقيرة سعيداً إلى ما قدر الله، حيّثُ كَبِرَوإلتحقَ بالصفوفِ الإبتدائيّة بمدرسةِ القرية وكانَ مِنَ المتفوقين دائماً وَمِنَ الحاصلين على الدرجاتِ الأولى، وفي إحدى سنوات الإنتفاضة من عام 1987، إستشهدَ والدهُ بينما كان يعمل ناطوراً لأحد المباني في المدينة، وكانت هذهِ هي الفجيعة الكبرى في حياة "فداء"، حيث لم يكن الموت إلا بداية ً لفقر أَشَدُ مرارة ًوعُصراً أكثر تضحيّة فَجَعلَت أُمِهِ تشغل الأدوار كُلّها دفعةً واحدة بين أب و أُم لتَعمَل في خدماتِ التنظيف في إحدى مصانعِ الإنتاج للأدوية في مدينة نابلس، لقد كل هذا من أجلِ أن تجني المال عسى أن يقيمَ بيتُهُم واقفاً على أَركانهِ فلا يَسقُط عليهم و لا يجوعون و لا يضطرون أن يتلمسوا أكُف الناس "، ولكن شيئاً لا يدوم على حالهِ، فبعد مرورِ أعوام، أَصابَ أمينة المرض وبدءَ الضعفُ يتسلل إلى مفاصِلِها فصارت طريحةَ الفراش لاتقوى على شيئ، مما فَرَضَ على الطفلِ "فداء" إبن التاسعة أَن يتركَ المدرسة بعد وصولهِ الصف الخامس الإساسي منكباً على وجهه يبحث بلا بوصلة عن أي عمل ليرعى أمه المريضة، و يوفرُ لها العلاج والدواء اللازم، فلجأ إلى بيعِ المناشفَ وملاقط الغسيل في الطرقات، مخاطباً المارة برجاء : أتشتري مني ياخالتي أرجوكِ ؟ بأقلِ الأسعار مِن فَضلِك، أَرجوكِ، و كم حَمِلَت هذه العبارات المليئة بنوباتِ الحزنِ والألم حسرات في قلبهِ كالغمامة السوداء التي تلف قلبَهُ، وَكَم حُمِلَت سنوات طفولتهِ المعذبة على ظهرِ شبح خفي لا يدري أينَ يقودهُ و أين يأخذهُ و هكذا تحولت التعاسة إلى تعاسة أكبر و أصبح الوصف لها بمثابة عبث كلامي يُردد، و بين شيء من المربح الكثير و القليل مما يبتاعهُ المارة مِنهُ، كان يعودُ قبل غروب الشمس، ليصل إلى أمهِ قائلاً لها : "أتيتُكِ بالمالِ ياأُمي !" لشراء الدواء عساهُ يكفي و عساكِ تكونينَ بخير، ولكن المرض لا يعرفُ الأصدقاء و لا يتطلفُ و لا يأجلُ مِن تفاقُمهِ فقد كانت تتدنى صحة أمينة، وأَصبَحت حالتُها تنتقل مِن أعلى السلالمِ إلى أسفلها، و لكن ما باليد حيلة فإنَّ الدواء هو كل ما يقدرُ أن يَجلبهُ هذا الصغير "فداء" وهذا أقصى ما ذَهَبَت إليه هِمّتَهُ، و لكن يوماً مِنَ الأيامِ قد كانت غيّرت وجهها لَهُ الأيام فرَجِعَ"فداء" إلى البيت ليَجِد أمهُ وقد إِشتّدَ عليّها المرض و أَمسَكَت بها الحُمى مِن كلِ طرف، فخافَ كثيراً على أُمهِ فَراحَ يركُضُ مُسرِعاً ليَجلِبَ الطبيب، ولكن الآخر بعد أن فحصَ أمهُ، لم يُخبِرهُ بشيءٍ يَسُرُه بَعد، بَل جَاءَ عليهِ بما يزيد من شقائِهِ، قائِلاً : يتوجبُ علينا أَن ننقُلُها في غضونِ هذا الأسبوع إلى المشفى لإِجراءِ عملية في القلب، ولكن السؤال هنا، من أين لفداء بالمال؟ وكيفَ يجمعُ المال ؟ بأقصى سرعةٍ ممكنة، مما جعلَ "فداء" يُقدِمُ على أعمالٍ إضافيةٍ لا يُطيقُها مجموعة من الرجالِ فَعمِلَ في مسحِ زجاجِ السيارات في الطرقات، وتنظيفِ زجاج المحال التجارية، والتنظيف في البيوتِ أيضاً، و سرعان ما حصلَ"فداء"في غضونِ أيامٍ على المال حتى أدركَ أنهُ ليس كافٍ أبداً، إلا أنهُ أصرَّ على نَقلِ والدتهِ إلى المشفى فما أَن وَصَلَ في إحدى الليالي إلى المنزل حتى وَجَدَ أمَهُ و قد أعياها المرض إلى حدهِ، فأخذت بطرحِ بعضِ الكلمات على أسماعهِ قائلة:عليك يا "فداء" أن لاتفقد الأمل فكافح حتى تتعلم وَتُصبِح مثل الآخرين، و أخذتهُ ووضعت رأسهِ على صدرها و أخذت تتمتم ببعضِ الآيات التي تحفظها إلى أن أخذت تسعل سعالاً شديداً أثارَ خوف فِداء و أمام إرتباكهِ حار في نفسه كيف يصنعُ شيئاً يخففُ فيهِ سعالها فحاول أن يقدمَ لها الأدوية و لكنها سقطت من يدها المرتشعة من شدةِ السعال على الأرض،إلى أن سلمت روحها إلى بارئها، و هكذا حاولَ فِداء أن يستوعب ماذا حَدثَ، فقد أقبلَ على أُمهِ يُقبِلُ جبينها تارة ً، و يحاولُ أن يُحرِكَ يدها تارةً أخرى، لكن نبضاً للحياة قد غادرَ و شيئاً من الصدمة التي لم يعهدها قد خيّم على رأسهِ كأنها طيور ٌ تقرعُ بمناقيرها على عظامِ جمجتهِ، تسارع في أفكار طفل ٍ لم يبلغ الحُلم بعد،فقد كان ما حل به بمثابةِ معالمٍ أغربَ في فهمِ الحياة ففقدان أُمهِ التي كانت تحبهُ كل الحب، وتناضِل مِن أجلهِ، جَعلهُ يتردد على قبرها حزيناً بلا وجهة ٍ يذهبُ إليها، رافضاً فكرة الموت، متسائِلاً هل من العدل أن نطرحَ مَن نُحبَّهم في التراب ؟ و لطالما بكى و لطالما لَطَمَ الترابَ في كفه، و لطالما صرخَ.
ولكن غيرت الحياة له وجهها مجدداً فوجَدَ جيرانهِ من أهلِ الخير يُشجعونهُ خاصةً جارتَهُ و صديقة أمهِ "عفاف"، وإبنها "سمير" الذي رافقهُ طويلاً في صفوفِ المدرسة، حيثُ كانوا دائماً ما يكرران على سمعهِ ضرورة المثابرة و ضرورة اللحاق بالركبِ و أنّهُ مهما أَلمّت به آلالام ٌ فعليّهِ أن يكافح من أجلِ الإستمرار و التقدم، و إن لم يفعل هذا فسيكونُ قد أخلَّ في الرضاء الذي كان ينبغي أن يقدمهُ لوالديهِ بعد موتِهما الذي حال بينهم وبين أن يرعوا "فداء" الرعاية التامة، و حقاً لم يقف أهلُ الخير عن حالةِ "فداء"، فراعوهُ أشد الرعاية و حرصوا عليهِ كل الحرص، وقدموا له الهبات المالية و الدراسيّة ليعاود أدراجَ المدرسة و ما إن إستَمَرّت حياتِهِ بسلامٍ فترة وجيزة من الزمن حتى بدأت المنغصات تعاودهُ من جديد مع عودةِ عمهِ قاسم وزوجتهِ سُمية، من سَفرهُما، وهُمّا مِنَ الشرِ بمكانٍ حيّثُ لا يُشبه ُ بهم شيء، و كأنَهم قد نحوا قلوبهم في قبورٍ منذُ زمن في الترابِ و استبدَلوها بقلوبٍ صدأة منتهيّة الصلاحيّة، فقد قاما بإستغلال الموقف وسلبِ "فداء" كاملِ حقوقَهُ من خلالِ أخذِ بيتِ والدهِ بحجةٍ أنَّهم هُم الوريث الجديد والوحيد لهُ، وليتهم توقفوا في فعلَتِهم حَد السرقة فقط بل قاموا بكلِ تعد ٍ بتأجيرهِ لأناسٍ آخرين، و بهذا أرغموا فِداء الصغير للإنتقال للعيشِ مَعهُم في بيتهم في المدينة، فأبعدوهُ مجدداً عن مدرستهِ ليلقى معهم و منهم أشد صنوفالمعاملة القاسية و التحريض فهذا عمه يدعوا يضربه ُ دائماً و يحرضه أبنائه ليستهزءوا به، و لعلها تهديدات زوجة عمهِ الأخيرة هي التي أجبرت فداء أن يترك بيتهم و يعاود في أعماله التي اعتاد عليها، و هكذا عاد من جديد ينام عند بعض ٍ من رفاقه الذين عرفهم في المدينة و السوق جيداً و أقام معهم روابط الأخوة التي تتشكل في الأحياء و الشوارع،فيأخذ نفسه معهم منذ مطلع الفجر إلى سقوط ستائر الليل يعملون و يكدون فمنهم من يبيع اللبان و الآخر يبيع المناديل الورقية و الأخير يذهب إلى دكان لأحد التجار و يعمل ببيع البضائع التي يعطيها أياه التاجر من دكانه ليسوقها للمارة و المشاة، على سبيل الحصر لا الاجمال مثل المناشف وملاقط الغسيل، وبعض علب السجائر، وأكياس السكاكر، وكان "فداء" يحملها ويسير في الشوارع بحثاً عن مَن يشتريها منه.
و لكن أمام هذهِ الضغوط التي تمارسها عائلة الأب التي لا تترك أحد على هواه و رضاه فقد طاردوهُ كثيراً و أزعجوهُ و نالوا من سمعتهِ إلى أن قبِل فِداءً أخيراً أن يزور بيت عمهِ استعطافاً لهذهِ العائلة الجشعة فباتَ أسبوعياً يذهب في أحد أيامه التي يتفرغ فيها من أجلهم فبدلاً من أن يقدموا لهُ ما يتذرعونَ بهِ من الحنان و العطف الذي يدعونهُ أمامَ بقية أفراد العائلة، كانوا يستغلون نشاطَهُ و اعتيادهُ على الاعمال لينظفَ البيت مع زوجة عمهِ، ويحلب الأغنامَ، ويسقي الأشجار، وفي الساعة الثامنة صباحاً ييقظونه ليصرفوهُ و كأنهُ خادم ٌ قد استأجروهُ فوفى عملهِ عندهم فأنتهوا مِنهُ، و لكن هل هذهِ الأطماع تنتهي أبداً، فقد باتت زوجة عمهِ تجلسُ ليلاً نهاراً على رأسِ زوجها تخرقُ في رأسهِ أنفاقاً، قائلة، يا ابا ماجد! ألا ترى حال "فداء" الذي أصبحَ غنياً من وراءِ تجارتهِ في بيعِ المفرق والجملة، لقد كان أخبرني أنهُ يجمعُ حَظهُ و حَظّ رفاقهِ من الأرباحِ و يوزعَها عليهم، وقد أصبحَ صاحبَ شأنٍ في تجارتهِ، أفلا ترى أنهُ مِن المُنصِف أن نأخذ المال الذي يجنيهِ لندخرَ لهُ و لمستقبلهِ فهو أولاً و آخراً سوف يَكبُر، وهو تحتَ طائلةِ مسؤوليتنا و سوف يُكبِدُنا بلا أدنى شك مشروعَ زواجهِ القادمُ عندما يَكبُر، فهكذا نحنُ نكونُ قد وفرنا حظوظَهُ من جيبهِ ونظَمَنا مالهُ وجَمعناهُ إلى ذلك المَوعِد ؟ وهكذا استمرت في الحديث كثيراً و يوماً بعدَ يوم ٍ استطاعت أن تُرَسِخَ في ذهنِ زوجها المُنعَدِم مِن المسؤولية أفكارَالشرِالتي تطمحُ لها، فبدأَ يأخذُ نفسهُ مياومةً إلى السوق ليتلقطَ "فداء" من الشارعِ ويَركُلَهُ ويرفُصَهُ ويَسرِقُ غلتهُ ثمَّ يَذهَبُ متوجهاً إلى بيتهِ، لينعمَ هو وعائلتهُ بهذا الحظ البسيط مِن المال الذي يجنيهِ "فداء"، ولكن العم لم يكتفي فقط بما كانَ يسرقهُ مِن إبنِ أخيهِ، بل كانَ يلطمهُ على وجههِ كلما اتاحَت لهُ الفرصة أمامَ شكوى "فداء" قائلاً له : أيها اللص هيّا أخرِج ما قمّتَ بإخفائهِ عنّا مِن المال، هل تريد أن تُنفِق هذهِ الأموال على السجائرِوالمخدرات التي تتعاطاها أنتَ وهؤلاء الأقذار مِن أبناءِ الشارع، والحق لقد كانَت هذهِ التهمة الباطلة مُصوِغاً اجتماعياً أمامَ العائلة الكبيرة يُساقُ بدافِعِ الحرصِ الكاذب ليتِمَ سَرِقة "فداء" بطريقةٍ مشرعنة ٍ و على أعينِ الجميع بلا رقيبٍ أو حسيب.
أما عن أولادَ عمهِ فقد ربوا حقداً غريباً في داخلِهِم على إبن عمِهِم و قد تمايزوا عنه كثيراً بأنهم هم الذين تدفعُهُم أمهم للأخلاقِ، بينما "فداء" هو من تدفَعَهُ شياطينهِ إلى حياةِ التشردِ وقرارتهِ الخاطئة، و بدأت هذه الأيام تعدو سريعاً حتى باتت هذه المفارقات الظالمة تتسع بين أبناءِ العمومة فهم بينما يقطعون أشواطاً في التعليم الجامعي كانَ "فداء" يقطعُ أشواطاً في العمل في المحال و رعاية شؤون تجارية لبعض الذين أَولوهُ ثِقَتَهُم في السوقِ مِن التُجَّاروالصيارفة و المستثمرين، ولقد بدأت الدنيا تأخذ سعتها و تُكيل لكلِ واحد ٍ مِنهُم ما يُريد، فَهُم كانوا صِغاراً يلعبون مع أصدقائِهم ويذهبون إلى الرحلاتِ سُعداء، بينما فداء في العشرينياتِ مِن عُمرِهِ يدفعُ أموالاً إلى دورِ الأيتام ويتكفلُ ببعضٍ مِن الذينَ هُم بحاجة الرعاية التي فقدها صغيراً، فداء قد أحبَّ الشارع و الحياة الشعبيّة أكثر من أي شيء، قد اكتسبَ خبراتاً و بنى شخصاً مِنَ الرمادِ له عيونٌ تفهمُ التفاصيلَ كما لا يَفهَمُها أحد، باتَ حكيماً، نظيفاً مِنَ الداخلِ، يعرفُ كيفَ تكونُ الشهامة و التدخل في الوقتِ المناسب لصالح الجميع، أما أبناء عمومَتِهِ فكانت تأخذُهُم المفارقات دائماً كي يقارنوا حالَهُم بحالهِ، و لعلّهُم أصابوا في الكلام عَنهُ ما يشوهُ سُمعَةَ شعب ٍ بأكملهِ فكيفَ بهذا الشاب الذي يكيلونَ لهُ كلَّ هَذِهِ التُهَم وَهَذِهِ الظنون التي لا تنتهي، واستمرَّ الحالُ على هَذِهِ الأوضاع إلى ذلكَ اليوم الذي اجتَمَعَت فيهِ العائلة على أنَّ "فِداء" باتَ شاباً قذراً، يتسببُ في فَضيحةِ عائِلتُهُم البرجوازية التي تَجِد نفسها مع المُتعلمين ومع الأقران الأغنياء، و على ذلك اتفقوا أَن يُلَقِنوا "فداء" درساً لن يَنساهُ فيضربوهُ أمامَ الجموع في السوقِ و يعلنونَ بمكبراتِ الصوت براءَتِهم مِنهُ كي لا يُلوِثُهُم وحلَّ حياتهُ التي تكدرُعليهم العيشَ كما كانوا يزعمون.
وفي يوم مِنَ الأيام جاءَ إبنَ عمّهِ "ماجد" محاولاً ضَربِهِ وَجَذبِهِ مِن تلابيبهِ في السوق، و هكذا أخذا يتلاطمان باللكماتِ ويرفُصانِ بعضهما بشدة، فاجتمع الجميع و بعدما استطاعوا أن يفكوا "فداء" و ماجد، أدعى ماجِد أَن إبن عَمِهِ قد سَرَقَ مبلغاً و قيمتهُ ألف دينار، وقد سطى على ذهبِ أُمهِ غِيلة منهم بينما كانوا خارجَ المنزل، و أخذَ هكذا يسردُ وَيُلفِقُ قصصاً من بناتِ خيالهِ، حتى ألقى جميعُ مِن في السوق سَمعهم لهُ ولَطَموا أكفَهُم، يغسلون نفسِهم من "فداء" و ما جَلَبَهُ مِن العارِ عليهم و لِتجارَتِهم، وأخذوا يستسمِحون الخبيثَ "ماجد" ويرجون صَفحهِ وأنّهُم لو كانوا يعرفون هذا القدر مِن الرعونة في "فداء" لما احتوهُ يوماً وأقاموهُ بينُهُم ساعة، و هكذا أَخذَ التُجّار على مرِ الأيام يتنمرون على المسكين "فداء" و يَصِفون أعمالِهُم مَعهُ شيئاً فشيئاً، و يتذرعون بذرائعٍ منها أنهُم ما عادوا تنفعوا مِن جُهدهِ وَعَمَلهِ و كدهِ،إلى أَن أصبحَ خبزالعيش على "فداء" ثمناً مِن كرامتهِ يَصحبُهُ وجوهٌ لا تحاول في احتمالهِ فهذا "فداء" الذي أحبَ السوق لم يَكُن ليتوقع الخذلان مِنه، علاوةً أنه لم يَكُن يُحضر نفسهُ لأيامِ شقاءٍ جديدة، فأخَذَ يَضرِبُ شرقاً وغرباً، ولكن لا فائدة فلقد كان ما تهشمَ كالزجاج لا يُمكِن إعادة ترميمهِ كما كانَ أولُ مرة، فأخَذَ نفسهُ أبعد مما يريدُ السوق، وأبعدُ مما تريدهُ عائلتهُ الآثمة، فأخرجَ بعضاً مِن أموالهِ التي اتدخرها هنا وهناك، وصلى كثيراً لأنَّ الخلاصَ مِن براثنِ الوحش الذي تعاظم على مُستقبلهِ فأحالهُ إخفاقاً وسقوطاً، كانَ هَدفاً لا يُمكِن تسويتهُ والتخلي عَنهُ، فأخذَ نفسهُ بينَ مَن يعدون جوازات السفر، يراهن في مالهِ بلا ضمان عسى أن تُقَدَم لهُ إحدى هذهِ الدول المأمولة سماحاً على أراضيها، حتى جاءَهُ رفض خمسة عشر من الدول، وموافقة اثنتين منهم " السويد، و سلوفينيا" لكنَّهُ بدورهِ فضلَ أن يذهب إلى السويد لما يشاع عنها كبلد ٍ مستقبل للمهاجرين، وهكذا كانَ لا بُدَّ لهُ من رحلة ٍ يعرفها جميع من يود الهجرة، عليهِ أن يدخل إلى اليونان ثم يدمغ جواز سفرهِ بأختامهم ثم منها يشقُ طريقهُ إلى دولِ أوروبا فإذا جاءَت الحكومة السويدية لتعمل على ترحيلهِ من أراضيها، قامت بالإتصال في اليونان فيأتي الإعتذار بأن اليونان ليس لديها الطاقة الكافية بعد إفلاسها أن تستقبل المهاجرين و تعيدهم على نفقتها إلى بلادهم، ولحظه أنهُ كانَ هذا الأمر مجدياً في كل مرة ٍ حاولت الحكومة السويدية ترحيلهِ هو وغيرهِ فقد كان عزاءُ اليونان مجدياً دوماً، و لربما هي تلك الجملة "مصائب قوم ٍ عند قوم ٍ فوائدُ " هي أكثر ما يُجَمِّلُ الحالَ و يصفهُ بدقة، وهكذا تكَفلَت بهِ حكومة الدولة واضطرَّت لأن تعطيهِ تصريح الإقامة وتكفل شؤونهُ و تخضَعهُ تحت اختبارات ودورات تأهيل حالهُ حال الجميع، ما سَنَحَ لَهُ بفرصةِ السكن و الإسراع في التعليم، حتى أصبَحَ ممكِناً لهُ الإلتحاق في الأعمال الشاغرة أو في الدراسة الجامعية و ما أدى تلقائياً إلى منحهِ جنسية البلاد، فَجَعلَ مِن ذكائهِ مع توافر الفرصة سلسلة مِن القرارات الجيدة في حياتِهِ فاختار التعليم الجامعي ضمن كفالة الحكومة حتى انقضت دراستهِ، ثُمَّ بَرَعَ في مجالِ الحسابات والمصارف وأصبحَ أكثر دراية في أحوالِ الأسواق المالية، وصعود العملة وَهُبوطها، وللطفهِ وصَبرِهِ اكتسَبَ حب المحيطين بهِ مِن العرب و الأجانب فَشَغِر عدداً مِنَ الوظائف وقد تَنَقَلَ بينها على حَسَبِ الأولوية والحوافز، حتى استقرَ أخيراً على أن يبادرَببناءِ مَشروعِهِ الخاص الذي يقضي بأن ينشأ مشروعاً لإقامة العقارات المتنقلة التي تُركب و تفكك حسب الحاجة في السكن، ما أدى ذلك إلى تعدد مسؤولياتهِ وزيادة رَصيدهِ من الخبرة و المال في تجارتِهِ، وَلكِنَّهُ لم يَكُن يوماً "فِداء" يستطيعُ أن يغفل نفسه في خِضَم هَذهِ الحياة الجديدة فقد انطوَت تَجرِبَتِهِ على كثيرٍ مِن المُرادِفات الجديدة التي إعتَمَلَت في عَقلِهِ، لَعَلَّ أبرَزَها ما قالَهُ مع نَفسِهِ عِدة مرات أنَّ المكان الذي يَرعاهُ و يَهتَم بشؤونهِ وَيَكفَل حُقوقِهِ جميعها هو: وَطَنُهُ الذي يبحثُ عَنهُ، ولكن أمامَ تصاعُد هَذِهِ الفكرة في رأسِهِ كانَ يُؤكِد دائماً على نَفسِهِ، وَمُجدَداً أَن المكان الذي أَكسَبَهُ جُذورهُ وذِكرياتهِ هو: وطنه، و كم من مرة ٍ مَضَت وهو يَسألُ نَفسَهُ مُحاكِماً لِسانِهِ الذي تَلَوَنَ باللغةِ السويدية، هل لا زالَ بمقدورهِ أن يَمسَحُ نَفسَهُ مُجدداً بالخلِ ليتذَكَر طَعمَ الحروفِ العربية التي نَدرَ تداولها في حياتِهِ الجديدة، بالحقِ لقد جَعلَت مِنهُ الايام واجداً في كَبدِ السماء، فذكرياتهِ في فلسطين و رفاههِ في السويد، كانا لهُ مثل خصم ٍ يقارع القاضي، كأنهُ يَضَعُ عَقلاً هُنا وقلباً هُناك، فهي مُعَضِلة الثقافة ذاتها التي فرَّ مِنها على رَغمِ اختلافِها عَليهِ في السويد إلا أنها هي الأُخرى كانت سبباً آخراً يَجعلُهُ يُمارِسُ الحياةَ الإجتماعية في قلقٍ دائمٍ وَحَذَر، فلقد كَانَ يُفَكِرُ كثيراً إذا كانَ مِن المُمكِن لَهُ أن يُربي أبنائِهِ في هَذِهِ البيئة، وعلى عناصرِ الثقافة الغربية ضمنَ عَقليتهِ العربية التي اكتسبها مِن ولادَتِهِ إلى اللحظةِ بِكَل حرية وأمان وبلا تَدَخُل حكومي، فلِرُبما أكثر الأشياء التي اعتَصَرَتهُ كثيراً في الثقافة الجديدة في السويد ما لاقاهُ في الممارسات الحكومية التي تَدفَعُ الأطفالَ عندَ بلوغِهِم سن الثامنة عشرللإنفكاك عن عائِلاتُهُم غير مُكتَرِثين بِرباط الأبوة والحُب المُقَدَس فهو كان يعتقد لِتَجربَتهِ المُرة أنّ الشبان الصغار لا زالوا أطفالاً في أمورٍ بَعد لَم يَفهَموها عن الحياة وَأنَّ العائلة لا بُدَّ أن تُمارِس رعايةً أطول كي تُلمَ في جوانبهم النفسية و الشخصية قدرالمستطاع و تُعالِج كل فائتة قد تفوتَهُم قبلَ بلوغِ الرُشدِ اللازم الذي تَهبُهُ الحياة بدورِها وَطَبيعتِها يوماً بَعدَ أن يستوفي الإنسانُ عَدداً لا بَأسَ بهِ مِن التجاربِ في ظلِ العائلة التي سَوفَ تَنهَضُهُ مِن عَثراتِهِ ليُقوِمها مُستقبلاً، وأمامَ وِجهة نَظرِهِ التي يتبناها فقد راعَ كثيراً قضايا جيرانِهِ العرب والهُنود و غيرُهُم من متعددي الجنسيات الذين سَلَبوا أطفالِهم حكومياً وعلى عينِ القانون المُشَرَع في البلاد بحجةٍ أنَّهُم لا يعرفونَ شيئاً عن ديمقراطية التربية، فهو بينما كان يرجح بين الثقافات و قوانين الدول، كان يعلمُ بأنَّ لكلِ دولةٍ خصوصيتها، وكانَ قد اكتسَبَ مهارة الإنصاف و الموضوعية التي تَجعَلهُ لا ينحاز لثقافة الغَرب بالقَدَرِ الذي يَفعَلُهُ بَعض المُنحلين مِن ثقافاتِهم لصالحِ ثقافاتٍ أخرى، فهو على قدرٍ ما لاقاهُ في الشارعِ الفلسطيني من إهمالِ عائلتهِ وَتَسلطها، وَحِرصِها الإجتماعي المشوب كان لَم يبرء السويد من ممارساتها الجائرة بحقِ اللاجئين بِزَعمِ الديمقراطية و التعددية و حقوق الإنسان، و لعلّها هي التجاربُ ما رَكَبَ فيهِ عقليةً إنسانية بحتة، تقودهُ لأَن يكون مُنصِفاً في أحكامِهِ، وَلِنَكُن أكثرَ صدقاً، إِنَّ اللحظات التي تُذَكِرُ "فداء" بنفسهِ مقيداً في زريبةِ عَمهِ بدافِعِ تأديبهِ وَحِرصِهِ عَليهِ، كانت هي أيضاً أحد الأسباب التي دَفعَتهُ ليَنفُضَ نفسِهِ مِن غبارِ عَمِّهِ طوالَ سنواتِ حياتِهِ، وَيَختارُ لِنَفسِهِ مَكرهاً حياة الشارع، ولذلكَ هو قَد تَفَهمَ تبعات الظلم ونَتائِجَهُ وَقَد تَفَهمَ في المُقابِلِ أنَّ السويد ليسَت أفضَلَ حالاً عندما تقوم بِفصِلِ الأبناءِ عن الأباء، فهذهِ كارثة مُجتَمعية مشابهة لما كان يَلقاهُ هو، وَإن اختَلَفَت المعايير والمُدُن والأماكِن والوجوه، لهذا هُو لم يقف مع شكلٍ رتيبٍ ظالم، ولا مع شكلٍ حريص ٍ ألدُّ ظُلماً، بل هو أخذَ مستوى آخراً في التفكير، بأنَّ البدايات هي: مَن سوف تَصنُع ُعائلات قويمة و أجيالاً معافاة، نعم هَذهِ كانت مُعضِلتِهِ و لا زالت و لا زال أحمدٌ يَقطَعُ في سيارتهِ مُدناً ودولاً و يُقلبُ أعلاماً ليجيب عن أسئِلةٍ مصيرية ٍ في حياتهِ و حياةِ الآخرين، و لا زال يَحلمُ في الرجوعِ يوماً إلى الوطنِ كي يُصحِحَ و يُغيرَ و لا زال أيضاً يُعِبرُ عن وجهاتِ نظرهِ الانسانية التي صَنَعَها فيهِ الانسان لا الدولة والمجتمع، و لا زالَ يمضي و لا زالَ القطارُ يمضي مَعَهُ.