ظاهرة الرحيل عن المدن الأندلسية المحتلة
من يتأمل تاريخ دولة المسلمين في الأندلس، يجدها تعرضت لأخطار متعددة، ونكبات متوالية، منها: ما هو داخلي يتمثل في الثورات الداخلية المستمرة، والفتن المتواصلة، والصراع الدائب على السلطة بين الأمراء والحكام، ومنها: ما هو خارجي، يتمثل في تكالب الممالك الأسبانية واتحادها في القيام بحركة استرداد واسعة؛ بقصد انتزاع المدن والحصون من أيدي العرب والمسلمين، وطردهم منها، وإعادتها إلى قبضة الأسبان، وقد أغراهم على ذلك ما كان فيه دول الطوائف من تمزق وضعف وتخاذل وتناحر، وتنازُع بعض ملوكها وأمرائها وتهاونهم، مع الممالك المسيحية، ومبالغتهم في الخضوع لها، بالتنازلات المتلاحقة، عن حصون وحقوق، إمعاناً في سوء الظن، بإخوانهم، وفي أقرب المقربين إليهم، مما أجج أطماع تلك الممالك، وزاد في غطرستها، حتى آلت الأمور إلى ما آلت إليه.
وكان ثمرة هذا الضعف والتفكك أن أخذ ت المدن والحصون والقلاع، تتهاوي تباعاً في أيدي الأعداء الفرنجة الواحدة عقب الأخرى، وتعد مدينة " بربشتر" أول مدينة أندلسية تسقط في يد العدو الأجنبي سنة (456 هـ)، ثم تلتها مدينة طليطلة سنة(487 هـ)، ثم أخذ عقد المدن الأندلسية ينفرط، وشرعت بقية المدن تتساقط دون رجعة في أيدي أعدائهم المحتلين، فسقطت قرطبة سنة (633هـ)، ثم تلاها بعد ذلك مدن أخرى مثل: بياسة، وبلنسية سنة (636هـ)، وشاطبة ودانية سنــــة (638هـ)، وأشبيلية سنة (646هـ)، ورندة سنة(890 هـ) غيرها من المدن الأندلسية، وتهاوت مدينة غرناطة وبعض عمالها سنة(897 هـ)، فكانت أخر مدينة أندلسية تسقط في يد أهل البلاد الأصليين من الأسبان وبسقوطها غربت شمس العرب المسلمين في الأندلس.
والواقع أن صورة رحيل الأندلسيين عن مدنهم التي تهاوت في قبضة الممالك النصرانية تشكل ملمحاً بارزاً من ملامح الشعر الأندلسي، إذ رصد الشعراء الأندلسيون الدوافع والأسباب التي حدت بالأندلسيين للرحيل عن مدنهم المحتلة، والنزوح عنها، ووصفوا موقفهم من هذا الرحيل، و تفننوا في رسم مشاهد حية لنزوح الأندلسيين الجماعي عن مدنهم، وصوَّرا ما حل بهم من تمزق وتشتت وتوزع أصابهم عند الخروج من مدنهم وقراهم إلى المدن والقرى المجاورة أو إلى خارج الأندلس بسبب الدمار والتخريب الذي حاق بديارهم.
وقد دفع إلى ظاهرة الرحيل والجلاء عن المدن جملة من الدوافع والأسباب منها: الرحيل في طلب العلم والمعرفة، أو البحث عن الرزق، أو الهرب من الضرائب والظلم، وكان من بين دوافع الرحيل والهجرة عن المدن الأندلسية سوء الأحوال واضطرابها؛ بسبب الفتن والحروب والصراعات الداخلية التي اضطرمت في بلاد الأندلس؛ الأمر الذي جعل الناس يفقدون الأمن والاطمئنان، فقد ارتحل نفر كثيرون من أهل قرطبة إلى نواحي الأندلس بعد حادثة الفتنة البربرية؛ فراراً بأرواحهم، وبحثاُ عن حياة أكثر استقراراً وأماناً، وكان الرحيل والنزوح عن المدن الأندلسية يشتد عند تسقط مدينة في يد العدو الأجنبي(عباس 32 – 35)، فلم تعد الهجرة تقع داخل المدن الأندلسية فحسب، وإنما اتسع نطاقها إلى خارج الأندلس، إلى شمال إفريقية حيناً، وإلى المشرق حيناً آخر.
فبعد انفراط سلك الأندلس، وسقوط معظم مدنه وثغوره وحصونه في أيدي الأسبان المحتلين" قوض كثير من الأندلسيين خيامهم، ورحلوا عن وطنهم، وتركوا معاهدهم وديارهم، وفارقوا أهلهم وأحبابهم إلى غير رجعة، وتقاذفتهم البلاد والفلوات، وذاقوا مرارة التشتت والضياع(عيسى، 1997: 215)، وهذه الصورة الأخيرة من الرحيل ما ستتناوله هذه الدراسة بالتفصيل.
أسباب رحيل الأندلسيين عن مدنهم المحتلة:
المتتبع للدوافع والأسباب التي حدت بالأندلسيين إلى النزوح والرحيل والهجرة عن مدنهم التي احتلها الفرنجة، يجد أن من أقوها وأشدها ما كان يقترفه أولئك المحتلون من فظائع بحق سكان تلك المدن، ذلك أن العدو إذا ما أراد أن يستولي على مدينة ما، فإنه يقوم أولاً بمناوشتها، ثم يحاصرها حصاراً شديداً، ويضيق الخناق عليها، وقد يتواصل الحصار عدداً من السنيين، فيحدث في المدينة للناس ضيق شديد، إذ يقطع عنهم الماء والطعام، فتنتشر الأمراض، وتشح الأقوات، وتغلو الأسعار، وتحدث المجاعات، ويكثر الموت والهلاك، وما ذاك إلا بهدف دفع أهلها إلى الجلاء والنزوح عنها، فالشاعر عبد الكريم القيسي يصف حصار مدينة " بسطة"، وما أصاب ساكنيها من هلع، وما أعده العدو من عدة وعتاد لحصارها، يقول (القيسي: 295، 296):
عزموا على إجلائنا عن أرضنامن بعد ما اجتمعوا لنــــا وتألفواواتوا بكل مكيـــــــدة قد أرهفتآراؤها في أهبـــــــة لا توصفوتطلعوا فرحـــــــــا لهدم معالمللدين شيد بنــــاؤها واستشرفوالم يبق رمح عندهم إلا أتــوا بهقصدا به لجهادنـــــا أو مرهف
أما إذا ما اقتحم الغزاة الفرنجة المدن الأندلسية، فإنهم يرتكبون في حق أهلها أبشع أنواع الجرائم والفظائع، يدخلونها دخول الوحوش المفترسة، فيستبيحونها بمن فيها، وبما فيها، ويقتلون الشيوخ والنساء والأطفال، ويسبون الألوف من أهلها، ولم يكتف الأعداء المحتلون بالقتل والسلب والأسر والتعذيب، وإنما يقترفون بحق أهلها المسلمين اعمالاً شنيعة لا يقدم عليها إلا أخس الجنود وأنذلهم،منها إقدامهم على هتك أعراض الفتيات المسلمات بطرق فظيعة ومؤذية(عباس 32).
ولم يأل المحتلون الأسبان جهداً في محو معالم الحضارة الإسلامية وطمس آثارها: من مساجد ومدارس ودور عبادة وعلم، فالمساجد حولت إلى كنائس، واستبدل الناقوس بالأذان، وهدمت مآذن المساجد ومنابرها، ويبلغ فعل الاضطهاد والقتل، والتشريد والسبي مداه حين يفُرض الغزاة المحتلون، دين الدولة الرسمي النصرانية، على المسلمين، ومَن في حكمهم؛ لإرغامهم على الرحيل. وكان من عادتهم إذا ما سقطت مدينة أمام جحافلهم سارعوا بتحويل مسجدها الجامع إلى كنيسة، ولم يمر وقت غير طويل حتى تصبح كل المساجد كنائس، وفي ذلك يقول الشاعر أبو عمر بن المرابط (الزيات: 750، 751):
كم جامع فيها أعيـــــــــــد كنيـسةفاهلك عليــــــــــه أسى ولا تتجلدالقس والناقوس فوق منــــــــــارةوالخمر والخنزيــر وسط المسجدأسفا عليها أقفرت صلواتـــــــــهامن قانتين وراكعيــــــــــن وسُجّدوتعوضت منها بكل معانــــــــــدمستكبر مذ كان لم يتشــــــــــــهد
ومن بين الأسباب التي حدت بالأندلسيين إلى مغادرة مدنهم المحتلة والرحيل عنها سوءُ معاملة النصارى لهم" إذ هاجر من سرقسطة(سقطت سنة 512هـ) كثير من أهلها إلى مرسية، مؤثرين مغادرة الوطن، حيث كانت وطأة النصارى تشتد على المسلمين يوماً بعد يوم" (أشباخ، 1958: 144).
ففي قصيدة لأبي الحكم بن المرحل أبيات يرسم صورة حية لما ارتكبه الروم في المدن الأندلسية المحتلة في أثناء حصارهم لها ودخولهم حوزتها من مآس وقتل وأسر، وتمثيل بالقتلى، وغير ذلك من صفوف العذاب وألوانه، يقول(مجهول، 1920، 109):
لهفاً على أندلسٍ من جنـَّــــــــةٍدارتْ بها من العِدَى جهنــــمُاسْتخلَصَ الكفَّارُ منـْـها مُدنــــاًلكلّ ذي ديْن عليــها نــــــدمُاستخلصوها موضعاً فموضعاًواقتدروا واحتكموا وانتــقمواواقبلوا ومثَّلوا واســـــــــــرُواواحتملوا وأيتـــــــــموا وأيمواأيامَ كان الخوفُ من أعوانهموالجوعُ والفتنةُ وهي أعظمُ
توسل الشاعر للتعبير عن رؤيته أساليب فنية وتعبيرية متنوعة منها: العاطفة الإنسانية الصادقة التشكيل الموسيقي المتمثل في تكرار الفعل الماضي تسع مرات بصيغة واحدة (مستعلن، متفعلن)؛ الأمر الذي أعطي إحساسا بالحركة والتتابع والسرعة، فضلاً عن وصف أفعال العدو في إيجاز سريع، وما تولد عنه من تتابع نغمي، وتدفق إيقاعي، واسهم تكرار صوت (الميم) المضمومة في القافية في نقل أحاسيس الشاعر المكتومة المحبوسة، وما يعتمل في داخله من مشاعر الانتقام والحقد على أولئك المحتلين.
عمد الشاعر في هذه الأبيات إلى توظف التشكيلات الصوتية التي يتجلى تأثيرها دلالياً من حيث ملاءمة طبيعتها للحالة الشعورية والفكرة المطروحة مثل: التوسل بالصوائت الطويلة وبعض الأصوات المجهورة: كاللام والميم والنون؛ لقربها إلى طبيعة أصوات اللين؛ الأمر الذي جعل التشكيل الصوتي للخطاب الشعري يتسم بطابع الحزن والألم الذي يتساوق والموقف، ويتلاءم وعملية التبليغ التي ينهض بها المرسل بعد شعوره بالأسى والحزن؛ لكثرة جرائم النصارى ضد أهله ومقدساته الإسلامية.
وقد صور الشعراء الأندلسيين ما حلّ بأهل الأندلس التي تهاوت مدنهم في أيدي الفرنجة الأسبان من ألوان التعذيب وأصناف الذل والهوان، ومن هذا النمط قول شاعر مجهول وهو يرثي لحال المسلمين في مدينة "رنده" التي سقطت بيد الفرنجة سنة 890 هـ،وقد غلف إحساسه برنة حزن شجي، وشعور صادق عميق على ما أصاب الإسلام (مكي، 1985، 338):
أحقا خبا من جو رنــــــــــــدة نـورهاوقد كسفت بعد الشموس بـدورهــــــاوقد أظلمت أرجــــــــــاؤها وتزلزلتمنازلها ذات العلا وقصـــــــــــورهافقتل وأســـرلا يُفادَى وفـــــــــــــــرقةلدى عرصات الحشر يأتي سفيـــرها...فواحسرتا كَمْ منْ مساجـــــدَ حُوِّلتْوكانتْ إلى البيتِ الحرامِ شُطورَهـــاوواأسفا كَمْ من صَوامـــعَ أوحشـــتْوقد كانَ معتــادَ الأذانِ يزورُهَـــــافمحْرابُها يشْكُو لمنبــــرِهـــا الْجَوَىوآياتُها تشْكو الفــراقَ وسُورُهــــا
يعبر الشاعر في هذه الأبيات عن عاطفته الدينية الحزينة، ويظهر تحسره على مقدساته الإسلامية التي تحولت إلى كنائس، والمآذن التي عطل الأذان من أعاليها، والمحاريب التي تشكو أمرها للمنابر، والسور والآيات القرآنية التي تندب فراق القارئين والمقرئين، وقد اتكأ الشاعر على عنصر المقابلة أو المقارنة بين ماضي الإسلام ومجده وحضارته وحاضره في ظل المحتلين؛ ليحدث التأثير في نفوس المتلقين.
إن الاتكاء على إجراء المقارنة بين حال المدن المحتلة القديم والجديد، قد غدا عنصراً أساسياًً من عناصر الشعر الذي يصور أحوال المدن الأندلسية المحتلة، فالمفارقة تزيد الإحساس بالمأساة، وتجعل المصيبة أعمق في النفس، فكل ما كان في المدينة من حضارة عريقة، ومقدسات إسلامية مصانة، انقلب إلى خراب ودمار وتبديل وتخريب، وقد صدر ذلك عن شعور صادق حزين، وعاطفة دينية إنسانية ملتاعة متأثرة بالأحداث الدامية.
ومن الدوافع التي حدت بالأندلسيين إلى مغادرة مدنهم المحتلة والرحيل عنها ما كان يوقّعه أهل المدن من معاهدات تسليم المدينة بعد حصار خانق، وتنص هذه المعاهدات في بنودها على أن يغادر أهل تلك المدينة مدينتهم قسراً مثل ما حدث عند دخول الأسبان لمدينة أشبيلية سنة (646 هـ)، إذ اشترطوا "أن تسلم المدينة كاملة سليمة لا يُهدم من صروحها شيء، وأن يغادرها سكانها، مع السماح لهم بأن يحملوا كل أمتعتهم من مال وسلاح، وأن تُسلَّم مع المدينة سائر الأراضي التابعة لها. ولما وقع الاتفاق بين الفريقين، سُلِّم قصر الوالي ومقر الحكم في إشبيلية إلى ملك قشتالة، وقضى المسلمون شهرًا في إخلاء المدينة، وتصفية حاجاتهم، وبيع ممتلكاتهم قبل أن يغادروها، وتقدر بعض الروايات عدد من خرج بنحو أربعمائة ألف مسلم، هاجروا إلى مختلف نواحي المغرب والأندلس المسلمة((المقري، 1968، 4: 420).
ومن الأسباب التي دفعت الأندلسيين كذلك إلى الجلاء والنزوح عن مدنهم المحتلة والرحيل عنها ما كان يقوم به الأسبان المحتلون من محاولات متعددة لاجتذاب سكان المدن إليه بعد أن يستولي عليها، من ذلك ما فعله مع أهل مدينة طليطلة إذ عمل على صرف الناس عن دينهم وإغرائهم بدخول النصرانية طوعاً أو كرهاً يقول المقري بعد سقوط طليطلة"وبسط الكفر العدل على أهل المدينة، وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله"(المقري، 1968، 4: 420).
من هنا رأى الباحث أن يخصص هذه الدراسة لعرض المشاهد المأساوية الفظيعة، وصور العدوان البشعة وآثاره المفزعة، التي حاقت بالمسلمين في المدن والثغور والقرى الأندلسية التي كانت تتساقط الواحدة تلو الأخرى في يد المحتلين الأسبان، وأرغموا أهلها على النزوح والجلاء عن ديارهم ومدنهم وحصونهم إلى مدن أندلسية أخرى لم تسقط بعد، أو إلى خارج بلاد الأندلس إلى المغرب العربي أو المشرق العربي.
وإزاء المصائب والنكبات والمحن التي حاقت بالمدن والقرى الأندلسية والفظائع التي اقترفها الصليبيون في حقهم، وإزاء الأوضاع الخطيرة التي نجمت عن حركة الزحف الأجنبي على تلك المدن، وتحولها في ظل الاحتلال الأسباني إلى موطن بلاء وفتنة، فقد غدا الأندلسيون أمام معادلة صعبة، إنهم بين أمرين، أحلاهما مر: فإما الرحيل والخروج من مدنهم حيث التشرد والتوزع بين الأصقاع وذهاب الدنيا، وإما البقاء في ظل المحتلين، مع ذل الرق وذهاب الدين.
وقد صور الشعراء مواقف الأندلسيين من فكرة الرحيل عن المدن المحتلة أو البقاء فيها تصويراً دقيقاً وصادقاً، فوجدهم ينقسمون من هذه الفكرة فريقين: فريق يدعو إلى الهجرة والنزوح عن تلك المدن المحتلة، وآخر يدعو إلى البقاء فيها، والتشبث بها، وعدم الرحيل عنها، وسيتناول البحث عرض هذين الموقفين بشيء من التفصيل.
فالفريق الأول: الدعوة إلى الرحيل والنزوح عن المدن المحتلة.
وجد هذا الفريق في الهجرة ومغادرة المدن حلاً وبديلاً عن معاناة البقاء والمكوث في تلك المدن والتي فاقت قدرته على التحمل، وأن ثمة أصواتاً ارتفعت مخاطبة أهل الأندلس بالرحيــل عن هذه المدن، طلباً للأمان، وهرباً من بطش العدو وجرائمه، وخوفاً من ترك الإسلام والدخول في النصرانية.
والواقع أن الوطن عزيز على أهله، والأندلسي محب بطبعه لوطنه، مسكون بحبه، متعلق به، لا يطيق عنه بعداً ولا فراقاً، وإن فارقه، فإنه سرعان ما يلبث أن يحن إليه، ويتشوف إلى العودة إليه، وتبقى صورته لا تبارح ذاكرته حيثما ذهب، وأينما اتجه، ويجد فيما يحيط به ما يذكره بهذا الوطن ولا غرابة في ذلك، فهو مسقط رأسه، ومرتع شبابه، فيه نشأ، وعلى أرضه درج، فتعلق قلبه بحبه.
ومما لا شك فيه أن ثمة ظروفاً قاهرة، ودواعي وأسباباً عديدة قد ألمَّت بالأندلسي جعلته يرحل ـ طوعاً أو كرهاً ـ عن مدنه التي احتلها الغزاة الأسبان.
وأول شاعر من هذا الفريق هو الشاعر أبو محمد عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال الذي دعا إلى الرحيل عن مدينة "طليطلة" عقب سقوطها سنة(487هـ) في يد النصارى، وحث سكان المدينة على تركها، ونادي إلى شد الرحال إلى مدن أخرى، أو الهجرة إلى خارج الأندلس؛ لأنها في نظره أفضل من السبي أو العيش في خدمة الظالمين، أو قبل أن يقعوا في قبضة "الفونسو" فيبيدهم وجيشه؛ لأنهم لا يحفظون عهداً، ولا يرعون حرمة، بل شيمتهم الغدر والقسوة على المسلمين إن تمكنوا منهم، ومن ذلك قوله(المقري، 1988، 4: 447):
يا أهـلَ أندلسٍ حثـُّوا مطيـــــكُمُفما المُـــــقامُ بــها إلا من الغَلَطِالثوبُ يَنْسلُ من أطرافه وأرىثوبَ الجزيرة مَنْسُولاً من الوَسَطونحن بيــن عــدوٍ لا يفارقنــــــــاكيفَ الحياةُ مع الحَيَّاتِ في سَفَطِ
ولكن ما الذي حدا بالشاعر ابن العسال إلى دعوة الأندلسيين جميعاً إلى الرحيل، وتخويفهم من البقاء في شبه الجزيرة؟ إن من يقرا هذه البيات قراءة عجلى، يظن أن الشاعر قد اتخذ موقفا انهزاميا حين دعا قومه إلى الجلاء عن أوطانهم، ولكن نظرة متأنية متأملة، تكشف أن مثل "هذا اللون السلبي من التعبير عن الحقيقة كان يومئذ مبالغة في التنبيه والتذكير"(عباس، 1974، 183).
والواقع إن سقوط مدينة طليطلة وهي من اكبر قواعد الأندلس كان صدمة كبرى أصابت الأندلسيين بالذهول والحيرة، إنه في هذه المقطعة يعبر عن غضبه، وعن مرارة ما عاناه عندما أجبر على الخروج من مدينته طليطلة إلى مدينة غرناطة، مع من خرج من المسلمين بعد استيلاء المعتدين عليها، إنه يدق لهم ناقوس الخطر، ويتنبأ بالمصير المفزع الذي كان ينتظر الأندلس بسبب سقوط هذه المدينة، ويعبر عن ثورته على ملوك بلده وأمرائها الذين لم يستجيبوا لتحذيره من الخطر الداهم الذي كان يتهدد المدن الأندلسية، وما كان ينتظرها على يد الممالك الأسبانية التي تعد العدة للانقضاض على بقية تلك المدن، وهو الزاهد الفقيه الذي فضح ممارسات المعتدين الأسبان عند احتلالهم مدينة "بربشتر" قبل اثنتين وعشرين سنة عندما استشعر الخطر، ونادى بدرئه قبل استفحاله، إذ يقول (الحميري، 1980، 1: 90، 91):
ولقد رمانا المشركون بأســــــهملم تخط لكن شأنها الصـــــــماءهتكوا بخيلهم قصور حريمــــهالم يبق لا جبل ولا بطحــــــــاءجاسوا خلال ديارهم فلهم بـــــها...كم موضع غنموه لم يرحم بهطفل ولا شيــــــــخ ولا عذراءولكم رضيـــع فرّقوا من أمـــــهفله إليها ضجة وبغــــــــــــــاءولرب مولود أبــــــــــوه مجدلفوق التراب وفرشه البيــــــداءومصونة في خدرها محجوبـــةقد أبرزوها ما لها استـــــــخفاءوعزيز قوم صار في أيديـــــهمفعليه بعد العزة استـــــــــخذاء
ومن الشعراء الذين عبروا عن حيرتهم وذهولهم لما دهم مدينة طليطلة من أمر جلل، ومصيبة عظيمة، ودعوا إلى الرحيل عن هذة المدينة المحتلة، وعدم البقاء تحت حكم المحتلين النصارى شاعر مجهول أعلن عن موقفه ذاك عقب سقوط مديـنة "طليطلة"، إذ يقول(المقري، 1988، 4: 485):
كفى حزناً بانَّ الناسَ قالوا:إلى أين التحولُ والمسيـرُ؟أنتركُ دورنا ونفرُّ عنـهاوليس لنا وراء البحر دورُ!ولا ثَمَّ الضياعُ تروق حسناًنباكرها فيعجبنا البــكوريُؤَدَّى مَغْــرَمٌ في كلِّ شهرٍويُؤْخَذُ كلَّ صائفةٍ عشورفهم أحمى لحوزتنا وأولىبنا وهمُ الموالي والعشيرُرضوا بالرق يا لله! ماذارآه وما أشار بـه مشير
يعبر الشاعر في هذه الأبيات عن ثورة عارمة على جماعة من الأندلسيين الذين آثروا البقاء في المدينة، ورضوا لأنفسهم بالحياة بعد سقوط المدينة تحت ظلال حاكم نصراني، يرونه أقدر على حماية مدينتهم، يؤدون له الجزية، وهم صاغرون، مستغلاً في ذلك العاطفة الوطنية؛ لإثارة الحمية في نفوس الأندلسيين؛ بغية إقناع هؤلاء الماكثين بمغادرة ديارهم، والرحيل عنها.
إن النظرة المتأملة لهذه الأبيات، تكشف ان الشاعر كان يرمي من وراء هذه القصيدة إلى التنديد والتقريع بمثل هذه الفئة التي استجابت لإغراءات العدو المادية، وبقيت في أرض الكفر في خزي وعار، الّين آثروا عيش التخاذل، وارتضوا حياة الدعة في ظل الاحتلال، يؤدون الجزية للعدو كل شهر، ليس لها من همّ سوى تنمية ثروتها، والإدلاء بالحجج الواهية، فالبقاء في ظل المحتل يوفر لهم الحماية، وهو المولى والعشير، ولو أنهم بقوا في مدينتهم المحتلة من أجل الدفاع عنها، والعمل على التخلص من العدو، أو إبداء نوع من الرفض والمقاومة، لما حمل عليهم هذه الحملة الشعواء التي لا هوادة فيها.
وكان الشاعر نفسه قد عبر عن عاطفته الوطنية الصادقة في أسلوب واقعي في قصيدته تلك التي جسد فيها ما ألم بمدينته من مآس ومحن، مستخدماً في ذلك أسلوب المقابلة بوصفه وسيلة من وسائله التعبيرية؛ لنقل تجربته الشعرية، يقول (المقري1988، 4: 479):
طليطلة أباح الكفرُ منـــهاحماها، إنَّ ذا نبـأ كبيـــــرُألم تكُ معقلاً للدين صعبــاًفذلله كما شاءَ القديــــــــــرُوكانت دارَ إيمانٍ وعلـــمٍمعالمها التي طُمستْ تنيــــرُفعادت دار كفر مصــــطفاةقد اضطربتْ بأهليها الأمورُمساجدُها كنـــائس، أيُّ قلبٍعلى هذا يقرُّ ولا يطيــــرُ؟!
استغل الشاعر أسلوب المقابلة للتعبير عما يعانيه من أحزان وآلام؛ ولما لحق بمعالم مدينته الحضارية، وتاريخها الإسلامي التليد من تخريب وتدمير عندما اجتاحها العدو الأجنبي، وشكّل هذا الأسلوب البنية المحورية في المقطع، إذ بدأ ببيان ما أصاب مدينته من كوارث ومحن، وما ألمَّ بأهلها من هوان وذل وخضوع لعدوهم المحتل، ثم انتقل للتعبير عن إنكاره لما حدث، والتعجب مما نزل، وأخذ يعرض ما كان عليه حال المدينة في الماضي، فهي معقل الدين، ودار للإيمان، ثم انقلبت بعد وقوعها تحت وطأة الاحتلال الأجنبي، وعيثه فيها فساداً ودماراً إلى دار كفر وشرك.
وقد أورد المراكشي في كتابه الذيل والتكملة موقفا لشاعر أندلسي ينتسب إلى مدينة "بلنسية"، يدعو إلى هجر المدينة المحتلة والارتحال عنها،، يقول الشاعر ابن عياش(المراكشي، 1975، سفر 5 ق1، ص 277):
بلنسيـــــــــة بيني عن القلب سلْوةًفإنك أرضٌ لا أحـــــــنُّ لزهـــركِوكيف يُحبُّ المــــرءُ داراً تقسمتْعلى صَارمَي: جوعٍ وفتنةِ مشركِ
يصور الشاعر في هذين البيتين تصويراً جلياً ما كانت عليه مدينة بلنسية في ظل الاحتلال من صراع نجم عنه غلاء المعيشة الذي سبب لأهلها معاناة قاسية، أحسوا معه باليأس لاسيما أن عدوهم أخذ ينازعهم المدن، ويشاركهم فيها؛ الأمر الذي جعل الشعراء يبحثون عن مسوغ لمغادرة هذه المدن وهجرها.ويقول شاعر مجهول (المقري، 1988، 4: 447):
يا أهــلَ أندلسٍ رُدُّوا المُعارَ فمــــافي العُرفِ عاريةٌ إلا إلى مردّاتْألم تروا بي دقَ الكفار فَرَزْنَــــــهُوشاهنا آخر الأبيـــــــاتِ شهماتْ.
المتأمل للخطاب الشعري الذي عبر عنه الشاعر يتبين له انه يدعو إلى الخراب، وبث روح التشاؤم والهزيمة في نفوس الأندلسيين، ويبدو أن كارثة ضياع سقوط مدينة الشاعر في قبضة النصارى، قد هزت وجدانه هزاً عنيفاً، وتركت في نفسه أثراً عميقا، فصدر عن موقف انهزامي، وروح سالبة، وإحساس يائس، عكست فقدانه الأمل في البقاء والاستقرار والحياة في مدينته، ورأى أن ضياع مدينة طليطلة ينهي دور المسلمين في الأندلس، كانتهاء دور المنهزم في لعبة الشطرنج بمجرد موت شاهه.
وقد توسل الشاعر للتعبير عن روحة القانطة اليائسة المتشائمة، وإحساسه بالانهزام الصورة التشبيهية التمثيلية، فجعل استرداد المدن الأندلسية، كأنها عارية رجعت إلى أصحابها بعد أن استعارها المسلمون الفاتحون بعضاً من الوقت، ورشح هذه الصورة بالتمثيل بلعبة الشطرنج، وتصارع قطعها، وكيف ينتهي الدور بموت ملك المسلمين الأندلسي على رقعة الشطرنج كرمز للانهيار والسقوط (دعدور، 2002:209).
والحقيقة إن الدعوة إلى الرحيل عن المدن وهجرها، كانت تشتد في فترات الضغط الخارجي من قبل الغزاة الصليبيين، وتتكرر مع كل هزيمة أو تهاوي مدينة أو حصن في قبضة المحتلين الأسبان، على نحو ما فعل الشاعر أبو إسحاق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي عقب موقعة العقاب(609 هـ)التي أصابت الأندلسيين بحالة من الذهول تغشت عقولهم، وبلبلت أفكارهم، يقول الشاعر وقد ارتفع صوته منادياً بالرحيل عن مدينته التي لم تعد بعد احتلالها دار إقامة (المقري، 1988، 2: 589- 593):
وقائــــلةٍ: أراك تطيــــلُ فكراًكأنــك قد وقفتَ لدى الحســابِفقلتُ لها: أفكــِّــــــر في عِقابٍغَدَا سببـــاً لمعركـــةِ العقابفما في أرضِ أنــــــدلسٍ مُقامٌوقد دخلَ البـَــلا من كلّ بابِِ
استخدم الشاعر في هذه الأبيات أسلوب الحوار الذي أداره مع شخصية امرأة واقعية أو متخيلة نحتها من خياله؛ لإفساح المجال للحديث عن أسباب حيرته وشروده الذهني بعد وقوع هزيمة العقاب.
إن توظيف الشاعر لأسلوب الحوار ليس مجرد تقليد وترديد لما فعله الشعراء قبله، وإنما هو توظيف واعٍ؛ قصد به الشاعر إلى نقل تجربته الشعرية ورؤيته الإنسانية التي تتصل بالهزيمة؛ بغية التأثير في عواطفهم، وإقناعهم بموقفه التي يتمثل في أن الهزيمة لم تكن سوى عقاب الهي لبعد الأندلسيين عن أوامر الله، وان الرحيل عن المدينة ومغادرتها غدا أمراً ضرورياً لا مفرعنه.
وقد بين بعض الشعراء أنهم لم يرحلوا عن مدنهم ويتركوها اختياراً أو طواعية من عند أنفسهم، وإنما كانوا كانوا مجبرين على الجلاء والنزوح عنها، وهذا ما عبر عنه الشاعر أبو بكر محمد ابن القاسم المعروف بأشكينهادة (المقري، 1968، 1: 523):
ولم يتركوا أوطانـــهم بمرادهمولكن لأحــــوال أشابت مفارقيأنام بها ليـــــل التـــتمام تقلبـــــاًوقد سكنت جهلاً نفوس الخلائق
الفريق الثاني: الدعوة إلى البقاء في المدن وعدم الرحيل.
إن انهيار المدن الأندلسي وضياعها أفضى إلى بروز فريق آخر من الشعراء يدعو إلى الصمود والثبات، والإصرار على البقاء، رغم ما أصاب الأهل من ذل وهوان وحصار على يد أعدائهم؛ لأن مرارة الغربة وألم الفراق والإحساس بالضياع أشد مضاضة على النفس من وقع إذلال المحتل وظلمه وقسوته، فأصبح الأندلسي يفضل الموت في مدينته على الرحيل عنها، على نحو قول الشاعر أبي قاسم عامر بن هشام القرطبي الذي يرد على مَنْ يزين له مغادرة الوطن إلى المغرب(المقري، 1988، 2: 81، 82):
يا مَنْ يُزيّنُ لي التَّـــرحالَ عن بلديكم ذا تُحاول نَسْلاً عنـد عِنِّـيــــــــنِوأين يعدل عن أرجاء قرطبــــــــــةمَن شاء يظفر بالدنيــا وبالديــــــــنيا آمري أنْ أحثَّ العيسَ عن وطنيلما رأى الرزقَ فيه ليس يرضينينصحتَ لكنَّ لي قلبــــاً يُنـــازعنيفلو تَرحَّلْتَ عنــــــــــه حلَّهُ دونيلألزمنَّ وطنــي طوراً تطاوعنــيقودُ الأماني وطوراً فيه تَعْصيـني
وهناك مِن الشعراء مَنْ تصدى للدعوة إلى النزوح عن المدن المحتلة والرحيل عنها وحاربها، وبيّن سوء عاقبتها وعظيم مخاطرها، ودعا إلى البقاء فيها، والعيش على أرضها، لدفع العدو المغير، حتى لا تثبت أقدامه بها، وتمتد يده إلى ما سواها، يقول الشاعر السميسر(ابن بسام، 1987،ق 1م 2: 383):
قالوا: أتســــــكنُ بلدةًنفسُ العزيـــز بها تـهونُ؟فأجبْتـُــــهُمْ بتـــــــــــأوُّهٍكيف الخلاصُ بما يكونُغرناطةٌ مثوى الْجَنـــــنِيَلذُّ ظُلْمته الجَنِــــيـــــــنُ
عبر الشاعر في بساطة ويسر عن العلاقة الوطيدة التي تربطه بمدينته، على الرغم مما يعانيه فيها، وقد وظف للتعبير عن تجربته الشعرية ورؤيته الإنسانية الصورة التشبيهية، فهو سعيد ببقائه فيها، وإن كان في ظلمة حالكة سعادة الجنين بظلمة الرحم، وقد عمقت الصورة الخيالية التجربة وأغنتها.
عول الشاعر على الأسلوب المنطقي الهادئ والقياس العقلي، واتخذ منه وسيلة لإبراز فكرته وإقرارها في نفوس المتلقين، وللتأثير في مشاعر من يفكر في النزوح والرحيل عن مدينته؛ طلباً للأمن والاستقرار، وإقناعه بموقفه الذي يتمثل في" لا، للرحيل، نعم، للبقاء".
ومن الشعراء الذين اعتمدوا القول الهادئ، والصورة المؤثرة؛ لإقناع أهل المدن بالبقاء فيها وعدم النزوح عنها الشاعر أبو المطرف ابن عميرة، إذ يقول(المقري، 1988، 4: 494):
كفى حزناً أنا كأهل مَحْصـــــــبٍبكلّ طريق قد نفرنا وننْــــــــفِرُوأنَّ كلينا من مَشوقٍ وشائــــــــقٍبنارِ اغترابٍ في حشـاه تسْــــــعرُألا ليت شعري والأماني ضــــلةُوقولي ألا يا ليت شعري تحيـــــرهلِ النهرُ عقد للجزيـرةِ مثــــــلماعهدنا وهل حصباؤه وهي جوهرُوهلْ للصبا ذيلٌ عليه تجـــــــــرُّهفَيَزْوّرَ عنـــــــــه موجُهُ المُتَكسِّروتلك المغاني هــل عليها طلاوةبما راق منها أو بما راق تسحرملاعبُ أفراسِ الصّبابة والصّبانروحُ إليـها تـارةً ونبـــــــكرُ
القارئ لهذه الأبيات يدرك أن الشاعر سلك غير أسلوب من أساليب التأثير: الفكرية والعاطفية؛ بغية التأثير في الأندلسيين وإقناعهم بالبقاء في مدنهم، وعدم النزوح عنها وهجرها.
توسل الشاعر لإقناع أبناء مدينته الأسلوب العقلي المنطقي والروح الإنسانية، إذ استثمر الصورة التشبيهية التمثيلية في رسم مشاعر الحيرة والتردد التي استولت على الناس لحظة سقوط مدينته بلنسية في يد النصارى المحتلين، فيشبه مشهد رحيلهم ومفارقتهم الأوطان، بمشهد نفرة الحجيج من المحصب، ذلك أن صورة أهل محصب وهم يرمون الجمار، في حركات غير منتظمة، جيئة وذهاباً، تشبه صورة هؤلاء الأندلسيين الذين ينفرون بكل طريق، لا يعرفون له اتجاهاً معيناً؛ لما استولى عليــهم من الجزع والروع، وقد كُتب عليهم بهذا الرحيل القسري والغربة الدائمة والتشرد المزمن في شتى البلاد، ولا يخفى أن التشبيه التمثيلي قد أضفى على الموقف الشعري حياة، وأكسبه ظلالاً إيحائية، فهو يخرج النفوس من خفي إلى جلي، ويأتيها بصريح بعد مكني، وينقلها من العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضـطرار والطبـع، كما يـرى عبد القاهــر الجرجاني(الجرجاني، 1978: 102).
وفي مشهد آخر صور الشاعر ما يقاسيه الأندلسيين من آلام الغربة في صورة تشبيهية مؤثرة هي:"نار الغربة" فالغربة نار تتوقد وتتوهج باستمرار في أحشاء الغريب عن مدينته، وفي هذا إشارة موحية إلى أن بقاء الأندلسيين في مدنهم يجنبهم معاناة الغربة وقسوتها.
ومن ناحية ثالثة يتكئ الشاعر على النزعة الوطنية الممزوجة بالعاطفة الإنسانية الملتاعة التي حطمها الحزن والفراق، فيصف الطبيعة الفاتنة التي تتمتع بها المدن الأندلسية قبل دخول العدو إليها واحتلالها: من أنهار جارية، وخمائل مخضرة، وهواء عليل، ألا تستحق مثل هذه المدن أن يتمسك بها أهلوها، فلا يفكروا بالارتحال عنها؟
وظف الشاعر في هذا المقطع جملة من القيم التعبيرية؛ لنقل رؤيته الشعرية للتأثير في الذات المتلقية من: إيراد للصور الفنية المؤثرة، والجمل الهادئة، والعبارات الهامسة، والأساليـب الإنشائيـة المترعة بالإيحاء لاسيما الاستفهام الإنكاري:" هل" والتمني" ألا ليت " التي خرجت عن معناها اللغوي العادي، واكتسبت دلالات جديدة في سياق التجربة الإنسانية، فأصبحت تومئ بالحسرة والتفجع والحزن والإنكار، وقد أدت هذه القيم الفنية دوراً واضحاً في تشكيل الدلالة وتكثيفها من ناحية، وفي تحريك مشاعر المتلقين وحفزهم على التمسك بالأرض والبقاء في المدن والأوطان.
أما الشاعر أبو الحسن ابن حريق، فله موقف يخالف موقف الشاعر ابن عياش السابق من مدينة بلنسية، فقد دعا فيه إلى البقاء في المدينة، بالرغم مما فيها من معاناة وفتنة وكرب، ويرد عليـه قائـلاً(المراكشي، 1975، سفر 5 ق1،: 277):
بلنسيـــةٌ نهايـــــةُ كلّ حُسْنٍحديثٌ صـحَّ في شرق وغربِفإنْ قالوا: محلُ غلاءِ ســعرٍومسقطُ ديمتي: طعن وضـربِفقل: هي جنـةٌ حُفَّتْ رباهابمكروهيْنِ: من جوعٍ وحربِ
عرض الشعراء صوراً متنوعة لرحيل الأندلسيين ومغادرتهم مدنهم الضائعة، فحين تهاوت مدينة بلنسية في يد النصارى للمرة الثانية سنة (636 هـ) رسم الشاعر أبو المطرف بن عميرة صورة جماعية لرحيل الأندلسيين عن مدنهم (المراكشي، 1964، سفر 1 ق 1،: 174):
صاحَ بهم صائحُ الرحيــل فمافيهم على البيـــــنِ واحدٌ سَلِمَاوجاسَ بالرَّوْع عُقْـــــرَ دارهممن بعد ما كان سِرْبُهُم حُرَُمافهم عبـاديد في البــــــلاد ولاشَمْلٌ يَكُفُّ الخطوبَ منتـظماقد أقسمَ الدهــــرُ أنْ يُفرِّقَهـُـموجنَّبَ الحنـــثَ ذلك القَسَمَايا سَائلي عن بُكاي بعـْــــدهمبكيتُ دمعاً حتى بكيتُ دَمَا
نقل الشاعر في هذا المقطع ما كان يدور في المدن والقرى الأندلسية عندما كان يجتاحها العدو، غذ رسم مشهداً حياً لرحيل قسري عن هذه المدينة، ابتلي به جماعة من أهل الأندلس بعد انهزامهم، وهو يكون بذلك قد" خرج من الحدود الخاصة إلى الآفاق العامة، وصارت الصورة رمزاً لآلاف الحوادث المماثلة" (عيد، 1993: 55).
والواقع ان الأندلسي لا يكاد يستقر في مدينة حتى تسقط في يد النصارى، فيرتحل عنها إلى مدينة أخرى، أو يرتحل إلى خارج الأندلس؛ الأمر الذي عمق الإحساس بفقد الوطن والأهل والأحباب على نحو ما صوره الشاعر أبو البركات محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحاج(النباهي، 1989: 89):
قالوا: تغربتَ عن أهلٍ وعن وطنٍفقلتُ: لم يبق لي أهلٌ ولا وطنُمَضَى الأحبَّةُ والأهلونَ كلهمُوليسَ لي بعدهم سُكنى ولا سكنُأفرغتُ دمعي وحزني بعدهم فَأَنَامن بعد ذلك لا دمعٌ ولا حزنُ
من يتتبع صورة الرحيل عند شعراء الأندلس، يجد أن ثمة شعراء يعبرون عن إحساسهم بالندم والتأسف على تركهم مدينتهم المحتلة، والرحيل عنها إلى مدن أخرى على نحو ما عبر عنه الشاعر أبو المعالي الإشبيلي، الذي رحل إلى مدينة بلنسية، ولكنه ندم على ترك مدينته أشبيلية، إذ يقول (المقري، 1988، 2: 113):
أنا في الغربةِ أبكىما بكتْ عينُ غريبِلم أكنْ يوم خُروجيمن بلادي بمُصِيـبِعجبـاً لي ولتــــركيوطناً فيـــــه حبيبي
وعبر أحد الكتاب الأندلسيين الذين هاجروا إلى المغرب بعد انفراط عقد المدن الأندلسية وضياع معظمها عن إحساس المهاجرين الأندلسيين بالندم، وعن حالة البؤس والتذمر التي آل إليها معظمهم فقال: "إن قوماً من الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس وتركوا الدور والأرضين، والجنات والكرمات، ندموا على الهجرة بعد وصولهم إلى دار السلام، وتسخطوا وزعموا أنهم وجدوا الحال عليهم ضيقة، وأنهم لم يجدوا بدار الإسلام التي هي دار المغرب بالنسبة إلى التسبب في طلب أنواع المعاش - على الجملة- رفقاً ولا يسراً ولا مرتفقاً ولا إلى التصرف في الأقطار أمناً لائقاً"(عبد المجيد، 1954: 159).
المتأمل في الفقرة السابقة، يجد أنها جسدت الشعور العام الذي انتاب المهاجرين الأندلسيين وهم في بلاد الغربة، وعبرت عن ندم هؤلاء على الخروج من مدنهم المحتلة برغم أنهم اضطروا إلى ذلك اضطرارا.
والحقيقة إن تتابع تساقط المدن الأندلسية وضياعها الواحدة تلو الأخرى، قد أوجد إحساساً قوياً لدى الأندلسيين النازحين بأن الرقعة الأندلسية أخذت تتقلص، والأمل في إنقاذها واستردادها بدا يضعف ويذوي؛ الأمر الذي دفع الأندلسيين إلى الحنين إلى معاهد الطفولة والذكريات، والتشوق إلى مواطن سعادتهم، وتصوير المعاناة والأمل الذي لا يفارقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم.
ويلتاع الشاعر ابن عميرة لسقوط مدينته شقر في قبضة الروم سنة(639 هـ) لوعة شديدة، ولكنه لم يفقد الأمل والرجاء في استردادها، وتحقيق النصر الذي وعد الله به المسلمين على الصليبيين النصارى، وذلك في قوله تعالى:وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنين "(الروم: 47)، فيقول الشاعر(ابن شريفة، 1966، ص232):
الرُّومُ حَرْبٌ لنـــــَا وهُمْ وَشَلٌسَالمَه الواردونَ فاسْتبْـــــحَرإنَّا لَنرْجُو للدَّهـــــرِ فيـْـأةَ مَنْأَنابَ ممّا جَنـَــــــــاه واسْتـغْفرونرْقُبُ الكرَّةَ التّي أبــَـــــــــداًبها علَى الرُّومِ لم نَزَلْ نُخْبَـرْ
وقد يحدث أن يرحل الأندلسي عن مدينته ثم يعود إليها فيصور ما أصاب مدينته من تدمير وخراب على أيدي المحتلين، ويعبر عن محنته ومأساته الدامية، فقد روى ابن سعيد أن الأعمى السهيلي (ت581هـ)" لما وقعت قريته "سهيل" في يد العدو المحتل خربوها، وقتلوا أهلها، وكان أهله وأقاربه من بين من قتل، وكان هو غائباً عنها خارج القرية، فاستأجر من أركبه، وأتى به إلى سهيل، فوقف بإزائها وقال (ابن سعيد، 1993،1: 248):
يا دارُ أيـــنَ البيـــضُ والآرامُأم أيـن جيرانٌ عليَّ كــــــرامُرابَ المحبُّ من المنـــازل أنَّهحيٌّ فلم يـــرجع إليــــه سلاملما أجابني الصَّدى عنهم ولميلجِّ السامعَ للحبيـــب كلامُطارحتُ وُرْقَ حمامها مترنِّماًبمقال صبّ والدموعُ سِجام"يا دارُ ما فعلتْ بك الأيامُضَامتْكِ والأيامُ لا تُضَــــــامُ"
يقف الشاعر في هذه الأبيات على أطلال مدينته؛ ليصف ما نزل بها من ألوان التنكيل، وما ألم بها من خراب وتدمير، وقد حرص على أن يقارن بين سالف العهد المشرق وأيام السعد وأوقات الهناءة، وبين تجهم الحاضر، وإدبار الدنيا وتقلب الدهر، وهذا الوصف ينطوي على عاطفة حزينة عميقة تشف عن ألم صادق.
أما الشاعر ابن خفاجة، فيصف مدينته بلنسية التي عاد إليها بعد أن أحرقها النصارى عند خروجهم منها سنة (495 هـ)، بعد احتلال دام ثماني سنوات، فقال نادباً متأسفاً (ابن خفاجة، 1960:354):
عاثتْ بساحتـــك العِـــدا يا دارُومَحَا مَحاسنَك الْبِــلى والنـــارُفإذا ترددَ في جنـــابك ناظــــرٌطالَ اعتــبارٌ فيكِ واستعبــــارأرضٌ تقاذفتِ الخطوبُ بأهلهاوتمخضتْ بخرابها الأقــــــدارُكتبت يدُ الحدثانِ في عَرصاتِها" لا أنتِ أنت ولا الديــارُ ديارُ"
ولّد سقوط مدينة بلنسية مسقط رأس الشاعر في يد النصارى شعوراً حاداً بالأسى والحزن؛ فصور ما حل بها من خراب وتدمير، وأبدى إحساساً عميقاً بالخطر الذي يمثله العدوان الصليبي على المدن الأندلسية الأخرى.
ويجد القارئ موقفاً شبيهاً للموقفين السابقين لدى شاعر آخر من شعراء الأندلس هو أبي عبد الله محمد بن خلصة الذي زار مدينته بلنسية بعد استيلاء الصليبيين النصارى عليها، فأحزنه مرآها، وقد اقترف بحق أهلها من جرائم وفظائع تتقطع لها الأكباد، يقول(الحميري، 1980: 97):
وروضةٍ زرتُها للأنس مبتغيـــــــاًفأوحشتني لذكرى ســــــادةٍ هلكواتغيرت بعدهم حزنــــاً، وحُقَّ لهـامكانَ نوّارهـا أن ينبـــــتَ الحَسَكلو أنـّـها نطقتْ قالتْ لفقــــــدهم:بانَ الخليـطُ ولم يَرثُوا لمن تركوا
تسري في هذه المقطعة أحاسيس الأسى ومشاعر والتفجع على ما آل إليه حال مدينته وما لحق بأهلها السادة من مصائب، فالنصارى المحتلون قد عاثوا في محاسنها فساداً، وبدلوا مظاهر الحياة والحيوية فيها إلى خراب ودمار.
والواقع أن الرحيل عن المدن قد ارتبط لدى الشعراء الأندلسيين بالغربة والحنين والشوق إلى تلك المدن المحتلة، فبعد تناثر سلك الجزيرة الأندلسية، وتساقط مدنها الواحدة عقب الأخرى، وتمكن النصارى منها، وإجبار كثير من الأندلسيين إلى النزوح عن مدنهم، وترك ديارهم، ومفارقة أهليهم وأحبابهم إلى غير رجعة، ظلت قلوب الأندلسيين معلقة بها، وحنينهم وشوقهم إليها لا ينقطع، وقد عبروا عن هذا الشوق والحنين في صور متعددة، فأخذوا يصفون ما تضطرم في نفوسهم من مشاعر الشوق والحنين إلى ديارهم، وغدت صورة الوطن لديهم صورة الفردوس المفقود، والجنة الضائعة، يقول الشاعر أبو ذر مصعب بن محمد الخشني (الحميري، 1980: 72):
أيا نخلتــــي جيــــــــان بالله أسعداغريباً بكى من فقد أهل وجيـــرانِيحن إلى ظليــــــــــــكما وفـــؤادهرهين بأظعان حللن بجيــــــــــانيؤمل أقصى الغرب والشرق همهويذكر أوطانـــــــــاً تحن لأوطانوما ذا عن بغض ولا عن قلى لهاولكن عدت عنها تصاريف أزمانعسى من قضى بالعد عنهم بلطفهيسدد من حالي ويصلح من شاني
فالشاعر في هذه الأبيات يذكر حنينه إلى وطنه بالأندلس مدينة " جيَّان"، ويومئ إلى هذه المعاناة والأمل الذي لا يفارقه في العودة إليها.
وللشاعر ابن الجنان المرسي (ت648 هـ) مقطوعة يتشوق فيها إلى مدينته "مرسية" مسقط رأسه ومرتع شبابه التي سقطت في أيدي المحتلين النصارى (ت641 هـ) ويتذكر أيامه السعيدة فيها والتردد إلى مسجدها الجامع، وعبر فيها عن شدة تعلقه بمعالم مدينته "مرسية" التي توافق في نفسه مأرباً، يقول متشوقاً إلى مسجد المدينة الذي حولَّه النصارى إلى كنيسة(ابن الجنان،1990، ص111):
ويا لمرسيـــةِ الغـــــــراءِ من بلدٍأضحى منيراً، وأمسى نُوره خُسِفاويا لجامعها الأعلى لقد وضـــعتْمنه مجاورة التثليــث ما شرفـــــاإذ كنتُ أشهدُ أطـــرافَ النّـهار بهمع المصلي وليـلاً أشــــهدُ الزُّلفاجاورتُ منه جماناً كان مجتــــمعاًلبهجةِ الديــــــن والدنيـــا ومُؤْتلِفا
يعبر الشاعر في بساطة ويسر عن عاطفته الدينية الصادقة التي تلونها المشاعر الإنسانية الفياضة، وهو يركز حنينه على المقدسات الإسلامية لا سيما المساجد التي أصابها التغيير والتبديل على أيدي الأعداء المحتلين والتي كانت، مصدر ذكرياته العبقة في تلك الربوع التي استباحها الكفار.
أدت التشكيلات اللغوية المتنوعة دوراً بارزاً في نقل تجربة الشاعر ورؤيته الإنسانية، فقد ترددت العبارات الدالة على الأسى والحزن والألفاظ الموحية بالتفجع والتحسر من مثل: "يا لمرسيـــة الغراء"و" يا لجامعها الأعلى"، ويجيء ترديده لأسلوب النداء بخاصة أداة النـداء "يا" التي يأتي بعدها الشيء الذي يحزن ويتفجع لحدوثــه، موحياً بمشاعر الأسى والتفجع على فقده مدينته وجامعها، واضطلعت بنية التضاد بدور فاعل في تعميق المعنى وترسيخه مثل التضاد الزمني واللوني:" أضحى منيراً، فأمسى خسفا"وألفاظ الطباق بين "النهار والليل"و" الدين والدنيـــا"، في تجسيد الفكرة وتكثيف التجربة، وتكرار الفعل الماضي المتصل بضمير المتكلم" كنت، جاورت، أشهد"؛ للإيحاء بالصدق الشعوري، والتصوير الفني، والتعبير عن شوق الشاعر وحزنه العميق، ولإحداث المشاركة الوجدانية في نفوس المتلقين.
ولأبي البقاء الرندي قصيدة في الحنين والتشوق إلى مدينة "رندة" مسقط رأسه ومرتع شبابه، نظمها وهو غريب في مدينة مراكش يقول فيها (المقري، 1968،1 289:):
بلغ لأندلس السلام وصــــــــــــــف لهاما في من شــــــــــــوق وبعد مـــــــزاروإذا مررت "برنـــــدة" ذات "المنــى"و"التاج" و"الديـــــــموس" و"اللؤزاز"سلم على تلك الديــــــــــــــار وأهلهافالقوم قومي والديـــــــــار ديـــــــاري...عيش تلاعبــــــــت الخطوب بعهدهحتى غدا خبــــــــرا من الأخبـــــــــارومعاهــــــــد كانت علي كريـــــــــمةلم يبــــــق لي منــــــــها سوى التذكار
إن الوطن الجنة الذي عاش الشاعر أيام صباه في كنفه، قد غدا بعد احتلاله خبراً من الأخبار، وغدا الحنين في مثل هذه الأبيات حنيناً إلى الجنة الضائعة جنة الأندلس، بمقدساتها الإسلامية العريقة، إنه العيش الأخضر الذي تلاعبت به المصائب والخطوب، ومعإهد لم يبق منها سوى الذاكرة، لقد غدت تلك المواطن بعيدة، ودل على ذلك استخدامه اسم الأشارة للبعيد "تلك"، إنه حنين وشوق ينم على شدة تعلق الأندلسي بوطنه، ويشي بانتمائه العاطفي لهذا الوطن (طحطح، 1993، ص 284).
< [1]