الجمعة ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٧
القراءة الأنثروبولوجية للأدب
بقلم أحمد محمد زغب

ظلال بلا أجساد ىمجموعة قصصية لبشير خلف

هذا الاتجاه في النقد جديد، لم يعرف في أوروبا إلا في القرن الواحد والعشرين على يد الثنائي الفرنسي جان بيير جيرفودJean Pièrre Girfaud، وجان بول توريلJean Paul Tourrel،ثم تبناه علم الاجتماع المغربي عياد أبلال، وهو يحاول وضع حد للقراءات النسقية التي أصبحت عقيمة إذ تكتفي بالوقوف على جمالية النص مختزلة اياه إلى بنية لغوية ونسق أسلوبي وحسب، دون ربطها بالسياق الاجتماعي والثقافي والتاريخي، و الرجوع إلى معطيات خارج بنية النص ليس امرا جديدا فقد رأينا ذلك عند لوسيان جولدمان،كما رأينا القراءة الثقافية أي النقد الثقافي كما هو عند عبد الله الغذامي، ثم القراءة الأنثروبولوجية التي لا تكتفي بالأنساق الثقافية المضمرة إنما تبحث عن كل التجليات الثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها في العمل الأدبي، واستنطاقها اعتمادا على المنهج التحليلي الرمزي، ومن ثم يعتبر كاتب القصص بمثابة الباحث الأنثروبولوجي المكتبي، الذي ينزل من الميدان مسجلا النصوص التي تنتجها الثقافة، بعد أن كان يتفاعل مع الثقافة نفسها باعتباره نصا، ثم يأتي الناقد الذي يحاول جسر الهوة بين نص الثقافة وثقافة النص وتوضيع العلاقة بين الميدان الأنثروبولوجي والنص الأدبي المشحون بالظواهر الثقافية والأنثروبولوجية.

وفي هذه المقاربة الأنثروبولوجية، يعتبر الناقدُ النصَّ الأدبي عملا أنثروبولوجيا مكتبيا، يتفق مع العمل الميداني في جملة من المعطيات اهمها السرد والوصف والحوار، ويتجاوزه في كمية التخييل التي لا يخلو منها العمل الميداني أيضا، وإن بدا للعيان غير ذلك.

يطرح عياد أبلال السؤال التالي: كيف يمكن ملامسة مختلف القضايا المشكلة للبحث الأنثروبولوجي في عمل سردي، ومن ثم كيف تحضر الثقافة بجميع مكوناتها في العمل الأدبي.

وهكذا يرى الباحث أبلال أن العتبات الأولية للمنهج الأنثروبولوجي، التأويلي الرمزي هي هذه الأسئلة المنهجية والإجابة عنها، فكيف إذن يقدم السرد خطابا أثنوغرافيا عن قرية أو مجتمع محلي بالمصطلح الأنثروبولوجي، أو مسرح الأحداث بالمصطلح الأدبي.

كيف يعالج النص السردي قضايا المقدس، وأنظمة القرابة والزواج، وكيف يلامس الأدباء السحري والخرافي.

ما هي التقاطعات التي نجدها في نصوصهم السردية بين الإبداع والتخييل وبين المستوى الأثنوغرافي، وكيف تحضر الشعائر والطقوس الاحتفالية في المتن السردي، وأخيرا كيف تتقاطع النظريات والقضايا المعرفية في الأنثروبولوجيا في الخطاب السردي

وهكذا نجد أنفسنا إزاء منهج أثنولوجي للعمل السردي باعتباره مادة خام للوصف الأثنوغرافي، وبعد الوصف يأتي المستوى الأثنولوجي وهو الكشف عن مختلف التمظهرات الثقافية وأخير المستوى الأنثروبولوجي المعرفة النظرية ومحاولة المقاربة الرمزية التأويلية.

واستئناسا بهذا النهج الجديد في النقد نأخذ في تناول بعض الأعمال الأدبية، محاولا ان أمدّ الباحثين الشبان بالمنهج الذي يثري النص الأدبي ويستخرج منه كثيرا من الموضوعات التي يكنها، بعد ان كان يشاع عن هذا المنهج أنه قاصر على الأشكال الأدبية الشعبية، نحاول أن نقترب من النصوص الأدبية النخبوية أو المسماة نخبوية باعتبار الذين كتبوها نالوا نصيبا من الثقافة وكتبوها عن وعي تام انطلاقا من ذهنية كتابية خالصة يفترض فيها الموضوعية والوقوف على مسافة من المشكلات المطروحة.

ولهذا المنهج عدة مزايا عددها جان بيير جيرفود وجان بول تريل، أهمها أصالة القراءة وحرية الدارس في ان تكون له قراءته الأصيلة التي لا تشبهها قراءة أخرى،ومن ثم تتعدد القراءات وتكشف عن عناصر جديدة كل مرّة.

إن هذه الاستقلالية، تسمح للقارئ المبتدئ للنصوص أن تكون له عملية امتلاك مستقلة تسمح له أن يحدد هويته كشخص في المجموع، لتحديد ثقافته الخاصة وثقافة الآخر في إطار عقلاني منفتح على التبادل الثقافي..

تفعيل نظام تقييم يضمن تقييم مكتسبات الطلبة الشباب من قراءتهم للعمل الأدبي، والتمكن من القراءة الأنثروبولوجية، والتعرف على أثر القراءة في إثراء معارف الطالب.

وللتجريب على هذا المنهج اخترت مجموعة قصصية، ظاهريا واقعية وليس بها مجال كبير للموضوعات التي تستهدفها الأنثروبولوجيا، بحيث يكاد يختفي فيها هامش السحر والخرافة والمقدس وطقوسه والعادات والتقاليد وغير ذلك مما يصلح في العادة للمقاربات الأنثروبولوجية.

وغرضنا من ذلك أن نثبت ان الأنثروبولوجيا المعاصرة تطورت كثيرا فلم تعد تهتم بالشعوب البدائية أو التقليدية كما كانت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إنما أصبحت تهتم بالمجتمعات التقليدية والعاصرة على السواء، من ثم لا تقتصر الدراسة الأنثروبولوجية للأدب على النصوص التي انتجتها مجتمعات تقليدية.

ظلال بلا اجساد:

المستوى الإثنوغرافي:

من الطبيعي أنّ كاتب القصة أو الرواية، لا يشبه الباحث الأثنوغرافي حينما يأخذ في التسجيل، فهو لا يمسح كل المعطيات التفصيلية للواقع الذي لا حظه، إنما يوظفها توظيفا يجتمع فيه الواقع بالتخييل، لذلك فلا نطمع ان نجد تفاصيل المسح الإثنوغرافي إنما نجد ملامح من كل جانب من جوانب الثقافة والتنظيم الاجتماعي ونمط المعيشة.

ملامح النشاط الاقتصادي ونمط المعيشة:

ونبدأ بالمجموعة القصصية ظلال بلا أجساد للقاص بشير خلف، ففي المستوى الأثنوغرافي يطالعنا الكاتب بمجتمع قروي ريفي، منهك من جراء أكثر من قرن وثلت من استعمار استيطاني وحكم عسكري مباشر، يعمل غالبية المجتمع في زراعة الأرض وغراسة النخيل ويرتبطون بالأرض ارتباطا عضويا، وينتجون التمر والتبغ ومنوعات أخرى، ويتفشى الفقر بشكل لافت لا سيما والأرض صحراوية لا تنتج القوت اليومي للسكان إلا بعد جهد جهيد، ومع ذلك فالناس يتوارثون مهارة الزراعة وخبراتها أبا عن جدّ، بدأت التكنولوجية تأخذ طريقها إلى العمل الفلاحي سواء في استخراج الماء من مستوى الطبقة الجوفية، أو في العمل في الأرض، ومع ذلك فهذه التكنولوجية (المحركات الكهربائية) ليست بالمجان، فهي تحتاج إلى مصاريف،خارج استطاعة كثير من الفلاحين، وتعمل الدولة على مساعدة هؤلاء الفلاحين، عن طريق الدعم وتوزيع الأراضي والدفع بالتقسيط لإدخال تكنلوجيا المضخات الكهربائية التي تستخرج المياه من باطن الأرض، فيصطدمون بالإجراءات البيروقراطية واستخراج ملفات ووثائق مهمة وأخرى عبارة عن استمارات تملأ بدقة ومبالغ مالية مسبقة...وموظف بيروقراطي يتعامل معهم بلهجة جافة (ص86).

يصطدم جهد الفلاحين ومحاولات الدولة لتحسين ظروفهم بمجتمع المستغلين الجشعين، يحاولون إقناع الفلاحين بعدم الاستفادة من القروض (الحاج مبروك ص56)،حتى يستمر احتكارهم للثروة ويظل الفلاحون الفقراء على فقرهم.

ومع ذلك فالفلاحون يحتفظون بجانب اجتماعي إيجابي، إذ يتعاونون فيما بينهم على الإنجاز الضروري لبعض الاعمال التي تتطلب عملا جماعيا، يحفزهم في ذلك حبهم للأرض وللعمل الفلاحي.

والفلاحون لا يستسلمون أمام الصعوبات التي يعانونها،فتارة يحاولون تنظيم أنفسهم وطورا يقدمون شكاواهم للمسؤول الكبير حين يستهين بهم المسؤول الصغير، ويصارعون الجشع والتخلف والتعصب الأعمى.

محاولات تحسين المستوى الفكري بالتعليم ومع أن الفقراء لا يستطيعون غالبا تلبية حاجات أبنائهم في التمدرس، لقلة ذات اليد، فالوعي بأهمية التعليم في رفع مستوى الفكري والمستوى المعيشي للمواطنين، يصطدم الشبان المتخرجون الجدد بالبيروقراطية التي تحول دون حصولهم على منصب شغل، بل يدفعونهم إلى طرق أبواب اخرى غير الوظيف الذي حلموا به من اجل خدمة وطنهم،مثل دفعهم إلى الهجرة أو إلى البزنسة ؛بحجة أن المرتب الذي سوف يتقاضاه لو حصل على الوظيفة زهيد (الأعمال التجارية) قصة الرحيل ص17،وهكذا يضطر بعض الشباب إلى الهجرة ويحرموا الوطن من خدماتهم.

الفقر المدقع للبعض وعجزهم على العمل وحاجتهم الشديدة إلى النزر اليسير من النقود يدفعهم إلى التسول أو إلى اقتفاء أثر الباعة ومخلفات الأسواق والنبش في البقايا عساهم يعثرون على قطع نقدية مفقودة. ويتحملون أضعاف ما يتحمله العامل من جهد وتعب بالإضافة إلى الإزراء به من قبل المارة.

فالفقر حاضر بوضوح في هذا المجتمع، والمحاولات المستمرة لبذل الجهود للتغلب عليه، وجهود الدولة في ذلك موجودة إلا أن قوى الشر والجشع تحاول المقاومة في الاتجاه المعاكس.

أما عن نمط المعيشة فلا نتبين منه إلا ملامح باهتة للملابس مع الفرق الواضح لملابس المدير العام(ص33)، اما ملابس عامة الناس فلا تشير الى الثقافة بقدر ما تشير إلى الفقر والعوز والغذاء الذي يكاد يكون مفقودا في المطبخ إذ لا تجد الفئران ما تقتات به(ص70).
ملامح التنظيم الاجتماعي وبنية القرابة:

أما في جانب الأسرة وعلاقات القرابة، والوضعيات التي نلمحها، فالعلاقات الدافئة بين الأمهات والأبناء، هؤلاء الأبناء الذين يظهر تعلقهم بأمهاتهم بحيث يكابدون المعاناة في محاولة الحصول على الوظيفة في قراهم حتى لا تضطرهم الحاجة إلى كسب الرزق بعيدا عن الأمهات اللاتي هن في أمس الحاجة إلى رعايتهم.

نلمح في مجال الأسرة الوالدين وإلحاحهما على الشباب بالزواج من أجل الاستقرار، لكن الاستقرار يصطدم بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية فيضطر الشاب إلى ترك أهله من أجل العمل، ثم تتركه الزوجة لتعود إلى أهلها وبلدها وتترك الشاب المسكين يعاني برد الغربة بعيدا عن دفء الأسرة. وحرص الأبناء على البقاء إلى جانب الآباء، هؤلاء الآباء الذين يمتلكون تجارب الأيام والسنين،يحاولون نقلها إلى أبنائهم وأحفادهم.

كما نلمح في هذا المجال الأطفال الذي يمثلون المستقبل، هؤلاء الأطفال يذهبون ضحايا العنف الذي يكتسي طابع الانتقام الأعمى لقوى الشر من قوى الخير، ويذهبون إلى المدرسة ويلحون على أهاليهم الفقراء في طلب متطلبات الدراسة ومصاريفها هؤلاء الذي لا يكادون يجدون ما يقتاتون به.وتضطرهم الفاقة للعمل في بيع الأكياس ومع ذلك لا يكفون على الطموح في التفوق والنجاح. وتعلق الطفل بالأب والام وتعلق الأب والأم بالأطفال امر طبيعي تقف ضده الظروف الصعبة. وانقسام الأسرة الممتدة،أصل التنظيم الاجتماعي، إلى أُسَرٍ نووية (ص55)

النظام الباطرياركي غير طاغ مع أنه الأصل في التنظيم الاجتماعي، فاطمة زوجة الشاب في القصة (رجل على الهامش ص89) لا تخضع لضغوط والدها الحاج أحمد الرجل الوجيه، بعدم الزواج من الشاب الفقير المكافح الذي تضطره ظروفه الاجتماعية إلى الهجرة. ولا تخضع لزوجها أيضا في البقاء على أرض الغربة وتعود مع ابنتها إلى بلدها، وتخيره بينها وابنته من جهة،وبين عمله في المدينة الباردة من جهة أخرى.

ملامح الثقافة والعمران العادات والمعتقدات والطقوس:

لا يبدو من العمران إلا البيوت المتواضعة، بجانب القصور الباذخة للأثرياء، أو صومعة الجامع، أو جدار المقبرة أو مدينة بها أحياء وسوق به دكاكين، كما تبدو ملامح لمعامل عمران بينها وحدة لصنع البلاط، كما نلمح مدارس يدرس فيها الأطفال بها نشاط مدرسي ورحلات استطلاعية، إلى المدن الأثرية البعيدة (تيمقاد) وإدارات محلية (بلدية- دائرة) يشكو إليها المواطنون أحوالهم...الخ.

أما في العادات فقد اعتاد الناس أن يتخذوا من الجمعة يوما للعبادة والتجارة في آن معا، فتزدحم السوق بالباعة من كل حدب وصوب.

اعتبار البكاء وهو استجابة طبيعية للحزن والفجيعة ضعفا للرجال فيجب على الرجل أن يكبت رغبته في البكاء ولا يبالغ في إظهار حزنه، أما النساء فالبكاء أمر طبيعي في شأنهن.
استنكاف الرجل من أن يلوذ بأهل زوجته لتولي بعض شؤونه كالعمل والسكن، فالرجل التقليدي حسب عادات المجتمع هو الذي يدبر شؤون أسرته بنفسه، أو حتى بمساعدة والده، أما رعاية صهره فهي مذمة في حقه، يبدو ذلك في نص الرحيل إذ يرفض الشاب عروض محبوبته.

من العادات ملء الفراغ بلعب الورق في الساحات العمومية والمقاهي، وممازحة بعضهم بعضا كضرب من ضروب الترويح عن النفس.

أما في المعتقد؛ فنجد الاعتقاد بالقضاء والقدر، وبالآية القرآنية ((لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) والرزق مضمون مادام الإنسان على قيد الحياة، وتوقير الوالدين وطاعتهما يعود على صاحبه بالخير، وميل بعض الأثرياء للصدقة على الفقراء اعتقادا منهم ان ذلك تزكية لأموالهم، وهذه المعتقدات كلها مستمدة من روح الدين الإسلامي. وبالإضافة إلى المعتقدات المستمدة من الدين أساس ثقافة المجتمع، فهناك معتقدات إنسانية عامة مثل الإيمان بأهمية الأرض وحب الوطن، ورفض الظلم وكراهية الشر وأعمال القتل وكراهية الشوفينية والتعصب الأعمى.

وأخيرا نجد الطقوس متمثلة بصورة متفردة بالصلاة الحرص على أدائها الصلاة في الجامع، ومع أن للصلاة وجها إيجابيا في النصوص،فهي استجابة لإملاءات الدين، إلا أن التخلف عن الصلاة في الجامع جنّب رجل الخير الوقوع في فخ قوى الشرّ في الولاعة الذهبية التي كانت تخفي وراءها جسما متفجرا أودى بحياة الطفلة البريئة. كما نلمح الخطاب الديني المتعصب يفرض فهمه المتخلف على مجلس عمل في اجتماع رئيس الدائرة مع ممثلي المواطنين الذين يطرحون مشاكلهم لدى المسؤول، ويحول الاجتماع إلى ما يشبه خطبة جمعة.
المستوى الإثنولوجي:

يبدو المجتمع مسلما في بلد مكافح في سبيل التحرر، تبرز فيها جوانب إيجابية للثقافة الصبر والتحمل والتضحية حين يكون الوطن في حاجة إليها، والطموح إلى حياة أفضل، ومحاولة الامتثال لإملاءات الدين والمجتمع،كما يبدو المجتمع متأرجحا بين واقع صعب يتميز بكثير من السلبيات كالتفاوت الطبقي والجشع لدى فئة والتعصب والاحتكام إلى المؤامرة والعنف والشر، والنزوع إلى المصالح الآنية والأنانية المفرطة والجشع ولو على حساب المبادئ ؛ المصالح التي تحرك الأفراد بالإضافة إلى الانحرافات الأخلاقية والتمرد على القيم التي يتبناها المجتمع.

مقابل ذلك نجد الطموح إلى المثاليات والتضحية في سبيل الوطن والتطلع إلى تقدم البلاد وازدهارها، كما نجد التضامن والتكافل الاجتماعيين، و هذا التناقض أمر طبيعي، فالهوة دائما موجودة بين الأمل والتطلع، وبين الأفكار والقيم المثالية وبين الواقع الذي يصعب فيه تطبيق المثاليات لاصطدامها بكثير من المعوقات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والسياسية، فالمجاهد الذي ضحى من أجل الوطن ورأى كثيرا من زملائه استشهدوا راضين، يحدوهم الأمل في ان يعيش أبناؤهم وإخوانهم بعد الاستقلال حياة الحرية والكرامة، يصطدمون بالواقع الأليم الذي لا يستجيب لطموحاتهم، ومن ينقلب إلى جشع يحاول أن يغتنم كل فرصة ليحصل على مكسب من المكاسب.

يبدو سلم القيم في هذا المجتمع في تعديل دائم للأولويات، فالكرامة عزة النفس ارتقت إلى أعلى القمة أثناء الثورة بل أصبحت أولى من الحياة نفسها، أما بعد الاستقلال إن حب الذات –أحيانا – احتل محل حب الوطن، وتتنازع بعض القيم على الأهمية، التعليم،القوت، المصالح، المثل، الغرائر، المبادئ،كما تتفوق الغريرة الطبيعة حفظ الذات على بقية الحاجات الأساسية للإنسان، حفظ النوع والعلاقة بالمقدس وهذا يجرنا حتما إلى الجزء الأخير والأهم من هذه المقاربة

المستوى الأنثروبولوجي:

صحيح أن النص فقير مما يعتبر في العادة من صميم التخصص والسبب أن الموضوعات التي تتناول السحر والطقوس الشعبية وطقوس العبور والفنون والرقص والاحتفالات الطقوسية،ولذلك فأول نقد يمكن أن يوجه إلى هذه المقاربة هو انها تصطاد سمك الشبوط في البحر المالح بينما هو لا يوجد عادة إلا في الأنهار العذبة.

وقد دفعنا بالمبرر في بداية هذا المقال، وهو إثبات قدرة الأنثروبولوجيا على دراسة المجتمعات المتطورة، بعد أن كانت قاصرة على المجتمعات البدائية والتقليدية، لكن السؤال يظل مطروحا،هل المجتمع الذي يصفه الكاتب والذي نتجت منه هذه القصص القصيرة مجتمع متطور يخلو من السحر والخرافة والطقوس السحرية واحتفالات العبور او احتفالات دورة الحياة؟

من المؤكد ان الجواب سيكون بالنفي، غير أن الحاجات الأساسية طغت على القصص، أهمها الحاجة إلى العيش الكريم، والتي يمكن اعتبارها في المجموعة القصصية، موضوع القيمة، إذا اعتبرنا أن المجتمع الجزائري،أو مجتمع المنطقة باعتباره جزءا من المجتمع الجزائري، هو الذات الفاعلة بمنظور غريماصGreimas في علم الدلالة البنوي الذات المكافِحة باستمرار للاتصال بموضوع القيمة هذا.

إلا أننا لو حللنا موضوع القيمة هذا، وجدنا طغيانا شديدا للمحور المادي العمل ووسائل الإنتاج كالزراعة والتجارة وصنع البلاط....الخ، ثم يليه الاستقرار الأسري أو حفظ النوع، الزواج والأطفال والدفء الأسري والقرابة والسكن وأخيرا الحاجة الأساسية الثالثة كما قررها علماء الأنثروبولوجيا وهي العلاقة بالعالم الماورائي (المقدس).

تصطدم الذات الفاعلة بمجموعة من المعوقات، منها قوى الشر والتعصب والجشع والأنانية والبيروقراطية....الخ، ومع ذلك تحاول تذليلها، بالكفاح والنضال والتكافل الاجتماعي، والاستجابة للقيم الإيجابية كحب الوطن وحب الوالدين حب الأرض...الخ.

ونلاحظ اختفاء مظاهر الثقافة تقريبا او أنها كانت باهتة فلا نجد الطقوس أكثر من الصلاة التي ذكرت مرات معدودة على أصابع اليد الواحدة،فلا نجد فنونا ولا احتفالات ولا شعرا ولا غناء ولا سحرا ولا أي شيء يتعلق بما يسمى البنية الفوقية بالمفهوم الماركسي، اللهم إلا التعليم، وللأسف فالتعليم يقدمه الكاتب في مواضع كثيرة باعتباره مبررا لإيجاد العمل ومن ثم كسب الرزق، ومن ثم فإن تأثر الكاتب بطريق غير مباشر بهذه لنزعة المادية التي تعطي الأولوية للبنية التحتية (العمل وسائل الإنتاج....الخ) على حساب البنية الفوقية (الثقافة) باعتبارها ناتجة عنها منبثقة منها.

فالدين وهو أهم قاعدة ثقافية تقوم عليها البنية الاجتماعية،يبدو ظاهرا باعتباره عامل تعصب وعامل استغلال وعامل عرقلة للمسيرة التنموية أكثر من كونه عامل تحفيز للقيم والمثل العليا وعامل شحن وحشد الهمم،لاسيما في ثورة التحرير التي ذكرت عرضا، ونكوص المجاهدين الذي عاهدوا التربة أن يسقوها بعرقهم،ها هم يتهافتون على رخص المقاهي وسيارات الأجرة وأكشاك بيع الجرائد....الخ (ص138).الأمر الذي يفقد الثقة في كل قيمة مضافة الى الوطن وحشرها في قيم التهافت على الكسب المادي والجشع والاستغلال لعرق الفقراء.

ويمكن في نهاية هذه القراءة التجريبية لهذا المنهج، أن نخلص إلى النموذج المجرد والدلالة الشاملة لنصوص المجموعة،ففي النموذج المجرد نجد المحاور الثلاثة لبنية الفاعلين:

المحور الأول:محور الإرادة، الذات الفاعلة: المجتمع-موضوع القيمة: العيش الكريم.

المحور الثاني: محور الصراع: قوى عائقة: الفقر والبيروقراطية والجشع...الخ.وقوى مساعدة، حب الوطن، حب الأرض، التكافل الاجتماعي...الخ

المحور الثالث والأخير: محور التبليغ، المرسِل: الرغبة في الخروج من آثار الماضي، المرسَل إليه المتلقون للخطاب وخصوصا الشعب.

ينتهج المجتمع في سبيل انعتاقه من آثار الماضي البغيض وتحقيقه الأهداف النبيلة، سبلا عدة لا تمكنه من الوصول الى الهدف المنشود بسبب العراقيل الكثيرة،لكن تبقى المحاولات ويبقى الكفاح المستميت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى