عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى»
قبيل النكبة
أنوّه، بداية، بأنه لضيق المجال لن أستطيع أن أفيَ شاعرنا ؛ تلك القامة الشامخة والهامة المرفوعة، حقه كاملاً في هذه العجالة. وعليه لن أعرض لسيرة حياته: من مولد ونشأة وثقافة وأسرة وما إلى ذلك. فتلك قضايا، على أهميتها، يمكن الوقوف عليها بسهولة، وهي مبثوثة في تضاعيف الكتب والمجلات أو في مواقع الإنترنيت المختلفة. باعتقادي، سوف نكون أكثر فائدة في ما لو يتم التركيز أكثر على ثقافة الأسئلة لا على ثقافة الأجوبة، لأن الأسئلة، في منظور ما، تعد مفاتيح المعرفة والأفكار والتوعية.
عندما سئل نجيب محفوظ عن النبوءة في الأدب في مقابلة معه، قال: إن مسؤوليةَ الأديب لا تنحصر في عكس الواقع، بل يجب أن تتمثل في قدرته على تصوّر النتائج المترتبة على هذا الواقع. إذا كان الأدب قبل النكسة لم يحصل له مثل هذا الحدْس فهذا يعني أنه بحاجة إلى نكسة ليستيقظ، وإذا كانت النكسة أتت مفاجئة له، فهذه شهادة على الأدباء لن يغفرها لهم التاريخ، وهي دليل على أنهم كانوا من ضمن «الخونة»!
هذه الإجابة الواضحة والجريئة تدل على مدى نفور محفوظ من الأدب الذي يهدف إلى مجاملة السلطة ومدحها والتصفيق لها، ذلك الأدب الذي يحمل زورًا اسم الأدب الملتزم. وفي نفس المقابلة، يوضح محفوظ قدرة الأديب الحدْسية على التنبؤ وكأني به يسائله: أيها الأديب أين كنت؟
نسوق مثل ذلك الكلام لكي نوضح الفرق الكبير بين أدباء العرب، قبيل نكسة عام 1967، وأدباء فلسطين قبيل النكبة عام 1948، ففي حين لم ينهض الأدباء العرب بدورهم وتقاعسوا إذ لم يؤدوا واجبهم كما يجب، ولم يتنبأوا أو يتنبهوا على تلك الأخطار المحدقة ويحذروا منها بحدسهم وتوقعاتهم، نجد، على العكس تمامًا، شعراء فلسطين، مثال ذلك: أبو سلمى وإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وآخرون، الذين تنبأوا وأيقنوا بأم العين، بما كان لديهم من قوة الحدْس محذرين مما كان ينتظر وطنهم وشعبهم من مخاطر وأهوال، وأن النكبة واقعة لا محال، وباتت قاب قوسين أو أدنى، لكن المسألة مسألة وقت ليس أكثر! وعن تلك المرحلة يقول أبو سلمى: الشعر لا انقطاع له في فلسطين آباؤنا قاوموا الاستبداد العثماني، البريطاني، الصهيوني.. كان للشعر هُويةٌ خاصة – هذه ليست إقليمية – خلاصة هذه الهوية: الشاعر في المسيرة مع الشعب، الشعراء جزء من هذا الشعب فهم أدرى بتصوير آلامه وإحساساته والتعبير عن آلامه وتطلعاته، ورسمِ درب المستقبل نحو المجتمع الأفضل.
لقد نهض شعراء فلسطين بالمسؤولية، عشية النكبة وقبل وقوعها، على أكمل وجه انطلاقا من وعيهم المبكر وواجبهم الوطني وقوة حدسهم. فحين أحسوا بالخطر الداهم يلوح في الأفق، هبوا يدقون أجراس الخطر ويقرعون الخزان مرات ومرات، يحذرون وينذرون شعبهم وأبناء جلدتهم، حكاما وشعوبا، مما يتربص بهم من مؤامرات كبرى توشك أن تحل بفلسطين وشعبها، متخذين من شعرهم وسيلة كفاحية مباشرة، بغية إيقاظ الجماهير وتثويرها، والوقوف في وجه المؤامرة ومحاولة منع وقوعها، قبل فوات الأوان، أو قبل أن يقع الفأس في الرأس كما يقال، لكن لا من مجيب ولا من مستجيب، أو كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ويثبت واقع الحال إلى أي مدى كان أولئك الشعراء واقعيين وصادقين في الوقت نفسه، لكن للأسف لم يتلق صوتهم إسنادا موازيا على أرض الواقع في القوة والأثر والتأثير، فقوة الكلمة بحاجة إلى قوة الفعل أيضًا. وأسفرت تلك المؤامرات عن ضياع معظم أجزاء الوطن وتشريد غالبية أبنائه، وبين عشية وضحاها صار من لا يملك شيئا يملك كل شيء!
كان لاشتداد الصراع في فلسطين، ولاسيما حين بلغت الثورة أوجها ما بين عام 1936 وعام النكبة 1948، تأثير كبير على الحركة الشعرية في فلسطين. أبو سلمى أحد ثلاثة شعراء يمكن أن يمثلوا خير تمثيل الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، كان قد التقى في القدس بزميليه الشاعرين إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، ليشكلوا معًا مثلثا وطنيا شامخا في تجربة شعرية رائدة، ركيزتها الأساسية فلسطين: الوطن والشعب!
* يقول إبراهيم طوقان في قصيدة رثاء لمدينة القدس وعنوانها ((القدس)) عام 1934:
قضيةٌ نبذوها بعدما قُتلت
ما ضرّ لو فتحوا قبرًا يواريها
* وهذا الشاعر عبد الرحيم محمود، متنبئًا بوقوع النكبة وضياع الوطن وفي مقدمته القدس، ومخاطباً سعود بن عبد العزيز عندما زار فلسطين عام 1935:
المسجد الأقصى: أجئتَ تزورُهُ
أم جئت من قبلِ الضياع تودِّعُه
* أما أبو سلمى فينشر قصيدته المشهورة ((إلى ملوك العرب)) عام 1936، التي مطلعها:
انشر على لهب القصيد
شكوى العبيد إلى العبيد
وقد حملت تلك القصيدة اسم شاعرنا واشتهر بها واشتهرت به، ليس في أرجاء فلسطين فحسب وإنما في أرجاء الوطن العربي كافة أيضا. وهي أشهر أشعار أبي سلمى قاطبة، وتعد ملحمة حقيقية تروي قصة خيبة أمل الفلسطينيين في ملوك العرب الذين خذلوا ثورتهم عام 1936 وعملوا على إيقافها بتكليف من حليفتهم بريطانيا! وقد حمّل أبو سلمى، في تلك القصيدة، الحكام العرب جزءا كبيرا من المسؤولية في تشريد الشعب الفلسطيني وفقدان وطنه.
ولعل أهم قاسم مشترك بين أولئك الشعراء الثلاثة، على مستوى المضمون هو اشتراكهم في الموضوعات ذاتها تقريبا، أي في غيرتهم الوطنية الصادقة والتزامهم بقضايا شعبهم ووطنهم. وكان من الطبيعي، أن تستحوذ تلك الموضوعات على حياتهم كلها وتكون شغلهم الشاغل، وبالتالي أن تشغل حصة الأسد من مساحات أشعارهم، وتأتيَ على حساب موضوعات أخرى مثل التخلف الحضاري، والقضايا الاجتماعية بأنواعها المتعددة. وقد يكون السبب في ذلك مردُه إلى حجم المأساة أو النكبة التي كان يجري التحضير لها. وقد أعلن ذلك أبو سلمى بنفسه إذ يقول في رسالة بعث بها إلى كتّاب فلسطين وجاء فيها: أحيي أخوةَ الكلمة والدرب، المؤمنين بدور الفكر في معركة البناء والتحرير. إن مسيرة الكلمة الفلسطينية، التي جوهرها النضال عبر الزمن كانت مرتبطة بمسيرة الشعب الذي جوهره النضال وخوض الغمراتِ والنكبات، وستظل على العهد – كما كانت – تتألق في هذا الوطن العربي المزدحمة فيه قطعان الليل... إننا نحن الكتّاب الفلسطينيين ملتزمون بالكلمة – الموقف – التزامنا بالقضية: الأرض والثورة والشعب، وسنسير في هذا الطريق الدامي الطويل ولن نضل! وقد لقب أبو سلمى بزيتونة فلسطين، كتعبير عن مدى التصاقه الحميم ثقافيا ونفسيا بقضية وطنه وشعبه!
ومن المفيد أن نذكر في السياق ذاته، بأنه وإن كتبت حول أولئك الشعراء الثلاثة دراسات جمة، لكنها في معظمها لم تعتمد التقييم الفني معيارا لها، بل ركزت على المضمون أكثر، وهو ما كان منتشرًا حينذاك. وفي مثل تلك الدراسات يرتفع الشاعر قيمة، لا لجودة شعره وإنما لوطنيته أو لأن موضوعات شعره تلامس قضايا شعبه ووطنه! وتلك ظاهرة عانت منها أيضا الحركة الأدبية المحلية عندنا، مما دفع المرحوم محمود درويش إلى إطلاق صرخته المعروفة: أنقذونا من هذا الحب القاسي!
بدأت براعم موهبته الشعرية تتفتح منذ صغره، كانت أولى خطوات شاعرنا في التجربة الشعرية اللون الغزلي مثله في ذلك مثل معظم الشعراء، وعن تلك القصائد يقول أبو سلمى: هو الشباب كله في الغزل، إذ ليس ثمة ما يشغل القلوب الغضة غير شعر الحب. ويقول المرحوم إحسان عباس: لو حصرنا نظرنا في شعر أبي سلمى قبل النكبة، لوجدناه ينقسم إلى قسمين: شعره في فلسطين وشعره في المرأة أي الغزل. كانت قصائده الغزلية النبع الذي يمد قصائده الوطنية بدفق حيوي، وقد مزج أبو سلمى في شعره الغزلي بين الكلاسيكية والرومانسية. وهو، إلى ذلك، شاعر محافظ ومتمسك بالغرض الشعري مرتبط بقضيته.
أما أجمل قصائده في الغزل فتلك التي تغزل فيها بمحبوبته وعنوانها (ذات الخال) والتي مطلعها:
ألا يا ربَّةَ الخالِ
أما تُشجيك أحوالي
وسواها كثير من تلك القصائد التي خصّ بها أبو سلمى ذات الخال، وبها ذكريات من الشاطئ الغربي في عكا، وتل الزهور قرب الشاطئ الغربي حيث يقع بيت المحبوبة. ومما جاء في قصيدته (الشاطئ الغربي) ويشير الشاعر في تعليقه بخط يده إلى أن الشاطئ الغربي في عكا، وأن القصيدة في محبوبته رقية ومن أبياتها:
رقت على الشاطئ الغربي أحلاميوأطلقت من حنايا القلب أنغامييا ربةَ الخال يحمي الثغرَ معترضًافدًى لخالك أخوالي وأعماميلا تكتمِ الخفقَ يا قلبي إذا نظرَتفنظرتُها وحيي وإلهاميحمامةَ الشاطئ الغربي سال دميردي الجناح على جرح الهوى الدامي
وقد أصبحت فيما بعد شريكة حياته حين اقترن بها في عام 1936، وهي رقية حقي رئيسة الاتحاد النسائي في عكا وابنة رئيس بلديتها.
جاء في مقال للكاتب المصري عبد القادر المازني نشره في جريدة البلاغ المصرية عام 1935، يتحدث فيه عن غزل أبي سلمى، قوله: ومن كان لا يعرف جميل بثينة، أو كثيّر عزة، أو العباس بن الأحنف – فهذا أبو سلمى يعرّفه بهم أتم تعريف وأوفاه. ولست أعرف في فلسطينَ أو غيرها شاعرا له مثل رواة أبي سلمى وجنده المدافع عنه... وحياته كلها في (دنيا الهوى) وقلّ أن يطل منها ليرى ما في غيرها، وحسبه من دنياه أن تهتف باسمه شفتان مرتجفتان، وترددان شعره أو تتغنيان به. ولكنه، ككل عربي، لا يسعه إلا أن يرثي لحال قومه ويندب ما صار إليه وطنه! هذا ما رآه المازني في شعر أبي سلمى آنذاك... عام 1935، فهو يرى، مع بداية طريقه الأدبية وتجربته الشعرية، أن الغزل هو الموضوع الأساسي في شعره. وشعره الغزلي ينبض بالحرارة وصدق العبارة مطرزا بالصور الرائعة والحريرية الناعمة!
ومن رائعة له في الغزل قوله:
تسائل: كيف عرفت النسيبوممن تعلمت شعرَ الغزلتعلمتُه من شذى وجنتيكِإذا ما تفتح زهرُ الأملومن مقلتك قبستُ السنىفرفَّ على الشعر سحرُ المقلومن شفتيك سرقت العبيرَوحُلمَ الصبا والأغاني الأولومن ثغركِ العذبِ ذقتُ الهوىولولاه.. لم أر وحياً نزلإلى أن يقول في البيت الأخير:ألم تعرفي بعدُ سرّ النسيبِوممن تعلمتُ؟! قالت أجل
لم تعمر تلك التجربة الشعرية: العاطفية أو الغزلية طويلا، وذلك مع بدء نسيج خيوط المؤامرة على وطنه وشعبه، فكان لا بد من أن تؤدي به تلك التجربة العاطفية إلى التجربة النضالية، أو كما قال هو نفسه: لكن الغزل ينتهي دائما إلى غزل مع وطني! ومنذ عام 1930 تقريبًا وأبو سلمى يواكب في شعره أحداث القضية الفلسطينية وتطوراتها. وسَرعان ما بدأ يصطدم بالواقع الذي أفرزه الانتداب البريطاني الجاثم على صدر بلاده وشعبه، من استيطان وتضييق وتآمر وما إلى ذلك. من ذلك الخضم إذًا بدأت تنبثق وتتحدد تجربة أبي سلمى الشعرية يقول: لقد كنت في فلسطينَ، أتغنى بها، ويخفق قلبي في شعري لها، وعشت قضيتها ومأساتها! فحين نشبت في القدس سنة 1929 أحداث حائط البراق نشر أبو سلمى قصيدة تحت عنوان يوم البراق يقول فيها:
لهفي على الوطن العزيز
وأهلُهُ شعبٌ هضيمُ
شعب يريد حياته
وبِحبِّ موطنه يهيمُ
مع مرور الوقت، بدأ الشاعر رحلته في مواكبة الواقع، حيث استطاع أن يتمثل عناصر التجربة النضالية لشعبه، على الرغم من محاولات السلطات الرسمية المستمرة فرض حصار مشدد على مثل ذلك الشعر. وكان من الطبيعي أن يصدح بمثل ذلك الشعر، لأنه عاش تلك التجربة بندوبها العميقة، وأجوائها الثقيلة وذاق مرارَتها على جلده كما يقال، ففرضت حضورها عليه، مبتدئا وفق المنهج الواقعي ثم المنهج الواقعي الاشتراكي، من حيث التركيز على المضمون لا على الشكل.
منذ البداية نجد أن أبا سلمى قد فصل فصلا تاما بين محورين في شعره: الحكام والشعب، وكان من الطبيعي أن ينحاز إلى الثاني، يقول:
لنا دول ليتها لم تكن
مطايا وأذنابَ مستعمرينْ
وجامعةٌ لم تزل دميةً
يخفُّ إليها الرجيمُ اللعينْ
أكثر ما تمتاز به أشعاره: الوطنيةُ الصادقة، فقد دأب على فضح مواقف المستعمر البريطاني المتآمر مع الحركة الصهيونية، والرجعية العربية والرجعية الفلسطينية من حكام وإقطاعيين، المتآمرين ضد وطنه وشعبه.
وحين كان يدرّس في المدرسة البكرية الثانوية بالقدس عام 1936 نشر قصيدته الثورية ((جبلُ المكبِّر)) والتي يحمل فيها على المستعمر الإنجليزي في صحيفة الرسالة المصرية قال فيها:
جبلَ المكبِّر طال نومُكَ فانتبه
قم واسمَعِ التكبيرَ والتهليلا
جبلَ المكبِّر لن تلين قناتنا
حتى نحطّمَ فوقك الباستيلا
وجبل المكبر جبل جميل من جبال القدس المعروفة، بنيت عليه دار المندوب السامي البريطاني. وعلى الرغم من أنه كان نشر القصيدة تحت الاسم المستعار ((أبو سلمى)) فقد كلفه ذلك أن يخسر وظيفته، وكانت سبب فصله من العمل في التدريس!
مع تصاعد الأحداث في فلسطين، وإمعان الحكام العرب في التآمر وخيانتهم لثورة الشعب الفلسطيني عام 1936 أطلق قصيدته الشهيرة إلى ((ملوك العرب)) والموسومة ((لهب القصيد))، والتي انتشرت بسرعة وذاع صيتها في الآفاق، إلى أن أصبح يُعرف بها وتعرف به. وقد ظلت ثورة أبي سلمى ضد ملوك العرب وحكامها تستعر في فؤاده إلى ما بعد النكبة!
وكان يرى في الشعب مصدر القوة والخلاص ويرى في الطبقة العاملة طليعة الكفاح والنضال، للتحرر من الاستعمار والمستغِلين، ما يمكن أن يشي بروح التضامن الأممي مع كل المضطهَدين في العالم، يقول في قصيدة له تسعى للخلاص والتحرر:
أيها الثائرون في العالم الرحب
على الظالمين في الآفاق
حطموا النِّير فهو من أثر الوحش
على الأرض واعصفوا بالوثاق
كذلك له من الأشعار في المناسبات، كالرثاء والتكريم، والاحتفال والمساجلات والإخوانيات وما إلى ذلك، وله في قوى الكفاح الواعية والصامدة، والمتحالفة مع قوى الطبقة العاملة فقال: قالوا يساريون.. قلت أجلهم عملا ومبدا
وطنٌ على أيديهم يجني مع الأيام سعدا
لم يعرفوا كيف المبادئ تشترى عدًّا ونقدا
هذي المطارقُ والمناجلُ تحصد الظلام حصدا
وتحرر الإنسان حتى لا نرى في الكون عبدا
دأب على نشر أشعاره تحت غير واحد من الأسماء المستعارة في الصحف الفلسطينية آنذاك: فلسطين والدفاع والجامعة والمطرقة ومرآة الشرق، والصحف السورية: القبس والأحد، والصحف المصرية: البلاغ والرسالة وسواها.
كان أبو سلمى شاعر المقاومة اليساري في فلسطين، لا يعرف الهوادة لا مع المستعمر ولا مع الرجعية العربية، يرى النضال في العالم وحدة لا تتجزأ. يمزج صور الطبيعة بمشاهد النضال، وملامح الحبيبة بملامح الوطن، وأغلب شعره مما يصلح أن يختار للغناء، ولا تفارقه غنائيته مهما يختلف موضوعه.
وكان يشارك باستمرار في الأحداث والمناسبات الوطنية، في فلسطين وفي سوريا ففي عام 1934 أقامت إدارة الكلية العلمية الوطنية في دمشق احتفالا لتكريم شاعري فلسطين طوقان والكرمي وتم انتخابهما عضوين في المجمع الأدبي. وقد نوّه الدكتور منير العجلاني بهما قائلا: إنهما بانضمامهما للمجمع قد جعلا دمشقَ عاصمة أدبية لسورية وفلسطين، فالسياسة جزّأتهما والأدب وحدهما!
ونتيجة لموقفه الثوري الدائم من الحكام العرب، وقد قام بفضحهم وتعريتهم على حقيقتهم، وهي من المفارقات العجيبة الغريبة، أنه حينما شُرِّد من وطنه وقدم لاجئاً إلى سوريا، أن يجد في ملفه لدى سلطات الأمن السورية مكتوباً عليه (عدو الأمة العربية رقم واحد)!
ومن أهم خصائص شعره قبل النكبة: النبرة السياسية الخطابية، والتزامه بالجماهير العمالية والفلاحية. وظف شعره في خدمة وطنه وشعبه، فطغت عليه الحماسة والوطنية. التنبؤ بصدق عن وقوع النكبة، مأساة الشعب الفلسطيني. أسلوب مباشر، واضح القصد صريح العبارة. التزامُ تقاليدِ الشعر العربي في الإيقاع والوزن والقافية. وقد ازدادت تجربته الشعرية، بعد النكبة، توهجا وتألقا وإن كانت النكبة وتشرده من وطنه قد أعاقا، إلى حد ما، تجربته الشعرية، ولم يمكناه من التفرغ الكامل لتنمية موهبته وصقلها كما يجب.
وعن مكانته، يخاطب المرحوم محمود درويش أبا سلمى قائلاً: أنت الجذع الذي نبتت عليه أغانينا، نحن امتدادك وامتداد أخويك اللذين ذهبا إبراهيم وعبد الرحيم الذي قاتل بالكلمة والجسد، لا لسنا لقطاء إلى هذا الحد. إننا أبناؤكم لقد كنت شاعر المقاومة قبل اكتشاف النقاد لهذا التعبير!
ومما جاء في محاضرة للمرحوم إميل حبيبي قوله: إننا نعتبر أنفسنا زملاء وتلاميذ لأولئك الكتّاب العرب التقدميين البارزين، أمثال أبي سلمى، وإبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود ومخلص عمرو، وغيرهم من جواهر ذلك العقد المكنونة!
ثم يضيف قائلاً: ما من مهرجان عقدته عصبة التحرر الوطني أو مؤتمر العمال العرب، من القدس حتى حيفا، ومن الناصرة حتى أسدود، إلا ووقف فيه أبو سلمى شاعرا وخطيبا يعتز بشعبه ويعتز به... كما تفخر الاتحاد بأن جميع قصائد أبي سلمى منذ العام 1944، قد خص بها هذه الصحيفة التي اعتبرها دائما وحتى أيامه الأخيرة صحيفته ومحبوبته.
أما صديقه المرحوم حنا نقارة فيقول: كان اسم أبي سلمى قد سبقه إلى كل مكان في فلسطين، وهو صاحب قصيدة:
انشر على لهب القصيد
شكوى العبيد إلى العبيد
القصيدة التي انتشرت زمن ثورة 1936، وبعد أن توفي زميله إبراهيم طوقان عام 1941 أصبح شاعر فلسطين دون منازع!
وكان أبو سلمى قدم إلى مدينة حيفا ومكث فيها سبع سنوات (1941-1948) يعمل في مكتب المحامي ((صلاح الدين العباسي))، وقد سكن في حي الألمانية في شارع البساتين حيث شارك في مختلف النشاطات الثقافية لعصبة التحرر ومؤتمر العمال العرب والنادي الأرثوذكسي العربي. وحين سقطت حيفا في 22 نيسان 1948 غادرها أبو سلمى إلى عكا ومنها إلى دمشق، تاركا وراءه بعض أوراقه. يقول حنا أبو حنا في ما كتبه تحت عنوان ((جولة مع أوراق أبي سلمى)): هذا الصندوق الصغير أمانة في عنقك. ولم أكن لأتيح لأحد أن يخرجه من هنا، لولا ثقتي بك إنك تدرك قيمة ما فيه.. لصاحبه ولي.. إنه أمانة الأدب والصداقة في عنقي! بهذه الكلمات أسلم إليّ الرفيق المحامي حنا نقارة صندوقا صغيرا من الكرتون اجتمعت فيه أوراق وكراسات وقصاصات صحف.. إنها مخلفات صديقه الحميم الشاعر أبي سلمى – عبد الكريم الكرمي!
وبعد، فإن المرء ليصاب بأشد حالات الإعجاب والحيرة، حين يقف وجها لوجه أمام شاعر أصيل في مثل قامة أبي سلمى، لما قدمه من دفاع عن وطنه وشعبه وإنه ليذوب شعرا في حبهما، في وقت لم يكن فيه مدارس تعلم الوطنية أو الولاء للوطن. فشعره يحفل بأروع اللوحات الفنية التي تحكي وتحاكي عبق ربوع الوطن، كان الوطن يجري في عروق شاعرنا مجرى الدم، مما جعله نموذجا في الانتماء والولاء الوطني! وهو القائل:
فلسطينُ الحبيبة: كيف أغفو
وفي عينيَّ أطيافُ العذابِ
وحسبُه ما يقوله فيه د. حسام الخطيب في تقديمه لكتاب (أبو سلمى، حياته وشعره لغادة أحمد بيلتو): إنه كان رجلا في أمة وأمة في رجل!
والذي يقرأ سيرة ومسيرة حياة هذا الشاعر يعي جيدا مدى دقة هذا القول وصحته. وقد أكد إليوت على ضرورة التعرف على أنفسنا من خلال الشاعر الذي نقرأه فهل نحن نقرأ شاعرنا؟ وهل طلابنا وطالباتنا يقرأون شعره؟ هل ندرسه في مدارسنا ومعاهدنا الأخرى؟
المصادر
- أبو سلمى: لهب القصيد، هدية المواكب، دار النهضة، الناصرة، كانون أول 1984.
- من فلسطين ريشتي، بيروت، 1971.
- عبد الرحمن ياغي: حياة الأدب الفلسطيني من أول النهضة حتى النكبة بيروت، 1981.
- عبد الله عوض الخباص: القدس في الأدب العربي الحديث، عمان 1995.
- عبد الله الغذامي: ثقافة الأسئلة، دراسات نقدية، ط2، دار سعاد الصباح الكويت، 1993.
- غادة أحمد بيلتو: أبو سلمى، حياته وشعره، دمشق، 1987.
- محمد بنيس: حداثة السؤال، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت و الدار البيضاء، 1988.
- محمد خليل: النقد الأدبي داخل فلسطين-48 في نصف قرن (1948-1998)، ط2، دار الهدى للطباعة والنشر كريم، كفرق، 2007.
- ناصر الدين الأسد: الحياة الأدبية في فلسطين والأردن حتى سنة 1950 دار الفارس، الأردن، 2000.
- الجديد، عدد 3، آذار مارس 1984.
- الموسوعة الفلسطينية، الدراسات الخاصة، ج4، بيروت، 1990.
نص المحاضرة التي قدمها د. محمد خليل في الندوة الأدبية التي عقدت في مكتبة "أبو سلمى" بمبادرة من مؤسسة توفيق زياد للثقافة الوطنية والإبداع في الناصرة وبالتعاون مع بلديتها، وذلك احتفاء بذكرى مرور مئة عام وعام على ميلاد الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى". وكان شارك في الندوة أيضا كل من د. حبيب بولس والشاعر مفلح طبعوني