

عن الرزق والعقل والحظ
يقول صالح بن عبد القدوس:
لو يُرزقون الناسُ حسبَ عقولهمألفيتَ أكثرَ من ترى يتصدّقلكنه فضلُ المليك عليهمُهذا عليه موسَّع ومضيَّق(ديوان صالح بن عبد القدوس، ص 138)
يبدو أن شاعرنا لا يرى أن الرزق بالعقل، ولو كان ذلك كذلك لرأيت معظم الناس يتصدقون، ومع ذلك فهو يؤمن في البيت الثاني بقوله تعالى: وفي السماء رزقُكم وما توعَدون- الذاريات، 22.
وللشاعر نفسه في الرزق أيضًا:
وليس رزق الفتى من حسن حيلتهلكنْ جدودٌ بأرزاقٍ وأقسامكالصَّيد يُحرمه الرّامي المجيدُ وقديرمي فيُرزَقه من ليس بالرّامي(الديوان، ص 155)
لاحظت أنه استعمل لغة (أكلوني البراغيث)= يرزقون الناس، وهي واردة في القرآن وفي الشعر القديم، وقد رأى البعض أنه لا يجوز أن يكون فاعلاً أو نائب فاعل لفعل واحد، لكن خرّجها الحريري وغيره على أن الكلمة التالية للضمير هي بدل.
قال أبو تمّام ما يشبه معنى البيت الأول:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهلويُكدي الفتى في دهره وهو عالمولو كانتِ الأرزاقُ تجري على الحِجاهلكن إذن من جهلهن البهائم
إذن ليست المسألة متعلقة بالعلم والمعرفة، فلو كان الأمر كذلك لما رزقت البهائم، فهذا تمثيل أو حجة في البلاغة.
يقول المعري:
لا تطلبنّ بغير حظ رتبةًقلم البليغ بغير حظ مِغزلُسكن السماكانِ السماءَ كلاهماهذا له رمحٌ وهذا أعزل
السماكان هما من أبراج السماء، نجمان نيّران أحدهما في الشمال وهو الرامح، والأعزل وهو في الجنوب. من الطريف أن صاحبنا يتحدث كثيرًا في شعره عن النجوم وحركاتها أكثر مما يتحدث به البصير.
فالحظ إذن هو الذي يفعل الأفاعيل، و"الحياة حظوظ"- كما نقول في الأمثال، فقلم البليغ بدون الحظ يكون كالمغزل أو أية أداة أخرى في أيدي الناس. والتشبيه ضمني.
قال آخر:
لا تنظرنّ إلى الجهالة والحجاوانظر إلى الإدبار والإقبالكم من صحيح العقل أخطأه الغنىوعديم عقل فاز بالأموال
إذن ليست المسألة "بالشطارة"، ولا يظنن ظانّ أننا هنا نتهم الأغنياء بقلة العقل والتدبير، بل هي مشاعر الشعراء بعد أن رأوا أن شعرهم وعلومهم "لا تطعم خبزًا"، وكنت قد تحدثت في الجزء الأول من كتابي -قطوف دانية في اللغة العربية" عن ارتباط التعبير "عيش الأديب" بمعنى الفقر، وقلة الحظ والنكد.
(انظر: قطوف دانية ج1، ص 201- 202.)
قال بعضهم:
قالوا أقمتُ وما رُزقت وإنمابالسير يكتسب اللبيب ويُرزَقفأجبتهم ما كل سير نافعالحظ ينفع لا الرحيل المقلق
هذا القول كان في خاطر ابن زريق الذي اشتهر بقصيدته اليتيمة (لا تعذليه)، وقد فارق حبيبته ليبحث عن رزقه:
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُعزمٌ إِلى سَفَرٍ بِالرغمِ يُزمِعُهُكَأَنَّما هُوَ فِي حَـلِّ وَمُرتحَلٍمُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُإِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنًىوَلَو إِلى السَنـدّ أَضحى وَهُوَ يقطعُهُتأبى المطالبُ إلا أن تُكلّفَهللرزق سعيًا ولكن ليس يجمعهُوَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ واصِلَةًرزقًَا وَلا دَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
يقول آخر:
كم من غلام أديب فيصل ذكرشهم مهيب كحدّ السيف ذي الشطبيمسي ويضحي من الإفلاس في تعبيقلّب الكف بالنيران واللهبوآخرٍ جلفِ طبعٍ لا خلاق لهمذبذب العقل ثورًا منتن الذنبلا يعرف الميم من واو إذا كتباولا يميّز بين التين والعنبقد أقبلت نحوه الأيام ضاحكةوأخدمته الليالي كل ذي حسب
تشبيهه لا يعرف الميم من الواو فيه صورة حسية، يذكرني بما وصفت به معلمًا:
إن شاء يكتب رؤية ورؤىحار الجهول وضاقت السبل
لكن الشافعي عرف جدية الحظ وعبثيته، فقدم لنا صورًا فيها مبالغة، ولكنها صادقة، ورغم ذلك فهو يجانب الحقيقة في قوله إن مَن رُزق الحجا حُرم الغنى، فكم من عالم يعيش في رغد، وكم من "جاهل" يعيش مملقًا.
يقول الشاعر:
فإذا سمعت بأن مجدودًا حوىعودًا فأثمر في يديه فصدّقوإذا سمعت بأنّ محرومًا أتىماء ليشربه فغاض فصدقلو كان بالحِيَل الغنى لوجدتَنيبنجوم أقطار السماء تعلقيلكنّ من رُزق الحجا حُرم الغنىضدّان مفترقان أيَّ تفرّقومن الدليل على القضاء وحكمهبؤسُ اللبيب وطيبُ عيش الأحمقوأحقُّ خلق اللّه بالهمّ امرؤذو همة يُبلى برزق ضيق
دعت أم الاسكندر لولدها فقالت رزقك الله حظًا يخدمك به ذوو العقول!
ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الحظوظ!
هل هي على حق؟
وخُيِّـر رجل بين أمرين فأبى أن يختار، وقال أنا بجَِـدّي أوثق مني بعقلي.
يذكرني ذلك بما أورده ابن عبد ربِّه في (العقد الفريد- ج6، ص 204):
"قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء.
قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟
قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال، وجهل الأغنياء بحق العلم.
أختم بقول أبي العلاء المعري، وهو يسوّغ الزندقة بسبب انقطاع الرزق:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقلوترزق مجنونًا وترزق أحمقافلا ذنب يا رب السماءِ على امرئرأى منك ما لا يُشتهى فتزندقا
انظر النقد القاسي الذي وجهه إليه ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية)، ج15 – أحداث سنة 449هـ .
مشاركة منتدى
9 كانون الأول (ديسمبر) 2023, 11:38, بقلم mohmad
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل
وترزق مجنونًا وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماءِ على امرئ
رأى منك ما لا يُشتهى فتزندقا