الجمعة ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
وليرحم الأحياءُ أنفسَهم والقراءَ أيضاً!!

عن المسيري وموسوعته

بقلم: الدكتور محمد هشام

في ندوة أُقيمت في (المجلس القومي للترجمة) يوم الأحد 28 يونيو/حزيران عن كتاب (مسألة فلسطي) للمستشرق الفرنسي هنري لورنس، تطرق المترجم الأستاذ بشير السباعي إلى موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي وضعها المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري وصدرت في ثمانية مجلدات عام 1999، فوصفها بأنها (مسروقة) ولا تعدو أن تكون سوى ترجمة لموسوعة إنجليزية هي
(إنسيكلوبيديا جودايكا) (الموسوعة اليهودية)، على حد قوله، ولم يقدم أية أدلة تؤيد هذا الاتهام مكتفياً بالقول (ليرحم الأحياء موتاهم) (صحيفة (اليوم السابع)، 29 يونيو/حزيران 2009).

ولو كان هذا الكلام قد صدر عن شخص آخر أو في موقع آخر لما استحق عناء الرد، أما وقد صدر عن كاتب ومترجم مرموق مثل الأستاذ بشير السباعي، وفي رحاب مؤسسة ثقافية لها مكانتها مثل (المجلس القومي للترجمة)، فإن الأمر يستدعي وقفةً لإلقاء الضوء على بعض الحقائق الأساسية المتعلقة بموسوعة د. المسيري، وربما للتأمل أيضاً في هذا النمط من تناول الأعمال والقضايا الفكرية.

ولابد، في البداية، من الإشارة إلى جانب قد يبدو في ظاهره شخصياً، وإن كان في واقع الأمر عنصراً في صلب موضوع النقاش. فقد كان لي شرف المشاركة كباحث ومحرر ومراجع في موسوعة د. المسيري، وتابعت العمل فيها يوماً بيوم منذ أن كانت فكرة وحتى صدورها، ويشهد د. المسيري نفسه على ذلك في تقديم الموسوعة (المجلد الأول، ص 19) وفي كتابه رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمار (القاهرة: دار الشروق، 2005، ص 562) وفي مواضع أخرى كثيرة. ولعل هذه المعايشة الطويلة، التي استغرقت نصف عمري تقريباً، سواء لمشروع الموسوعة أو لأعمال د. المسيري بصفة عامة، تتيح لي معرفةً وافيةً بمحتوى الموسوعة وبتفاصيل إعدادها وبالقضايا التي تتناولها. واستناداً إلى ذلك، يمكن طرح الملاحظات والتساؤلات التالية:

* لماذا لم يفصح الأستاذ بشير السباعي عن بيانات الموسوعة الأجنبية التي يدعي أن د. المسيري قد (سرقها) أو ترجمها ونسبها لنفسه، مثل تاريخ نشرها ومكانه، حتى يتسنى الرجوع إليها ومقارنة الأبواب الموجودة فيها بأبواب موسوعة د. المسيري؟ ولماذا لم يوضح ما إذا كانت مجلدات الموسوعة الثمانية، بكلماتها التي تربو على مليوني كلمة، (مسروقة) بكاملها، أم أن هذه (السرقة) المزعومة تقتصر على أجزاء بعينها؟ ولماذا لم يقدم أية أدلة على التطابق، أو حتى التشابه، بين فقرات في الموسوعتين بدلاً من إطلاق اتهام خطير كهذا دون دليل؟ وأين هي (الرحمة) في التستر على جريمة السرقة، إن كانت هناك جريمة حقاً؟ أليس الدفاع عن الحقائق العلمية أجدر بالمراعاة من أية اعتبارات أخرى؟

* إذا كان المقصود هو وجود بعض المصطلحات وعناوين الأبواب في موسوعة د. المسيري وأية مصادر أخرى، فهذا أمر طبيعي في أعمال تتناول موضوعاً واحداً. فمن الطبيعي، مثلاً، في أية أعمال تتعرض للعقائد الدينية اليهودية أو لبنية الفكر الصهيوني، أن تتواتر مصطلحات وتعريفات من قبيل (الهالاخاه) (التشريع أو الشريعة) و(المشناه) (مجموعة تفاسير العهد القديم) و(الجيتو) (حي اليهود المعزول أو حارة اليهود) و(إرتس يسرائيل) (أرض يسرائيل) و(الدياسبورا) (الشتات) وغيرها. ويصدق هذا أيضاً على المعلومات المجردة، من قبيل الوقائع التاريخية والإحصائيات وما شابه ذلك، فهي تتكرر في المصادر التي تتناول الموضوع نفسه، أما المحتوى فيختلف باختلاف الكُتَّاب وتوجهاتهم، وقد يصل إلى التناقض الكامل في التفسير والتحليل. ومن ثم، فإن هذا التواتر في حد ذاته لا يعني أن ثمة سرقة، ويتعين في كل الأحوال وفي أي حقل معرفي فحص المحتوى فحصاً دقيقاً قبل إصدار مثل هذه الأحكام القاسية.

* شارك عدد كبير من الكتاب والباحثين من تيارات فكرية مختلفة وتخصصات متباينة في موسوعة المسيري، ومنهم على سبيل المثال: الأستاذ محمد حسنين هيكل (الذي وافق على إدراج جزء من أحد كتبه) والأستاذ فهمي هويدي، ود. عزمي بشارة، ود. جلال أمين، والأستاذ خالد الحسن، ود. أحمد صدقي الدجاني، ود. سعيد الحسن، والأستاذ سمير فريد (وشارك كل منهم بمدخل واحد)، كما شارك باحثون آخرون إلى جانب د. المسيري في كتابة مداخل متنوعة، وأسماء هؤلاء الكتاب والباحثين مثبتة في صدر المجلد الأول من الموسوعة، وترد بجانب كل اسم عناوين المداخل التي كتبها. فهل اشترك هؤلاء جميعاً، وأسماؤهم تكفي للدلالة على مكانتهم وتاريخهم، في "السرقة" التي يدعيها الأستاذ بشير السباعي؟ وهل انعقد "اتفاق جنائي" مستتر فيما بينهم على أن "يسرقوا" من مصدر واحد وأن ينسب كلٌ منهم "المسروق" أو "المترجَم" إلى نفسه؟

* تقوم موسوعة د. المسيري في جوهرها على نقد عميق وجذري للمفاهيم والمنطلقات الصهيونية ولممارسات دولة إسرائيل من خلال منهج تحليلي يضع الوقائع والظواهر في سياقها التاريخي والحضاري والاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم يعيد تفسيرها وتقصي الصلات فيما بينها. كما يتضمن المجلد الأول إطاراً نظرياً عرض فيه د. المسيري عدداً من الإشكاليات النظرية المتعلقة بموضوع الموسوعة، بالإضافة إلى فكرته عن "النماذج المعرفية"، والتي بسطها في كثير من كتبه الأخرى. وفي هذا الإطار، يتطرق د. المسيري إلى نقد نموذج العلمانية، مؤسساً نقده على ما يراه فهماً خاصاً للمنطلقات الإسلامية. فهل هذا كله "مسروق" أيضاً من الموسوعة الإنجليزية كما يدعي الأستاذ بشير السباعي؟ وهل تعتمد الموسوعة الإنجليزية المزعومة على المنهج التحليلي نفسه؟ وهل تتبنى المواقف المناهضة للصهيونية التي يتبناها د. المسيري، وهل تستند هي الأخرى إلى المرجعية الإسلامية التي يستند إليها؟

* في سياق سعى د. المسيري إلى تحرير الخطاب العربي من أسر المصطلح الصهيوني، بتحيزاته الصارخة، لجأ إلى نحت بعض المصطلحات العربية (مثل "الحوسلة"، أي التحويل إلى وسيلة) واقتراح مصلحات أخرى بديلة (مثل "العداء لليهود" بدلاً من "العداء للسامية"، و"الجماعات اليهودية" بدلاً من "اليهود" بوجه عام)، بالإضافة إلى توليف عشرات المصطلحات التي يراها أكثر قدرة على وصف الظاهرة الصهيونية (مثل "الدولة المملوكية" لوصف الدور الوظيفي التابع للدولة الصهيونية، و"صهيونية النفقة" و"صهيونية دفتر الشيكات" لوصف موقف قطاعات من الجماعات اليهودية في العالم إزاء الانتماء الصهيوني، و"الدياسبورا الإلكترونية" لوصف الصلة الهشة بين الجماعات اليهودية والدولة الصهيونية). فهل "سُرقت" هذه المصطلحات، بطابعها العربي الصريح، من الموسوعة الإنجليزية المزعومة أو من أي مصدر آخر؟

* صدرت موسوعة د. المسيري منذ عشر سنوات، ووُزعت في نسختها المطبوعة والإلكترونية على نطاق واسع داخل مصر وخارجها. وكان د. المسيري قد أصدر قبلها بأكثر من عقدين موسوعةً في مجلد واحد تُعد بمثابة النواة للموسوعة المفصلة، وهي موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، 1975). وطوال هذه السنوات كانت الموسوعتان بوجه خاص، وكتابات د. المسيري عموماً، موضوعاً لعشرات الندوات والمؤتمرات، فضلاً عن العروض الصحفية، في بلدان شتى تمتد من مصر إلى جنوب إفريقيا ومن المغرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبالرغم من هذا الذيوع، وعلى كثرة المناظرات التي شارك فيها د. المسيري والانتقادات التي وُجهت لأعماله من مواقع فكرية متباينة، لم يحدث مطلقاً أن أُثيرت قضية "السرقة" من أية شخصية أو جهة، مهما بلغ قدر الخصومة الفكرية أو السياسية مع د. المسيري. ولو كانت هناك أدنى شبهة في سقطة من هذا القبيل لما ترددت الدوائر الصهيونية، على وجه الخصوص، عن إبرازها والتعلل بها للطعن في جدارة ذلك المفكر، الذي وصفته يوم وفاته بأنه "من ألد أعداء إسرائيل" (صحيفة "هآرتس"، 3 يوليو/تموز 2008).

* في معرض الحديث عن الترجمة، ذكر الأستاذ بشير السباعي أن د. المسيري ترجم كلمة "هولوكوست" خطأً بكلمة "الإبادة"، والصحيح في نظره أن تُترجم بكلمة "المحرقة"، ويصف ترجمة د. المسيري بأنها "عار". وهكذا، وبالخفَّة نفسها، أضاف الأستاذ بشير السباعي إلى "عار السرقة" الذي وصم به د. المسيري "عاراً" آخر لا يقل جسامةً هو الجهل وافتقاد الدقة. وهنا، لابد من التساؤل مرة أخرى: هل يستحق تباين الآراء في الترجمة، أو حتى الخطأ، مثل هذه الأوصاف المهينة؟

إلا إن هذا المثال، وهو المثال الوحيد الذي ساقه الأستاذ بشير السباعي، جدير بالفحص والتأمل باعتباره نموذجاً لنهج صاحبه في "تصيِّد" كلمة من هنا أو هناك ثم اختلاق قضية لا سند لها ولا مبرر.

ففي المجلد الثاني من الموسوعة (ص 397)، يورد د. المسيري التعريف التالي لكلمة "هولوكوست": ("هولوكوست" كلمة يونانية تعني "حرق القربان بالكامل، وهي بالعبرية "شواه"، وتُترجم إلى العربية أحياناً بكلمة "المحرقة". وتُستخدم كلمة "هولوكوست" في العصر الحديث عادةً للإشارة إلى إبادة اليهود، بمعنى تصفيتهم جسدياً، على يد النازيين).

أين الخطأ المزعوم، إذن؟ وأين يكمن الخلاف؟ فقد أورد د. المسيري الأصل التاريخي للكلمة والترجمة العربية الشائعة التي يفضلها الأستاذ بشير السباعي، وهي "المحرقة"، ثم المعنى الأوسع للكلمة في العصر الحديث. ويمكن للقارئ أن يرجع إلى أي من القواميس الإنجليزية الشائعة مثل "أوكسفورد" أو "كمبردج" أو "وبستر"، حتى من الحجم الصغير المعروف باسم "قاموس الجيب"، ليكتشف أن النطاق الدلالي للكلمة قد اتسع على مر العصور وأصبح يشمل "قتل أو إبادة أعداد كبيرة من البشر، ولاسيما قتل أعداد كبيرة من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية". ومن ثم، فلا خطأ، ولا "عار" بطبيعة الحال، في أن يترجمها البعض بكلمة "المحرقة" استناداً إلى جذرها وأصلها، وأن يترجمها البعض الآخر بكلمة "الإبادة" استناداً إلى مدلولها الأوسع.

وأخيراً، فإن كتابات د. المسيري، بما فيها الموسوعة، وكتابات غيره من السابقين أو اللاحقين، بل وكل ما أنتجته البشرية من أعمال فكرية أو أدبية أو فنية، ليست منزهةً عن النقد، ولكن أبسط الشروط الأولية للنزاهة العلمية أن يكون هذا النقد مبنياً على معرفة عميقة بالعمل الذي يخضع للتحليل، وأن يتناول قضايا حقيقية وليست مُختلقة، وألا يسرف في الأحكام والاتهامات دون سند، وهي شروط يفتقر إليها "كلام" الأستاذ بشير السباعي، الذي تضمن اتهاماً متسرعاً لا أساس له ولا دليل عليه ولا علاقة له بالعلم ولا بالمعرفة.

بقلم: الدكتور محمد هشام

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى