عن النقد الأدبي وإشكالاته
يومًا بعد يوم، تتكشف حاجتنا الماسَّة إلى تأصيل مفهوم نظري لقراءة النص الأدبي، أو ما اصطلح على تسميته بالنقد الأدبيٍّ، نقد أدبي يلتزم المنهجية العلمية ولو في حدها الأدنى! يثبت صحة هذا الزعم، والأمور تقاس نسبيًا، واقع النقد الأدبي المأزوم، الذي ما زال يزداد تفاقمًا وحدة، كما يتجلى ذلك على الساحة الأدبية المحلية في أوضح صورة! وأما ما نشهده من نقود أو مراجعات عندنا، ففي غالبيتها العظمى، لا تعدو كونها نقودًا استعراضية ومراجعات أدبية صحافية، تكاد تكون خلوًا من روح النقد الأدبي الحقيقي وتجلياته الإبداعية، جنبًا إلى جنب خلوها، في الوقت نفسه، من روح الموضوعية والترفُّق والمودة!
الذي يبدو لي أن مفهوم النقد الأدبي بكامل أبعاده، لم يتبلور، إلى الآن، في أوساطنا الأدبية المحلية بالقدر الكافي، أو بالشكل المتعارف عليه في أقلِّ تقدير، أو كما تواضع عليه أهل الخبرة والاختصاص بقولهم: النقد الأدبي ليس مجرد فن متطفل على النشاط الأدبي، أو ملحقٍ سطحيٍّ للأدب، إنما هو قرينه الذي لا غنى عنه، وجوهر هذا النشاط وروحه. النقد الأدبي، بمنظور ما، نشاط إبداعي لا يقل إبداعًا عن النص الأدبي ذاته، إن لم يكن يتفوق عليه في بعض حالاته!
تأسيسًا على ما تقدَّم، لم يتردد بعض الدارسين المرموقين للحظة أن يصنِّفوا النقد الأدبي جنبًا إلى جنب الأثر الأدبي نفسه، وذلك لقيمته وأهميته وقبل كل شيء لإبداعه، فارتباط النقد الأدبي بالإبداع ارتباطٌ وجوديٌّ لا محيد عنه!
في المقابل، لا نعدم دارسين آخرين وفي خطوة متقدمة وجريئة أيضًا، يقررون بأن النوع الوحيد من النقد الأدبي الذي ستكون له قيمة أكثر من أداء خدمة مؤقتة، هو ذلك النقد الذي يصبح هو نفسه أدبًا، لأنه عصارة قلب وخلاصة ذهن! بمعنى أن يصبح النقد الأدبي نصًا أدبيًا لكل شيء، بحيث تتجلى فيه القيم الإنسانية العليا جنبًا إلى جنب المعايير الفنية، بحثًا عن المتعة المشتهاة والفائدة المتوخاة من جمال وثقافة ومعرفة وما إلى ذلك! وفي الحق، ذلك كلام، أعتقد أنه جاء نتيجة حتمية، وعلى جانب كبير من التقدُّمِ والتطوُّرِ في آن! فإذا كان النقد الأدبي كذلك، وهو فعلاً كذلك، فما بالنا ننتقص منه ولا نوليه القيمة والأهمية اللتين يستحقهما ؟ وعوضًا عن ذلك نبادر إلى إطلاق الأحكام، على نحو غير مسبوق من التجرؤ بغير وجه حق، أو إلقاء الكلام على عواهنه أو عفو الخاطر، من دون ذكر أيِّ تسويغٍ، أو إقامة أي دليل، أو اعتماد أي مرجع، ولا حتى أي اعتبار للرأي الآخر، طبعًا باستثناء الرأي الشخصي، ما يعني إلغاء الآخر وإقصائه، الأمر الذي يستوجب قليلاً من التواضع!
وإلا ما معنى، وهل يُعقل، أن يقال بمجرد الكلام: فلان أخطأ في قراءته لنص ما، وعلاَّن أصاب؟ من دون أن نرى أو نقرأ لا كيف هذا أخطأ، ولا كيف ذاك أصاب! وقس على مثل ذلك رأيًا لبعض الدارسين بأحد الشعراء المحليين! فإذا كنا نجد من قد رفعه، فإننا نجد، بالمقابل، من قد وضعه! أهكذا يكون الرأي والرأي الآخر!؟ تُرى أيهما نصدِّق، من كان ذا صداقة أم علاقة؟ أم أن الحقيقة أولى أن تتبع؟ من هنا، كان لزوم التسويغ أو إقامة الدليل واجبًا، حتى يتبيَّن القارئ! وعليه، تفاديًا لمثل تلك الإشكالية، يمكن القول: من حقك أن ترى ما ترى، لكن شرط أن تسوِّغه! يحضرني في مثل ذلك السياق ما قاله أفلاطون عندما لاموه على نقده لأستاذه سقراط، قال: سقراط أستاذي وحبيبي، لكني أحب الحقيقة أكثر! تُرى هل كان يُفترض بأفلاطون أن يتقبَّل رأي أستاذه كيفما اتفق؟
ثم من قال إن الكلمة الأخيرة هي للناقد الأدبي، حتى لو كان من ذوي الاختصاص؟ على الناقد الأدبي أن يدرك جيدًا أن الساحة الأدبية ليست خلوًا إلا منه، مع وجوب أن يدرك أيضًا حدود مهمته وقواعد مهنته! إن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الناقد الأدبي هو حين يؤدي دور المعلم الشاطر المتفرِّد بشطارته، أو كأنه مالك للحقيقة، فلا يأتيه الخطأ لا من خلفه ولا من أمامه ولا من بين يديه! وبالتالي لا همَّ له سوى القيام بتوزيع الألقاب والدرجات والشهادات على طلابه! أو كأن يكتب من وراء قناع أو يختبئ خلف أقنعة الكلمات، أو على طريقة عمرو بن العاص ودوره في حادثة التحكيم، على سبيل المثال لا الحصر!
لكن مهلاً أيها الناقد الأدبي! إنه لأمر طبيعي أن نقرَّ بالتعددية والاختلاف، وأن نعترف بداهةً بحرية الرأي والتفكير! هنالك متسع للآخرين، وبضمن ذلك تعدَّد القراءات أيضًا، وتعدد القراءات ناجم عن تعدَّد القرَّاء وهو أمر مفيد ومحبذ في الوقت نفسه، فكلما تعددت القراءات وكثرت الاجتهادات كثرت الفائدة. وهذا يعني من بين ما يعنيه أنه لا توجد، إلى الآن، قراءة جامعة مانعة، فلكل قارئ قراءته! لكل قارئ الحق بأن يرى الأمور من زاوية رؤيته هو، فما يُرى من هنا قد لا يُرى من هناك، ومتى اختلفت زاوية الرؤية من الطبيعي أن يختلف المرئي والرأي معًا! تمامًا مثلما يختلف المرئي باختلاف المرايا! وقد يكون من نافلة القول، التأكيد على أن النصوص الأدبية الحقيقية لا تكتفي بالقراءة الواحدة، إنما يفترض أن تنفتح على قراءات متعددة. والنص، كل نص تُغلق أبوابه على قراءة واحدة، لا يمكن أن يعد نصًا أدبيًا وفق أيٍّ من المقاييس المتعارف عليها! وقد تجدر الإشارة أيضًا، إلى أنه ثمة نصوص أدبية ما زالت تستهوي النقاد وتغريهم بالقراءة، على الرغم من مرور عقود لا بل قرون من الزمن على رؤيتها النور!
ثمة قاعدة نقدية أخرى، تجدر الإشارة إليها، وهي: أنه لا توجد قراءة تُلغي أخرى، لكن، في المقابل، توجد قراءة يمكن أن تضيف على سابقتها، أو يمكن أن تُنقص منها، أما أن تلغيَها أو تبطلها بالكامل فلا! على أنه من المستحسن أن يُترك أمر الحكم في تلك القراءات للقارئ. فالقارئ ذكيٌّ وبإمكانه أن يفعل ذلك! لندع القارئ يحكم! فالأدباء والنقاد والقراء ثلاث حلقات متصلة بعضها ببعض، ومكملة بعضها لبعض!
من جهة أخرى، إن الناقد الأدبي الحقيقي، كما يفترض، يجب أن ينأى بنفسه كل النأي عن القراءة المعيارية أي النقد المعياري وهو النقد التقييمي، ويسلك عوض ذلك القراءة الوصفية أي النقد الوصفي، وذلك محاذرة الوقوع في منزلقات النقد الأدبي. ذلك بأنه لو سلك طريق النقد المعياري وأطلق أحكامًا قيمية، لكان أفضى به فعله ذلك، في المحصلة النهائية، إلى ما يشبه فعل المزاد العلني وتبعاته من متاهات المزاودات كالابتذال والفضول والعشوائية، التي لها أول ليس لها آخر، والناقد الأدبي الحصيف يربأ بنفسه عن تلك المطبات!
من خلال تلك العلاقة التعاقدية المتبادلة وإن تكن غير مكتوبة، بين طرفي المعادلة الإبداعية وهما: الأديب المبدع والناقد الأدبي المبدع، نستطيع القول: لا يختلف اثنان بأن أهمية الأدب وكل فن آخر تكمن في ما يقدمه للإنسان الفرد وللمجتمع على حد سواء، من فائدة وإسهام في تحقيق رقيهما وسعادتهما كهدف أسمى، وذلك بأسلوب فني يتجاوز حدَّ المألوف، من واقع الإنسان وقضاياه، إلى ما هو ممكن، أو بالأحرى إلى ما يجب أن يكون. في حين لم يعد دور النقد أو الناقد الأدبي شرحًا أو تفسيرًا، ولا فتحًا لمغاليق النص الأدبي فحسب، أو وسيطًا بين المبدع والمتلقي، إنما هو إعادة تشكيل أو إعادة بناء نص إبداعي جديد، نص إبداعي تتجلى فيه قيم ومعايير ودلالات ذات أبعاد فنية ؛ جمالية ولغوية وفكرية، وأخرى اجتماعية وإنسانية تلامس حياة الإنسان وواقعه في الصميم. فضلاً عن مدى تعالق كل ذلك مع الإنسان وعلى المستويين الفردي والجمعي في آن! ولا يسعني إلا أن أتفق ما يقوله البروفيسور شكري الماضي في سياق متصل: إن وظيفة النقد الأدبي لا تعني البحث عن الجودة والرداءة أو الحسنات والعيوب (فهذه مهمة قديمة) بل تعني الفهم، فهم نظام النص وتفاعلاته الذاتية والموضوعية وفهم الإنسان المبدع للأدب والمتلقي له أيضًا، وعلاقتهما المعقدة بالعالم المعيش!
صفوة القول: يفترض بالناقد الأدبي أن يمتلك قراءة منتجة ومضيئة بُغية تفكيك النص وتحليله و/أو تأويله إلى عناصره الفنية واللغوية، شكلاً ومضمونًا، وذلك ضمن سياقه الخاص، لأن أية قراءة للنص سوف تظل قاصرة ما لم تلتفت إلى سياقه. من هنا، كانت قيمة كل نص ضمن سياقه الخاص! ولن تتحقق تلك القيمة إلا على يد الناقد الأدبي المتمكن، حيث يطلب منه إعادة تشكيله أو تركيبه من جديد، ليصبح بناءً معماريًا جديدًا قائمًا بذاته، طبعًا وفق مرتكزات أساسية متعددة، أهمها حمولات من الدلالات والرؤى والأفكار الجديدة. النقد الأدبي، بمنظور ما، يعد مرآة تعكس صاحبها ثقافةً وأفقًا ووعيًا وإبداعًا، قبل أي شيء آخر. فالكتابة النقدية دليلنا إلى كاتبها! الكتابة النقدية يجب أن تترك لتتحدث عن نفسها بنفسها، وهي التي يجب أن تثبت نفسها وصاحبَها. تلك هي فعالية القراءة الإبداعية الحقيقية في عصر متحول غير ثابت تمامًا مثلما هو أي نص أدبي يكشف عن ذات مبدعه! النقد الأدبي يكشف عن وعي الناقد الأدبي وثقافته ومعرفته وفكره وإبداعه، وكذا كل أثر يدل على صاحبه! بناء على ذلك، نستطيع أن نتفهَّم الدوافع التي أدت ببعض النقاد المرموقين، إلى العدول عن مصطلح "النقد الأدبي" إلى مصطلح "النقد الثقافي"، وفي رأيي أن هذا المصطلح يأتي ملائمًا للمسمَّى ومعبِّرًا عنه أكثر من غيره، وذلك لأسباب عدة يضيق المجال هنا عن تعدادها!
على ضوء ما تقدم، يمكننا أن نتفهم من يرى بأن مهمة الناقد الأدبي الحقيقي قد تفوق صعوبة وأهمية مهمة الأديب نفسه! لا بل أكثر من ذلك، فقد نجد من يقرر بلا تردد: إذا كان الأدباء متمردين فإن النقاد ثوارٌ! ولا أعتقد أن مثل هذا الكلام ناجم عن تسرع أو ناتج عن فراغ! إنما عن معرفة تامة بالأهمية القصوى والخطورة الكامنة في دور كل من الأديب والناقد الأدبي على السواء! والسؤال المشروع الذي قد يتبادر إلى الأذهان: تُرى أين نحن من هذه المقولات؟ إن أكثر ما يغلب على كتاباتنا النقدية اليوم، كما ذكرت آنفًا، أنها محض مراجعات أدبية، وآراء شخصية، على طريقة ما هو إيجابي، وما هو سلبي، ما يُعجبني وما لا يعجبني، طبعًا إلى جانب المجاملات كالمديح والإطراء، وهذا أبعد ما يكون عن النقد الأدبي، وعن المهارات النقدية المعمقة والحقيقية التي تصدر عن ثقافتين: ثقافة منهجية وثقافة مهنية!