عودة. للزمان الجميل
اليوم الأحد 19 يونيو 2005 تتشرف نقابة الصحفيين بمنح جائزتها التقديرية للكاتب الصحفى الكبير محمد عودة، الذى لا يمثل فقط صحفيا مهما ساهم فى تشكيل توجهات وأفكار الصحافة المصرية، وليس فقط كاتبا مؤثرا وفعالا فى وجدان أجيال من المصريين.. ولكنه ودون أدنى حيل للوقوع فى فخ المبالغة حالة ثقافية وسياسية كاملة شاركت وتشارك فى زرع العدل والحرية والخير فى أرض مصر.
المصادفة السعيدة وحدها هى التى وضعت فى يدى هذا الكتاب، وبعد أن التهمته فى ليلة واحدة، بحثت عن تاريخ نشره فإذا به عام 1973، وقد لا يكون نهمى فى قراءة الكتاب فريدا، فذلك دأبى مع كاتبنا الكبير الأستاذ محمد عودة منذ كتابه الأول الصين الشعبية، وحتى آخر كتبه فاروق بداية ونهايةوالذى أنهكت صفحاته الأربعمائة ونيف من القطع الكبير عينى المتعبتين، وليس هذا حالى وحدى، فقد سمعت الشكوى نفسها من أكثر من صديق وزميل من أصحاب النظارات الطبية.
غير أن هناك شيئا فريدا مع ذلك فى هذا الكتاب القديم، كتاب رحلة فى قلب نهرو، أقبلت عليه وسط حشد من الهموم القومية التى تحاصرنا فى العراق وفلسطين، فضلا عن الهموم الوطنية والخاصة، فإذا بهذا الكتاب يحملنى على أجنحته الورقية إلى عالم جميل، عالم جديد وشجاع أوشكنا أن ننساه مع أنه كان ملك اليمين، وبالرغم من أن كتاب الأستاذ محمد عودة عن الهند فى الخمسينيات والستينيات، فإنك ترى من خلالها العالم كله، وترى مصر فى القلب منه.
كانت أحلامنا والهند أحلاما واحدة، بل كانت أحلام شعوب العالم كلها فى الواقع تصنع تيارا جارفا من الآمال العظيمة تكبر فيه الشعوب ويصنعه الأفراد كما يصنعهم. كانت الآلآم أيضا موجودة نعم، ومعها خيبة الأمل والشك فى جدوى الحلم والشكوى من الثمن الباهظ الذى تدفعه الشعوب والأفراد لكى يجسد، ولكن شيئا من ذلك كله لم يستطع أن يوقف التيار ولا أن يمنع الحلم. وكم كانت الأمنيات جميلة! أن يعيش الإنسان عزيزا وحرا فى وطن مستقل تماما، وأن تتحطم بضربة واحدة كل القيود التى كبلنا بها الاستعمار والقرون الطويلة من الاقطاع والاستغلال والظلم، فيملك الفلاح الأرض التى يزرعها ويحصل العمال على حقوقهم العادلة فى المصنع، ثم تتجمع بعد ذلك سواعد الرجال والنساء الأحرار لتعمر كل ركن فى أرض الوطن، تصلح الأرض البور وتبنى مكان الأكواخ العمائر والمصانع، تحصل المرأة على كل الحرية التى طال حرمانها منها، ويتوج الأطفال ملوكا فى مدارس تحسن تربية عقولهم وأجسامهم، وتكون الفنون والصحافة والإذاعة رايات للجمال والحق والعدل ترفرف فى ذلك المجتمع الحر الذى يمد يده لكل الأوطان الأخرى لكى يتجسد على الأرض ذلك العصر الذهبى للإنسان الذى طال التبشير به.
وكنا نتقدم وننجح، ونتقدم ونتعثر، نتعلم أحيانا من الأخطاء، وفى أحيان أكثر تقهرنا عيوبنا، ونستمع فى لهفة إلى تجارب الآخرين الذين يشاركوننا فى التجربة والخطأ، نتلمس السبل جهد طاقتنا بحثا عن الطريق الصحيح.
وفى هذا الإطار كان كتاب رحلة فى قلب نهرو وصور أخرى من الهند الذى ضم مقالات ودراسات كتبها الأستاذ محمد عودة فى تلك السنوات الزاهرة قبل أن يضمها بين دفتى كتاب.
ولن أعرض هنا أو ألخص الكتاب الذى اعتقد أنه غير متاح الآن للقراءة، ولكنى سأقتصر على الإشارة إلى بعض القضايا الكبيرة التى ألمحت إليها، والتى قد يشاركنى القراء الرأى أنها تستحق الكثير من التفكير والتأمل فى زماننا هذا الغريب، وأولى تلك المسائل التى تتخلل فصول الكتاب جميعا هى التذكير بالماضى الرهيب الذى كانت الهند وشعوب العالم الفقير تفر منه فى ذلك الحين.
يرتاع الإنسان حين يقرأ عن وحشة الجنتلمان الانجليزى فى تعامله مع الهنود أثناء استعماره لها لمدة قرنين أو أكثر. وسيصدق الأستاذ عودة حين يقول إن العصر كان حلقات متتالية من الإرهاب الأسود يجعل من جنكيز خان وتيمور لنك وغيرهما من سفاحى التاريخ مجرد هواة وإليك بعض الأمثلة: قمع الإنجليز ثورة هندية من أجل الاستقلال فى سنة 1857، وبعدها قرر القائد الإنجليزى أن يعاقب الشعب كله فأمر بشنق هندى، أى هندى كان على كل شجرة من أشجار الطريق الذى يقطع الهند بالعرض، أى بامتداد ثلاثة آلاف كيلو متر، والذى تحفه الأشجار على الجانبين. ودخل القائد نفسه على آخر أباطرة المغول، حكام الهند القدامى، ووراءه ضباطه يحملون صينية كبيرة من الفضة وقال ساخرا للإمبراطور:
منذ زمن لم نتبادل الهدايا يا صاحب الجلالة، وقد أردنا بمناسبة انتهاء الثورة أن نحمل لك هذه الهدية!
ورفع الغطاء عن الصينية فوجد الامبراطور رءوس أولاده الثلاثة الشبان.
وبعد الحرب العالمية الأولى التى مات فيها أكثر من مائة ألف جندى هندى دفاعا عن الإنجليز حصدت الرشاشات البريطانية آلافا أخرى فى مذبحة أمر يتسار، أثناء اجتماع سلمى للمطالبة بالاستقلال، وفى سنة 1942 وتلافيا لقيام ثورة فى مقاطعة البنغال، افتعل الإنجليز مجاعة أعلنوا صراحة أنها لإذلال البنغاليين ولإرغامهم على التطوع فى جيوش الامبراطورية، ومات فى هذه المجاعة على أقل تقدير رسمى ثلاثة ملايين. وعندما بدأت منسوجات مصانع لانكشاير الإنجليزية تدخل الهند ولم تجد الرواج الكافى أمر نائب الملك هناك فقطعت أصابع كل عمال النسيج اليدوى من الصناع المهرة الهنود حتى لا تقف أياديهم حائلا أمام إنتاج الآلات الإنجليزية.
وتلك كلها مجرد نماذج سريعة، وقد توج الإنجليز أعمالهم فى الهند قبل خروجهم منها بإذكاء الفتنة وتدبير المذابح بين الهندوس والمسلمين التى راح ضحيتها ملايين أخرى من الجانبين قبل تقسيم شبه القارة بين الهند وباكستان، وهكذا فرقوا بين الدولتين بمحيط من العداء والحقد، ومازالتا غارقتين فيه حتى الآن.
هذا بعض ما جرى فى الهند، ونحن لسنا بلدا من مئات الملايين مثلها، ولكنك لو تذكرت ما أصابنا على أيدى المستعمرين وأشياعهم خلال فترة مماثلة مراعيا تناسب الأعداد بين شبه القارة وبلد صغير فسترى أن نصيبنا لم يكن أقل قسوة. بدءا من دك القاهرة وتدميرها بأيدى الفرنسيين أثناء حملتهم منذ قرنين وقمعهم الوحشى لثورات أهلها ومرورا بهلاك مائة وعشرين ألف مصرى أثناء حفر القناة لم يكن عددنا أيامها يتجاوز خمسة ملايين نسمة وترحيل وتسخير ألوف أخرى للسلطة الانجليزية أثناء الحرب العالمية الأولى ضحايا ثورة 1919 وحروب فلسطين التى زرع الإنجليز فيها بذرة إسرائيل ثم تعهدها الغرب بعد جلائهم.
وأنا أعرف أن الكثيرين يسأمون الآن من القول بأن الاستعمار هو السبب الرئيسى فيما نعيشه من مشاكل يقولون رحل الاحتلال من عشرات السنين فلماذا نجعله شماعة نعلق عليها كل أخطائنا؟ ومع هؤلاء الكثير من الحق لأننا يجب فى جميع الأحوال ألا نلتمس العذر لأخطائنا، ولكن من العدل أيضا أن نذكر أن الاستعمار لم يرحل إلا بعد أن ترك فى كل مكان بذورا ترعرعت للفتنة والفساد. والوقيعة بين الهند وباكستان واستنزافنا فى الحروب مع إسرائيل هى الأمثلة الظاهرة، ولكن كتاب الأستاذ عودة وهو يحدثنا عن الهند يلقى الضوء على ما هو أخفى وأخطر، أى على المؤسسات والسياسات التى يستحيل أن نستأصلها بين يوم وليلة أو حتى عبر سنين طويلة. فقد ترك الإنجليز هناك جهازا إداريا يضرب فيه الفساد حتى الجذور، ونظاما فاسدا للتعليم يتخرج فيه المتعلمون لينظروا إلى أنفسهم باعتبارهم طبقة فوق مواطنيهم وليتجهوا بأبصارهم وعواطفهم صوب الغرب دائما، ويتسق مع ذلك الإبقاء على الأمية والجهل فى صفوف الأغلبية المقهورة، وترك المستعمر أيضا طبقة من الرأسماليين ترتبط مصالحها بمصالحه على نحو لا ينفصم، وبوأها مقاعد السلطة فى الحياة السياسية والاقتصادية ووضع فى أيديها جهازا للشرطة لم يتعلم شيئا غير قمع المواطنين واستغلالهم، ويضرب فيه الفساد كغيره من أجهزة الحكم.
كان ذلك هو التحدى الذى تعين على نهرو وغيره من قاد الاستقلال مواجهته. وبقدر قتامة هذه الصورة التى تبدو فيها المواجهة شبه مستحيلة بقدر ما تشرق صفحات الكتاب وهى تعرض لنا صور الكفاح البطولى ضد الواقع البربرى فى عهد الاستعمار وتراثه الكريه بعد الاستقلال: فهو يحكى لك عن غاندى وكيف أيقظ بقوة الحب والأمل. شعبا بدا أنه لن يفيق قط، ويحدثك عن المرأة الهندية وكيف نهضت من رق عبوديتها للرجل حين صهرت بوتقة الكفاح ضد المستعمر الأغلال التى ظلت ترسف فيها لقرون، فكسبت حريتها الخاصة مع حرية الوطن، ويحدثك أيضا عن الشاعر إقبال وحلمه القديم العهد بباكستان كأرض للعدل والحرية تتجسد فيها كل سماحة الإسلام. وتمضى فى الكتاب أيضا مع نهرو وكيف أضاف البعد الواقعى الحديث الذى يكمل أحلام غاندى المثالية، وتتابع صراعه لإنشاء الهند الحديثة من أنقاض الركام المشوه الذى ورثه ولصنع العالم الجديد من مستضعفى الأمس أشياء كثيرة تستحق الوقوف عندها فى هذا الكتاب الذى يقدم صورة لنهرو السياسى، والإنسان والعاشق، غير أنى أحب فقط أن أنقل لك من الكتاب كيف عول نهرو على الفن فى مسعاه وعمل على بحث فنون الهند الأصيلة فالتحرر لابد أن يكون جميلا، لأن الحرية بغير جمال مستحيلة، تماما كالجمال بغير حرية.
هل فشل نهرو مع ذلك؟.. هل ضاعت كل أحلامه كما ضاعت أحلامنا؟.
إذا كان هذا الكتاب يحدثنا عن عوامل الفشل فى تجربة الهند، والتى أشرنا إلى بعض أسبابها فإنك تستنتج منه مع ذلك أن الشعوب إذا كانت قد استطاعت من قبل أن تنتصر فى معركتها غير المتكافئة ضد الاستعمار وفى ظروف تكاد تكون مستحيلة، فإن فشلها الموقوت أمام التحديات الجديدة لا يعنى أنها عاجزة عن أن تنتصر مرة خرى.
وهو استنتاج يلزم أن نستوعبه جيدا وأمل نحتاج إليه كثيرا، فشكرا للأستاذ عود