الأحد ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
بقلم رياض كامل

فضاء حنا مينة الروائي

لمحة عامة

إنّ اجتراح ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin 1895-1975) اصطلاحه الشهير الكرونوتوب (الزمكانية) جاء نتيجة رؤيته وإدراكه كنه العلاقة الوثيقة التي تربط تقنيتيّ الزمان والمكان ببعضهما البعض، وقد أكّد على ذلك في ملخّص كتابه الشهير أشكال الزمان والمكان في الرواية: "يحدّد الزمكان الوحدة الفنيّة للمؤلَّف الأدبي في علاقته بالواقع الفعليّ. ولهذا السبب ينطوي الزمكان في المؤلَّف دائما على لحظة تقييمية لا يمكن فصلها عن الزمكان الفني الكلي إلا في التحليل المجرّد. ذلك أن كلّ التحديدات الزمانيّة المكانيّة في الفن والأدب لا ينفصل أحدها عن الآخر وهي دائما ذات صبغة انفعالية تقييميّة". (باختين، 1990، ص230)

ومع أهمية ما يراه باختين، ومع إيماننا بهذه الرؤية فقد ارتأينا أن نفصل بينهما اعتباطا "في التحليل المجرّد"، دون إغفال العلاقة الجدلية المتينة التي تربط بين هذين العنصرين في أعمال حنا مينة (1924-1918)، وسنعمل على توضيح ذلك وتبيانه حيث تقتضي الضرورة. ومن هذه النقطة بالذات نؤكد أنّ معظم أعمال مينة تقوم بتصوير الوضعية الاجتماعية والسياسية التي مرت بها بلاده في ظل ظرف محدّد ومؤطّر بهذين العنصرين، كما نرى في روايته المصابيح الزرق على سبيل المثال. (المصابيح الزرق، ص19)

نعلن بداية أن التعامل مع الفضاء الروائي لا يتمّ إلا من خلال الوصف، أما في حال وروده خاليا من هذا الوصف، فإنه، حينئذ، يكون كالعاري، فالوصف هو الذي يعطيه مكانته المتميزة. وسيتم النظر إليه كتقنيّة جمالية شأنه شأن التقنيات السردية الأخرى. (مرتاض، ص143)

يستهلّ مينة كتابته الروائيّة في حيّ شعبيّ من مدينة اللاذقية في ظل الحرب العالمية الثانية، ثم يتّسع الفضاء الروائي في روايته الثانية ليشمل، إضافة إلى الحيّ الشعبيّ، ميناء اللاذقية، وشاطئها، وبحرها، مخترقا عالما روائيا يشمل البرّ والبحر. ثم يكثّف من إصداراته متميزا عن غيره من الروائيين العرب بتخصيص مجموعة من الروايات التي تصور عالم البحر. لم يكن ذلك وليد الصدفة، فالكاتب ولد في اللاذقية تلك المدينة البحرية، ثم تشرّد مع عائلته في قرى ومدن الاسكندرونة ببرّها وبحرها، ولما عاد إلى اللاذقية من جديد سنة 1939، عاشر البحر عن قرب، عاين حياة البحارة، وعمال الميناء، شهد آلامهم وآمالهم، رآهم يغتسلون بعرق الهم وهم يحملون على أكتافهم الأكياس والصناديق، فيما رب الميناء وأصحاب المواعين يغرقون في بحبوحة من العيش. بدأ حنا مينة حياته الأدبية كاتب قصة قصيرة، وقد نشر قصة بعنوان على الأكياس (1976) يتحدث فيها عن مرحلة صعبة جدا في حياته تعود إلى جيل الثاني عشر حين بدأ يعمل حمالا في الميناء ثم كاتبا صغيرا. (انظر مجموعته القصصية، الأبنوسة البيضاء، ص45-85)

لقد وجد أن عالم البحر هذا غير مفصول عن عالم اليابسة، إنها نفس المعاناة اليومية، ونفس الانتهازية والاستغلال، فقرن بينهما ليجعل منهما صورة واحدة لمعاناة المواطن السوري في ظل زمكانيّة محددة، فبحث عن خلاص البشرية من هذا المحيط الملطّخ فوجده، في أبناء الطبقة المسحوقة من عمال وفلاحين وبحّارة. بحث أكثر عن عالم يتطهّر فيه الإنسان من أردان الرذيلة والوحشية فوجده في الغاب، كما ينعكس في روايته الياطر، فامتد عالمه الروائي ليشمل مدينة، بحرا وغابا.

لكل فضاء عالمه، ناسه، بيئته الاجتماعية، شكله، أو أشكاله الخارجية، ميزاته الداخلية من عادات، تقاليد، لباس، مأكل، مشرب، طريقة حياة، أسلوب تفكير ولغة مميزة، "فالإنسان يرى العناصر ويلمسها ويشمّها ويسمعها فيتعامل معها بجميع حواسّه دون استثناء... جسدا نفسا وذهنا، والعناصر تحتوي الإنسان وتُمازج وجودَه فتداعبه وتحنو عليه أو تهدده وتؤذيه". (بوجاه، ص18) إن فضاء الرواية ليس مكانا بالمعنى الضيق للكلمة، ولا هو مجرد موقع جغرافي على بقعة معينة من الأرض، ولا هو مجرد ملامح خارجية لطوبوغرافيا المنطقة أو المحيط العام، إن فضاء الرواية هو كل هذه الأشياء مجتمعة، إضافة إلى الإنسان والحيوان الذي يعيش فيه. فأبطال مينة القرويون لهم مواصفات تميزهم عن أبناء المدن الحديثة، وبالأخص المدن الأوروبية، وهكذا فالفرق شاسع بين المدينة السورية والمدينة الأوروبية، وكذلك بين المدينة الأوروبية والمدينة الصينية. كل ذلك يتجلى في رسم المكان في ظل الزمان، بناسه وشخصياته وعوالمه الخيالية المنفتحة على المنشود لا على الموجود. ولكل فضاء لغته، فالبحر يفرض مفردات ومصطلحات تعبر عنه وتنقل أجواءه، لا مجرد وصف مياهه وهياجه وأعاصيره، رغم ما لهذه الأمور من أهمية، إلا أننا يجب أن نبحث عما وراء هذا الفضاء، وعن دلالاته، وعلاقته بالجو العام للرواية، وما يحمله من فرادة يتحلى بها عالم الروائي دون غيره.

فضاء البحر- المغامرة والمدى البعيد

استأثرت المدينة والقرية بالرواية العربية، ورغم البحر الواسع الذي يحيط بالعالم العربي من مشرقه حتى مغربه، إلا أنه لم يشغل بال الروائيين العرب بشكل كاف، ولم يلق من العناية ما يستحقّ، كذلك لم يول الباحثون العرب الأهمية اللازمة لرواية البحر، "وتشكّل روايات حنا مينة الاستثناء، مع بعض الروايات العربية الحديثة التي تعد على أصابع اليد الواحدة، كرواية السفينة (1970) لجبرا إبراهيم جبرا (1919-1994)، ومن مكة إلى هنا (1970) لصادق النيهوم (1937-1994)"، (عطية، ص145) ورواية البحر (1970) لفتحي غانم (1924-1999)، ووسمية تخرج من البحر (1986) للكاتبة الكويتية ليلى العثمان (1945-) وغيرها. لكننا لم نر أيا من هؤلاء الكتاب من يصر على خلق رواية بحرية وعالم بحري، بناسه ومحيطه، وأجوائه، وعادات بحارته، وخصالهم، كما فعل حنا مينة، ويصدق الباحث روجر ألن (Roger Allen) حين يرفض تصنيف رواية السفينة ضمن روايات البحر، معتبرا أن موضوعها الرئيسي هو الأرض بالرغم من أن أحداثها تدور خلال رحلة بحرية. (انظر ألين روجر، ص138)

يعزو الباحث صلاح صالح عزوف الثقافة العربية عن البحر لكونه لم يؤمّن حتى اليوم وسائل العيش للأغلبية الساحقة من العالم العربي، خلافا للغرب الذي شكّل البحر قضايا حاسمة في تكوينه الثقافي، الاقتصادي، العسكري والسياسي، "فقد ظل حوالي نصف رجال هذه البلدان طافيا على سطح الماء حوالي خمسة قرون من العصر الاستعماري". (صالح، ص127)

طالما تحدث مينة في مقابلاته الصحفية والإعلامية، وفي كتب السيرة الذاتية، عن علاقته بالبحر وعن تجربته الشخصية التي جعلته يخوض هذه المغامرة. فهل تتشابه تجربة مينة مع تجربة هرمان ملفل (Herman Melville 1819-1891) صاحب موبي ديك (1851) الذي عمل بحارا وصيادا للحيتان؟ وهل من تشابه مع تجربة أرنست همنغواي (Ernest Hemingway 1899-1961) صاحب الشيخ والبحر (1952) الذي انفرد على شاطئ للصيادين يراقبهم عن كثب؟

لقد سافر الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف (Anton Chekhov 1860-1904) إلى جزيرة بعيدة ومعزولة تدعى سخالين ليكتب عن معاناة السجناء المبعدين، وهي تجربة متشابهة في المعاناة، وفي كسب المعرفة والخبرة بتجربة همنغواي وتجربة ملفل. فما هي خبرة مينة في عالم البحر؟ وهل كان بحاجة إلى مثل هذه التجارب حتى يوفَّق في تصوير البحر؟ ثم، أولا وقبل كل شيء، ما هي ميزات هذا الحيز المائي في رواياته؟ وهل وُفِّق في خلق فضاء متفرد؟

إن البحر ميزة مينة الروائية وعالمه الروائي المتفرّد، فإن كانت روايته الأولى قد قُرنت برواية نجيب محفوظ (1911-2006) زقاق المدق (1947) واختيار الكاتبين حيا شعبيا في مدينة، فإن روايته الثانية قد قُرنت برواية الشيخ والبحر للكاتب العالمي ارنست همنغواي. (شكري، ص235) لم تأت هذه المفارقة عفوا، ولا هي وليد الصدفة، فالرواية العربية تفتقر إلى رواية البحر، وها هو كاتب مبتدئ يخترق عالما جديدا ويلح على إصدار كم من الروايات يتناول من خلالها عالم البحر. لقد ذهب الباحث صلاح صالح بعيدا في محاورة ثلاثية مينة البحرية وعراها من كل محاسنها التي أشار إليها الباحثون والدارسون. أما صلب بحثه فينصب حول "أوجه استيلاء ثلاثية حنا مينة حكاية بحار، والدقل، والمرفأ البعيد على القصة السوفيتية في الطريق إلى المرسى لفيكتور كوينتسكي. مع أن الباحث يقوم بعمل علمي دقيق يقارن فيه بين العملين من نواح عدة إلا أننا نشتم من خلاله معاداة فكرية للأيديولوجية التي يؤمن بها حنا مينة مما أفقد المقال مصداقيته العلمية، خاصة في لجوء الكاتب إلى أسلوب السخرية والتقريض. (انظر: صالح، 2000، ص123-172).

عالم البحر، لدى مينة، يرتبط بعالم الرجولة والمغامرة والمدى البعيد. وللرجولة معان عدة منها ما يتعلق بمواجهة البحر وأنوائه، ومنها ما يتعلق بالمرأة. أما المغامرة فهي الصورة الأخرى للرجولة التي لا تكتمل إلا إذا اقترنت بالطموح والوصول إلى المدى البعيد حيث يطوّف البحّار عبر "البحار السبعة"، من مشرق الأرض وحتى مغربها. والبحر يأخذ بعدا أكبر من مجرد موقع جغرافي يعتاش منه البحارة والصيادون بل هو فعل دلالة وانتماء وهوية، إذ لن يكون للبحّار وجود وكيان بدون البحر لأنه ينتمي إلى هذا العالم. وما التنازل عنه سوى تنازل عن الكيان والهوية، لذلك يبني الطروسي بطل الشراع والعاصفة (1966) خيمته في جوف الصخرة المحاذية للبحر منتظرا أول فرصة ليعود إلى عالمه ووجوده المادي والمعنوي. (انظر رأيا مشابها: شكري، ص241) لا يحمل سعيد حزوم بطل حكاية بحار (1981) رأيا مغايرا: "في البحر تختلف الأشياء هذه البركة المائية، الزرقاء، الواسعة، تضطرب في العواصف، وتصخب أمواجها، وتندفع محمحمة إلى الشاطئ، وترتطم بالصخور فتتحطّم، وتتناثر، وتغدو زبدا، بخارا أبيض، وترتدّ إلى الماء ثانية في زئير وحشيّ مخيف، لكن البحر عريض، فسيح، لا يجري في ضفتين، ولا يملك تيارا، وتستطيع فيه المناورة والحركة، وتفادي التيارات الجوفية، بأن تبتعد إلى الأعماق، وبقدر ما استطعت إلى الأعماق". (حكاية بحار، ص163) يقيم البطل سعيد حزوم مقارنة بين البحر والنهر فيخلص إلى نتيجة مآلها أن البحر، رغم هياجه يظل أكثر رأفة من النهر، وهو فضلا عن ذلك يطل على عوالم واسعة وفسيحة، وتستطيع من خلاله أن تصل إلى المدى البعيد، إنه بوابة للطموح، من يلج ماءه غاص في أعماقه واكتشف عوالم جديدة لا تحدها ضفاف. هذا هو بحر مينة "بركة زرقاء واسعة"، من ناحية، وهائج صارخ يحمحم ويزأر كأسد من ناحية أخرى، فمن ذا القادر على معايشته؟ ما هي مواصفات هذا الإنسان القادر على معاشرته؟ لن يكون إلا عاشقا للبحر وأنوائه، ليصبح قادرا على ريادة مجاهله الواسعة الشاسعة. يتسع عالم البحر ويخرج من إطاره الجغرافي حيث تجمع الماء في إطار شواطئه الضيقة ويتشخصن، ويتحول إلى فعل استعارة ودلالة.

البحر معشوق البحارة، وحالة العشق بين البحر والبحّار موتيف يعود على ذاته في معظم أعمال مينة، هذا العشق الممزوج بالرهبة والإجلال والتعظيم لأن البحر "ملك"، عالم البحر هو عالم الرجولة، وقلائل هم القادرون على معاشرته وخوض مغامراته: "رائحة البحر تهيج الرجولة". (الشراع والعاصفة، ص48) ينسجم البحار بهذا العالم شكلا ورائحة تماما كما تمتزج رائحة التراب بعرق الفلاح ووجدانه.

وصف المكان برأينا ليس صورة طوبوغرافية، بل هو مركّب من عناصر حيث يأخذ كل غرض فيه رمزه وموقعه. وأهم ما في البحر ماؤه "فهذه الشراع والعاصفة تنفتح منذ سطورها الأولى على عالم الماء فينبجس شاطئ اللاذقية قبل انبجاس الإنسان ذاته [...] فكأنّ البحر هو البطل المحوري للشراع. فحضوره الغرضيّ والوظيفيّ يفوق حضور جميع الشخصيات بما فيها محمد بن زهدي الطروسي ذلك البطل الذي رفعه النص تدريجيا إلى حدود الأسطورة [...] يمكننا أن نمعن النظر في هذا اللقاء بين الإنسان والبحر، فقد كان عميقا: كيانا بكيان وجسدا حيال جسد". (بوجاه، ص19-20)

يرتبط المكان ارتباطا وثيقا بجميع العناصر الروائية وينأى عن الاقتصار على ما تراه العين من معالم خارجية، فهو يفرض ظلاله على الشخصيات، تصرفاتهم، مأكلهم مشربهم وملبسهم، وبالذات لغتهم التي تتلاءم مع هذه البيئة. للبحار لباسه الخاص، بل ويختلف اللباس حسب مكانة البحار، فهذا صالح حزوم، مثلا، والد سعيد حزوم بطل حكاية بحار "كان يلبس شروالا أسود، ويتزنر فوقه بزنار معرق، على قميص دون ياقة. وسترة مشقوقة عند الظهر. وينتعل حذاء معكوفا، شأن البحارة، وعلى رأسه طربوش خمري، يلبسه فقط في المناسبات". (حكاية بحار، ص159-160، انظر دلالات اللباس: بارت، ص50-52)

يحاول كاتبنا أن يجيّر هذا الفضاء لصالح الفكرة التي يصبو إلى توصيلها للمتلقي، لذلك تتحول مقارعة البحر وخوض المغامرة إلى فعل تحرّر، كما هو حال الطروسي، الذي يسعى جاهدا للعودة إلى عالم البحر، فيما يسعى الشعب بأكمله نحو الثورة وانتزاع الحرية من العدو الرابض على أرضه، وتتزامن عودته إلى البحر مع اشتعال المظاهرات ضد الفرنسيين، وهكذا ترتبط مغامرة سعيد حزوم بالحدث السياسي، ومغامرة المرسنلي بطل رواية الياطر (1975) والعودة إلى المدينة، برفقة الصيادين، بمحاربة الحوت الجديد الذي يتهدد ساحل المدينة، رمزا للمقاومة. يتحول البحر من مجرد فضاء جغرافي إلى فعل دال يرتبط بالعنفوان والشهامة والقوة والصبر والجلد على مقارعة ما يعترض الإنسان في مسيرة التحرر والانعتاق وخوض المغامرات من أجل حياة حرة كريمة.

الغابة- عالم التطهر

تدور أحداث روايات مينة عادة في الريف أو في المدينة، وبالتحديد في أحيائها الشعبية، ويمتد ليصل البحر وميناءه. أما في روايته الياطر فهناك عالم آخر هو عالم الغاب حيث يتوارى البطل زكريا المرسنلي بعيدا عن عيون رجال الدرك، بعد أن قتل خطأ صاحب الخمّارة اليوناني زخريادس. لا تتوفر له في الغاب أبسط مستلزمات العيش البسيط فيضطرّ إلى التأقلم مع هذا العالم الجديد البدائي، كما يضطر بطل دانيال ديفو (Daniel Defoe 1660-1731) في رواية روبنسون كروزو (1719) أن يتأقلم مع الطبيعة. هذه الوحدة تفتح له أبواب التفكير على حقيقة الإنسان وسبر أغوار النفس البشرية واكتشاف الذات، خاصة حين تكسر وحدته راعية تركمانية، هاجر زوجها إلى الأناضول منذ زمن ولم يعد. فهل هو غاب الرومانسيين الذين اعتادوا الهروب إليه بعيدا عن وحشية المدينة والمدنية؟ وهل هو الغاب الذي يقترن بقانون القوي يأكل الضعيف؟

إنه ليس هذا ولا ذاك، وإن أخذ عن الرومانسية بعض معانيها، إلا أنه يأخذ معنى جديدا ورمزا جديدا، هو مكان التطهّر واكتشاف الذات الإنسانية على حقيقتها بعيدا عن عوامل الاستغلال الخارجية. الغاب "هو عالم التحول البشري من الوحشية إلى الإنسانية، عالم الحب الكبير وسط حياة طبيعية بعيدة عن مواصفات المدن وقيودها وأجوائها المسمومة". (طرابيشي، ص211) هنا الطبيعة على حقيقتها والإنسان أمام حقيقته، إما أن يكون وحشا كاسرا، كما كان في المدينة، وإما أن يكتشف ذاته. فهل هو قاتل زخريادس لمجرد كونه إنسانا شريرا بطبعه؟ وهل هو ذاك الإنسان الخالي من المشاعر تجاه المرأة؟ هل هو ذاك المتوحش السمكي الرائحة والفيلي الجثة، كما اعتاد أن يصور نفسه؟ (يكثر الراوي من تشبيه نفسه بالحيوانات الكبيرة الجثة انظر: الياطر، ص15، 29، 38)

إنه هنا لا هذا ولا ذاك، هنا هو عاشق ولهان، مؤمن بالمرأة وقوتها وأنوثتها وإنسانيتها، وهو محب لبلاده وأهلها، إنه ذو حس مرهف وقلب واسع. هذه هي منحة الغاب الكبرى. هذا هو زكريا المرسنلي بطل الياطر، كان لا يقوى على لجم أهوائه وغرائزه، يرى المرأة "أداة تفريغ"، لا أكثر ولا أقل، يقيم معها علاقة جنسية بدافع الواجب: "ولكنه كان ثقيلا، بغيضا، رسميا، ذلك الواجب الزوجي اللعين"، (الياطر، ص276) وهو قادر إذا شاء أن يشرب برميلا من الخمرة. أما الآن فهو إنسان جديد: "انظروا الهوية. وداعا يا زكريا.. مات زكريا. الأفضل أن يموت". (الياطر، ص178)

هنا في الغاب لا قويّ ولا ضعيف لا مستغِلّ ولا مستغَلّ، هنا الطهارة وتجديد الذات. "فالغابة إذن رمز لعالم خال من الملكية الخاصة، ينتفي فيه الاستغلال، ويستطيع فيه الإنسان أن يستعيد صفاته الإنسانية المُستلَبة فيصبح أقدر على التضحية، وعلى التعبير عن عواطفه البشرية بشكل صادق، دون أية حواجز من أي نوع". (الماضي، ص158)

الغاب هو العالم الذي يحلم به الكاتب ويسعى إلى تحقيقه، إنه، مرة أخرى، ليس عالم الغاب الرومانسي حيث يعيش الإنسان بعيدا عن رذائل الكون وفساد البشرية، إنما هو دعوة للعودة إلى الحياة من جديد، وإلى الناس، وإلى الأهل للمساهمة معهم من أجل تحرير البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية بعيدا عن الطبقية، لذلك يترك المرسنلي غابه وحبيبته الغالية، يعود إنسانا آخر مصمِّما على التغيير حيث يعمل بشرف وكرامة دون إذلال.

الغاب في هذه الرواية ليس عالم البدائية، حتى وإن كان لا يملك أدوات الأكل اليومية، ولا الملبس الحديث، أو البيت النظيف، هنا تقع المفارقة، فهذه البيئة تجافي البدائية التي اعتاد عليها البطل في المدينة. لقد تطهر من الرذيلة ومن العنف ولم يعد همجيا، كما كان، ولا قاتلا ولا خنزيرا يتمرغ فوق المزابل والنساء، على حد تعبيره. عادت إليه إنسانيته، أصبح نظيفا وشريفا وعاشقا لامرأة واحدة ووحيدة. أصبح جزءا من بلاد تقاوم وتصبو نحو التحرُّر والانعتاق من الرأسمالي ومن المحتلّ الغريب.

المدينة وتلوث البيئة

شغل موضوع القرية والمدينة الرواية والروائيين منذ نشأة الرواية العالمية، فهما الفضاء المكانيّ الأساسيّ الذي تدور فيهما الأحداث. (إلعاد بوسقيلة، ص7) تختلف مواصفات هذا الفضاء من قطر لآخر ومن مكان لآخر، لأن ذلك منوط بنوعية التجمع السكاني، عاداته، تقاليده، ثقافته وعلومه.

تنعكس صورة المدينة في روايات مينة حيّة نابضة، من خلال وصفه لمعالمها الخارجية بكل تفاصيلها الدقيقة، شوارعها، بيوتها، حاراتها وأزقتها. إن تصوير الشكل الخارجي لدى كاتبنا بمثابة مدخل للتعرف على وجه المدينة الآخر، كما هو على حقيقته. وهي، لديه، ليست أضواء مبهرة ونوادي أدبية، ومقاهي فكرية، ولا هي تجمع اقتصادي أسوة بالمدينة المعاصرة، بل هي أحياء فقيرة، وشوارع ضيقة، وبيوت متلاصقة متراصة. إنها المدينة السورية المحافظة في فترة ما بين الحربين الكونيتين، أو ما بعد الحرب الكونية الثانية بقليل: "وهذه المدينة (اللاذقية) الواقعة إلى الشمال الغربي من البلاد، قديمة بعض القدم في بنيانها وعاداتها. إن الأخلاق، هنا ترزح تحت كابوس التقاليد، فالإقطاع هو السيد، وفي ظله تتسم الحياة بالمحافظة والتخلف، ويظل الثأر دينا حتى يوفى، حتى يغسل الدم بالدم، ويكثر المتزعمون، ويكثر، بالمقابل، المستزلمون، وتنقسم الحياة الاجتماعية على نحو متفاوت جدا، ويتوزع "الكبار" زعامة الأحياء، وزعامة المرافق، وملكية الأرض!". (الشراع والعاصفة، ص22)

إنها صورة لمجتمع إقطاعي يتنافس فيه الأقوياء للسيطرة على الضعفاء، يتفقون ويختلفون وفق انسجام مصالحهم وتناقضها، وهي، من ناحية أخرى، تجمع سكاني محافظ أشبه بقرية كبيرة، فلا ذكر لمصانع كبيرة وصناعات ثقيلة. بكلمات أخرى هي قرية من حيث العلاقات الاجتماعية، ومدينة من حيث عدد السكان واتساع المساحة الاقتصادية التي تتيح مجالا لصراع "الكبار". مدينة مينة نقيض الغابة التي صورها لنا في روايته الياطر: "يا غابتي، يا رفيقتي، أنت بيتي، وفي الأخير أنت قبري، لن أهجرك وأرجع إلى مدينتي العاهرة"، (الياطر، ص176) فالغابة مكان التطهر والمدينة مكان الاستغلال والقهر والقمع، فلذلك هي "عاهرة" كما سماها في مواقع عدة. "يوظف حنا مينة فضاء اللاذقية في الشراع والعاصفة ليشخص الصراع بين مغتصبي المال والسلطة من ناحية وبين البسطاء المؤمنين بقيم العدالة والتضامن وكرامة الإنسان من ناحية ثانية. وتغدو مدينة اللاذقية بناسها وأماكنها بنية صغرى تتراءى عبرها مشكلة الصراع المتجدد بين المستغلين والمستضعفين". (برادة، ص80)

لا تختلف هذه الصورة عما جاء في روايته السابقة المصابيح الزرق (1954)، بل هي صورة طبق الأصل عنها. إنها اللاذقية، نفس المدينة ونفس الزمان: "وكان الحيّ في نهاية هذا الشارع الحديث، يتجمع، ويتراصّ ويتفرّع إلى أحياء أخرى متراصّة، فقيرة كثيرة السكان، وكانت سوقه الصغيرة تتمركز عند عنق الشارع [...] ولم تكن فيه متاجر ولا معامل، بل دكاكين بسيطة، خاوية، فيها لحم وخضار وعرق، وتقوم عند تقاطع الشارع، وفي زوايا الأزقة الرئيسية، أفران ومقاهي [ومقاه] بلدية". (المصابيح الزرق، ص30) نستشف، من خلال هذا الوصف، أننا إزاء مدينة فقيرة، فالشوارع ضيقة ودكاكين الأزقة تقتصر على قليل من المأكل والمشرب، خاصة أن لا متاجر ولا معامل لتشغيل السكان. ومع أنها "خاوية" إلا أنّ فيها لحما، خضارا وعرقا. فهل ذكر اللحم والخضار والعرق هو خروج عن عالم المدينة البائس؟

إن وصف المكان في أي رواية لا يتم بصورة عشوائية، وليس ذكر هذه التفاصيل بالأمر العفوي، فسكان المدينة يشربون العرق لأنه مشروب بلادهم الشعبي، فيما أن مشروب أبطال مينة في الغربة الويسكي والنبيذ، ليتحول المشروب إلى فعل دال على مستوى اجتماعي متفاوت بين بيئة وأخرى، قصد الكاتب ذلك أم لم يقصده.

هذه التفاصيل الدقيقة لشكل الحارة والدكاكين والمحتويات هي صور إيحائية لما هو في داخل هذه البيوت، وهي صورة مادية ملموسة للانتماء الطبقي. مثل هذه المدينة يسكنها أناس يعملون بمهن يدوية، وغالبا ما تكون هذه المهن شعبية، فهم "البائع المتجول، وناقل الحجارة، وبائع الكاز والكازوز والخبز والكعك وماسح الأحذية، ومن لا عمل له، والاسكافي، والخياط، والخبّاز، والحلّاق، واللحّام، والموظّف الصغير". (ن. م)

لا ينسى الكاتب أيضا أن يعطينا صورة للملابس التي يرتديها الناس من رجال ونساء، بل يتعدى ذلك إلى وصف لباس النساء المسيحيات اللواتي "خرجن من إطار هذه التقاليد، فبدأت أكمام الفساتين وأذيالها تنحسر عن السواعد والسيقان في تقليد لا صنعة فيه، وزينة بائسة لا تناسق بينها، وأصباغ فاقعة صارخة تضحك الرجال حينا وتثير غضبهم حينا آخر". (ن. م، ص30-31)

بعد هذه التفاصيل الدقيقة لشكل المدينة وأحيائها، ولباسها ومأكلها ومشربها لا يترك لنا الراوي مجالا للتخمين والتحليل، فالطبقية مستشرية بشكل واضح، باد للعيان من خلال موقع البيوت وشكلها، ومن خلال الأشغال التي يمتهنونها، "أما التقسيم الطبقي للحي فكان ملحوظا فقط في بيوت السكن؛ الطوابق العليا للأغنياء، والطوابق السفلى والأقبية للفقراء، وكان عدد الأغنياء يتناقص عاما بعد عام، وعدد الفقراء يتضخم سنة بعد أخرى". (ن. م، ص30) وفي ظل هذه البيئة تدور الأحداث، فالكاتب عمليا وظّف هذه البيئة الشعبية خدمة للأيديولوجيا التي يسخِّر معظم رواياته من أجلها. فهل نفاجأ حين نرى أهل الحي والأحياء المشابهة يتكاتفون سوية ضد الاحتلال؟ أو هل نستهجن حين يتعارك أهل الحي مع أصحاب رؤوس الأموال ويساقون إلى السجن ثم يخرجون "رجالا" وقد خاضوا تجربة النضال؟

لقد بالغ مينة في وصف المدينة من الداخل والخارج فاقترب، نوعا ما، بسبب دقة التفاصيل، من المؤرخ، وكان عليه أن يكتفي باللمحة الدالة واللغة المكثفة بعيدا عن الإطناب. فلم يترك للقارئ مجالا للحدس والتفكير.

إن صورة المدينة، كما رأيناها في المصابيح الزرق، بأهلها، ناسها، عاداتها، تقاليدها، جوها ومحيطها يتكرر في العديد من روايات مينة مثل الشراع والعاصفة، ثلاثية حكاية بحار، نهاية رجل شجاع (1989) حارة الشحادين (2000) وصراع امرأتين (2001)، بل إن التجارب الحياتية تعود على ذاتها في معظم هذه الروايات. إن المشترك بينها هو مدينة اللاذقية، ولن نكتشف جديدا حين نقرأ رواية المستنقع حيث المدينة هي الإسكندرونة، (للتوسع انظر: دراسة الغريبي) لأننا سنقع على نفس المواصفات شكلا وروحا، إنها حالة من البؤس ومن الفقر المدقع، إقطاع واستغلال وصراع متواصل من أجل لقمة العيش في ظل الحرب العالمية الثانية. إن اختيار مينة للحي الشعبي يدخله في عمق المجتمع حتى يتسنى له النظر من الداخل لا من الخارج، وهي تجربة قد خاضتها الرواية العربية من قبل ومن بعد، لعل من أشهرها رواية زقاق المدق (1947)، وملحمة الحرافيش (1977) للكاتب نجيب محفوظ.

الغربة-البلبلة والبحث عن هوية

إن أدب الغربة، ليس بجديد على الأدب العربي، شعرا ونثرا. فقد كوّن الحنين إلى الديار عاملا هاما من وجدان الشاعر العربي منذ العصر الجاهلي. وجاءت تجربة أدب الرحلات في القرون الوسطى لتضاف إلى هذا الرصيد، ثم تجدد هذا الحنين في أدب العصر الحديث منذ تخليص الإبريز في تلخيص باريز (1834) لرفاعة الطهطاوي (1801-1873) مرورا بالطبيب الحلبي فرنسيس مراش (1836-1873) صاحب غابة الحق (1865) وتجربة أدب المهجر، فضلا عن تأثير تجربة الغربة على الكثير من الأدباء منذ محمد حسين هيكل (1888-1956) وروايته زينب (1913)، مرورا بكم هائل من الروائيين العرب في القرن العشرين. بل قد رأينا ما هو مشترك بين بعض الروائيين الذين تطرقوا لهذا الموضوع إثر تجربتهم الشخصية في الغربة، مثل توفيق الحكيم (1898-1987) في عصفور من الشرق (1938)، ويحيى حقي (1905-1992) في قنديل أم هاشم (1940) وسهيل إدريس (1925-2008) في الحي اللاتيني (1954) وبهاء طاهر (1935-) في الحب في المنفى (1995) وغيرهم. (بدوي، ص145-146) فهل دوافع الكتابة لدى هؤلاء هي نفسها لدى مينة؟ وهل غربة مينة هي نفسها غربة من سبقه؟

إن "رحلات" التشرد المتعددة التي فرضت على حنا مينة، داخل الوطن وخارجه، قد زادت من قناعته بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، فجاءت شخصياته لتعكس هذا الواقع المر. لقد تشرّد في طفولته في قرى لواء الإسكندرونة مع والديه وأخواته بحثا عن لقمة العيش. ناموا في العراء وفي حقول الإقطاعيين، طردوا واستغلوا وأهينوا دون انقطاع، فرأينا ذلك منعكسا بوضوح في بقايا صور (1975) وفي المستنقع (1977). ثم جاءت رحلة التشرد الثانية في أعقاب القرار بضم اللواء إلى الأتراك (1939)، فكان على هذا الشاب الصغير الذي يمر مرحلة البلوغ والمراهقة، مع ما تحمله هذه الكلمة من معان، أن يذوق طعم التشرد والفاقة والحرمان، والعمل في حقول الإقطاعيين بما فيه من ذل وهوان، فجاءت رواية القطاف (1986)، الرواية الثالثة في رواية السيرة الذاتية. ثم كان عليه أن يذوق تجربة الغربة مرة ثالثة خارج سوريا (1959-1967)، ليعود إلى الوطن من جديد، بعد هزيمة حزيران، على أمل بداية أفضل تضع حدا للتشرّد والهزائم، فما أن يحطّ قدميه في مطار دمشق حتى يعتقل، كما أشار إلى ذلك في خاتمة روايته الربيع والخريف (1984)، وذلك "في السابع عشر من أيلول عام 1967. (انظر الربيع والخريف: ص327-328)

لكل مرحلة من هذه المراحل ميزاتها الخاصة وتجربتها الخاصة، ففي المرحلة الأولى، حيث البطل كان لا يزال طفلا، هناك جوع، تشرد، خوف، فقر مدقع وقلق من الآتي. وفي التجربة الثانية يتكرر المشهد الأول، لكن الفتى الآن في جيل المراهقة ينظر إلى الأمور بوعي أكبر. وأما في الثالثة فالمغترب رجل بالغ، مجرب، مثقف، كاتب معروف وصاحب رؤيا، لكننا، مع ذلك، نميز بين تجربتين متباينتين: التجربة اللبنانية، وتجربة الغربة خارج العالم العربي. تنعكس التجربة اللبنانية في روايته الثلج يأتي من النافذة (1969) حيث الأجواء عربية، وحيث هناك مجموعة من الأصدقاء بقرب البطل يرشدونه ويعينونه على مواصلة الطريق، لكن الثلج يتسرب إلى جسمه وهو بعيد عن دفء الوطن والأهل، هنا بالذات يعيش ألمين، ألم الملاحقة والتعب الجسماني، والألم الممض الحارق النابع من عذاب الضمير بسبب بعده عن مركز النضال الذي يخوضه رفاقه في الوطن. أما تجربة الغربة في الدول الأجنبية في بلغاريا، هنغاريا والصين فلها طعمها الخاص، هنا لا أهل ولا أصدقاء مقربون، بالأحرى هو محيط أجنبي؛ شكل الشوارع، شكل البيوت، العادات، التقاليد، الناس وطريقة تصرفهم، إن محيط الناس هنا مختلف عن محيط الغربة العربية. والبطل، هنا، يسكر ويشرب كثيرا ويعاشر النساء، كتعويض عن الغربة والأهل: "فكر هل الغربة هي مصدر هذا الإحساس بالقلق، أم أنني قلق بطبعي؟ لم أعرف الهناءة في الصين، وظني أني لن أعرفها في المجر، برغم هذا الجو من الحياة الاجتماعية الغنية التي أنا مقبل عليها، وهذه العاطفة التي تبدت اليوم في عيني بيروشكا". (الربيع والخريف، ص84، يتكرر مشهد الغربة عدة مرات في الرواية انظر مثلا: ص252، 270، 302) يعود هذا الموقف على ذاته في تجربة الغربة الصينية، يشعر البطل بتأنيب الضمير لأنه يعيش بعيدا عن الوطن حيث كان جزءا فاعلا من النضال، لا مجرد مناضل ثانوي، فيقول لنفسه: "رخص! صرخ بأسف وبغير كلام. كل شيء رخيص بين أكثر هؤلاء الأجانب الذين لا أرضهم محتلة، ولا حقوقهم مغتصبة مثلي، لكن ماذا أفعل؟ البيئة دوامة. الغربة قذرة، وهذه هي الآن بيئتي". (حدث في بيتاخو، ص114)

إن تجربة الغربة التي تنعكس في الربيع والخريف (1984)، وفوق الجبل وتحت الثلج (1991( وثلاثيّة حدث في بيتاخو (1995)، التي تعكس التجربة الصينية، هي، برأينا، غربة أقل حدة من تجارب الغربة الأخرى. إن البطل، هنا، يلبس كفوفا من حرير، له راتب شهري، بيت ووسائل راحة تضمن له العيش الرغيد من مشرب ومأكل ونساء يتهافتن عليه من كل حدب وصوب. يتحيز البطل لأسلوب الحياة في أوروبا الشرقية ويفضله على أسلوب الحياة في الصين، وقد لاحظ غيرنا ذلك. (انظر على سبيل المثال: وتار، 2000، ص33-34) لكنه، مع ذلك، يظل يحلم بالوطن والأهل، ويظل على أمل العودة إليهما في يوم من الأيام. أما غربته الأقسى التي لم يتطرق إليها النقاد والدارسون فهي تجربة حمامة زرقاء في السحب (1988)، وهي تجربة إنسانية مميزة مسّ من خلالها الكاتب تجربة البحث عن الشفاء خارج الوطن. تُنصح الابنة المصابة بمرض عضال بالسفر إلى إنجلترا لتلقي العلاج، فكان الموت المحتم قدرا لا مهرب منه، تموت ابنته، ويموت الفلسطيني المريض أيضا، بعيدا عن الوطن، أما الوالد المرافق فيعيش العذابين، عذاب الابنة وهي تحتضر أمام ناظريه بعيدا عن العائلة، وعذاب الفراق والغربة والذل والهوان بكل أبعاده. فلماذا نلجأ إلى بلاد قصية حين تلم بنا مصيبة، أو نصاب بمرض عضال؟ سؤال يطرح من أوسع أبوابه في حمامة زرقاء في السحب.

الغربة في كل الأحوال قاسية، هكذا صورها مينة، منذ روايته الثانية الشراع والعاصفة. إنها الغربة عن المحيط الذي اعتاد الإنسان على الحياة فيه، يرفض البطل أن يعيش على البر بعد تجربة طويلة في مقارعة البحر وأنوائه، ويظل حالما بالعودة إلى محيطه، إلى بحره الذي يعشقه. (شكري، ص236-237)، وفي ثلاثية السيرة الذاتية هي طفولة مفقودة، وفي الثلج يأتي من النافذة (1969) هروب من المواجهة وعذاب ضميري حاد، حتى تكتمل شخصية البطل بفضل التجربة، كعامل بناء أولا، وفي معمل مسامير ثانيا، وفي المطاعم ثالثا، حتى يصلبّ عوده ويرجع للمواجهة، "وفياض المناضل، المثقّف والأديب، الهارب، يعيش أزمته الخاصة من خلال الأزمة العامة، إنه يعي ذاته ومن خلال هذا الوعي، يكتشف مرارة الواقع". (زيادة، ص109-110) وفي التجربة الأوروبية، يعمل البطل محاضرا جامعيا لكن الحنين يكاد يقتله، فيلجأ إلى معاشرة النساء وشرب الخمرة ويترهل مفهوم النضال. يخوض بطل الغربة الصينية تجربة مشابهة، إذ، بالرغم من كونه موظفا حكوميا رسميا إلا أن شعور الذل والمهانة يلاحقه، فينغمس، هو الآخر، في الملذات فتولد حالة من المفارقة بين الشعار والممارسة. فماذا يقدم للمجتمع؟ وماذا يقدم لنفسه ولشعبه؟ أسئلة لا إجابة مقنعة لها.

إنها الغربة في كل الأحوال، ذاق الكاتب طعمها المر فجعل أبطاله يتذوّقونه هم أيضا، فتجلت على مستوى الداخل والخارج، فكانت غربة البحار على الشاطئ، وغربة المناضل خارج وطنه، وغربة المواطن المبعد عنه لتبنيه فكرا مناقضا لفكر السلطة.

خلاصة

تتعدّد فضاءات مينة الروائية، من قرية ومدينة، بر وبحر، شرق وغرب، وتتغير، تبعا لذلك، شخصيات رواياته. فالقرية هي عالم ضيق تحده أطر محددة تلجم فكر الناس وتقيد مجالات تطورهم نظرا لسيطرة الإقطاعيين على معظم الأراضي، كما ينعكس ذلك، بالأساس في ثلاثية السيرة الذاتية. أما المدينة، مدينة مينة، فهي أحياء شعبية فقيرة، شأنها شأن القرية ترزح تحت نير الفقر، وتتعارك مع الطبقية والانتهازية على أمل الفوز بحياة حرة كريمة. أما فضاء البحر فهو فضاء مينة المميز، فهناك فئة من الناس تبحث عن لقمة عيشها، هي الأخرى، في هذا المحيط الذي يتعارك فيه أصحاب المواعين في السيطرة على مصادر الرزق، على حساب البحارة والعمال الصغار.

رأينا الكاتب تبعا لذلك يخصص مفردات تتلاءم مع هذه البيئة المميزة، وبالتالي تتلاءم مع شخصيات ترتبط بها. فلعل حنا مينة يقصد أن التحرر يجب أن يشمل البر والبحر كي يكون الخلاص متكاملا سويا غير منقوص. أما الغاب فهو مرحلة انتقالية يعبر منها الإنسان، بعد التطهر من عالم المدينة، حيث التلوث البيئي والصراعات الطبقية والتناحرات السقيمة، إلى مجتمعه وإلى بيئته التي خرج منها لأن له دورا عليه تأديته في خدمة البيئة التي خرج منها.

يخرج مينة من الإطار الضيق على الصعيد المحلي، وينقل لنا تجربة المواطن السوري في غربته القسرية، فيتم التعرف على الآخر في هذه البيئة المغايرة؛ حضارة أخرى، وفكر آخر، وبين هذا وذاك يتخبط المغترب ويصاب بالبلبلة، وتضيع الهوية، أحيانا، تبعا لذلك، ويظل الحنين إلى الوطن يهجس في الصدور على أمل العودة.

يعمل مينة، من خلال اللغة وتفصيل الوصف، على تجسيد الأمكنة وتصويرها بدقة متناهية، مفرطا أحيانا، كما في رواية المصابيح الزرق والشراع والعاصفة حتى لتكاد تلمس البيوت والشوارع والأزقة، مختصرا دور المتلقي في التحليل والتخيّل. ومكثّفا موحيا، أحيانا أخرى، كما في رواية الياطر فيتحوّل الغاب من مجرد موقع جغرافي إلى موقع متخيَّل مفتوح للتأويل والرمز والإيحاء.

ثبت بالمصادر والمراجع

المصادر:

مينة، حنا. بقايا صور. ط4. بيروت: دار الآداب، 1984.

مينة، حنا. الثلج يأتي من النافذة. ط2. بيروت: دار الآداب، 1977.

مينة، حنا. حارة الشحادين. ط1. بيروت: دار الآداب، 2000.

مينة، حنا. حدث في بيتاخو. ط1. بيروت: دار الآداب، 1995.

مينة، حنا. حكاية بحار. ط4. بيروت: دار الآداب، 1991.

مينة، حنا. الدقل. ط2. بيروت: دار الآداب، 1984.

مينة، حنا. الربيع والخريف. ط2. بيروت: دار الآداب، 1986.

مينة، حنا. الشراع والعاصفة. ط6. بيروت: دار الآداب، 1989.

مينة، حنا. الشمس في يوم غائم. ط6. بيروت: دار الآداب، 1993.

مينة، حنا. صراع امرأتين. ط1. بيروت: دار الآداب، 2001.

مينة، حنا. عروس الموجة السوداء. ط1. بيروت: دار الآداب، 1996.

مينة، حنا. المرفأ البعيد. ط1. بيروت: دار الآداب، 1983.

مينة، حنا. المستنقع. ط2. بيروت: دار الآداب، 1979.

مينة، حنا. المصابيح الزرق. ط2. بيروت: دار الآداب، 1977.

مينة، حنا. المغامرة الأخيرة. ط1. بيروت: دار الآداب، 1997.

مينة، حنا. نهاية رجل شجاع. ط1. بيروت: دار الآداب، 1989.

مينة، حنا. الولاعة. ط1. بيروت: دار الآداب، 1990.

مينة، حنا. الياطر. ط3. بيروت: دار الآداب، 1984.

المراجع

باختين، ميخائيل. أشكال المكان والزمان في الرواية. ترجمة: يوسف حلاق. دمشق: منشورات

وزارة الثقافة، 1990.

باختين، ميخائيل. "المتكلم في الرواية". ترجمة: محمد برادة. فصول. 3:5 (إبريل- يونيو 1985): ص104-117.

بارت، رولان. مبادئ في علم الأدلة. ترجمة: محمد البكري. الدار البيضاء: دار قرطبة، 1986.

بدوي، محمد مصطفى. "رواية الغربة: الحب في المنفى". فصول. 3:16 (شتاء 1997): ص145-157.

برادة، محمد. فضاءات روائيّة. الرباط: منشورات وزارة الثقافة، 2003.

بوجاه، صلاح الدين. الشيء بين الجوهر والعرض. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات، 1993.

زيادة، غسان. قراءات في الأدب والرواية. بيروت: دار المنتخب العربي، 1995.

شكري، غالي. معنى المأساة في الرواية العربية-رحلة العذاب. ط2. بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1980.

صالح، صلاح. ممكنات النص. اللاذقية: دار الحوار، 2000.

طرابيشي، جورج. الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية. بيروت: دار الطليعة، 1993.

عطية، أحمد محمد. أدب البحر. القاهرة: دار المعارف، 1981.

الغريبي، خالد. التناقض والوحدة في رواية المستنقع لحنا مينة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995.

الماضي، شكري عزيز. "الدلالة الاجتماعية للشكل الروائي في روايات حنا مينة". فصول. 3:8-4 (ديسيمبر 1989): ص142-161.

مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد. الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 1998.

مينة، حنا. الأبنوسة البيضاء. ط5. بيروت: دار الآداب، 1990.

وتار، محمد رياض. شخصية المثقف في الرواية السورية. دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2000.

ياغي، عبد الرحمن. البحث عن إيقاع جديد في الرواية العربية. بيروت: دار الفارابي، 1999.

المراجع بالانجليزية

Allen, Roger The Arabic Novel, Historical and Critical Introduction. Manchester: University of Manchester Press, 1982.

Elad, Ami. The Village Novel in Modern Egyptian Literature, Berlin: Klaus Schwarz Verlag, 1994.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى