الخميس ١٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم إياد حسين عبد الله

فــن التصـميم نسـق المعــرفة المركبــة

فن التصميم كأحد روافد المعرفة ونتاج الحضارة الإنسانية على المستويات الفكرية والجمالية والإنتاجية، غالبا ما يتجاذب التأثر والتأثير في جوانب مختلفة من العلوم والمعارف بصورة فاعلة، في عالم يشكل مجموعة لامتناهية من الأشياء والموضوعات التي تؤثث الحياة البشرية وتجعل منها كيانا قابل للادراك والمعاينة والتغيير، بل أن كل هذه الاشياء تحيا وتتوالد من جديد وتقوم باحالات ذاتية فيما بينها. وفي الوقت الذي يستوعب هذا العالم داخله سلسلة من الأشياء وينتج عبر ميكانزماته الخاصة نمط ادراك هذه الأشياء، تنضوي جميعا ضمن أنساق تحدد لها شكل وجودها، وأنساق تصر على الاكتمال والوقائع تظل مستعصية على الانصياع، كحالات التشابه والتنافر والتطابق. ولأن المدرك بالبصر والبصيرة غير الملموس باليد أو البعيد المنال وذلك يدعونا الى التحرر من الحضور العيني للوقائع، وعلى قدر ما يمثل ذلك قوانين تكسير الرؤية في الفضاء، كالصوت الذي لايملك صدى الصوت الذي يبحث عن صدى، الا أن ذلك النظام يلغي التسيب والفوضى والسديمية واللامعنى ويشكل بؤرة تتجلى فيها المحسوسات القابلة للاشتغال كتمظهر للمعنى الانساني. من أجل فتح المياسم المعرفية وكشف المساحات التي تتطلب المزيد من التنقيب.

إن حوار الانساق الطامحة للانغلاق والتناظر وادراك كل العلاقات الخفية التي تربط بينها في اطار الاشكالية الحضارية تتطلب ايضا انجاز منظومات مصطلحية تجسد الانساق المفاهيمية والتي ليس في الامكان تكوينها بعيدا عن اسئلة العصر ومنجزاته العلمية.

إننا في فن التصميم إزاء سياحة فكرية عميقة تشارك العديد من البنى الفكرية للانساق المعرفية من اجل الكشف عن جوانب عديدة في بناء الثوابت الشكلية الموزعة على محوري الزمان والمكان وتاسيس سلم احالات داخلية تحرك الصدى وتكشف عن الخطابات الجمالية والوظيفية لفن التصميم في جانبين اساسيين :

الاول : البناء الثقافي الذي يختص بالمعاني العلمية والفنية والروحية كجزء من الحضارة.

والثاني : بناء حضاري يجسد المعاني المادية والتقنية والاشياء التي نستعملها والتي تحتضن المنظومة ثقافية

التي امتصها الفرد اصلا من بيئته عبر مختلف اشكال التنشئة الاجتماعية. وقد انعكست الثقافة في حياة الافراد والجماعات على شكل منظومة متكاملة من القيم الروحية
والمعرفية والجمالية والاخلاقية لتشكل بمجموعها كلا مترابطا ندعوه بالنسق القيمي.

لعل في مقدمة ذلك الارث الفلسفي والجمالي والعلمي والتقني والعلاقات المتذبذبة بين الانسان وحاجاته الاساسية في البيئة التي يحيا فيها، في محاولة الى تحقيق قدر اكبر من التناغم والتوازن معها وفي تقديم حلول مستمرة للاشكالية القائمة بينه وبين الطبيعة، وكان ذلك بمثابة الاختبار المستمر للانسان على البقاء والكشف عن قدرات جديدة تتلائم مع المخاطر والتحولات المستمرة التي تحيطه. وهكذا لم تعد الفكرة قادرة على انجاز هذه التحولات دون مهارات علمية وعملية تحول تلك الافكار الى معطيات مادية حقيقية، كما لم تكن فرصة تلك المعطيات المادية ان تظهر للوجود دون ان تجسدها مادة وخامة واداة وتقنية تكشف عن سر الفكرة وفاعليتها.

كل ذلك نشاة وتطور في اطار فلسفي مع نمو اولى التجمعات البشرية وتحولاتها واختلافها مع حركة المجتمع، فكان للفلسفة ان تتخلى عن اهدافها القديمة كما تخلى الفن والجمال عن الكثير من تاسيساته واهدافه.

إن الفلسفة منذ عهد فيثاغورس – ولد سنة 530 قبل الميلاد – والفيثاغوريين من بعده كانت علما للقوانين العامة للوجود والذي يتكون من الطبيعة والمجتمع، ومن التفكير الانساني وعملية المعرفة، اي ان مشكلتها الرئيسية كانت في علاقة الفكر بالوجود، والوعي بالمادة، وسعت كل المذاهب الفلسفية بعد ذلك لتقديم حل متطور لهذه الاشكالية ومن هذه الفلسفات، الالهية، والمثالية، وفلسفة التاريخ، والفلسفة التحليلية، والمادية، وفلسفة الحياة، الفلسفة الطبيعية، واللغوية، والعلمية، والمحايثة، والمدرسية، وفلسفة الهوية.

وكان لكل هذه الفلسفات مناهج فكرية حددتها طبيعة المجتمع وحركته وتحولاته في البيئة الشاملة في الزمان والمكان. فالمادية على سبيل المثال، حددت مرتكزاتها الاساسية منذ نشوئها، واعتبرت المادة اولية والفعل او الوعي ثانوي، وان هذا الوعي هو نتاج المادة ولا يمكن اكتماله دون نمو المعرفة التي تزيد من سلطان الانسان على الطبيعة، ولا بد من تحويل هذه المرتكزات الفكرية الى منطلقات نظرية بعد ان تعددت صور المادية، الى جدلية، والية، وتاريخية، واقتصادية، وتجريبية، ونقدية، وميتافيزيقية.

ويظهر التأثير الكبير لهذه المرتكزات الفكرية والمنطلقات النظرية على شتى روافد الفكر والمعرفة في حياة المجتمع حين تجسيدها كتطبيقات عملية في المجالات، الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، والفنية.

في ضوء حركة المجتمع والحياة والكون والانسان في رؤيته وحاجاته التي فرضتها مستحدثات الامور وتحولاتها، غابت مناهج ونظريات واستحدثت مناهج ونظريات، كما ظهر ذلك جليا في كل العلوم ومنها علم الجمال ونظرياته، ومدارس الفن واساليبه.

إن محاولة تفهم (الجمال)في الفن عموما والتصميم خصوصا والنفاذ الى قيمته الفنية لا يقصد منها تحديد معايير للجمال فيهما او وضع قواعد للتطبيق في مضمار الانتاج الفني وانما التوصل الى مرتكزات نظرية غايتها المعرفة التي توضح اشكالية العلاقة بين الجمال والوظيفة، وقد بدأت هذه الاشكالية منذ ان اثارها كتاب " كانت الشهير " (نقد ملكة الحكم)سنة 1790 بمثابة الحدث الاكبر في تاريخ الدراسات الفلسفية الجمالية، اذ اثار هذا الكتاب من المشكلات الجمالية ما لم يكن للفلاسفة لهم به عهد من قبل، مثل مشكلة الحكم الجمالي، ومشكلة صلة الشكل بمضمون العمل الفني، ومشكلة علاقة الفن بالطبيعة، ومشكلة تصنيف الفنون، ومشكلة الصلة بين الجميل والجليل.... الخ. ثم تعاقب الفلاسفة المحدثون من بعد " كانت " وعلى رأسهم "شلنج وشيلر وهيجل" وغيرهم فأولوا الفلسفة الجمالية الكثير من عنايتهم وقدموا الكثير من النظريات القيمة في تفسير ماهية الفن، وشرح صلته بالواقع وتحليل طبيعة العمل الفني ودراسة نوعية الحكم الجمالي.

ولسنا هنا بصدد استعراض هذه النظريات والتيارات الفكرية التي تأثرت بها والتي ظهرت في هذا العصر رغم ان الحاجة تدعو ذلك، والا كيف يمكن ان نفهم مثلا نظرية برجسون في الفن ان لم نكن على علم بمذهبه العام في (الحدس )؟ او كيف يكون في وسعنا ان نقف على جوهر (الخبرة الفنية )عند جون ديوي ان لم نكن على دراية واسعة بنزعته التجريبية المتطرفة واتجاهه البراغماتي الواضح؟ او هل يتسنى لنا ان ندرك معنى (العمل الفني )عند هيدجر، اذا لم نكن على وعي تام بنوع اتجاهه الفكري، وطريقته (الفنومنولوجية )في تحليل الظواهر البشرية؟... الخ.

وفي التصميم كعلم وفن يعيش هذه التحولات، وينمو بحركة الافتراض كباقي روافد المعرفة، لم ترسم بعد خارطته النهائية، بسبب ارتباطه المباشر بالحاجات الانسانية المتجددة والمتزايدة، فالنفعية، والتداولية، والوظائفية، ارتكزت عليها تلك الحاجات وحددت ابعادها، مع انها لا تستقر على حال ومتغيرة بتغيير المجتمع عبر الزمان والمكان.

وأصبح وجود الإنسان الواعي عبارة عن سيرورات من ابتكارات لتفاعل جدلي بين متطلبات خصائص مادية البيئة الطبيعية والحاجة التي يعيها، والتي تبتكرها مخيلته
فهو تفاعل يمكن ان نفهمه بكونه قوى كامنة في أربعة مقومات:

1 ـ القدرات الابتكارية التي يحملها الدماغ.
2 ـ المناحي الغريزية التي تحملها سيكولوجية الإنسان.
3 ـ القدرات الفسيولوجية التي يستورثها البدن.
4 ـ متطلبات البيئة المتعامل معها، سواء القائمة أم المتغيرة، أم المستحدثة من قبل القدرات الابتكارية ذاتها.

في حركة هذه المقومات الأربعة، يتحول التفاعل بين القدرات الابتكارية والمناحي الغريزية إلى طاقة تحرك سلوكيات الوجود. ومن جهة أخرى، يتحول مركب هذه الحركة ويتجسد ويصبح خزيناً معرفياً وعاطفياً. فتؤلف ذاكرة الأيديولوجيات والثقافات والطقوس والتقاليد، بما في ذلك ذاكرة الأديان وصيغ المعيشة والعلاقات العائلية والاجتماعية ومختلف صيغها الفئوية. فتتفاعل هذه الذاكرة من القدرات الابتكارية، وتصبح فعالة وتنضج، بقدر ما تتهيأ لها من فرص في التنظيم والتدريب والتعليم، سواء بسبب جهد خاص، أم حالة تنظيم المجتمع المتفاعل معها.

فأخذ الإنسان بالاعتماد على قدرات الابتكار المتفاعلة مع الذاكرة، يستحدث ويبتكر مصنعات تصميمية، بما في ذلك العمارة والعربة والملابس وأدوات الطهي. وبقدر ما يحس بصفات الإبتمال المحملة على أشكال هذه المصنعات، ويبتكر وينوع أشكالها، ويتأمل ويتفلسف فيها، ويبتكر لها وصفات وتعاريف، وبقدر ما يمنحها أهمية بالنسبة إليه، أي يمنحها قيمة، فاصطلح عليها بالجمال، والكمال والرشاقة والأناقة. واصطلح خلافاً لهذه القيم القبح، والبشاعة، والزيف وأداة نكد العيش. وهكذا تمكن الإنسان إرضاء الحاجة التي يعيها، والتي يبتكرها ويتعرض إليها.

وعد (فن التصميم )كنسق من المعرفة التي تفسر الجوانب المختلفة للواقع، ورغم تضمين هذا المصطلح كنقيض للممارسة او الغرض - المعرفة الافتراضية غير المحققة – واختلافها عن الممارسة، الا ان الممارسة والتطبيق اللتان تضع مشكلات ملحة امام التصميم تجعلها جزءا لا يتجزأ من بناء مرتكزات لهذه النظرية. وهكذا فكل نظرية مركبة في بنائها، فمثلا يمكن التمييز بين جزأين : الحسابات الصورية والمعادلات الرياضية، وبين الرموز المنطقية والقواعد..الخ.

إن بناء ومعالجة هذا الجزء الموضوعي من النظرية يرتبطان بفلسفة الفن وبمبادئ منهجية معينة في تناول الواقع، والتي جعلت فن التصميم يتحدد بالظروف التاريخية التي نشأت فيها، وبالمستوى التاريخي للانتاج والتقنية والتجربة والنظام الاجتماعي السائد.

ورسم الملامح الاساسية في فلسفة التصميم ستكون زاخرة بالعديد من النظم وذلك لتعدد تداوليتها في التأسيس لمناهج مختلفة ذات تطبيقات متعددة، فبينما هي في تداخل، مع البنية، والتأويل، والتلقي، والتفكيك، والحداثة وما بعدها. نجدها احيانا لا تكتمل رؤيتها الا حينما تتبنى بعضا من ملامح النظرية الاحتمالية، او النظرية الاستنباطية، او الاشارية، او الانعكاسية، او النمطية، او التطورية، او التماسكية، او التوالدية، او الرمزية.. الخ. ولكل من هذه النظريات مفاهيم وابعاد ذات علاقة وثيقة بالممارسة والتطبيق.

إن عملية التطبيق التي يشترك فيها الانسان مع الطبيعة بكل مواردها، يبدأ الانسان فيها بالسيطرة على تفاعلاتها المادية من اجل تحقيق اغراضه الواعية، وقد لخصها ارسطو (384 – 322 ق.م )بالنظرية السببية فكان لكل عمل تطبيقي ابداعي سبب مادي، وصوري، وفاعلي، ووظائفي. ولما كان العمل في التصميم عملا ابداعيا تقتضيه الحلول العاجلة لمشاكل الانسان مع المحيط والمادة، فتوجب على هذا النشاط الانساني التعامل مع قيم مادية وروحية جديدة لخلق واقع جديد يشبع المتطلبات المتعددة للمجتمع، من خلال طبيعة المادة التي تمدنا بها الطبيعة وعلى اساس قوة المعرفة بقوانين العالم الموضوعي.

إن الفعل الواعي الانساني بمراحله المتقدمة لا يتم الا كحصيلة لتطوره الانثربولوجي وبفهمه الدقيق من خلال الربط بين العقل والفعل والمادة، وعلى هذا الاساس فان عملية التصميم لا تكتسب خصائصها الابداعية، والجمالية، والوظيفية، الا بتوالد التطبيق من النظرية، والنظرية من المنهج الفلسفي الذي يرتكز الى قوانين تبحث في علاقة الفكر بالوجود، والوعي بالمادة.

وعلى هذا الاساس تواجه اشكالية التصميم العديد من التساؤلات لعل اهمها :

• هل يمكن تأشير ملامح خاصة لفلسفة التصميم تستمد نسغها من فلسفة الفن ومن نسق العلوم والمعارف المجاورة وكأمتداد لفلسفة الفن المعاصر بنظرياتها المختلفة؟

وبمعنى اخر هل يمكن الكشف عن اتجهات منهجية في التصميم كانعكاس للموقف الفكري السائد في كل ثقافة من الثقافات؟.

• هل ان هذه الفلسفة تتغير ملامحها المعرفية والية اشتغالها بتغير انتمائها الفكري والثقافي.

• هل تكتسب هذه الفلسفة خصوصيتها من خلال العلاقة الجدلية بين مؤسستين الاولى جمالية، والثانية ادائية نفعية وظيفية؟

• هل ان نظم الاداء والوعي بالمادة يبقيان بدون فاعلية حقيقية الا بفلسفة ترسم ملامح لنظرية واضحة المعالم لعملية التصميم؟

• هل ان النظرية في التصميم يتكون بنائها الموضوعي من خلال التركيب الفكري المتحقق لميزان الضروري والحاجات مع ما يوصف بالجمال والجمالية؟

• هل يمكن الكشف عن اتجاهات نظرية مختلفة لفن التصميم بما يحدد موقفه الجمالي من النظريات الجمالية السائدة في الفنون عموما.

• إلى اي مدى ستكون اشكالية العلاقة متغيرة في فلسفة التصميم بين النظرية والتطبيق، عاملا في استشراف افاق جديدة لاشباع حاجات انسانية جديدة؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى