الجمعة ٣ أيار (مايو) ٢٠١٩
بقلم حسين سرمك حسن

في الذكرى العشرين لرحيل شاعر العرب العظيم الجواهري

قصيدة”وحي الموقد”مفتاح فهم سلوكه الحياتي والشعري

ملاحظة: هذه المقالة مأخوذة من مخطوطة الكتاب الأول من”موسوعة الجواهري النقدية”الذي سيصدر للكاتب عن دار ضفاف قريباً

تمهيد: لكل شاعر نص مفتاحي

يتوفّر لدى أيّ شاعر مميّز كبير، نصّ أو أكثر، كاشفٌ، يمكن من خلال تحليله الشامل وفهم أسراره وفك فعاليته الرمزيّة، الولوج الى أعمق طبقات لا شعور الشاعر والإمساك بالعوامل الحاكمة التي تشكّل ليس نتاجه الإبداعي فقط، بل إستجاباته السلوكية وسماته الشخصية أيضاً. نصّ يكشف وحدة كيان المبدع في إمتزاج وجهي العملة، أو ما سماه أحد النقاد: الوجه الثالث للعملة. وهذا النص أو القصيدة-المفتاح، ليس شرطاً أن يكون نصّاً أو قصيدة مشهورة بين أعمال الشاعر، قد تكون قصيدة منسيّة أو قطعة قصيرة لا تثير، أحياناً، اهتمام واعتزاز الشاعر نفسه بنتاجه. وبسبب النتاج الغزير للجواهري يمكننا أن نجد أكثر من نص-قصيدة من هذا النوع. على سبيل المثال هناك نص (على قارعة الطريق) وهو المقدمة التي كتبها لديوانه المنشور عام1949؛ المقدّمة التي يعدّها جبرا إبراهيم جبرا أجمل ما كتبه الجواهري رمزياً. وهناك أيضا قصيدة (قفص العظام) التي كتبها بعد أن زار والدته التي اعتكفت في مرقد الإمام علي بعد استشهاد أخيه (جعفر) والتي يقول فيها:

تعالى المجدُ، يا قفصَ العظامِ
وبوركَ في رحيلكِ والمقامِ

فإذا طالعت البيتين السابع والثامن فيها ستجد أن رائحة النرجسيّة تتصاعد عارمة من حيث لا يدري الشاعر:

تعالى المجدُ يا أمَّ الرزايا
تمخضّ عن جبابرةٍ ضخامِ
تملّى القبرُ منها أيَّ عطرٍ
ووجهُ الأرضِ أيّ فتىً همامِ

القصيدة المفتاح في شعر الجواهري هي قصيدة وحي الموقد

لكن القصيدة التي تقدم لنا صورة شاملة عن شخصية الجواهري –خصوصا في تكوينها اللاشعوري الحاكم- والعوامل التي حكمت إبداعه، هي قصيدة (وحي الموقد)، التي نظمها في دمشق شتاء عام 1957 إثر حادثة أشار إليها الشاعر في القصيدة نفسها كما سنرى ذلك.
ويستهلّ الشاعر قصيدته هذه بوصف مبادرة من زوجته لأيقاد خشب الموقد في ليلة باردة:

إنّ عِرسي وهي جامحةٌ
فجّةٌ.. لونٌ من الأدبِ
جاءت الكانون توقده
وبه جزلٌ من الخشبِ

ومن هنا، من هذا الوصف السردي بعين الكاميرا، ينتقل الشاعر الى وصف (الوضع النفسي) لخشب الموقد إذا جاز التعبير. فهو يشعر بالرعب الذي يجتاح أوصال قطع الخشب التي إنزوت متراكبة فَرَقاً تترقب الموت الآتي مع لسعة عود الثقاب:

فوق بعضٍ بعضُها، طبقاً
لائذاتٍ.. صُنعَ مرتعبِ
خفنَ فاستسلمنَ عن فزعٍ
للمنايا.. شرُّ مرتقبِ
ومشى بردُ الرماد ِ بها
كتمشّي الموتِ في الرّكبِ

وهو إذ (يُسقط) حاله والبرد يجتاح أوصاله وهو في كهولةٍ هشّة سريعة التأثر، في الظاهر، فإنّه يوسّع إطار صورته الشعرية ليضفي عليها عالماً مُربكاً ومُحيّراً من (التضاد النفسي). فالجسد الخشبي الفزِع من الشرّ المقبل، مُمثلاً في النار الشيطانية هو الذي يحمل في أحشائه بذرة الخير التي ستتصاعد ألسنتها لتبعث الدفء في أوصاله. إنّ شيئاً ما يموت ويُحطّم كي تزدهر ديمومة شجرة الحياة الخضراء. خُضرةٌ في الجحيم، وهي معادلة غريبة وعجيبة تتحكم بكل معاني حيواتنا. ولكن النار، بفعلها المُميت المُحيي، شرّها المخبوء في خيرها أو بالعكس، هي أفضل ما يجسّد معادلة الموت والحياة. الشاعر (يشخّصِن) و (يؤنسِن) قطع الخشب الجامدة ويمنحها روحاً تستجيب وتتألم وتعتب وتترقب.. وهو يراقب رعبها المدمّر، هي التي يجتاحها البرد المميت منتظرةً سياط النار التي ستحييها وتدمّرها وتحيلها رماداً. يدُ زوجته المرتعشة تمتد بتردّد وقلق فلا تُفلح في إذكاء جذوة النار. وهو يراقب بتبرّم ويتصاعد نفاد صبره بفعل تململ شحنات العدوان اللائبة في أعماقه بعد أن تماهى (مازوخياً) مع قطع الخشب المرتعشة فرقاً. ولكنه تماهٍ طارئ ومؤقت. فالمنايا التي استسلمت لها قطع الخشب لم تأتي في الواقع من عود ثقاب الزوجة المرتعشة الخائفة بل من أعماق روح الشاعر النارية الملتهبة:

خلتُها والعودُ يلمِسُها
تثقلُ (الكبريتَ) بالعتبِ
فتأبّت ثمةَ إرتعدت
ثم أقعتْ ثمّ لم تثبِ
وأنبرتْ عن يأسِها سكني
هرّةً مفضوحة الغضب
الجواهري اختصاصي إشعال الحرائق

يأست الزوجة ونفثت غضبها الصارخ في وجه خيبتها وفشلها في عملية إشعال الحريق الصغير، فتدخّل الشاعر “المُجرّب “وهو “اختصاصي إشعال الحرائق الخبير”، بعد أن نفد صبره، دافعاً ومشجعاً، فقد اعتاد طوال حياته لا على إشعال الحرائق والتمتع بالخراب حيث تأتي الحياة على أنقاضه فحسب، بل على التشجيع عليها ودفع الآخرين الى ألسنة جحيم المواجهات الماحقة:

قلت: أَذكي –ويكِ- جذوتَها
فأريحيــــــــها مـــــــــــن التعبِ
أطعمــــــيها الزيــــتَ يمشي بها
مشيةَ الكُفرانِ في السَغِبِ

وهنا تأخذ الرأفة طابعاً مميتاً وعاصفاً، وتنتقل حدّة الوصف الى درجة قصوى تكشف درجة هائلة من العدوان المتراكم والموشك على الانفلات الجموح ودخول دائرة الحماسة”الاندفاعية الساديّة". وحدّة وشمول بل قسوة الأوصاف والتشبيهات التي نضفيها على موصوف ما، تنطلق عادة من قاموس لغوي نفسي تأسّس وترسخ عبر الارتباط بينبوع دوافعنا المكبوتة ورغباتنا المُعطّلة، التي تتململ وتضغط مُحاوِلةً أن تجد لها منفذاً. إنّ قطع الخشب تتعذب.. تتعذب كمن ينتظر حكم إعدام يؤجل مراراً بفعل خيبة الزوجة، ولكن الشاعر يتحمس ويدعو الى إراحة هذا المسكين المحكوم بحرقه أو بشنقه ألف مرّة جزاءً وفاقاً بسبب آلام التعطيل والتأجيل وإنّها والله لقسمة ضيزى، ولكنه المكر النفسي الشيطاني المُحكَم؛ مكر اللاشعور. أي أنّ درجة الجزاء، في كمّه ونوعه، غريبة جدا ًومُفرطة. فقد نُقل الحال من واقع إحباط سبّبه تعطيل عود ثقاب أثار حنق ونقمة الزوجة وقطع خشب الموقد على حدٍّ سواء. وحنق الزوجة مفهوم فهو مُعطى من”الخارج"، ولكن حنق قطع الخشب”المسكينة”التي تنتظر ماردها الناري”مُسقط”من ذات الشاعر، من”الداخل"، والشاعر معروف بانفعاليته العالية الجائحة وغضبه المشتعل ونوبات نزقه الحارقه، وكلها أوصاف مرتبطة بالنار، فهو صاحب النرجسيّة”النارية".

ومن الواضح أن تعطيل الإشعال وتأخّر الحريق لا يوتّر أعصاب قِطع الخشبِ لكنه”يحرق”أعصاب الشاعر الذي يريد حسم الأمر ليس بجذوة ثقاب بل بـ”حريق”هائل لا يُبقي ولا يذر، يشبه حدّة الكفر الساري في عروق الجائع المحروم. ولأنّ التوازن معدوم بين واقع الانتظار المُعطّل في جسد قطع خشب الموقد، وفي أعصاب الشاعر، وبين الرغبة في إشعال الحرائق بقوّة معبّر عنها بتحرّش دائب يجري في عروق الشاعر الذي ينقل سخطه من ساحة”موقد”صغير الى مجال كوني محرّمٍ فيه التجديف، فإنّ رجوح كفّة ردّ الفعل الناقم، هو معيارٌ ومؤشرٌ على شدّة شحنة الموت والدمار التي راحت تتصاعد ألسنتها. إنّ أذرع الحريق المُقبل وصخبه بات ينضج في أعماق الشاعر الذي يكفي حافز”ثقابي”ضئيل لإشعال”خشب”حريق نقمة هائلة في أعماقه كما هو الحال في مسيرته الحياتية التي يعترف بها هو نفسه. وهذه هي عادة الجواهري: الشاعر والإنسان، فعلى المستوى الشعري تجد أن مطالع قصائد الجواهري مُنذرة بحرائق هائلة. وكلما هبطت موجات النيران قليلاً أطعمها من زيت روحه فالتهبت وتصاعد صهيلها المُمزّق. أمّا في الحياة العامة فإن انفعالية الجواهري الضارية هي محط اتفاق جميع النقّاد ومن عاشوا معه برغم أن البعض يقولون أن الجواهري لا صديق له وأنه ينقلب على من يساندونه، وأعتقد أن هذا نتيجة للنرجسية العارمة.

يُشعل الحرائق في الشعر والحياة

وفي كثير من الأحوال يأخذ انفعال الجواهري صيغة (اندفاعية-Impulsivity) كما أشرنا في الفصل السابق، يعقب فيها التبصرُ والتفكيُر الفعلَ. إنّ هذه المفارقة بين أناة التفكير المتأخر وسرعة التصرف العجول تُفضي الى ندمٍ يتبعه انفعال واحتدام فاندفاع مُفرط قد يفضي الى ندم.. وهكذا في حلقة مفرغة لا تنتهي يكون نتاجها أحياناً إلحاق الضرر بالنفس. هاهي الزوجة المسكينة تمتنع وتستعيض مبتعدة عن اللعب بالنار وإشعال الحرائق حسب توجيه زوجها المنفعل:

(ليس هذا الجدّ من لعبي)؛

فهي تعرف ما معنى النار وما هي عضّات ألسنة الحريق:
إنّها أفعى.. وقد علقتْ
عضّةٌ منها.. على ذنبي
إي وأمّي.. أحرقت كتدي
فأطارته.. وشيبُ أبي

لكن الشاعر، وقد طفح كيله، يبادر الى إنجاز عملية إشعال خشب الموقد، ولكن ليس بطريقة الزوجة المتردّدة (المُجرّبة)، بل وفق ما اعتاده من دوافعه الضاجّة الصاخبة التي عجّلت وضاعفت من هذا الفعل الذي كان من الممكن أن يتم بصورة هادئة وبسيطة. لكن الحماسة”السادية”جعلته يُغرق الموقد بالزيت فتتحول العملية البيتية البسيطة وهدفها الدفء والاسترخاء الى حريق مُهدَد ينطوي على مخاطر جسيمة:

قلتُ هاتيه.. وثارَ لــــــــها
ضَرَمٌ كالبرق في السحبِ
شبَ في مبيض سالفتي
فكأنّــــــــــي بعــــــدُ لم أشـــــــــبِ
وأتى وجــــــــهي فلطّـــــــخهُ
كخليط البُسرِ والرطــــــــــبِ

فتثور زوجه وتنهره بطريقتها البسيطة التي دافعها الحرص دون أنّ تدري بأنّها تضع إصبعها على معقد دوافعه الشخصية والإبداعية:

هتفَتْ: بئستْ مغامـــرةً
ياابن خمسينٍ.. أأنت صبي؟
أوما تنفــــــــكُّ مُحتضــــناً
لُعبـــــــةً.. مـــن هــــذه اللُــــــــعبِ؟
راح في حرفٍ يزخرفهُ
وهــــو عــــن شــيء ســــواه غبـــــــي

ودون أن تدري هذه الزوجة المسكينة المحكومة ببراءة النوايا وطهر الدوافع أنها وضعت إصبعها على جُرح الإبداع ومنابع الخلق في شخصية زوجها فأهاجته. فهي لا تدري، وقد يكون ذلك من أسباب عدم نجاح زيجات الشعراء، أنّ زوجها الجواهري الكبير ما يزال في أعماقه صبيٌ لعوبُ يتمطّى عابثاً ومتعرّضاً وخطيراً، ذاك الصبي يشعل الحرائق بالزيت الفائض وعود الثقاب وهذا الشاعر يشعلها بالحرف. يشعلها حرائق صاخبة في ذاته وفي مجتمعه وفي حياته. وهذا الشاعر وغيره من المبدعين الكبار لا يكبرون أبداً. فمثلما يتعلم الطفل من محاولات التجربة والخطأ، نجد المبدع الكبير يحكمه القانون نفسه، ولكن مع تمويه وتغليف وتعقيد مبعثه إتقان الصنعة أو اللعبة الجديدة المدوّخة: اللّغة، لعبة زخرفة الحرف، كما تقول الزوجة، والرهاوة الجامحة في امتلاك أعنّة الكلمة الخالقة (إنّ عبارة (كن فيكون) المُعبّرة عن فعل الخلق والولادة تشبه –على المستوى النفسي- حريقاً داهماً).

عندما حاول أحد النقاد إعفاء الجواهري من مسؤولية محاسبته على مواقفه وفق مسطرة تقليدية تُطبق على السياسيين المنضبطين، فإنّه وبقبول شيء من التواضع لا يختلف كثيرا عن زوجة الشاعر في نقمتها التفسيرية، فهي تتحدث بصدق وبراءة فجّة عن إنّ زوجها الشاعر لا ينفك يلعب ويلعب، وإنّه قادر فقط على اللعب بزخرفة الحروف والكلمات، ولكنه ناكص، فهو طفل في تعامله مع شؤون الحياة اليومية. وهي بفعل درجة وعيها”اللاشعري”لا تستطيع توصيف هذه الحالة كسرٍّ من أسرار إبداع زوجها في الشعر والحياة. أمّا الناقد، وبفعل تماهيه الفائق مع الشاعر المُعجز، فإنّه يقر نفسه على إدراك ديدن الشاعر الشعري بصورة مغايرة حيث يفصله عن ديدنه الحياتي. أمّا الشاعر نفسه فإنّه يفحمهما –الزوجة والناقد معا- حيث يقول رداً على توبيخ زوجته له:

قلتَ يا هذي لو اخترمتْ
مفـــــــرقي شقّــــينِ لم أتُــــــبِ
أنا ذا من أربعينَ خلــــــتْ
أطــــــعمُ النــــــــــيران باللّــــهبِ
فإذا خفّت وضعتُ لــــــــها
خيرَ لحمي موضعَ الحطبِ

ولأنّ الدافع لتدمير الذات والدافع لتدمير الآخر إستحصالاً للذة وجهان لعملة واحدة كما قلنا، فإنّهما متلازمان في سلوك الشاعر وشعره المحكوم، في جانب منه، بهذه الدوافع. إنّ التركيب الناتج من أطروحة”السادية”وطباق”المازوخية"، مُستعيرين التعبير الهيغلي الشهير، يأتي مختلفاً تماماً ومنكّراً ولا يمكن في الكثير من الأحيان الإمساك بأصله. وفي الغالب يكون التركيب الناتج فعلياً يشي بالانبتات والانقطاع عن كلّ من الوجهين–الدافعين اللذين كوّناه. لأنّ إمتزاج أي دافع نفسي بآخر يؤدي الى (مركّب) تتغرّب فيه و"تستحيل”سمات كلّ من الدافعين المكوّنين له، فيستعصي على المراقب معرفة كُنه الفعل الحقيقي ولوازمه المُصمّمة له.
قال الجواهري ذات مرة إنّه كان يصحو على خطأه بعد (خراب البصرة) أي بعد أن يشتعل الحريق ويخمد ملتهما كلّ شىء. وخراب البصرة هذا مُوجع بالنسبة لمن يدفعه القدر الى هاوية كارثة شخصية أو مأساة لا يد له فيها. ولكن هذا الخراب ممتع ومطلوب لمن يسعى بفعل تركيب قوى نفسية معقدة ومغيّبة عن البصر الناقد الباحث عن المنطق والشعور المُعقلِن خلف كل فعل للشاعر. وهنا تصحّ بشكل يتجاوز كل دقّة المقابلة بين الفرد العادي، وتمثله هنا الزوجة، زوجة الشاعر، وبين المبدع الفذّ المصنوع من (تركيب) عصي على الفهم السطحي. وهذا ما يضعه الشاعر في صيغة مقابلة غير مستفزة:

نحن في العُقبى سواسيةً
نلتقي طوعاً على سببِ
أنتِ قد أوصتك شعلتُها
أن توقّــــيْ ســـــــوءَ منقلبِ
وأنا يُوحـــــى إليّ بــــــــــــها
أن تقحّـمـــــَني ولا تهَـــــــبِ
تقويض المنطق البافلوفي

فحفزة الألم تثير لدى الشخص (العادي-الزوجة) رد الفعل (البافلوفي) الفج إذا جاز الوصف: هناك مثير هو النار يسبّب الألم فاحذرْ واستجبْ بالطريقة التي تخلّصك نهائياً من مصدر الوجع هذا، أو، على الأقل، تخفّف تأثيره عليك. ويبقى تحديد السواء في ردة فعل هذا الفرد محكوماً بقياسه المنطقي، العقلاني، الشعوري الذي سيرشده الى سواء السبيل للتوقّي من سوء منقلب النار مثلاً كما حصل لدى زوجة الشاعر التي استعاذت وقررّت عدم اللعب بالنار. لكن هذا ما يحصل عادة لدى الفرد (العادي). أمّا بالنسبة لمبدعٍ مُبرز ومُعجِز من أمثال الجواهري فإنّها سُبّةٌ ومهانة أن تحكمه القواعد البافلوفية الآلية، لأنّه عن هذا الطريق تجفّ ينابيع الموهبة ويتوقف نهر الإبداع. بل يمكننا القول جازمين بأنّ سلوك الجواهري قد قوّض كل ما أسّسه (بافلوف) المسكين. هذا هو شاعرنا يقحّم مهاوي الألم والعذاب”مغيّباً”بفعل قوى اللاشعور”اللامنطقي”ظاهراً ليثبّت أركان قانونه الخاص. قانون النفس المبدعة الفذّ. استسقاء اللذة من الألم ومناقضة رد الفعل العادي المُعقلن الذي يقابل الألم بالتجنب أو الهرب:

أنتِ خيرٌ منهمُ سكني
تقتلـــــينَ الخــــــوفَ بالهربِ
وأنا أزكاكـــــــــمُ أربـــــــــــــــاً
أستشفُّ (الخيرَ) بالعطبِ

إنّ امتزاج الدوافع المعقدة وظهورها في صورة”تركيب”خادع ومغاير ليس نتاجاً متصنعاً جامداً، بل هو نتاج حيّ، ففي أحشاء هذا”التركيب”يقوم التفاعل الحرّ بين تلك الدوافع، وفي ذروة إخلاص الشاعر لواقعه الجديد وتلبّسه الصوفي به يتسامى نفسياً-وتبريرياً أحياناً- لتصبح جسارته غير الطبيعية في الالتحام بخبرات الألم وتجارب العذاب”وحياً”يُوحى، وليس لعبا صبيانياً وغباءً كما تقول الزوجة المسكينة التي ترتبط حلقات تداعي الشاعر حول من يمثل الجسور والمرتد عن مداعبة النار الحارقة فيربط بها، وبه، موقفين جديدين في سياق القصيدة:

وكذا يدري الجبانُ وغىً
فيسمّي الحـــــرب بالحَرَبِ
وترى نفسُ الشجاع بـــــها
لذّةً.. كالحكِّ في الجَـــرَبِ
قد حببتُ النارَ عن صَعَدٍ
وأثـــــرتُ النار عن حـــببِ

وبعيدا عن التفسيرات الفرويديّة التي ترى في التلذّذ هبوط وصعود ألسنة النار وبحكّة الأجرب المتكرّرة تعبيراً عن لذّة استمنائية -رغم وجاهة بعض هذه التفسيرات أحياناً- فإنّ تلذّذ الجواهري بصعود وهبوط ألسنة اللهب يعود الى هذه الحركة الدائبة في أحشاء ”التركيب” اللاشعوري الحاكم. هذه الحركة التي لم تهدأ ولم تكّل على مدى قرن من الزمان.. في الشعر والحبّ والسياسة وفي الحياة عموماً، وكانت مسؤولة عن إدامة جذوة شعر باهر وباذخ، وعن وتوهجّها رغم كل تيارات الريح المهدّدة التي كانت عاصفة في محيطه ووجدانه، في خارجه وفي داخله. ثم إنّ هذا التناوب بين صعود وهبوط مسؤول بالدرجة الرئيسية عن”تذبذب”و”تأرجح”الشاعر بين السلب والإيجاب في حياته، كما إنّه مسؤول عن ظاهرة”التكرار”في سلوك الجواهري وشعره.

الآن يمكننا إعطاء نظرة كلّية جشطالية (Gestalt) الى العنوان:”وحي الموقد"، فهو في الفهم المباشر وقبل إكمال تحليل القصيدة يعني ما تقدّمه صورة الموقد (أو توحي به) بألسنة نيرانها وما تشيعه من دفء ومن فرصة للشاعر للتداعي نحو أمور كثيرة. لكنه، أي العنوان، بعد التحليل ليس وحي خشب الموقد المُشتعل ولا الجلسة المسترخية الدافئة أمامه أبداً. إنّه وحي الشاعر العاصف الكاشف لصراعاته ومواقفه الوجوديّة. إنّها رسالة أو أمْرٌ من غيلانه وجِنّه القادم من وادي عبقر ؛ وادي اللاّشعور المظلم المخيف_، رسالة هي إشارة النهوض التام للدوافع الحاكمة.. نهوض شياطين الشاعر واستعدادها كي تتحزم للإبداع من خلال تقطيع اللّحم الحي لروح الشاعر وشيّه في موقد الشعر، حياةً كاملة متقّدة لا تهدأ جذوتها:

أُشعِلُ النيران لا رَغَباً
وأصالــــيها بلا رَهَبِ
غيرَ علمٍ.. أنّها سببٌ
لحياةٍ.. أيّما سببِ
البحث عن الخلود برغم إنكاره

ويستطيع القارئ والناقد على حد سواء أن يمسك بخيوط نسيج الغربة الذي يحيط بروح الجواهري في كافة مراحله الشعرية والعُمرية. ففي كل مرحلة تستطيع العثور على العديد من النصوص المعبّرة الكاشفة عن حيرة الجواهري وغربته العميقة، لكنها تأتي مع موجات متناوبة من الوضوح والانتماء والاستقرار النفسي سواء في نفس القصيدة أو في قصائد مستقلة. إنّ شعوراً بالموت ظاهراً أحياناً ومستتراً حيناً هو كرة الغزل التي تُسحب منها خيوط الغربة التي تحاول أن تحيط بنسيجها ذات الجواهري فتلوّن مزاجه وشعره إلا أنه -وبإرادة خارقة- ينهض من تحت رماده ليمزّق شبكة الاكتئاب والتشاؤم ويلقي بنفسه في خضم بحر الحياة واللذة العَرِم إلى أن يهوي مُتخماً، بل ومغشياً عليه، حينها ترفع شياطين تلك المشاعر المكبوتة بالموت وقابلية الفناء رؤوسها وتمد خيوطها لتنسج من جديد شبكتها السوداء حول نفسه ووجوده.. وهكذا. ومن الطبيعي أن يختلف طول كل ّموجة ويتباين لونها وحدّتها حسب وضع الشاعر النفسي وإحباطاته وظروفه الاجتماعية والسياسية.

وليس أدلّ على تناوب موجات الموت والحياة، الخلود والفناء، التشاؤم والتفاؤل واليأس والأمل من قصيدة (الرصافي) التي أشار إليها الدكتور علي جواد الطاهر في لقائه بالجواهري. فرغم أن الجواهري حاول تسفيه فكرة الخلود وتسطيحها وهو في بداية العقد السابع من عمره المديد إلا أن هذا الموقف المُنكِر لم يكن أكثر من”تكوين عكسي reaction formation وهي آلية نفسية دفاعية-defense mechanism تهدف إلى إخماد جذوة القلق نسبياً. وحتى هذا الانغماس في لذائذ الحياة المادّية الملموسة والطامح إلى الاختناق بها هو رد فعل هروبي من ضغط الشعور بحقيقة أن كل لحظة تأتلق سوف تُطفأ وتُخمد سريعاً بفعل قوة جائرة غير قابلة للتسويات ولا تسمح بالتصافق. ومثلما نفض جدّنا العظيم (جلجامش) يديه مكرهاً من عشبة الخلود وأقتنع بأنه لن يستطيع مهما فعل أن يمحو المسافة بين الله والإنسان والتي تتمثل بالخلود، عاد”حانقاً”و"معطوباً نفسياً”ليحاول تسطير خلوده الشخصي من خلال الكلمة والتي تمثلت في جهود الشاعر الذي سطّر ملحمته، ملحمة جلجامش ومسيرة الأهوال التي واجهها وتحدّيه للآلهة والذي مازلنا نحتفي ونتماهى مع صرخته التي ضمتها: لماذا أموت؟ وهي أول صرخة احتجاج في تأريخ البشرية على القدر البشري الذي قسمته الآلهة للإنسان، ومن خلال العمل الإنشائي المبدع الذي يفخر به أمام (أورشنابي) ملاّح (أوتنابشتم) وذلك من خلال وصف أسوار (أوروك) العالية، أقول: مثلما عاد جلجامش ليقوم بتسطير خلوده الرمزي بعد أن نفض يديه من تراب الخلود الفعلي، فإن الجواهري سعى طوال قرن من الزمان تقريباً إلى تسطير خلوده الرمزي من خلال الكلمة: شعره الكلاسيكي المبدع الذي جسّد من خلاله هموم شعب وأمّة بطريقة يمتزج فيها الخاص بالعام من خلال عنفوان نرجسي ناري يؤهله للإدّعاء بتمثيل آمال أمة كاملة، ومن خلال العمل الإنساني المبدع الذي يقول عنه أمام الدكتور الطاهر:

((لقد تركتُ الدنيا من أجل الصحافة، ليس بفعل حب الظهور، ولكني كنت أحبّ اللقاء مع الناس للتجاوب، لإسماع الكلمة، لأن الكلمة عزيزةٌ عليّ...)).

حتى العمل في البلاط الذي يحلم به كل شاب في العراق آنذاك ضحّر به الجواهري من أجل”الكلمة”حيث يقول:

((- البلاط، البلاط الذي لا يستطيع أن يصل إليه كل واحد. باركَ لي ذلك (فيصل) وكان يحبني حباً خالصاً. وقال: إنه جسر ولكني قطعت الجسر وحباله. وتركت البلاط لأصدر جريدة..)).
لقد كان الجواهري أكثر انسجاماً في فعله حيث جاء عمله الإنساني قائماً بشقّيه العملي والنظري إذا جاز التعبير قائماً على أساس موحّد هو: الكلمة.

( (إن شرط الخلود الأول هو الإبداع. أن يبدع الإنسان معناه أن يتجاوز ذاته ليحقّق شرط وجوده. إن الوجود مرهون بالإبداع والإبداع وحده يكسب المرء الخلود. وعبر هذا يصح تحوير المقولة الديكارتية إلى”أنا أُبدع... إذن أنا موجود". فالتلازم جوهري بين الإبداع والخلود. إذ أن كل أشكال الحياة الأخرى هي اجترار وحالة من الغيبوبة، تنحو بالمرء باتجاه العادية. والعادية هي حالة من اللاوعي. حالة خروج الإنسان عن ملكاته الإبداعية)).

ولكن رغم كل المحاولات”المُستميتة”يبقى الجرح عميقاً، الجُرح الذي يُلحقه بنرجسيتنا واقع أننا سنموت في يوم ما، وغير قابل للشفاء التام. وسوف يهيج -بهدوء مكتوم- شعورنا بالإنجراح وسوف نستمر في مصارعته حتى لو نفضنا أيدينا من تراب الخلود واعتبرناه مسألة لا تساوي فلساً على حد تعبير الجواهري.

الإحساس بالموت كمشكلة طريق نضج الشخصية وإبداعها

لكننا نجد الجواهري وبعد عشرين عاماً من إعلان هذا الموقف يعود ليتساءل حائراً عن مصيرنا كبشر. وهو في الواقع تساؤل عن مصيره هو في هذه اللعبة الجائرة التي اسمها الحياة ممّا يعبّر عن عمق إنجراحه واهتمامه بما “سيتبقّى “منه وعن إدراك –يبدو أنه رسخ مع تطاول شيخوخته مع فعلها الفنائي- بأنه (أُلهية) أو (أسطورة خرقاء) بيد الموت.

ولأن الجواهري قد بلغ درجة قصوى من درجات الشعور بالشخصية مُعبّراً عنها في تلك النرجسية النارية العنيفة فإن شعوره بالموت كمشكلة سيكون شعوراً عاتياً شئنا أم أبينا (أو شاء هو أم أبى)، وسيكون الإنجراح النرجسي باهضاً وشديداً وسيكون الاندفاع، المحكوم لا شعورياً، للتغلب على هذه المحنة أو مصارعتها دائماً من خلال أداة خلق قادرة على برء هذا الجرح نسبياً، وهي هنا أداة الشعر وعوالمه الباذخة. وإلّا لكان الجواهري قد استمر في العمل في البلاط أو النيابة أو...أو..الخ.. وكلها تقدم له ملذات الحياة التي أشار إليها في اللقاء مع الطاهر وتعفيه من آلام الشعر وتبعاته المدمرة. لقد حرمه الشعر حتى من”شِبر”في وطنه الذي أحبّه.

ومن الطريف أن الجواهري سُئل في هذا اللقاء عما يرغب أن يكونه لو لم يكن الجواهري الشاعر فأجاب: (بائع فشافيش) – أي بائع لحمة مشوية!!.

ومن المؤكد أن أي بائع - مهما كان ما يبيعه - لم يواجه الآلام والأهوال والأوجاع والملاحقات التي واجهها الجواهري الشاعر. لكن هذا لا يُبرّر إلا بالاختيار المحكوم والمعزّز للنرجسية النارية العنيفة بوجه جرح الموت الباهض. لم تكن الغربة والموت والاكتئاب مرحلة في حياة الجواهري، بل امتدت، متناوبة، في حياة كاملة أمدها قرنٌ من الزمان.
المزاج العنيف هو الأساس

تبقى مسألة أخيرة في هذا الإطار فقد قال الجواهري في لقاء الطاهر:

((وهنا يأتي المزاج العنيف، أنّه لا يعرف الوسط. العنف عنصرٌ في المزاج الشعري وهو علامة من علامات خيال الشاعر.. العنف هو الأساس..)).

وإذْ تعرّضنا لانفعالية الجواهري العنيفة سابقاً وهي المرتبطة بنرجسيته النارية، فإن العنف الذي يسم صوره الشعرية:

أرى أُفُــــــــقاً بنجــــــــيع الدمـــــاءِ
تنــــــــــوّر، واختفت الأنجمُ
وحبلاً من الأرض يُرقَى به
كما قذفَ الصاعدَ السُلّمُ
إذا مـــــــــدّ كـــــــــــفاً لـــــــــه ناكثُ
تصدّى ليقطعها مُبـــــــــــــرِمَ

أو:

أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ
بأن جراح الضحايا فمُ

هذا العنف، وبصورة أكثر عمقا، يمثل عنف ولادةٍ ورِعد خلقٍ وكأنّ الأمر ردة فعل على هشاشة المخلوق ومحاولة صاخبة وضاجة لتأكيد القدرة على اللعب بالمصائر وتشكيل ما تعي قوىً أخرى على تشكيله بغية التحصّن النرجسي:

((أنا أخلق كما خُلقت وعليه فأنا عصيّ على الفناء)).

ويمكننا القول إن غالبية أسماء الله الحسنى يستطيع واحد من البشر المتجبّرين الطائشين امتحالها وزعمها حيث يستطيع التنفّج بالقول إنني قويّ ومتين وجبّار ورافع.. إلخ. ولكنه لا يستطيع الزعم بأنه: خالق ومُبدع. هذا الزعم يدّعيه برهاوة وثقة أناس خالقون فعلا من أمثال الجواهري مُسلّحون بموهبتهم المدعمة بنرجسيتهم الضارية العنيفة.

ومن نتاج عنف انفعالية الجواهري ونارية نرجسيته أننا نجد أن الدم –وليس الماء- هو معين الحياة. وهذا يحيلنا إلى كثرة صور الدم التي تمنّى جبرا إبراهيم جبرا معالجتها في شعر الجواهري:

أتعلمُ أن جـــــــراح الشهيد
من الجوع تهضم ما تَلْهمُ
تمصُّ دماً ثم تبغي دماً
وتبـــــــــــقى تُــــــــــلحُّ وتستطعمُ

ولعلّ خير ما يلخّص الخصال الأساسية من شخصية الجواهري هو بيت شعر من مقصورته يقول:

تُريكَ العراقَّي في الحالتينِ
يُسرِفُ في شُحّهِ والنَّدى


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى