الأربعاء ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٨
بقلم زياد الجيوسي

في حضرة إبراهيم

"في حضرة إبراهيم" الرواية الأولى للإعلامي عامر طهبوب، رواية مختلفة ومتميزة، هي أقرب لبوح الأمكنة، مسرحها الأساس مدينة الخليل في فلسطين، وتميزت بأنها كتبت باللهجة الخليلية المحكية والمتميزة عن باقي اللهجات في فلسطين، ومن هنا قد يواجه القارئ الذي لا يعرف اللهجة الخليلية ومصطلحاتها صعوبة في فهم الكثير ومنها عدد ليس بالقليل من أصول ليست عربية، وربما ما ساعدني على قراءة الرواية بمتعة حتى أني كنت أضحك أحيانا بصوت مرتفع وأتألم حينا آخر، أنني أجيد فهم هذه اللهجة جيدا بحكم علاقاتي مع عشرات الأشخاص من مدينة الخليل، ولي أصدقاء كثر منهم، سواء من الخليل المدينة وهم المتميزون بهذه اللهجة، أو من الخليل المحافظة والجبل ولهجتهم مختلفة عن الخليل المدينة فهي أقرب للبداوة، ومع هذه وجدت العديد من الكلمات المستخدمة التي لم أعرفها بالسابق أو لا أذكرها.

الخليل بناها أجدادنا الكنعانيون منذ الآف السنين، وحين وصلها سيدنا إبراهيم كانت مملكة كنعانية لها قيادتها وإدارتها وعملتها "الشاقل"، واشترى مغارة هي تحت المسجد الإبراهيمي الآن وحسب العهد القديم بمبلغ 400 شاقل من الفضة بعد أن رفض أن يأخذها هدية من الكنعاني عفرون الحثي من بني حث الكنعانيين، وهذا ما يؤكد التزوير والسرقة من الاحتلال لتاريخ وتراث فلسطين، فمن الأرض والمسجد الإبراهيمي، وصولا إلى عملة كنعانية فلسطينية سبقت أبا الأنبياء وسبقت سيدنا موسى عليهما السلام والديانة اليهودية.

الرواية تتكلم عن تاريخ الخليل المدينة متناولة حياة المدينة ووعي ذاكرة الكاتب الذي يمتلك ذاكرة تسجيلية متوقدة، فالبكاد غفل عن نقطة مرت في طفولته قبل أن يصبح في الشتات بعيدا عن وطنه ومدينته، فتناول الأحداث الصغيرة والكبيرة، روى سيرة الأشخاص بمهنهم وحياتهم، دخل في تفاصيل الحياة اليومية والعادات والتقاليد، ذكر أسماء وألقاب أشخاص ومهنهم ودورهم وأصولهم، روى حكايات الجد والجدة وأولاد الحارة، فكانت الرواية في مجملها أقرب للتاريخ المروي لحكاية مدينة تشتهر باقتصادها وطبيعة أهلها وتاريخها منذ ما قبل وصول سيدنا إبراهيم الخليل إليها، تحدث عن واقع المدينة بعد احتلالها عام 1967 وعن حريق الأقصى وحرب تشرين 1973 وردود الفعل لدى المواطنين، حتى الشخصيات المصابة بخلل عقلي روى حكاياتها وخاصة حكاية شحدة عزارة المجنون العاقل، وعن القدس وتاريخها الموجز وآثارها وأزقتها ومعابدها، وعن استقبال الأسرى المحررين والتضامن والتكافل الاجتماعي والتلاحم الوطني، والانتفاضة الأولى ومقاومة الاحتلال ومذبحة المسجد الإبراهيمي.

في نهاية الرواية لم يغفل الكاتب الإشارة إلى اتفاق ما سمي "إعادة الانتشار" في الخليل وكيف استغله الاحتلال لتوسعة سيطرته على المدينة، وأشار للواقع الذي أصبح بعد اتفاقية اوسلو والفصائلية الرخيصة حيث تحول الوطن من هدف إلى ساحة صراع بين فصيلين، فأصبح الواقع كما حكايتي الهرتين اللواتي لجأن للقرد ليحكم بينهما على قطعة الجبنة، فالتهمها القرد ولم يترك لهما شيئا، كما وصل الكاتب بالحديث لمرحلة القتل الذي يمارسه الاحتلال على الحواجز للجيل الشاب بدم بارد تحت بند أنهم يحملون سكاكين.

الرواية امتلكت مقومات الرواية مثل المكان حيث كانت الخليل المسرح الرئيس والقدس وبيروت مسارح ثانوية، بينا عمَّان كانت مسرح الراوي بين أصدقائه، والراوي للحكاية يمكن أن يكون الشخصية الأساس الراوية للحكاية، فالرواية افتقدت الشخصية الأساسية لكنها حفلت بشخصيات كثيرة تراوحت بين شخصيات ثانوية وشخصيات كل منها كان له دور أساس مثل طالب المناضل في الخليل وعرابي المناضل في لبنان وأيوب الشاب الذي شارك في الانتفاضة حتى استشهد. كانت رواية جميلة تشد القارئ وخاصة من يتقن اللهجة "الخليلية"، ورغم أن الكاتب لجأ لأسلوب الهوامش في أسفل الصفحات لتوضيح اللهجة المحكية وشرح الكلمات المستخدمة، إلا أن ذلك من الممكن أن يؤدي لتشتت ذهن القارئ، فنحن أمام رواية وليس أمام بحث علمي أو دراسة.

اللجوء للهجة المحكية أعاد لذاكرتي رواية "أرض السواد" التي كتبها الروائي المرحوم عبد الرحمن منيف وكانت آخر رواية له بثلاثة أجزاء وقد كتبها باللهجة العراقية البغدادية، وأذكر أن صديقة اشترتها وصدمت حين بدأت القراءة ولم تفهم اللهجة فأهدتني إياها كوني خريج بغداد وتمتعت بقراءتها وحقيقة هي رواية عظيمة، فهذه الرواية لم تنل حظها كما "مدن الملح" لأنها باللهجة المحكية، وهذا ما أخشاه على رواية "في حضرة إبراهيم" أيضا وخاصة أنها رواية تستحق الاهتمام والقراءة، وكما قال عنها الشاعر موسى الحوامدة وهو ابن بلدة السموع في جنوب الخليل: "هذه الرواية التي تعتبر أول رواية تكتب عن مدينة الخليل وأول عمل سردي لواحد من أبناء المدينة، قلت في حق الرواية ما تستحق فهي عمل روائي أقرب إلى الرواية التسجيلية وذلك لا يقلل من شأنها وشأن كاتبها على الإطلاق، وهي العمل الأول له، وفي الوقت نفسه ذكرت العلامات الإيجابية في العمل فقد احتفى بالمكان واللهجة والعادات والتقاليد والأشخاص وكأنه حفظ هذه المدينة من التغيير والاحتلال وخاصة أن اسرائيل تسعى منذ احتلال عام 1967 إلى تهويد المدينة فقد بنت مستوطنة "كريات أربع" إلى جوارها منذ عام 1968 وصادرت حتى الآن عدة مناطق وأحياء وبيوت وشوارع جوار الحرم الإبراهيمي وطالت سيطرتها مدارس وعمارات وسوق البلدة القديم "الحسبة" وكراج الباصات وغيرها"، وهذا كان في حفل إشهار تم في نادي بلدة الحصن في شمال الأردن وتحدث فيه إضافة للشاعر موسى الحوامدة الشاعر مهدي نصير وأشار للكثير من النقاط الإشكالية في الرواية، إضافة للكاتب ومشاركة الجمهور الحاضر.

وتبقى لي ملاحظات عديدة على الرواية، فحديث الكاتب عن معركة جنين التي خاضتها القوات العراقية قد جانب الحقيقة كثيرا في بعض جوانبه، فالقوات العراقية خاضت المعركة بجرأة وانتماء بقيادة الضابط العراقي نوح حلبي بالتعاون مع المجاهدين الفلسطينيين والقوات الداعمة التي أتت من نابلس وقلقيلية، واستشهد منهم 27 شهيدا مدفونين في منطقة مثلث الشهداء في مدخل جنين، ولم يتم إحصاء الشهداء من المتطوعين الفلسطينيين، وخسر الاحتلال 50 قتيلا إضافة إلى 83 جريحا، وما زال الاحتلال يحيي ذكرى قتلاه في هذه المعركة، رغم أنه لم يكن فعلا هناك أوامر للقوات العراقية المتمركزة في مناطق نابلس وطولكرم وقلقيلية، قوة وصلت إلى جنين ليلة المعركة وطلبت النجدة من القوات العراقية الأخرى التي سارعت لنجدتها، والعبارة الشهيرة "ماكو أوامر" كانت في الواقع عن الدخول إلى مناطق الساحل، وبعيدا عن قراءاتي للتاريخ فقد استمعت شخصيا من العديد من كبار السن في منطقة جنين وشهاداتهم عن المعركة، ويمكن حتى العودة لمصادر الاحتلال التي تحدثت عن هزيمة كبيرة في مواجهة القوات العراقية.

وملاحظة أخرى حول وصف التواجد العربي في الأندلس احتلالا وتشبيهه بالاحتلال لفلسطين، وربط نهاية احتلال فلسطين في المستقبل بانتهاء الدولة الإسلامية في الأندلس حيث اعتبرهما في الحالتين احتلال، يشير لفهم قاصر لتاريخ الفتوحات الإسلامية لنشر العقيدة الإسلامية بينما احتلال فلسطين فكرة أخرى قائمة على الإحلال لشراذم اليهود وطرد السكان الفلسطينيين. وملاحظة إضافية أن من قامت بعملية تبادل الأسرى هي الجبهة الشعبية/ القيادة العامة وليست الجبهة الشعبية، وأن بلدة "بيتين" اسمها الأصلي هو "بيت ايل" أي معبد الإله ايل وهو كبير الآلهة الكنعانية ولا علاقة باليهود به، والاسم باللهجة المحلية حُرف من بيت ايل إلى بيتين حيث يتحول حرف "ل" إلى "ن"، وإن حاول الاحتلال من خلال استخدام الاسم للموقع المجاور للقرية والذي كان مشفى عسكري للجيش الأردني قبل حرب 1967، وأصبح مقر قيادة جيش الاحتلال الصهيوني والإدارة المدنية للضفة الغربية تحت مسمى "بيت ايل" في محاولة لشطب الذاكرة الفلسطينية الكنعانية، وتزوير التاريخ وسرقته.

وفي النهاية أهمس للقارئ: من أحب أن يعرف الخليل التي لا يبيت فيها جائع، ويعرف ناسها وأهلها وتراثها وحكاياتها وبعضا من تاريخ يحتاج لموسوعات لتوثيقه، أنصحه بقراءة "في حضرة إبراهيم"، فهي مدينة "أبو الضيفان" كما كان لقب سيدنا إبراهيم عليه السلام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى