الثلاثاء ٢٤ أيار (مايو) ٢٠١٦
أستطيقا الزمن الروائي والشعري
بقلم عصام شرتح

في قصائد أولئك أصحابي لحميد سعيد

لاشك في أن أستطيقا الزمن الروائي والشعري في قصائد أولئك أصحابي منفتح بانفتاح الحراك الرؤيوي والدلالي للشخصيات الروائية وكنا في الحلقة الأولى قد وقفنا على جانب مهم من جوانب الكشف النصي من فواعل الزمن أستطيقياً في إحدى قصائده،ونقف اليوم على أبرزها وفق المحاور المهمة التالية: ‎

أستطيقا الزمن الروائي -الشعري ملمحاً أسطورياً معاصراً،وواقعاً وجوداً معيشاً:

لاشك في أن أستطيقيا الزمن الروائي الشعري في قصائد ( أولئك أصحابي) تتأسس في بعض ملامحها بالانفتاح على الأسطورة،ولا نعني بذلك أن أبطالها أسطوريون،وإنما يعيشون في واقع روائي شعري مؤسطر؛ وهذا ما يمنحها نوعاً من الحضور الرؤيوي والدلالي المكثف ضمن مسار القصيدة؛ ودليلنا أن الشاعر رغم أنه يعايشها وتسكن في خلجاته النفسية وأجوائه الروحية لدرجة تبدو واقعاً معاشاً،لا واقعاً روائياً متخيلاً، لكن يبقى لبعضها النكهة الأسطورية أو النكهة الشخصانية المؤسطرة التي تبقى فوق مستوى الحدث الواقعي والشخصية الممثلة للواقع في حركته، وملامحه اليومية المعيشة واصطراعاته البسيطة في المشاعر، والأحداث الساذجة البسيطة التي تدخل في دقائق الأمو،وجزئياتها وتفاصيلها الصغيرة، وبساطتها،ولا نبالغ في قولنا: تنحو بعض الشخصيات إلى أسطرة الحدث الذي تسكنه،وعندئذ، تتحول الشخصية من شخصية واقعية في حركتها، وبساطتها إلى شخصية أسطورية ضمن الحدث المركب، الذي تدخل في تشكيله، أو تكون محرقه في الحراك الوجودي المؤسطر، ففي قصيدة( ربّما كان زوربا)لحميد سعيد يتمثل شخصية "زوربا" بطل رواية" زوربا اليوناني"لنيكوس كازنزاكي؛ فهذه الشخصية كما هي مؤسطرة في الرواية هي كذلك في القصيدة بواقع يحايث واقعها الروائي المؤسطر؛ولا نعني أن الشخصية -بحد ذاتها- مؤسطرة؛ وإنما تحولاتها ضمن الفضاء الروائي والشعري تحول أسطوري أو مؤسطر،فشخصية (زوربا)الروائية تختلف عن شخصية (زوربا) في القصيدة ،فقد حاول الشاعر أن يؤسطر التحولات والأحداث المرتبطة بالشخصية الروائية في المضمار الشعري لتكون متحولة في أكثر من شخصية، ومتعددة في أكثر من وجه من وجوه الحياة، وهذا ما أكسبها توظيفها الرؤيوي المؤسطر ولعبتها الأستطيقية الفاعلة في تحريك مجريات الأحداث في القصيدة،بإطار واقعي حيناً بتفاصيل يومية، وأحداث مألوفة يومية مباشرة ،وبأحداث عاصفة فيها من التحول والتغير والاختلاف ما يرقى بالشخصية إلى المسار الأسطوري، في الكثير من الأحيان،ولإبراز التحولات الأستطيقية في مدها الزمني وأسطرة الأحداث المرتبطة بالشخصية نورد الإحالات الشعرية من مضمار القصيدة، إذ يقول:

"ورأيتُهُ يوماً..
يُساوٍمُ بائعات الخبز في السوق القديم
وبعد عامين التقيت به يبيع الخُبزَ
كنتُ أظنّهُ رجلاً مُقيماً..ثمَّ غابَ عن المدينةِ
وانتهى ما كانَ منه..
ضَجيجُهُ الليليُّ..فِطنتُهُ.. الحواراتُ التي لا تنتهي
وشراسةُ الذئب المحاصر.. في الشجارْ"(1).

إن اللعبة الاستطيقية بالشخصية الروائية(شخصية زوربا) تحول من هذه الشخصية من طابع العفوية والبساطة(يبيع الخبز)،إلى طابع تحولي مؤسطر؛يرصد بعض من أوصافه الحقيقية،وصفاته الدالة على الحركة والذكاء، والفطنة،والمعرفة بأمور الحياة،والقوة، والشراسة، والمشاجرة،متتبعاً حيثيات الرؤيا،كما في قوله:( ضجيجه الليلي- فطنته- الحوارات التي لا تنتهي- شراسةُ الذئب المحاصر .. في الشجار)، واللافت أن القوة الموحية الموجهة أستطيقياً للحدث الروائي تتبدى في تحولات الحدث (زمكانياً)،تبعاً لتوجهات الرؤيا، ومسارها ضمن القصيدة؛فالرواية تحكي قصة صداقة حميمة بين رجل غني وعالم في الفكر والأدب يدعى(باسيل)ورجل فقير يدعى(زوربا)رجل عالم وذكي في أمور الحياة، والخبير بمصائرها،والذي يكشف عن وجوه الحياة بتناقضها وانفتاحها وتمردها؛ إذ يقول:

وقال لي..
مَن كان يُغضبٌهُ بما يُبديه من فتَنِ التعالي
كنتُ في " يَلَوا" ..
وقد غادرتُ اسطنبول أَبحثُ عن مُهاجرةٍ أُحِبُّ..
تُقيمُ فيها
ثُمَّ فاجأَني برفقتها هناك..يَضُمُّها كغزالةٍ بيضاء ناعمةٍ
وأَسرعتُ الخُطى حتى إذا قاربتُ ظِلَّهما..
وكدتُ أقولُ ما في النفس.. غابا"(2).

إن القارئ للعبة الزمكانية أستطيقياً في الواقع الروائي للشخصية الزورباوية،والواقع الشعري لها يؤكد تفاعل الرؤيتين معاً في ترسيم الحدث المؤسطر من تفاعل الأحداث بين واقع الشخصية الزورباوية في إحالتها الملصقة بها، والإحالة المضافة لها(ثم فاجأني برفقتها هناك يضمها كغزالة بيضاء ناعمة)،وهذه المحاورة في التقاط الشخصية الزورباوية في واقعها العياني المباشر، وواقعها الشعري، ترتقي بالأحداث وتزداد نواشط الرؤيا الشعرية الفاعلة كلما تغورنا مسارات القصيدة،كما في قوله:

ثُمَّ قال..
وفي الطريق إلى القرى العذراء .. في الأناضول
فاجأني بهيئته المُريبة..
عمَّةٌ خضراءُ.. شالٌ أخضرٌ.. وعباءةٌ خضراءُ
كانَ بشاربين كبلبلين مُبللين.. ولحيةٍ حمراء
يكتبُ للنساء.. رٌقىً وأدعيةً
مَدَدتُ يدي إلى أوراقه الصفراء.. أكشفُ ما بها
اختلطت عليه.. قوافلٌ وجحافلٌ..
مدنٌ .. وجوهٌ ..لم يُفرِّق بينها
فمضى إلى غيبوبةٍ بيضاء.."(3)

إن الفواعل النشطة المحركة للشعرية أستطيقياً ورؤيوياً تكمن في تتابع الأحداث، والشخصيات، والحالات والوجوه المتعددة التي هي عليها الشخصية الزورباوية،فهي تارة الشخصية البسيطة (بائع الخبز)،وهو الشخصية الماكرة (شخصية الدجال) وصاحب العمامة،وهو الرجل الجسور والعنيد والمشاكس،وهذه التحولات في الشخصية الزورباوية وامتداد رقعتها (الزمكانية) تؤكد طابعها الأسطوري أو المؤسطر؛فهي تمثل أوجه الحياة المتعددة لتواكب كل الأزمنة وتحايث كل العصور،وهذا ما يجعل التحول الزمكاني المتوالد أستطيقياً هو محرك الرؤيا الشعرية، ومحور ارتكازها الرؤيوي والدلالي معاً،وهذا يعني أن الشاعر يتحول في الرؤية الوصفية لهذه الشخصية لتمثل زمنها الروائي وزمننا المعاصر بكل تعقيداته، وبساطته،ومؤثراته الخاصة به، وهذا الانتقال والتحول هو ما يكسب الشخصية نمطها المؤسطر وواقعها الرؤيوي الجديد؛إذ يقول:

تحملُهُ إلى ..
بيروت في الزمن الجميلِ
يتخَطَّف العشاقُ فتنتها..ولم تبخل بحبٍّ مستحيلِ
والتقينا..
كنتُ منكسراً.. وكان كما الجواد يُجدّد الفرحَ المكابرَ..
بالصهيلِ"(4).

إن إستطيقا الزمن الروائي والشعري -في هذه القصيدة- ينفتح على أزمنة متعددة، ورؤى مفتوحة،وهذا التحول والانفتاح امتد إلى الشخصية الزورباوية ،فهل يعني بها زوربا الحياة المتعددة بجوانبها المختلفة ورؤاها المتغيرة؟!! أم أنه يعني بها الواقع المتغير، والزمن المفتوح الذي يمتد على مختلف الأزمنة، والأطياف الرؤيوية المتغيرة في طبيعة الحياة والوجود؟ ليكون زوربا هو الشخصية المتمثلة التي تصلح لكل زمان ومكان؟! إن القصيدة تطرح جميع هذه الرؤى وتنفتح على مختلف التأويلات والاحتمالات،وهذا ما جعل الشخصية الزورباوية تنحو منحىً أسطورياً في القصيدة من خلال التحولات والمتغيرات الوجودية المرتبطة بها ،فيقترب من الشخصية الزوربوية الحقيقية، ويبتعد عنها في كثير من الأحيان بمتغيرات جديدة واحتمالات مفتوحة ورؤى ممتدة أستطيقياً وزمكانياً،إذ يقول:

"على ضفاف الأبيض المتوسط..
اقتربتْ سفينتُهُ من الميناءِ..
في هذا المدى البحريِّ.. تندفعُ الطيور البيضُ نحو القادمين
كأنّها انتظرتهُ..
حتى يستعيد قراءة الأحجار والأشجارِ
ما أبقى على الأبواب من أسراره..
ما كان من وجعٍ
أيرقصُ مرّةً أخرى..وقد طردته مملكةُ الغناءْ؟!
واختارَ منفى لا تمرُّ به النساءْ"(5).

إن التلاعب الأستطيقي بالشخصية الروائية، وأدوارها، ومتحولاتها بالاقتراب من واقع الشخصية الزورباوية حيناً؛ والابتعاد عنها حيناً آخر؛هو ما يجعل الرؤى المقترنة بها غير ملتقطة ومتغيرة بتغير الحياة،زماناً ومكاناً فمرة تجده في بيروت، ومرة في الأناضول، ومرة على ضفاف الأبيض المتوسط،وهذه التغيرات (الزمكانية) تجعل هذه الشخصية متحولة أستطيقياً لتدخل فضاءات الأسطورة ،ليس بوصفها شخصية أسطورية – بحد ذاتها كما أكدنا سابقاً – ولكنها بوصفها موظفة ضمن أحداث ومتغيرات لا تصلح إلا في الواقع الأسطوري، أو الحدث المؤسطر؛ فهو -في المقطع السابق- اقترب من شخصية زوربا الحقيقية حد الالتصاق من خلال ذكر أوصافه الحقيقية من مجونه، وولعه بالرقص والخمر والنساء،ليرصد المتغيرات الوجودية التي مرت بها هذه الشخصية تبعاً لمتغيرات الحياة، وطبيعة الحياة المتسارعة، ومركبها الجارف المتغير؛وهنا؛ يقترب من الشخصية الزوربوية بصفاتها الحقيقية وملامحها الخاصة بها من ولعه بالنساء وولع النساء به،بوصفها الشخصية القادرة المتمردة الثائرة في وجودها وانفتاحها على الحياة بجوانبها المختلفة (الواقعية الضاجة بالمتغيرات والمتناقضات) إذ يقول:

على ضفاف الأبيض المتوسط..
اقترنت خطاهُ بمأزقِ خَطِرٍ
على الأرض التي احتضنت سريراً..
ضَمَّ " باسيفي" بكل شرورها.. والطُهرَ في" مينوس"
هل كانت طرائده تقودُ خُطاه في المدن التي عرفته..
للتفاحة الأولى..
شميمٌ لاذعٌ وعواصفُ سودٌ
رأى في كلِّ من فتحت له أبوابها.. تفّاحةً أولى
فيقضمها..
وهاهو.. بعد أن جفَّتْ ثمارَ حقوله..
قَضَمَتهُ(6).

هنا رغم اقترابه من الشخصية الزورباوية حد الملامسة لكنه يبتعد بها حد الأسطرة؛ إذ يجد في هذه الشخصية رمزاً وجودياً لكل متغيرات الحياة، بعبثها، وصخبها، وتمردها، وفوضاها، وقلقها، واصطراعها، وتوترها،(رأى في كل من فتحت له أبوابها.. تفاحة أولى فيقضمها) لينتهي بالشخصية الزورباوية إلى حد الرمز والأنموذج المثال للانفتاح على الحياة، والتمرد والمعرفة والمتغيرة بتغير الواقع زماناً ومكاناً ،ليكون زوربا رمزاً لكل زمان ومكان بالانفتاح على المعرفة، والحياة، وتناقضات الوجود:

" ذلك قبرُهُ..
في كلِّ مقبرةٍ مررتُ بها
وفي كلٍّ البلادْ"(7).

إن قارئ هذه القصيدة بجوانبها ورؤاها المختلفة يلحظ عمق التمثل الرؤيوي الاستطيقي للشخصية الروائية بكل ما تحمله من رؤى، وأدوار متخيلة اقترنت بهذه الشخصية أو أضيفت إليها،مما يجعل الاستحضار فاعلاً في التفاعل مع هذه الشخصية لتكون القصيدة طرحاً جديداً للشخصية الروائية بقالب فني متغير؛ ينتقل بها من حيثيات الواقع، بيومياته وتفاصيله الصغيرة، إلى أسطرتها بجعلها رمزاً لكل شخصية متمردة ،تعي الحياة ولعبتها وتعيشها بفوضاها وصخبها لا جديتها، ونواميسها، وقوانينها الصارمة التي تقيد المرء، وتحجم قواه الحركية الثائرة التي تريد أن تتنفس الحياة بثوبها المتناقض ومتغيراتها الحقيقية الكثيرة التي هي عليها.ولهذا تحركت الشخصية الروائية -في هذه القصيدة- لتؤكد قيمة التوظيف الشعري للشخصيات الروائية بقالب فني جديد يكسبها عنصر التشويق والإثارة وليست نقلاً فوتوغرافياً جامداً للشخصية الروائية؛ وهذا ما يمنحها قوتها التأثيرية وفاعليتها ضمن المسار الشعري الموفق الذي أثارته قصائد ( أولئك أصحابي) لحميد سعيد.

أستطيقا الزمن الروائي –الشعري حدثاً درامياً محتدماً، وموقفاً جدلياً حاداً

ما من شك في أن اعتماد الشعرية المعاصرة على الدراما في تكثيف رؤيتها،وتنويع رؤاها، ومؤثراتها الفنية من الفواعل النشطة التي ارتقت بفضاءات القصائد الحداثية، لتصل ذروة في التخييل والتكثيف الدلالي؛لأن الدراما تعزز الصراع والتوتر ،وتكشف عن جدليات وصراعات عميقة تتبطن جوهر الذات الإنسانية في صدامها مع الواقع، والحياة، وتناقضات الخلق والوجود،ويخطئ من يظن أنه خارج دائرة الدراما وجوداً وكينونة حياة ووحدة شعور ومصير،فكيف لايكون الشعر انعكاساً درامياً لحركة الحياة،وصراعاً في مختلف طبقات الحياة بين مضطهِديها ومضطَّهَديها؛والشاعر حميد سعيد أراد أن يعزف أستطيقياً على هذا الوتر في تكثيف رؤية قصائده في (أولئك أصحابي) ليخلق لعبته الشعرية المتمردة في شكلها الإبداعي وبواعثها الشعورية والإبداعية،لهذا لم يكن بعيداً عن شخصياته الروائية كان يعيش معها ويتنفس وجودها ويتخيلها واقعاً ملموساً لا حقيقة، إذ يقول:" إن أي شخصية من شخصيات – أولئك أصحابي – عرفتها من قبل، وكانت لي علاقة بها، وهذه العلاقة في البدء، فكرية طبعاً، لكن طالما حولتها المخيلة إلى علاقة شخصية، قد تكون إيجابية وقد تكون غير ذلك .ومنذ مرحلة الصبا، وبداية قراءاتي في الرواية العالمية والعربية، كنت أتخيل الفضاء الذي تدور فيه أحداث الرواية التي أقرأها، أية رواية، وتقودني المخيلة إلى مكان أعرفه أحياناً، ولا أعرفه أحياناً أخرى .وكذلك مع الأشخاص ، فقد يتجسد لي في كيان شخص أعرفه أو سمعت به، وهناك من أحبه وأتعلم منه وأتبادل الود معه، وهناك من أعترض على سلوكه وأحاوره فيه .ولكل من الشخصيات التي تمثلتها في – أولئك أصحابي – حضور في تجليات الحياة والثقافة عندي في آن، وليس أصحابي هم الذين استأثروا بقصائد المجموعة المذكورة فحسب، بل هناك شخصيات كثيرة من روايات أخرى، كان يمكن أن أتمثلهم في قصائد أخرى.وعلى سبيل المثال كنت أسمي الأخوة آل الجندي، إنعام وسامي وخالد وعلي وعاصم، حين ألتقي بهم جميعاً أو بعضاً منهم، وأستمع إلى حواراتهم وحكاياتهم ومفارقاتهم – الأخوة كرامازوف– بل كنت أتخيلهم كما الأخوة كرامازوف .وكانت لنا زميلة جميلة وذكية ومثقفة، لكنها لم تكن تقدر أن تكون بلا عشيق، ومن المفارقة إنها لم تكن رخيصة أو مستهترة في سلوكها وتصرفاتها ، وكنت أناديها مازحاً باسم – إيما – لأنها تذكرني بإيما بوفاري.وكنت وما زلت ، كلما أعدت قراءة رواية – مدام بوفاري – أجد تلك الزميلة في شخصية مدام بوفاري، أما – القبطان إيهاب – فطالما عاتبته على سلوكه الثأري، في حوارات متخيلة لم تتوقف، وعلى ذكر القبطان إيهاب، كنت يوماً مع الراحل محمود درويش في مقهى بمنطقة ميناء مدينة برشلونة، بانتظار معارف له من مدينة حيفا، وكنا قد دعينا من قبلهم على – مقلوبة – فلسطينية ، وفجأة شاهدت شخصاً يدب على عصا، يخرج من شارع فرعي ضيق ، باتجاه شارع عام، إنه هو القبطان إيهاب كما أتخيله ، بمعطف طويل وقبعة سوداء ، وإذ كان يواصل المشي باتجاه مكان ما، كنت كمن في غيبوبة أواصل الحوار معه، منفصلاً عن المكان الذي كنا فيه، وعن رفيق رحلتي وأحاديثه، عن أصحابه الذين كنا في انتظارهم"(8). .

وقد استطاع حميد سعيد في قصائد( أولئك أصحابي) أن يجيد اللعبة الشعرية أستطيقياً في هذه القصائد ويفتح بوابة التلقي النصي الفاعل بالانفتاح على أسلوب جديد: (تداخل السرد القصصي بالحدث الشعري والموقف الشعري عن طريق الشخصيات الروائية ليصيغ الحدث الشعري بقالب قصصي شعري في آن،عن طريق حوار الشخصية وتحريكها من الداخل؛ ومن هذا المنطلق،تعدت الشخصية الروائية المستحضرة باب الحدث الدرامي- الروائي لتدخل في مضمار الحدث الدرامي الشعري،وشتان شتان مابين قوة الحدث الدرامي، وقوة الحدث الدرامي الشعري في القوة والحضور والفاعلية والجسارة الرؤيوية التي تمتلكها قصائد ( أولئك أصحابي)ليس بارتقائها فوق الحدث الروائي،أو الحبكة الروائية الدرامية الموجهة للشخصيات،وإنما برصد الحركة الداخلية لشخصياته الروائية المستحضرة واقتناص منها ما هو متحرك واتباعها بالمتعلقات والرؤى الجديدة التي تحرك الموقف والحدث الشعري بقالب درامي شعري يموج بالخصوبة والانفتاح الاستطيقي زمنياً ليتجاوز نسق الرواية ويدخل نسق الحدث الشعري المعاصر برؤاه وأطيافه الرؤيوية الممتدة.

ومن القصائد الدالة على هذا التوجه الدرامي في تكثيف فواعل الزمن أستطيقياً في تفعيل الحدث والموقف الشعري- الروائي قصيدة( ملهاة الدكتور زيفاغو)لحميد سعيد،وفيها يتمثل شخصية " زيفاغو" بطل رواية " الدكتور زيفاغو" لبوريس باسترناك .وفيها يجسد الحوار الإحالي المثير بين واقع الرواية،وواقع القصيدة؛والطابع الدرامي التي تحمله هذه القصيدة في تكثيف رؤيتها ببعد أستطيقي زمني رؤيوي مفتوح؛ إذ يضعنا منذ البدء في جو الدراما من خلال كشف الصراع بين الشيوعيين والرأسماليين،ومطاردة رجال الدين والسلطات للعلماء والمفكرين وفي مقدمتهم الدكتور(زيفاغو)،ولهذا تحركت القصيدة على أكثر من بعد درامي وحركة بانورامية مفتوحة على آفاق رؤيوية أستطيقية تمتد إلى أكثر من مرحلة ورؤية، إذ يقول:

"يُطاردُهُ الحُمرُ والبيضُ..
يطردهُ الملكيون والفوضويونْ
ويُشكِّكُ في ما يرى ويقول.. رجالُ الكنيسةِ والمُلحدونْ
كلُّ الذين أباحوا دمَ الآخرينْ
من كلِّ قومٍ ودينٍ.. وطائفةٍ..
يعدّون ضحكته خطراً.. يَتَهَدَّدهمْ
ويرونَ..
في ما يُفكِّر فيه.. خروجاً عن الصفِّ.."(9).

إن القارئ يلحظ ملحمة تراجيدية مُفَعَّلة أستطيقياً بالحوار بين واقع الشخصية الروائية القائم على القهر والكبت ومصادرة الحريات،وواقعها الشعري الذي يحايث المنظور الروائي بتلمس حيثيات الرؤيا، وتجسيد أبعادها بعمق وفاعلية،وكأن الكبت الممارس على شخصيته الروائية (شخصية الدكتور زيفاغو)يحايث الواقع الممارس عليه إثر الاحتلال الأمريكي للعراق وفراره من بطشهم وجبروتهم،لهذا، يتحثث شخصيته الروائية وكأنها شخصيته المستلبة والقمع الذي ناله من ظلم الهيمنة الأمريكية،وسطوتها،والدليل المرجعي الاستطيقي الواضح على ذلك قوله:(يعدون ضحكته خطراً .. يتهددهم ويرون في ما يفكر فيه.. خروجاً عن الصف)؛وهنا يبدأ الحدث التوتري وتتأزم الرقعة الزمكانية وتنفتح على مراحل وأحداث تراجيدية في هذه الشخصية ،ابتداءً بملاحقة رجال الدين له،وانتهاءً بعشقه(لارا)ونهايته التراجيدية المأساوية في الموت على آثار قدميها أثر نوبة قلبية أودت بحياته العاصفة، بالأحداث الدرامية المنفتحة على كل الاحتمالات والمواقف،وهنا يأتي المتخيل الشعري ليفتح قنوات الشخصية الروائية لتشتغل على محطات بث شعورية تنطلق من الذات الشاعرة، إلى شخصيته الروائية وتتلون أصداء الدلالة لترسم أكثر من موقف درامي، وحدث مشوق،وفق منطق أستطيقي يعتمد كثافة الحدث الدرامي وحركية الفواعل الاستطيقية المحركة للمواقف والأحداث الدرامية، ورصد المشاهد البانورامية وحالة التوجس التي عليها شخصيته الروائية:

"حيثُ يكونْ
ينصبونَ فِخاخاً لأحلامهِ..
وتَشُمُّ الذئابُ مواقِعَ أقدامِهِ..
وتتبَعُهُ..
يقفُ الثلجُ بينَ تطلّعهِ والطريقْ
يرى في البلاد التي تتشظّى.. كما يتشظّى الزجاجُ
ما لا يرى السادرون في غَيِّ ما لا يرونَ"(10).

هنا،تتلون الرؤى وتحكي توق الذات وانكسارها الشعوري القلق،وهنا؛ تحمل الشخصية الروائية أكثر من دلالة،وهي دلالة التوجس والخوف من سطوة الذئاب البشرية التي تنقض على لحوم البشر،فكما عانى(زيفاغو)من سطوة الذئاب البشرية،وتحثث الجواسيس وقع أقدامه وخطاه عانت الذات الشعرية الواقع نفسه،من سطوة الجواسيس الأمريكية حتى اضطر إلى مغادرة البلاد،بحثاً عن ملجئ آمن،وهنا؛ يرصد الشاعر- بحركة استطيقية بارزة- الأحداث الروائية بالأحداث الشعرية،وتتداخل الرؤى والأحداث الشعرية بالرؤى والأحداث الروائية بجامع أستطيقي منفتح الرؤى والدلالات على واقع الشخصيتين معاً،وتبرز الدلائل المرجعية الاستطيقية التي تضاعف الحركة الدرامية والصراع الداخلي والحراك الشعوري المتوتر:( يرى في البلاد التي تتشظّى.. كما يتشظّى الزجاجُ ما لا يرى السادرون في غَيِّ ما لا يرونَ )؛وكلما توغل القارئ في حيثيات الأحداث تمثل له الحراك الاستطيقي المفتوح على أكثر من محور وموقف شعوري متوتر؛وهنا ينتقل إلى رصد توتر الذات الروائي وحركة الصراع الدائرة في باطنها، منتقلاً من ذاته إليها، ومنها إلى ذاته، بارتداد محتدم بين ما يعيشه هو وما يسقطه على شخصيته الروائية من متعلقات شعورية؛ إذ يقول:

"ضَيِّقَةٌ هي المُدُنُ التي تخافُ من الشعرِ
وأضيقُ منها نُفوسٌ تضيقُ بأسئلة الآخرينْ
ذاتَ مساءٍ حزينْ،
تَتَسَلّل ُأحلامُهُ .. ويَظَلُّ وحيداً
تُجَرِّدُهُ الريحُ مما تَبَقّى له.. من طفولتهِ..
وبَنيهِ وزوجته.. ويَظَلُّ وحيداً
لماذا تخيَّرَ لارا ؟
وخيَّرها بين حالين.. أنْ تتشرَّدَ أو تتشرّدَ !
أَدْخَلَها في عواصفهِ..
إنَّ مملكةَ الشعراءِ تغدو مباركةً.. بحنان النساءْ"(11).

هنا، يرتد الشاعر إلى الذات بحركة استطيقية مفتوحة في مدها الزمكاني لتحكي معاناة الذات من خلال الشخصية الروائية، ومعاناة الشخصية الروائية من خلال معاناة الذات واغترابها،وكأن ثمة حراكاً أستطيقياً مفتوحاً يرتد صداه من الباطن إلى الخارج ،ليكشف معاناته من معاناة شخصيته الروائية، وهنا يدخل أجواء شخصيته الروائية ليحكي تاريخها، وعشقها، وولعه بمحبوبته (لارا)،في تلاحم شعوري يجمع أنثى القصيدة بأنثى الرواية،وأهمية هذه المخلوقة في تحريك الوجود، وتلوينه بالحسن والجمال،(إن مملكة الشعراء تغدو مباركة بحنان النساء)؛وهكذا، تنفتح الرؤية الشعرية أستطيقياً،لتشتغل على بنى محركة للحدث،ولعل أبرز ما يوجه تيارات الإحالات الشعورية الدرامية المحتدمة،رصد أجواء الشخصية الروائية، بمصاحبات متعلقة بالشخصية، وإحالات جديدة مضافة إليها ضمن مسار القصيدة؛كما في قوله:

"لارا.. هي الدفءُ والطمأنينةُ
لارا.. قصيدتهُ الأخيرةُ
كانتْ تلوحُ لهُ كلَّما فارقتهُ أصابعهُ..
فتعودُ إليهْ
وتذهَبُ لارا .. بعيداً
يُطاردهُ ما تخيَّلَ من صورةٍ للبلادِ
ويطردُهُ مَنْ تَخَيَّلَهم ْ أُمناءَ على ما تَخَيَّلَ..
من صورةٍ للبلادْ
خَذَلَتهُ الطيورُ التي اعتكفتْ في الشتاءْ
واعتزلت في الربيع.. الغناءْ
خَذَلَتْهُ القصائدُ.. حينَ تأَبّطها كذبُ الشعراءْ
خذلتهُ المدينةُ..مُذْ أَطفأَتْ قناديلَ مُعجَمِها..
لتغدو الكتابة.. بلهاءَ.. بلهاءَ.. بلهاءْ
ناضِبَةً ومُدقِعَةً.. كما أفقر الفقراءْ"(12).

هنا يرتد الشاعر إلى شخصيته الروائية ليعيش واقعها الروائي وعشقه لمحبوبته لارا،التي تمثل له أنثى الوجود،كما تمثل للشاعر أنثى القصيدة بمتحول أستطيقي يباعد بين المحبوبة في الشخصية الروائية والمحبوبة عند الذات الشعرية ،فمحبوبة الشاعر العراق،وسيموت لاهثاً وراء ترابها كما شخصيته الروائية (شخصية الدكتور زيفاغو)التي قضت نحبها إثر ملاحقتها أقدام محبوبته(لارا)ووقع صريع قدميها، على محطة القطار، ليسطر الأدب أجمل تراجيدية غرامية بانورامية محتدمة في رواية (الدكتور زيفاغو)،وقد وظف الشاعر هذه الشخصية بحراك شعوري ارتدادي ينقل ما في داخله إلى شخصيته الروائية، وتتلون بالدلالات والإحالات الممتدة في أفقها وتناميها الدرامي الاصطراعي الذي يعيشه على مستوى الذات، مرتداً للآخر،وهو ما يضمن حراكها الشعوري وأفقها الإبداعي المتنامي،فلا يستطيع القارئ أن يفصل معاناة الشاعر عن معاناة شخصيته الروائية،وبهذا التلاحم تتنامى الأحداث والرؤى بفواعلها ونواشطها الإيحائية كافة ،كما في قوله:

"يَتَجَمَّع كالثلجِ.. ثمَّ يذوبْ
أرهقتهُ الحروبْ
كلُّ مفاجأةٍ تترصّدهُ.. خبّأتها الدروبْ..
تَليها مُفاجأةٌ..
ليحيا حياةً مُرَوِّعةً.. من قبيل الملاحم كانتْ
وكانَ.. كما في الأساطيرِ..
يُنبتُ أنىّ يكون حقولاً خُرافيةً.. ويُغادرها
ويُقيمُ بيوتاً كما يتمنى.. ويهجرها
يتغيَّرُ وجهُ البلادِ.. وهو كما كانَ..
أو يتغيَّرُ حكامُها.. وهو كما كانَ..
تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ.. ويألفها وتغيبُ..
وهو كما كانَ.."(13).

هنا،يرصد معاناته من خلال شخصيته الروائية وتتضافر الرؤى الاستطيقية المنفتحة في مدها الزمني لتحكي معاناته وجدلياته ومشاعره المحتدمة،وكأن ثمة رؤى مفتوحة يريد أن يبثها إلى القارئ ليحكي غربة الدكتور (زيفاغو)ومعاناته والأحداث االبانوامية المحتدمة التي عاشها ،مجسداً من خلال هذه الشخصية الواقع الاغترابي،فهو كلما ألِفَ بلاداً ارتحل عنها ؛وكان ثمة زعزعة في الداخل انتقلت إلى الخارج فلا يستقر له حالٌ ولا يهدأ له بالٌ في ظل هذا الواقع الاغترابي تتلهوج الشخصية الروائية، وتحكي واقعها الاغترابي المرير لتعيش واقع الأساطير ،والدلائل المرجعية الاستطيقية المنفتحة في مدها الزمكاني على شاكلة قوله( ويُقيمُ بيوتاً كما يتمنى.. ويهجرها.... تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ.. ويألفها وتغيبُ.. وهو كما كانَ..)،وهنا، تزداد الرؤى البانورامية الاغترابية ويتسع طيفها الدلالي والرؤيوي كلما دخلنا معمعة الرؤية البانورامية المحتدمة بين رؤية الشاعر وشخصيته الروائية،وهذا ما يدلنا عليه قوله:

يرسمُ لارا على صفحةٍ من كتابٍ قديمٍ.. ويوقظها
فإن غيّبتها المنافي.. تَخَيَّلها.. حيثُ كانَ
تُشاركهُ عربات القطارات..
تسبقهُ..
إذ يُحاولُ أن يتآلفَ من غير مَكْرٍ.. مع الخوفِ
في كلِّ بيتٍ سيدخلهُ ويفارقهُ بعدَ حينْ
وفي كلِّ ثانيةٍ تتخفى.. وتهربُ..
حتى تكونَ.. خارج بيت السنينْ
. . . . . .
. . . . . .
والذينْ..
وجدوا في حدائقهِ ثمراً غيرَ ما عرفوا من ثمارْ
وفي ما يقولُ.. غير َ الذي ألفوا منْ كلامْ
همْ آسروه..
فكانَ الأسيرُ الذي يقاتلُ في جيش آسرهِ,,
أيُّ معجزةٍ..
سَتُفَكِّك هذا التداخل بين الخراب وبين الخرابْ
بينَ شدو اليمامِ وبين عواء الذئابْ؟"(14)

هنا، يرصد الشاعر في حركة درامية منفتحة واقع الشخصية الروائية،ويكرس معاناته القلقة كلها،وكأن الحدث الذي يجسده الشاعر يبين عمق المفارقة بين الخراب الداخلي الذي تعيشه الذات الشعرية والخراب الداخلي الذي تعيشه الشخصية الروائية،وهنا، تتلون الدلالات برؤى منفتحة، لتحكي العالم الاصطراعي المؤلم،والدليل المرجعي على ذلك قوله:( أيُّ معجزةٍ.. سَتُفَكِّك هذا التداخل بين الخراب وبين الخرابْ بينَ شدو اليمامِ وبين عواء الذئابْ؟".وهنا،تتداخل الرؤى وتتمركز على أكثر من محور،وتنتقل الرؤى في حركة بانوامية مفتوحة ليرصد الشاعر في النهاية رؤيته، ويسقط واقعه على واقع الشخصية،كما في قوله:

ثمَّ عاد إلى بيتهِ..
يتساءلُ.. هل عاد يوماً إلى بيته ؟!
كان يبحثُ عن كلِّ ما ضاع منه.. قصائده والبلادْ
أُسرته وحبيبته..
كلُّ أصحابه اعتكفوا.. هاجروا.. قتلوا.. انتحروا
وماكان يبحثُ عنهُ.. طوتهُ الأعاصيرُ..
فاختارَ لحظته الأخيرةَ.. ثمَّ مضى..
لينامْ"(15).

هنا ،يحكي الشاعر معاناته، وحالة الفقد والاغتراب التي عاناها من فقده لأصدقائه وأحبائه الراحلين، لأسرته،وخلانه ولرفقاء دربه الذين قتلوا وارتحلوا وطوتهم نوائب الدهر تحت عجلاتها وجراحها ومآسيها الكثيرة،وهكذا ،تتنوع الإحالات والرؤى الاستطيقية المنفتحة في مدها (الزمكاني)،لتطرح القصيدة بانوراما من الأحداث المكثفة التي تتنوع إلى أكثر من متغير شعوري اغترابي تبثه القصيدة بين ثناياها؛ وهذا ما يجعل الأحداث التي تبثها قصائد( أولئك أصحابي) منفتحة أستطيقياً في مدها البانورامي الزمكاني المفتوح،لتحمل قصائده فواعل رؤيوية نشطة في حركتها الدلالية ورؤاها الشعورية المكثفة،وهذا ما يحسب للشاعر حميد سعيد في توظيفه للشخصيات الروائية بما يراهن على معاصرتها، والعيش في أجوائها، والتنفس من خلالها عبق الحياة وعبير الوجود،وقد أكد حميد سعيد في أكثر من موقع أن النص الشعري الحقيقي لا يعيش بلا متنفسه الرؤيوي الخلاق،وذهنيته المتوهجة،وقراءاته المنفتحة،على أكثر من رؤية ومرجعية إبداعية رؤيوية محتملة.

أستطيقا الزمن الروائي- الشعري مشهداً بانورامياً متحركاً بالأحداث، والمواقف الرؤيوية البانورامية المتداخلة:
لا شك في أن فواعل الرؤيا الشعرية في قصائد(أولئك أصحابي) تعمل في جميع تشكيلاتها الاستطيقية على تفعيل الزمن الشعري –الروائي، بوصفه نقطة تمفصل الشخصيات، ومحور تكثيف أحداثها، ورؤاها، ومؤثراتها النفسية – الرؤيوية،ومنعكساتها الوجودية،ولهذا، وظف حميد سعيد هذه الشخصيات بعيداً عن إطارها الزمني الجامد الماثل في الزمن الروائي، ليدخلها ضمن نطاق الزمن الشعري المتحرك على أكثر من مرحلة،وأكثر من محرق دلالي، ليجمعها محرق جامع مشترك لكل الرؤى والأطياف الاستطيقية المتوالدة، لتصب في محرق (الرؤية الجمالية) أو (جمالية الرؤية)؛ولهذا قال في سياق هذا الاستحضار الفاعل ما يلي :( إن ما يجمع بين شخصيات – أولئك أصحابي – هي الرؤية الجمالية التي حاولت من خلالها كتابة قصائد المجموعة، وهذه القصائد تنفرد كل واحدة منها بموضوعها ، وهو حاصل تفاعل عاملين، فضاء الرواية التي تمثلتُ أحداثها أو أشخاصها أو بطلها، إنْ كان هذا الوصف يعبر حقاً عن الشخصية التي تمثلتها في عدد من القصائد دون غيرها من الشخصيات ، والرؤية التي حددت طبيعة التمثل للأحداث والأشخاص .لكن ، لكل شخصية رمزيتها، وموقفها من الحياة ، سواء كان هذا في الرواية أو في الواقع، إذا افترضنا إن بعض شخصيات الروايات التي اخترتها، هي شخصيات واقعية ، قبل أن تدفع بها مخيلة الروائي إلى صورتها في الرواية ، وهذا سيتكرر في النص الشعري، لأن النص الشعري في – أولئك أصحابي – لا يمكن أن يشتغل خارج فضاء الرواية التي تمثَلَ أحداثها أو أشخاصها، حتى وإن اختلفت أدوات الشاعر عن أدوات الروائي، واختلفت مخيلة الشاعر عن مخيلة الروائي.إن شخصية –القبطان إيهاب - في رواية – موبي ديك – في سيرتها أو في رمزيتها ، تختلف عن شخصية الصياد العجوز – سانتياغو – في سيرتها أو رمزيتها، حتى علاقة الأول بالبحر ، مملكته العظيمة، وبمخلوقاته وأسراره ، تختلف عن علاقة الثاني بالبحر، فضائه الساحر ومكوناته، ولكل منهما ، أخلاقياته ، بل لكل منهما مصيره .وما أشرنا إليه، من اختلاف بين شخصية القبطان إيهاب والصياد العجوز ، يمكن أن نجده في شخصيتي – مدام بوفاري – وشخصية – الليدي شاترلي - وإذا كان لكل منهما علاقة جنسية مع عشيق ، دافعها الجسد الفتي، فإن لكل منهما مبرراتها السايكولوجية أيضاً، ولكل منهما ما يميزها سلوكاً واستجابات .لقد كانت علاقتي بهم جميعاً، على اختلاف مكوناتهم واختلاف حضورهم الرمزي ، لا تختلف عن علاقة إنسان اجتماعي ، تفرض عليه الحياة الاجتماعية ، أن يلتقي بنماذج إنسانية مختلفة، من النساء والرجال، وأن تشكل هذه اللقاءات ، علاقات ، ذات طبيعة مختلفة أيضاً.في الحياة مثلاً، يمكن للمرء أن يتحدث عن جار أو قريب أو زميل عمل أو سفر، وقد يتحدث عن امرأة متمردة وأخرى منضبطة ، وما إلى ذلك من نماذج إنسانية.إنهم جميعاً، يشكلون محيطه الاجتماعي ويكونون عاملاً مؤثراً في تجربته الحياتية ، أما أولئك الذين تمثلتهم في قصائد هذه المحاولة، في تنوعهم، فإنهم مصدر غنى وفعل حيوية لتجربتي الوجودية"(16).

والواقع أن الدافع الاستطيقي الذي جعل هذه القصائد تستحوذ على هذا الكم من الاستقطاب الجمالي الفاعل في تلقيها أنها تتضمن أكثر من محور استطيقي فني جمالي يسهم في الكشف عن مخزونها الإبداعي الثر،ويعد المشهد البانورامي المتحرك بالرؤى،والأحداث من فواعل هذه القصائد أستطيقياً للكشف عن المقتضى الزمني لحركة هذه القصائد وفق مكونها (الرؤيوي- الجمالي)، فالأحداث المتداخلة، وتنويع الشخصيات كلها تصب في خانة واحدة هي حراك هذه الشخصيات في النص الشعري، واكتسابها حركتها الجمالية،وللتدليل على فاعلية(الزمن الروائي- الشعري)استطيقياً في قصائد هذه المجوعة على مستوى الأحداث، والمواقف الرؤيوية البانورامية المتداخلة، نأخذ قصيدة( ما رواه الفتى الأزهري عن السي السيّد) لحميد سعيد،وفيها يتمثل الشاعر شخصية " السي السيد" بطل ثلاثية نجيب محفوظ .

وفيها يتلاعب الشاعر حميد سعيد بالشخصية الروائية بالارتكاز على مسألة الأحداث المتداخلة المفتوحة والزمن المفتوح لتتمدد القصيدة على أكثر من مرحلة، وتشمل رحلة حياة ووجود من خلال كثافة أشخاص الرواية، وتراكم الأحداث، والأصوات المتحاورة في القصيدة،ناهيك عن تتابع السرد، وتماشيه مع حالة القص الشعري،وكأن الشاعر يراهن بزمنه الوجودي لا زمن القصيدة،وعالمه المكتظ بالشخصيات الغريبة التي تتعدد دون أن تشكل حضورها في واقعه الراهن الآن،وقبل الدخول في البنى العميقة التي ترتكز عليها هذه القصيدة،نورد لمحة عن ثلاثية (نجيب محفوظ وهي مؤلفة من ثلاثة أجزاء هي: " أ-بين القصرين: هي الجزء الأول وكان مهادها القاهرة ، حي الحسين ، ويحكي قصة أسرة من الطبقة المتوسطة تعيش في هذا الحي قبل وأثناء ثورة 1919 ، ورب هذه الأسرة شخصية قوية ومتناقضة هو السيد أحمد عبد الجواد " سي السيد " وتتكون عائلته من الزوجة – أمينة – وابنه البكر من زوجته المطلقة – ياسين – إلى جانب ولدين فهمي وكمال وبنتين خديجة وعائشة.ورأى سي السيد في الثورة تهديداً لتقاليد الأسرة ومفاهيمها. ب-قصر الشوق: الجزء الثاني من الثلاثية ، تواصل سيرة الأسرة بعد وفاة الإبن فهمي في أحداث ثورة 1919 ، حيث يكبر كمال الذي تخرج من معهد المعلمين وكان محباً للأدب والفلسفة.وفي هذا الجزء نشهد زواج ابنتي سي السيد وزواج ياسين وانتقاله إلى بيت كان قد ورثه عن أمه.وينتهي هذا الجزء بوفاة سعد زغلول الزعيم المصري، أما عنوان هذا الجزء فيعود إلى منطقة قصر الشوق ، وهو قصر كانت تملكه سيدة موسرة اسمها (شوق).ج-السكرية: وهي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية نجيب محفوظ ، والسكرية حي معروف من أحياء القاهرة القديمة .أما أحداث هذا الجزء فتأتي لاحقة بأحداث قصر الشوق من 1934 إلى 1943 ، حيث نرى أطفال الجزء الثاني شباباً، ولكل واحد منهم شخصيته ومشاريعه وتوجهاته.وأشخاص الثلاثية كثيرون، منهم من استمر في جميع الأجزاء ومنهم من اختفى."(17).

أما في فضاءات القصيدة فإن حميد سعيد يوظف شخصية(سي السيد) في خضم سلسلة من الأحداث والرؤى المتداخلة التي تبين العادات والتقاليد القديمة من سلطوية الأب، وهيمنته على الأسرة،وهي بطابعها تحمل السلب، وتنفذه واقعاً وفعلاً وتنهى عنه في البيت قولاً وممارسة،فالشاعر أراد أن يعكس من خلال هذه الشخصية سلسلة من القضايا والرؤى المصطرعة بين ما يضمره وما يمارسه ،في خضم موج متلاطم من الأحداث، والمرويات، والمسرودات المتتابعة،وكأن الشاعر يرصد بواطن شخصيته الروائية ليعكس إحساسه وإحالاته الرؤيوية المضافة بين الحين والآخر،وهنا، يحكي بلسانه هو ما حدث له عندما غادر العراق لقد فقد أصحابه فجأة ولم يجدهم،بمحاورة تنتقل من الذات إلى شخصيته الروائية بتلاحم شعوري حد الالتصاق حيناً،وبانفصال عنها حد الحديث عنها والتباعد المطلق حيناً آخر؛عبر مناوشة أستطيقية بين ما يبطن في قرارة ذاته ،وما يكسبه لشخصيته الروائية من إضافات، إذ يقول:

" لم أَجِدْ في هذه الليلة أصحابي..
وكنا نلتقي في مسجد الحيِّ..
وقدْ أرهقنا الدرسُ المسائيُّ
تخفَّفتُ من العِمَّةِ والجُبَّةِ .. بالجلبابِ
صَلَّيتُ.. وواصلتُ طريقي
قبلَ أَنْ أدنو من الميدان..
سَلَّمتُ على جارتنا.. بائعة التمرِ
دعَتْني .. مثلما تفعلُ..
أن أحكي لها عمّا تعلَّمتُ.. وما أحفظُ من آيِّ الكتابِ..
انتظَرَتني وأنا أقرأُ يس
وإذْ قاربتُ من أن أنتهي منها..
بكَتْ واستغفَرَتْ
قالتْ..
لقد كانَ أبي شيخاً جليلاً زاهداً
لكنّني أخطأتُ إذْ صرتُ أرى الدنيا..
كما كنتُ أراها..
لاكما كانَ..تعاليتُ عليها وعليهْ"(18).

هنا،يبدأ الشاعر مجاذبة شعورية بين واقع شخصيته الروائية، وحراك الذات في حوار بوحي ومشهد واقعي -على ما يبدو للقارئ- مشهداً وصفياً معتاداً في واقع حياتنا الراهنة،لكن ما إن يدخل المرء في عفويته وبساطته سرعان ما يرتد و يدخلنا في جو الحدث الرؤيوي المتنامي المنفتح أستطيقياً على بانوراما مكثفة من الأحداث، والرؤى، والذكريات المنفتحة التي تربط جزئيات هذا الحوار بين واقع الشخصية الروائية بالأمس وواقع الشاعر في عزلته اليوم ليس من مؤنس سوى ما يجده من أناس عابرون يرتسمون أمامه صوراً ثم يتلاشون كرغوة الصابون،هذا هو حاله في اغترابه،وهكذا هي رؤاه ومنظوراته أستطيقياً للشخصيات العابرة في لياليه الاغترابية الطويلة،وذلك بالانفتاح بالأحداث على أزمنة ماضية، وأزمنة حاضرة من خلال رمزية جمالية غاية في الإثارة والبث الشعوري الكاشف عن نوازع الشخصية الروائية وهي شخصية(بائعة التمر)ليحكي من خلالها واقع البؤس والفقر والشقاء الذي تمتاز به مصر القديمة، من اختلاط المرأة في المجتمع لدرجة تقوم بأعمال الرجال،لسد حاجة العوز والفقر التي تمتاز بها معظم المجتمعات البائسة الشرقية ،خاصة المجتمعات العربية،وما الواقع الروائي الذي يطرحه إلا ليظهر واقعه الاغترابي، وواقع شخصيته الروائية الإباحي بأن تعمل المرأة كل ما في طاقتها لتنال قوت يومها، سواء بالكسب الشريف(المشروع)، أو المشبوه بعلاقات جنسية إباحية أو ما شابه ذلك من علاقة بائعة التمر بالسيد أحمد عبد الجواد الملقب ب(سي السيد)،والدليل المرجعي الاستطيقي الدال على لسان بائعة التمر(لكنّني أخطأتُ إذْ صرتُ أرى الدنيا..كما كنتُ أراها..لاكما كانَ..تعاليتُ عليها وعليهْ".وهكذا يفتح الشاعر قنوات الحوار على مرجعيات وأحداث متلاطمة في تكثيف حراك المشاعر والأحداث وتلوينها بأكثر من رؤية، وموقف شعري ضاغط،كما في قوله:

فجأةً..يحملُني الليلُ إلى مملكةٍ أُخرى
أرى من جسدي.. ما لم أكنْ أعرفُهُ
ما هذه الأنشودةُ السوداءُ.. في إيقاعها الوحشيِّ ؟
مَنْ هذا الذي شاركني أولَّ أمطاري؟!
وما تُنبِتهُ أرضي
وما تُثّمِرُ أشجاري
إذا مدَّ يداً في الجمر بين الثوبِ والنهدين..
شَبَّتْ نارُ أوتاري"(19).

إن هذا الحوار الاستطيقي الإباحي الذي يجسده الشاعر على لسان بائعة التمر يعري الموقف المتناقض لشخصية(سي السيد) بين ما تمارسه سراً من إباحيات، وما تظهرة من ورع وتقى وصلاة في المساجد،وكأن الشاعر يبين أوجه الصراع في باطن الشخصية الروائية،والهواجس المترامية التي تصطرع في داخلها بين نيران الشهوة وإحجامها، والانصياع لها والتزيِّ بالورع والعفاف والتقى بملمح أسلوبي ديالكتيكي تتلون فيه الأحداث بين ما تصرح به شخصية بائعة التمر وما يجسده من مرويات مسكوت عنها في باطن الشخصية الروائية، وخاصة الصور الإباحية التي تجسد ولع المجتمعات الشرقية بالجنس في واقعها اليومي،وفي كل الأماكن(إذا مدَّ يداً في الجمر بين الثوبِ والنهدين..شَبَّتْ نارُ أوتاري"،وسرعان ما يجسد عبر هذه المحاورة البواطن الداخلية لشخصيته الروائية:

"أما شاهدتَهُ في آخر الليل ؟
بلى..
شاركتهُ الدربَ إلى الجامعِ..
مأخوذاً بأمواج الشذى..
قاربتُهُ حين يُصَلّي .. كان في المُطْلَقِ كالصوفيِّ..
في ما يصلُ الإنسانُ بالله.. مُضيئاً
. . . . . .
. . . . . .
ضحكت جارتنا.. بائعةُ التمرِ
وقالتْ..
طالما شاهدُتُهُ.. في أولِّ الليلِ يعبُّ الخمرَ..
يدنو من ثماري .. شَرِهاً
يقطفُها..
يلعبُّ بالدفِّ .. يُغَنّي
يتثنّى كدخان الخشب الأخضَرِ في الموقدِ
لو حدَّثَكَ النيلُ..
وكان الشاهدان الماءَ والليلَ..
على ما كانَ..
لاستوقفتهُ .. تسألهُ إنْ كانَ من رافقتهُ..
في آخر الليل إلى الجامعِ..
ذات الرجل الشاهدُتُه في أولِّ الليلِ ؟!"(20).

إن هذا الجو الاصطراعي الدرامي المحتدم في بواطن الشخصية الروائية يكشف عنه الشاعر عبر المحاورة الكاشفة والشخصية المتمركزة رصد الاصطراع والتناقض في شخصية(سي السيد) وهي بائعة التمر، التي ترصد نواقض الذات العربية بين ادعاء الورع والتقى في النهار، والتستر بالمفاسد والمكاره والرذائل التي يمارسها في ظلمة الليل،،وقد جسد الشاعر -بوصفه الشخصية الرائية المرافقة لشخصية(سي السيد)- بواطن الفساد والتناقض في ممارسات هذه الشخصية في واقعها البانورامي المحتدم بين ما تسر وما تعلن ،وما تتستر به،وما تظهره للناس من ورع وتقى في الظاهر، وانصياع مشبوب لنيران الغريزة والشهوة التي تغلي في عروقها في الداخل،وهنا، تتعدد الشخصيات، والمشاهد البانورامية المحتدمة، وتتداخل بحراك شعوري يعكس الحراك الاستطيقي زمكانياً عبر تتابع الأحداث، والرؤى المكثفة التي تشي بها القصيدة على امتداد حركتها النسقية:

كان الملكُ الجبّارُ
إنْ لمْ يحضرْ الخوفُ.. اللقاءَ العائليَّ..
ابتعدتْ عنهُ سجاياهُ
سيغدو رجلاً .. يضحَكُ كالناس ويحكي مثلهمْ
قال ابنه البكرُ..
لقد كنتُ صبيّاً .. وتساءلتُ..
أهذا رجلٌ .. يضحكُ كالناس ويحكي مثلهمْ؟!
أسألُهُ .. يمنعُني الخوفُ..
وإذْ شاهدتهُ يضحكُ..
هذا رجلٌ أخرٌ .. قلتُ
وهربتُ.."(21).

هنا، ينفصل الشاعر عن الشخصية الروائية ليدخلنا عالمها الواقعي كما تنطوي عليه في واقعها الروائي من التسلط والهيمنة والجبروت ،ف(سي السيد ) الشخصية الروائية الصارمة التي لا تعرف الضحك في البيت تمارس تسلطها الجاهل،وذلك خيفة أن يفقد قدسيته، ودوره السلطوي في التربية،إذ يسري الخوف في جميع أفراد العائلة عندما يدخل (سي السيد المنزل)،وكأن زلزالاً مروعاً يهتز في المنزل لقدومه،وهذا ما جسده الشاعر على لسان ابنه ليكون الحوار مفتوحاً والدلالات ممتدة أستطيقياً في حركة بانورامية ترصد تداخل الشخصيات وتعددها، وتعدد الأوصاف المنضوية تحت لواء الشخصية البطلة المتمركزة جوهر الصراع والتناقض والحركة الدرامية في القصيدة،والدليل الاستطيقي البارز على تنوع الرؤى وانفتاحها على احتمالات ممتدة حدثاً، وزماناً، وحساً وجودياً مصطرعاً بين ما تمارسه الشخصية الروائية من إباحيات ومحارم، وما تدعو إليه من انضباط في سلوكها، هو الدليل الاستطيقي المرجعي الدال بوضوح:): لقد كنتُ صبيّاً .. وتساءلتُ..أهذا رجلٌ .. يضحكُ كالناس ويحكي مثلهمْ؟!أسألُهُ .. يمنعُني الخوفُ..وإذْ شاهدتهُ يضحكُ..هذا رجلٌ أخرٌ .. قلتُ وهربتُ.."،وفي هذا التجسيد التصويري البانورامي واللقطة المكثفة(قلت.. وهربت)؛ثم يتابع رصد الأحداث بتداخل استطيقي بين السرد، والحوار، والوصف ،وتنوع الضمائر بين السائل، والمتحدث والمخاطب في بانورامية رؤيوية مفتوحة على احتمالات ورؤى متداخلة،كما في قوله:

عائداً كُنتُ من الدرس المسائيِّ
وسَلَّمْتُ على جارتنا.. بائعةِ التمرِ..
كما أفعلُ في كلِّ مساءْ
فأشاحت وجهها عنّي.. وغَصًّت بالبكاءْ
ماتَ..
لمْ أسأَلُها من ؟
إذْ تراءى لي على مقربة.. بيتُ عزاءْ
إنَّ ما فاجأني أن أجدَ السيِّدَ .. من بين المُعَزِّين !
تساءلتُ..
بمَن جاءَ يُعَزّي؟
أَيُعَزّي فيه ؟!
منْ ماتَ إذاً ؟!"(22).

هنا،يدخلنا الشاعر في مشهد يكاد يكون عادياً ومألوفاً في واقعنا العياني المباشر، وهذا ما يجعل الحدث يبدو ساخناً مباشراً في دلالته ورؤيته الاستطيقية الواضحة،(.مات.. ماتَ.. لمْ أسأَلُها من ؟ إذْ تراءى لي على مقربة.. بيتُ عزاءْ إنَّ ما فاجأني أن أجدَ السيِّدَ .. من بين المُعَزِّين ..منْ ماتَ إذاً) ، إن هذه المساءلة تعكس طزاجة المشهد وبداهته وروتينيته، وكأن الشاعر استقطب هذا الحدث الروائي ليدخلنا جو الشخصية الروائية مقترباً من حيثياتها وواقعها الروائي حدَّ الالتصاق،وبهذا تكتسب القصيدة مشروعيتها الدالة على الحدث الروائي دون أن تتعداه،لكن الشاعر ما قصد أن يدخلنا جو الرواية من هذا الجانب ،وإنما قصد أن ينوع في الأحداث والمواقف بين الواقعية والمتخيلة ليكشف الكثير عن نوازع الشخصية الروائية ببعدها الزمكاني الشعري والروائي في آن معاً،ولهذا، بدت القصيدة منفتحة في رؤاها، وأحداثها، ومداليلها، ومؤثراتها،وهذا ما يضمن حراكها الجمالي وتنامي المخيلة الإبداعية التي أنتجتها،سواء بالانفتاح على الرواية أم بالانفتاح على أفق المتخيل الشعري الإحالي الجديد:

"في أَوَّل الصيف وقد عدتُ إلى الأقصُرِ..
في كلِّ صباحٍ.. صرتُ ألقاهُ كما كانَ..
ومن ثَمَّ وقد عُدنا..
سمعتُ المنشِدَ الشاميَّ.. قالْ
كانَ في سوق البزوريةِ .. فاستقبلَهُ السيِّدُ في متجرِهِ
أهداهُ..مما تحملُ الأرفُفُ من خير الشآمْ
. . . . . .
. . . . . .
ربّما ألقاهُ قبل الفجرِ.. قد عادَ من السهرَةِ
أو ألقاه بعد الفجرِ.. في الدرب إلى الجامعِ..
أو ...."(23).

إن هذا التحول والحراك في الشخصية الروائية يكشف الفواعل الاستطيقية النشطة في تحريك الأحداث لتتعدى زماكانياً واقعها وتداخل واقعنا،وتماشي عصرنا ومتغيراته(سمعتُ المنشِدَ الشاميَّ.. قالْ كانَ في سوق البزوريةِ.. فاستقبلَهُ السيِّدُ في متجرِهِ أهداهُ..مما تحملُ الأرفُفُ من خير الشآمْ)،وهذا الحراك والتداخل في الرؤى والأحداث هو ما يمنح شخصية (سي السيد) دورها في تعميق فاعلية الشخصية الروائية في النسق الشعري،ولهذا ، تعد هذه القصيدة من البؤر المفصلية الدالة على تفاعل الأحداث الروائية بالشعرية؛ والشعرية بالروائية لتنتج نصوصه الإبداعية المنفتحة على فضاء الرواية بما يحقق متغيرها الإبداعي المؤثر، والكاشف عن شعرية الاستحضار أستطيقياً في إنتاج الشعرية، وإبراز نواتجها وفواعلها الرؤيوية الكاشفة عن قيمة هذه القصائد على المستوى الإبداعي.

نتائج بحثية أخيرة:

تمتلك قصائد(أولئك أصحابي) الانفتاح الاستطيقي الزماكاني الذي يمنحها الانفتاح في الرؤى وتكثيف الإيحاءات ،فهي لا تقع ضمن المتخيلات الشعرية ولا ضمن المسرودات الروائية الباهتة والمكرورة والمستعادة،إنها هذا التلاقح الفني الخصيب بين شعرية الرواية، وروائية الشعر-إن جاز التعبير- لهذا، تتعدى فضاءها الزمني الروائي الراكد لتحيا زمنها الإبداعي الخالد،وشتان شتان مابين الحدث في شعرية الشعر، وفضاء الحدث في النسق الروائي،في القيمة،والفاعلية،والتكثيف،والإيحاء؛ ولهذا،يخطئ من يظن أن قصائد (أولئك أصحابي) رهينة زمنها أو ابنة زمنها الراهن أو زمنها المنقضي الواهن، إنها القوة الإبداعية الخلاقة التي تتنامى تدريجياً في الوجدان حتى بعد انقضاء زمنها القرائي الذي يذوي بسرعة ويبقى الزمن الإبداعي خالداً في الأذهان لا يمحي أو يزول..

إن الزمن الروائي الشعري- في قصائد أولئك أصحابي- من محركات هذه القصائد على مستوى أستطيقا الشعرية،ولهذا تتلون الدلالات المضافة إليها بفعل الإحالات الشعرية برؤى غائرة في بؤرة الحدث الشعري قبل الحدث الروائي،ولهذا، يتنامى الحدث الروائي -في القصيدة - ويمتد زمكانياً بقوى موحية محركة للرؤى، والباعثة على إبرازها، لاسيما ما يدخل ضمن نطاق الثورة والتمرد تارة ،وما يدخل في باب الاغتراب والعزلة والانغلاق، تارة أخرى؛ ومن يعزل هذه القصائد عن متغيرها الرؤيوي الوجودي فقد عزل شعرية هذه القصائد عن متنفسها الإبداعي الحقيقي ،وجرد هذه القصائد من طاقتها الإبداعية الجارفة،ليقف على ظاهر الدلالات ومايقع تحتها من أطياف سرعان ما تتلاشى وتزول .

وصفوة القول: تبقى لقصائد حميد سعيد هذه العذوبة في بث مكتسبها الرؤيوي الفاعل عبر استطيقا الزمن الروائي والشعري المتداخل الذي يؤكد فاعلية المتخيل الشعري والروائي في إنتاج عذوبة الحركة الاستطيقية الجمالية في قصائد أولئك أصحابي التي تتنامى جمالياً بانفتاح قراءتها ونواتجها الرؤيوية والدلالية المكتشفة على الدوام ،وهذا السر في الاهتمام البالغ الذي حظيت به قصائد هذه المجموعة.

الحواشي:

(1) سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي،ص39.
(2) المصدر نفسه،ص39.
(3) المصدر نفسه،ص40.
(4) المصدر نفسه،ص40.
(5) المصدر نفسه،ص41.
(6) المصدر نفسه،ص42.
(7) المصدر نفسه،ص42.
(8) شرتح،عصام،2016- حوار مع حميد سعيد حول مجموعته الشعرية(أولئك أصحابي): موجود مجلة
موجود مجلة ديوان العرب على الرابط الإلكتروني التالي:
www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
(9)سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي،ص22.
(10)المصدر نفسه،ص22.
(11) المصدر نفسه،ص23.
(12)المصدر نفسه،ص23.
(13) المصدر نفسه،ص24.
(14) المصدر نفسه،ص25.
(15) المصدر نفسه،ص25.
(16) شرتح،عصام،2016-حوار مع حميد سعيد حول مجموعته(أولئك أصحابي) موجود مجلة ديوان العرب
موجود على الرابط الإلكتروني التالي:
www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
(17) مخلف الحديثي،حمدي،2016- تكامل الرؤى،بحث موجود على الرابط الإلكترونيwww.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
(18)سعيد،حميد،2015- أولئك أصحابي،ص43.
(19)المصدر نفسه،ص43-44.
(20)المصدر نفسه،ص44-45.
(21) المصدر نفسه،ص45.
(22) المصدر نفسه،ص46.
(33) المصدر نفسه،ص47.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى