السبت ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم شعبان أحمد بدير

قراءة في «البردة الفلسطينية» للشاعر يوسف حطّيني

في ضوء المعارضات الشعرية

قصيدة (البردة الفلسطينية) للشاعر الدكتور يوسف حطيني قصيدة بديعة مهمة في بابها أثارت مشاعر الحنين لقصيدتين من فرائد الشعر العربي، ألا وهما بردة الإمام البوصيري رائد المدائح النبوية، ونهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي، بل إنها جددت فن المعارضات الشعرية الذي أثرى الشعر العربي قرونا، فالتزم يوسف حطيني نهج القصيدتين في بحر البسيط والقافية وحرف الروي الميم المكسورة، ووحدة الموضوع، ألا وهو مدح المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك تشابهت في البناء الفني من حيث الاستهلال بالغزل، والتخلص منه إلى المديح ثم الخاتمة. كما أنها تشترك في معظم المعاني والمفردات، وهنا تتشابك ثلاثة نصوص، النص الأم (بردة البوصيري) ونصَّان وليدان وهما نص (نهج البردة) لشوقي، و(البردة الفلسطينية) لحطيني
ويبدأ تشابك نص حطيني مع النصين السابقين له من استهلال القصيدة، فنراه يضمن بعض أبياتها أشطرا من القصيدين أو بعضا من عباراتهما ومعانيهما، فاستهل قصيدته بقوله:

يا صاحبَ الشِّعْرِ نَادَانِي منَ الحُلُمِ
“ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلمِ”

فضمن الاستهلال الشطر الأول من قصيدة شوقي:

ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ

وفي بيت آخر يقول حطيني:
فكيفَ والقلبُ قدْ جفَّتْ مَدَامِعُهُ
"مزجتُ دمعاً جَرَى منْ مقلةٍ بدمِ"

فضمن البيت استهلال البوصيري لبردته:

أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم
مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

والفرق في الشطرين في الضمير (التاء) حيث ورد عند البوصيري للمخاطب، وعند حطيني للمتحدث، ليبث في الشطر لواعج نفسه ومكنون روحه. والملاحظ أن الشاعر وضع تضمينه بين علامتي تنصيص، ليلفت انتباه القارئ أن الشطرين مقتبسان من شعر غيره. والتضمين جائز في الشعر عموما وهو في المعارضات أولى، و"التضمين هو أن يضمّن الشاعر كلامه من شعر غيره لشدّة جماله أو لشدّة علاقته بما يقول، نحو قول الحريري على لسان الغلام الذي عرضه أبو زيد للبيع:

على أنّي سأنشد عند بيعـي
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا

حيث ضمّن الشاعر صدر بيت العرجيّ القائل:

أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
ليوم كريـــــهة وســـداد ثغر

وتتلاقى القصائد الثلاثة كذلك في الحنين لرؤية المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم والأنس بنوره واستلام بردته الشريفة، والشكوى له مما حل بالعالم من ظلم وآثام واعتداء من القوي على حقوق الضعفاء واستلابه لها، لعله يعود بنهجه وسنته كي يملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا. يقول يوسف حطيني:

هل كنتُ يوماً وليّاً كي يفاجِئَني
في هَدأةِ اللَّيلِ خيرُ الخَلْقِ كلِّهِمِ
وكي أنالَ سَعيداً دفْءَ بُرْدَتِهِ
مِنْ بَعْدِ عُمْرٍ غَذَاهُ الشَّيبُ بالهَرَمِ
وكي ألاقيَ يوماً من سيَسْمَعني
بقلبِهِ، حينَ هذا الكونُ في صَمَمِ

فمدح الرسول الكريم هو الذي سيعيد للشعر زهوته، وللمعاني رونقها، وللشعر عبيره وروحه وبريقه:

وكي يُعِيدَ عبيرُ الشِّعْرِ سيرَتَهُ
لأنَّ في سيرةِ المُختارِ ريَّ ظَمِي
وتستعيدَ بحورُ الشِّعْرِ زهوتَها
بسيرةِ المصطفى في أنصَعِ الكلِمِ

والمعارضة في هذا السياق تتجاوز التـقليد إلى الإبداع، والمتابعة إلى الابتكار، يمزج فيها الشاعر بين القديم والحديث، فيحيي أمجاد القديم، ويضفي على الحديث الماء والرونق، بل إنه بث في القصيدة مكنون نفسه، ولأنه شاعر صاحب قضية فقد عبر عن قضيته من عتبة العنوان (البردة الفلسطينية) إلى الاستهلال الذي انتقل منه إلى أبيات البردة التي عبر خلالها عن الحنين والشوق للعودة لوطنه المستلب، يقول:

وهل سترجعُ أيامٌ لنا سلفَتْ
مِن بعدِ أن قُتِّلَ التّهيامُ بالبَرَمِ؟
وراحَ طيفُ منامي يستعيدُ رُؤى
كطيبِها، إذْ سَقَاها عارضُ الرَّكَمِ
أيّامَ تلعبُ في شيبي أصابِعُها
ونشتهي غمراتٍ في لَظَى الدُّجَمِ

لقد تتبع يوسف حطيني في بردته مراحل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ مولدة وأحداث عام الفيل، ثم البعثة النبوية، ورحلة الإسراء والمعراج والتقائه الأنبياء، ثم الهجرة وبناء الدولة الإسلامية، ثم فتح مكة وتطهير مكة من الرجس والأوثان، ثم حجة الوداع وإلقائه للوصايا الخالدة، ثم وفاته بعد أن أتم رسالته. في لغة رصينة وصور مبتكرة ومعان معاصرة توافق القضايا التي تشغل عالمنا وتملأ قلوبنا شجنا:

فكيفَ يا سيّدي ظُلْماً يُراقُ دمي
على يديْ إخوتي في الأشهُرِ الحُرُمِ
أشكو إليكَ سبيلاً حارَ سالكُهُ
أللَّيلُ أوّلُهُ واللَّيْلُ في اللَّقَم
ولم أَجِدْ في المَدَى ما أستضيءُ بِهِ
سوى قَصيدةِ شِعْرٍ للفخَارِ نُمي
أردْتُها بردةً خضراءَ حالية
كوجهِ حيفا فلسطينيّةَ الوَسَمِ
لعلَّ قارِئَها تغشاهُ تذكرةٌ
للتُّوتِ والحَوْرِ والزّيتونِ والسَّلَمِ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى