قراءة في «جـُرأة» للشاعر المغربي محمد الأشعري
جرأةلها الضوءُ يغسلُ جزءاً صغيراً بضَحكتهاولها مطرُ الليل ِوالشجرُ المتسابقُ نحْوَ الظلال ِو رقرقة الماءِ.أذان العِشاءْوكل الذي يرفـُل الآنَ في السرِّبيني وبين أناملهاإذ أحرِّرُ نفـْسي عميقـاًوأمسكُ مبتهلا ببياض ترددها العذبِ...ما الذي سوف تتركه خلفها في الممرِّإذا انتفضتْأو مضتْأأكون أنا من سيَمكـُث ُ في رجفة القبلة المطفأة ْ.أم يكون الذي خلتهُضوءَ ضحكتهابينما تأخذ ُالريح ُ كلَّ براءتنا،ويموتُ كلانا بنفس السذاجة ِمفتعلا ًجرأًة ًمترفة ْ. [1]
1ـ تمهيد
الشاعر محمد الأشعري (من مواليد سنة1951) صوت شعري مغربي، بدأ الكتابة منذ سنوات السبعينات، وهو من المجموعة الشعرية التي تعرف في الشعر المغربي باسم (جيل السبعينات) وهي تسمية قابلة للنقاش، إذ لم يعد مقبولا هذا التحقيب الذي إنما لجأ إليه النقاد في مرحلة لهدفٍ إجرائي، ولا يجب أن يستمر بعد أن فقد دلالته أو كاد، ويمكن القول إن الشعر المغربي خلال مرحلة السبعينات بلغ مرحلة النضج الفني، بحيث يمكن تحديد ملامح فنية ومعنوية خاصة به، على مستوى اللغة والرؤيا، فنيا ومعنويا، ويعتبر جيل هذه المرحلة هو الجيل الشعري الثاني، في القصيدة الشعرية المغربية المعاصرة التي بدأت بمن يمكن تسميتهم بجيل الرواد، وهم تلك المجموعة التي درسها الشاعر الناقد محمد بنيس في كتابه (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب)، وللشاعر محمد الأشعري عدة إصدارات شعرية نذكر منها (صهيل الخيل الجريحة)1978 و(عينان بسعة الحلم)1982و(يومية النار والريح)1983 و(سيرة المطر)1988 و(مائيات) 1994 وبعد هذا الديوان أصدر الشاعر مجموعتين شعريتين أخريان، هما: سريرٌ لعزلة السنبلة1998وحكاياتٌ صخرية2000 وبعض هذه العناوين ـ باعتبارها عتبات نصوص ـ تنطق بمضامين، وتقدم لنا صورا تتحاور، أو يكمل بعضها الآخر، أو يقول بعضها العالم على نحو مختلف، مثلما تتصادى أصوات ديوانيه (مائيات) و(حكايات صخرية) فليس النهرـ نهر الكلام ـ إلا ما يرويه ماءٌ وصخر،(والصخر كالماء) (حين يكون الماء، خميرة ً أو صاعقاً أو ناراً) كما يعبر أدونيس،(والصخر كالماء) ـ إن جاز لي أن أتذكر في هذا السياق شيئا من شعري ـ وتلك خلاصة سياق صراع وتجاذب بين إنسان يمسك (مبتهلا ببياض) أحلام يتردد في الأنامل بعذوبة، مع صرامة زمن لا تعرف الرحمة. ولا ما سوف تتركه (إذا انتفضتْ أو مَضَتْ) وانطفأت الأمنيات وساد الخوف والظلام بفناء الحياة. فالزمان والماء يقهران كل قوة، مهما قستْ فكانت (كالحجارة أو أشد قسوة)، (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يَشـَّققُ فيخرجُ منه الماء)
ومن ديوانه الخامس (مائيات) هذا، نتناول أحد نصوصه، ألا وهو قصيدة (جرأة) التي تقع على الصفحتين (82ـ83) منه.
2 ـ دراسة الصيغ والعبارات:
اشتملت هذه القصيدة على عدة صيغ تعبيرية كان لها دور في تكوين صور شعرية رائعة، ومن تلك الصيغ (الضوء يغسل ـ مطر الليل ـ والشجر المتسابق نحو الظلال ـ والماء الذي يترقرق) وشيءٌ ما (يرفل في السر) بين جسد الشاعر وجسد من يخبر عنها، و(أحرر نفسي عميقا)و(أمسك مبتهلا)و(بياض التردد العذب) كما اشتملت القصيدة على أسلوب إنشائي هو أسلوب الاستفهام الذي استغرق منها عدة أسطر، لتتوالى أساليب خبرية في صيغ مثل (رجفة القبلة المطفأة ـ ضوء ضحكتها ـ الريح التي تأخذ كل براءتنا ـ الموت الساذج بافتعال الجرأة المترفة) وقد اعتمد الشاعر على هذه الصيغ والعبارات في توليد الدلالات التي احتاجها لتركيب صوره الشعرية، وبناء المعاني التي أرد التأثير في متلقي شعره بإبرازها للتراجيدي كصنف جماليٍّ يتجاوز الجميل والسامي، فيما يثيره لدى المتلقي من مشاعر متضاربة تملأ عليه نفسه بالحيرة والارتباك إزاء أحوال القوة والضعف، وقد تماسكت أجزاء النص بأكثر وسائل الاتساق التركيبية بروزا مثل حرف العطف (الواوـ وأم المتصلة بالاستفهام ـ وبينما الظرفية) فاتسق من ثم جسد القصيدة دلاليا أيضا: باعتماد بعض الخصائص اللغوية التي تملك خاصية الإحالة،(وتمثلت في النص في ضمير الغائب المتصل، في حالتي عودته على المؤنث أو المذكر عبر جمل كثيرة في هذا النص.
3 ـ الموضوعات التي تتكون منها القصيدة
يمكننا أن نتلمس الموضوعات التي يتناولها الشاعر في هذه القصيدة، من خلال الكلمات الدالة التي كونت وحدة هذه القصيدة العضوية، ويقودنا تتبع تلك الكلمات إلى الوقوف على ما يكون حقلين دلاليين أساسيين في هذا النص، وهما حقل القوة وحقل الضعف، اللذين تمكن الشاعر، في إطارهما، من بناء صور شعرية وظفها لغاية التأثير في المتلقي ويمكن تـتبع هذين الحقلين من خلال الآتي:
حقل القوة
ـ الشجر المتسابقـ رقرقة الماء(فإن رقرقة الماء دليل على حركة منه تفتت حتى الحجر)ـ أذان العشاء(لأنه نداء للاجتماع(ـ يرفل الآنـ أحرر نفسيـ أمسك (فالإمساك بالشيء يحتاج إلى قوة)ـ ما الذي سوف تتركهـ إذا انتفضت (فالترك والانتفاض دليلا قوة)ـ سيمكثـ ضوء ضحكتهاـ تأخذ(ولفعل أخذ دلالات ا إنزال العقوبةـ الريح (وقد استعمل لفظ الريح للدلالة علىـ العقاب، في غير هذا السياقـ مفتعلا جرأة مترفة
حقل الضعف
ـ مطر الليل (مع جواز اعتبار هذه العبارة دالة على القوة لكنها تدل في سياق آخر، على الضعف، باعتبار ما تشير إليه من معاني الاختباء والخفاء)ـ الظلالـ في السر بيني وبين أناملهاـ عميقا(بما يعني أن فعل التحرر كان داخليا)ـ مبتهلا (فالابتهال تضرع وضعف(ـ بياض ترددها العذب(والتردد من مظاهر الضعفـ مضتْ (فالمضي دليل انسحاب(ـ رجفة القبلة المطفأةكل براءتنا،ـ يموت كلنا بنفس السذاجة
إن قراءتنا لحقلي القوة والضعف المكونين الأساسيين لعبارات وصور النص الشعرية، تبين لنا أن حقل الضعف أو التظاهر بالضعف يتنازع مع حقل القوة على مضمون النص، مما يوحي بأن الشاعر وهو يتقرب من (امرأة النص) (أو من المعني بضمير الغائب أياً كان) يحاول أن يتلبس صورة العاشق الرقيق المتفاني. وسواء أكان ما يتقرب إليه الشاعر امرأة أم غيرها، فإن ما يبديه من رفق وليونة رقة، يسهم في إفساح مجال له حتى يضمن ما يمكن أن يتجاوب معه متلقي النص من أي نوع كان. فأمام (رقرقة الماء) في قصيدة الأشعري هذه، يغسل الضوء اصغر أجزائنا ـ والمرء بأصغريه: قلبه ولسان ـ في سيول من الرغبات، لكن تحت (مطر الليل)، فإن لم يصبنا وابلٌ فطلّ،ٌ إذ نحس بانهمار ماء الألم والخوف والتردد والضعف، وإن من الضعف ما هو رفق بالذات (على نقيض القوة والتأله) بتعبير أنسي الحاج.
فالسياق الدرامي في قصيدة الشاعر المغربي محمد الأشعري (جرأة) يستند إلى اصطدام عنيف بين التردد الموصوف بالعذوبة، والجرأة الموصوفة بالافتعال والترف، وحتى يخفف الشاعر من حدة هذا الاصطدام، أضفى على نسيجه اللغوي، أعني صيغه وعباراته، همسا شفافا، وإن كانت الغلبة والهيمنة في هذا النص لحقل القوة،التي تدعم موقف الشاعر/ الذكر، إزاء الغائب/ الحاضر الأنثى، التي أضفى خطاب الشاعر عليها صفات محببة،(ضوء ضحكتها ـ بياض ترددها العذب) وقد عبر الشاعر بذلك عن تجربة/ موقف لم تكن المرأة فيه (أو فيهما) قوة مطلقة، أو ضعفا مطلقا، بل تقاسم طرفا العلاقة في هذه القصيدة صفات القوة والضعف، وفي ذلك تعبير عن التحول الذي أصاب النظر إلى علاقة الرجل بالمرأة، باعتبار وضعهما كإنسانين في المجتمع الجديد/المأمول، مما يعارض وضعية السيد والمسود، أو التابع، كما هو عليه الوضع في المجتمع الحالي
4 ـ المدلول النفسي للصورة الشعرية في قصيدة جرأة
نقصد بالصورة الشعرية تلك الفعالية الشعرية التي تقوم على التشبيه والمجاز والاستعارة، وكل ما يمكن أن يستعمله الشاعر الحديث من تقنيات المجاز التوليدي والانزياح ـ، وما يمكن أيضا أن يحرص على إبرازه من وسائل تعبيرية تعينه على تقديم تجربته مهما كانت الوسيلة التي يستعملها من وسائل بلاغية موروثة، أو مستجدة حداثية، فالصورة الشعرية هي وسيلة الشاعر لإنجاز وظائف نفسية وتأثيرية وتخييلية، استعان عليها الشاعر القديم باستمداد عناصرها من الحياة الخارجية، بينما عمد الشاعر الحديث إلى الغوص في أعماق ذاته، لتفجير ينابيعها الثرة، ولتكون صورُه الشعرية مصدرا عميقا لمعانيه الجديدة، وموردا تنبثق منه تراكيبه الفنية، الخاصة به التي هي شئ من دمه ولحمه. وعنوان خصوصيته الإبداعية.
ولذلك يصح اعتماد هذه الصور في الشعر الحديث، أداة صادقة للتعبير عن الأبعاد النفسية والانفعالية والإنسانية، الأمر الذي يمنح النص الشعري رونقه وجماليته، من الناحية الفنية، ويكسبه مضمونا عميقا يستطيع به التأثير في القارئ، ويضمن من ناحية ثالثة تحقق التناسب الوجداني بين انفعال الشاعر وموضوع صورته الجمالية مما يساهم في تحقيق الاستجابة الفنية في نفس المتلقي.
ومن أعمق الصور الشعرية دلالة نفسية هذه الصور التي جعل الماء فيها عنصر الحياة والجمال الفنيين، فحتى حين لا يترقرق هذا الماء في التصوير الفني الشعري، في عبارة (مطر الليل) فإن هذه الجملة لا تختلف عن قول شاعر آخر تحدث عن (مطر اسود) في عينين باكيتين، فزاد ذلك من جمال احورار تينك العينين، فمطر الليل قد يحمل من إيحاءات الدفء والحميمية، والإخلاد إلى حضن ٍ يجد المتعب فيه الراحة والسكينة، والمودة والرحمة. كما أن سياقا شعريا آخر يمكن أن يجعل من مطر الليل وظلامه، مضاعفة لمحنة الغريب، وزيادة في مكابدة فراق من نحب، مما يجعلنا نلتهب في أكبر جحيم مستعر ٍمن الشوق إلى اللقاء.
ولا تقل الحمولة النفسية غنى وجمالية لصور شعرية أخرى، إن في قصيدة (جرأة) أو في كل أخواتها في ديوان (مائيات)، استحضرت عنصر الماء في مشهد حيوي نرى فيه (الشجر المتسابق نحو الظلال ورقرقة الماء) لتتوالى بعد ذلك مجموعة من الصور القاتمة المطفأة التي تساهم في تقديم مشاهد الانهيار، في تصوير جمالي موفق العبارة، لتحمل قصيدة (جرأة) جانبين أحدهما مشرق بالحياة التي تفيض ماء واخضرارا وأضواء، وجانبا آخر: غابت عنه المباهج حينما غابت المحبوبة أو تكون انسحبت، ليمكث صوت الذات وحده (في رجفة القبلة المطفأة) ماثلاً بين طرفي نقيض: فإما حضور يغرق في هدوء ضحك مضيء، أو غياب يخضع لمخاوف قبلة ترتجف في انطفاء، وتتوالى أسئلة الذات، عما فعلته قوى الريح التي قتلت براءة الطرفين ليستسلما،هو وهي، للموت في سذاجة، وقد تظاهر كل طرف بالصبر والشجاعة، كتمانا لما يحسانه في أعما قهما من مرارة الضياع أو الهزيمة. ومحاولة للتستر على دمع يظهر الضعف الحقيقي للذات أمام من تتطلع إلى وده، ويفضح حقيقة الجرأة المفتعلة، فقصيدة (جرأة) إذن، وهي تستند إلى سياق درامي تعاني الذات فيه من الانشطار بين التراجع والإقدام، ليست إلا صورة نفسية قاسية لحال الذات بين موقفي التهيب والاندفاع، في علاقاتها المضطربة القلقة الحائرة بعالم الرغبات والأفكار، وبواقع الحياة في كل تقلباته. فهذا النص قصيدة تنطلق من ذات الشاعر في عناق ذات أخرى فيها ما في ذات الشاعر من القوة والضعف، يغلب عليها وصف الأنثى، وأن كنا نشهد أن ضمير المخاطب المؤنث في الشعر يتسع لدلالات كثيرة منها: الأرض والحرية والمرأة والحياة والكتابة، بل إن المؤنث ذاته رحم الوجود، واللغة بيته،(ومالا يؤنث لا يعول عليه) الم يقل ذلك عبقري التصوف؟ وإن لفظة (جرأة) نفسها، ترفع من شأن التأنيث، الذي توجد أجمل صيغه في عنوان المجموعة الشعرية التي ضمت هذا النص، وهو (مائيات) التي يشير جمع المؤنث السالم فيها، إلى حمولة نفسية قوية الدلالات، في صراع الإنسان مع الزمن، كما تشير إلى دلالات ضعف، فإذا كان الماء أصل كل حياة، فإن الزمن هو وجه الوجه الآخر للموت ـ وفي الديوان قصيدة بعنوان (جفاف) ـ فلا شيء يدمر الإنسان والحياة جميعها كالزمن والظمإ ونضوب الماء وزوال الضوء وثبات الظل، كما أن بعض الشعر خارج هذه الديوان، استعمل الماء كمظهر ضعف، فيما نتذكره من ملاحظة ميخائيل نعيمة على صديقه جبران في قصيدة المواكب التي وصف فيها البشرية (بسطور كتبت لكن بماء) استدلالا على سرعة فنائها،وتشبيه الإنسان بقطرة ماء معنى متداول عند المهجريين، وقد كان بإمكان الشاعر محمد الأشعري، أن يضع كعنوان لهذا النص لفظة أخرى، هي (التردد)، خاصة وأنه يمثل طرفاً في صراع القوى فيه، أفليس التردد هو مقابل الجرأة، أو وجهها الآخر السلبي، من وجهة نظر أخرى؟
5ـ تـحفظات:
و مما يقلل من التواصل في بعض فقرات هذا النص، عدم بلوغ بعض الجمل فيه إلى تمامها، دلاليا أو عروضياً،إما بغياب ما يُبين المفعول به كما في الجملة الأولى منه، إذ أننا لا نجد ما يكملها، فالضوء الذي تملكه (من يعود عليها ضمير الغائب) يغسل جزءا صغيراً(مم؟)، ولا ندري السر في ذلك، إذ يجوز الدفاع عن هذا الخلل بادعاء أن الجملة اشتملت على مجاز بالحذف متروك تأويله لنباهة القارئ فيكون التقدير (أن هذا الضوء يغسل جزءا صغيرا من عالمي أو من ذاتي، مثلا.و لو كان الأمر كذلك، لعُـدَّ ذلك انتقاصا من سحر ضحكة المعنية بهذا المديح) كما أن جملة (وكل الذي يرفل الآن....) إلى قول الشاعر(...بياض ترددها العذب) تفتقر إلى خبر، فبقيت جملة مبتورة التركيب نحويا، على الرغم من اشتمالها، كجملة موسيقية طويلة على عدة صور شعرية جميلة، فلو أنها تمت بما يخبر عن هذا الذي يرفل في السر بين جسد الشاعر وجسد محبوبته أو ما يمكن أن يدل عليه ضمير الغائب(ة)، لكانت قصيدة (جرأة) أنصع شعرية، وأوضح دلالة على ما أراده الشاعر منها. لتبقى عبارة (أذان العِشاءْ) ظرفا غير متصل بأي من أعضاء جسد هذا النص، وبأي من أساليب الخبر والإنشاء المعتمدة في تكوين صور هذه القصيدة الجميلة. فحذف صيغة الظرف هذه لا تجعل شيئا من بتاء هذا النص يتصدع، وأستطيع الزعم أنها عبارة تسللت إلى القصيدة، أو أنها فقدت وشيجة كانت تربطها بها، ولعل علما بذلك عند الشاعر الذي لا أرى كلامه في هذا النص يختل أو يفقد شيئا من معنى كان يريده إذا نحن حذفناها. ثم ها إنني أخشى من أن أكون قد أخطأت التأويل فنياً مع (أذان العِشاء) هنا، أكثر مما أخشى مواجهة مع من يسوغها أيقونة دينية، لا يعدم لها روابط تجعلها تتضافر مع صور القصيدة الأخرى، ذلك أن أطروحة الرؤيا الدينية أوضح، أما الحجة الجمالية فتحتاج إلى إقناع سبيله استيعاب مبدأ أن استعمال اللفظ في الشعر إنما يكون لغرض فني يروم الإمتاع أساسا ً، حتى ولو انزاح عما هو شرعي أو مألوف، هذا بالإضافة إلى أن الشعر هو آ خر ما يحتج فيه بالدين، حتى لدى نقادنا القدماء. فضعف الاعتقاد لم يكن عندهم مما يطعن في جودة الشعر، هذا بالإضافة إلى اضطراب جملة (أذان العشاءْ) عروضيا، إذ يتوقف بها اندياحٌ إيقاعيّ ٌ هاديءٌ لجملة موسيقية طويلة نسبيا، بدأت من السطر الثاني، وتتكون من تكرار (فعولن ست عشرة مرة، وبقاء حركة واحدة (ـ) قبل علامة الترقيم النقطة(.):
ولها مطرُ الليل ِوالشجرُ المتسابقُ نحْوَ الظلال ِورقرقة الماءأذان العِشاءْويمكن الاحتفاظ بالجملة بعد تقويمها عروضيا باستبدال لفظة (وقت) ب(أذان) فتصبح:وقتَ العِشاءْ
لتنتقل الجملة العروضية بعد ذلك إلى موسيقى (فاعلن) المحببة إلى الأذن المغربية،التي ينتقل الإيقاع إليها من (فعولن) في الجملتين الموسيقيتين الأوليين اللتين تنتهي أولاهما بانتهاء الشطر الأول، أما ثانيتهما فلا تنتهي إلا عند قول الشاعر(ببياض ترددها العذب...) وتستريح الأذن المغربية لموسيقى المتدارك لعلاقته بإيقاع لهجتنا العامية الجميلة، في قوتها وضعفها. وجهرها وهمسها، فهي تمتد لتتوقف على السطر التاسع، مع هذه الصورة الفائقة الجمال:
وأمسكُ مبتهلا ببياض تردُّدها العذب.ِ..بدءاً من قولهما الذي سوف تتركه خلفها في الممر
إذ لا يصح بحال أن نتصرف في بنية لفظة (العذب) بتسكين الذال المعجمة فنجعلها متحركة ليستقيم استمرار الجملة الموسيقية على إيقاع المتقارب، إذ ليس هناك ما يسمح بهذا الإبدال ت حسب علمنا ـ حتى ولو راعينا مستلزمات الضرورة الشعرية، ولا أنسى مرة استنكر فيها أحد أساتذتنا قراءة شاعر صديق جعل (اللهَب) بالحاء المتحركة(لهْبا) بسكون الهاء، مراعاة للوزن. لنكتشف صدقَ ملاحظة الأستاذ حينما وقفنا على المعنى المختلف لكل بنية من البنيتين السابقتين. أما بين تفعيلتي (فعولن) و(فاعلن) فهناك علاقة ناشئة عن تكون هاتين التفعيلتين من وتِد مجموع وسبب خفيف، مع تأخير الوتد المجموع في تفعيلة المتدارك.
ورغم ذلك لم يمتنع هذا التدفق الموسيقي الأكثر عذوبة، وإنما استحال بعده أن نقترح أي استبدال طلباً لامتداد هذه الجملة،التي بلغ التعبير الشعري فيها مستوى لسنا ممن يزاحمون عليه الشاعر، إن لم نكن ممن يغبطونه لإنجازه فيها وفي كل هذه القصيدة، ويحتفون به مثل احتفائنا الحالي هذا. وفي استبدالنا لـ (وقت العِشاء) بـ (أذان العِشاء) تحرير للدلالة بإخراجها من حقل ديني إلى مجرد الدلالة على الظرف، فينجو القارئ بذلك من توهم أشياء لم يكن لها وجود في وعي الشاعر، زمن كتابة هذا النص (قبل عام 1993أو أثناءه). وأتدارك هنا فأقول إن وقوع عبارة (أذان العشاءْ) على هذه الصورة ـ وجمل أخرى في هذا النص على قصره ـ قد يكون ناتجا عن خطإ في ترتيب السطور أو الكلمات، قد يكون الشاعر قد صححه، في طبعة أخرى لاحقة لم أطلع عليها، فوجب التنويه.
6 ـ تجميع: لا يزال الشعر الحديث يحقق في المغرب انجازات فنية، من خلال ما تقدمه كل أجيال التطور الشعري في المغرب، ومن خلال ما تراكمه هذه التجارب الفنية الأدبية في الشعر من إبداعات، حقق المغرب تميزا في التعبير الشعري كان الشاعر محمد الأشعري وسرب من أقرانه من شعراء السبعينات، من أصواته الأساسية المسموعة التي حظيت عن حق، باحتلال موقعها المتميز بين أجيال الشعرية العربية الحديثة، كما حظيت باعتراف عربي بمكانتها بين الطليعة التي ينظر القارئ العربي إلى إنجازاتها الشعرية باحترام. والشاعر محمد الأشعري، رغم مشاغله الرسمية أحيانا، والنضالية أحايين أخرى، لم تتأثر غريزته الشعرية أو تتراجع، لأنها جزء من جبلـّـَته، وبعض مما فـُطر عليه. فهي قد تكون استفادت من إمكاناته، حينما كان على رأس جهاز رسمي مهمته تدبير الشأن الثقافي، قدر استفادتها من تجربته في القيادة السياسية داخل حزبه، وحاسة المبدع تستجيب لما يختزنه من تجارب، تـُعـمـِّقُ ثقافته، وتطور من استعداده النفسي والفكري للتناسب الوجداني بين انفعاله في ذاته، ومواضيع إبداعه الفني. ففي (مائيات) الشاعر محمد الأشعري اكتشاف لما يستطيعه الماء، حين يصبح (صاعقاً وخميرة ًوناراً) وإثباتٌ لقوة ذات الإنسان، في ما يبدو أنه جانبه الضعيف، تأكيدا لوجود القوة في من يبدو أنه الهشاشة ذاتها، و(قد خلق الإنسان ضعيفا) وفي ما أنجزه ضعف هذا الكائن، وفي رقته، تأكيدٌ لعظمته في الحياة، وقدرته على الخلق والعطاء.
فتأنيث الحداثة لم يكن ليعني بأي حال تأنيث المجتمع الذكوري العربي المنخور بقيم التعسف والاستبداد والطغيان).كما يرى الشاعر شوقي بزيع في مقاله المنشور مؤخرا ـ بعد فراغي من كتابة هذه الدراسة ـ عن البعد الرمزي ودلالات الحب والكوليرا في قصيدتي: السياب ونازك الملائكة، بجريدة الحياة اللندنية بتاريخ14/08/2009