الأربعاء ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢١
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

قراءة في كتاب (نشيد الحياة) لخلوصي محمد عويضة.

صدرت الطبعة الأولى من كتاب (نشيد الحياة)، الجزء الأول في مارس ٢٠٢١ م عن مكتبة دار الأرقم بغزة، في(260) صفحة من الحجم الصغير، وتجلى الكتاب في طبعة أنيقة، وجاء رسمه بخط واضح جميل، يشجع على القراءة والاستمرار فيها ومتابعتها، وقد تضمن الغلاف الأمامي صورة لشجرة مورقة مغروسة في أرض ذات عشب أخضر، في خلفية بيضاء اللون، أما الغلاف الخلفي للكتاب، فاحتوى على الهوية الأدبية للمؤلف.
ورد الكتاب تحت مسمى تجنيسي هو (نصوص)؛ بوصفه جنساً أدبياً مستقلاً، والأديب خلوصي روائي، له إصدارات روائية منها": حبر الروح"، 2013 م ، و"ماما فاطمة"، 2014 م ، و"المباهلة" 2015م ، و"الأفعى تطوّق الأرض"، 2017 م.
النص الأدبي:
اتخذ الكاتب من النص الأدبي قالباً فنياً وتعبيرياً يصب فيه أفكاره، وينقل مواقفه وتصوراته وتأملاته عن الكون والحياة، فالنصوص الأدبية هي مجموعة من المقالات والخواطر في مناحي الحياة المختلفة، فيها مناجاة للنفس، وتأملات في أحوال الكون والحياة، أو تعقيب على حدث ما، نشر بعضٌ منها على صفحات مواقع النت في حقب متفاوتة متباعدة تارة، ومتقاربة تارة أخرى.
إن النص الأدبي في رؤية الكاتب هو نبض العصر ومرآته، وهو عنده ذو مكانة أدبية، ومنزلة فكرية تكاد تضاهي فنون الأدب الأخرى، وهو يستعير منها وسائلها وآلياتها من سرد ووصف وحوار وصراع. وبذلك تتربع النصوص الأدبية عنده على عرش فنون الأدب الأخرى.
لقد كان الدافع إلى كتابة هذه النصوص رغبة الكاتب في إثراء تجربته في الكتابة من خلال تنويع أجناسها، وتكثير، موضوعاتها، فالحياة حافلة بألوان ألم تفوق الحصر، وبسبب تأثره منذ الصبا بالرعيل الأول من كتاب النص النثري الذي يعد من الأجناس الأدبية العريقة.
سلك الكاتب منهجا" أبعده عن اتخاذ فهرسة وتبويب للموضوعات، متأثراً في ذلك بالعلامة الفذ ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر)، والذي ساهمت كتاباته في رسم الملامح الأولية لهويته الفكرية وتكوينها.
ويدرك القارئ أن بعض نصوص الكتاب الأدبية جاءت أقرب ما تكون إلى أسلوب الشعر ؛ أي : إلى كونها قصيدة شعر بكل ما يحمل الشعر من سمات وخصائص، يقول:
"عندما تنام الأحلام، ويتوشح العمر رداء الوسن.. على مسلة سهول الزمن، وعند منحنياته وشعاب أوديته وضفاف مرافئه تودعنا الأمنيات راحلة، حسبنا أن السماء وحدها هي المساحة المتاحة للتأمل، للهروب، للرجاء، والدعاء، أما أرض اليوم، فأضيق من أن تسع آمال قلوب مثقوبة بالألم، فعسى أن تبتسم لكم السماء يوماً أيها السائرون في دروب المنامات" ( نشيد الحياة :194 ).
مضامين نصوصه الأدبية الفكرية:
يتناول كتاب "نشيد الحياة" جملة من القضايا الوطنية والاجتماعية والإنسانية في ظل الحصار البغيض والانقسام المرير والأرض المحتلة والواقع العربي الهزيل والكسيح، وقد ركز الكاتب في كتاباته على القضية الفلسطينية؛ بوصفها قضية مركزية.
والكتاب أرض بكر، فيه للدارسين مجالات واسعة، منها مجال دراسة أسلوب الكاتب ولغته التصويرية، ودراسة الثنائيات الضدية في أسلوبه، ومصادر صوره الفنية، لا سيما مصدر الطبيعة، بيد أن الدارس في هذه القراءة سيقوم بإبراز قدرة الكاتب على استلهام التراث، الذي تجلى في مصادر متنوعه ما بين: استلهام ديني، وآخر أدبي، وثالث استدعاء الشخصيات التراثية، وهذا يدل على ثقافة واسعة ، ومعارف عميقة متنوعة يمتلكها الأديب، كأنه بذلك يؤمن بمكانة المتلقي وقدرته على متابعة ثقافة المبدع؛ حتى يتوصل بنفسه إلى مقاصد الكاتب الكامنة وراء نصوصه الأدبية، كأنه يردد على مسامعنا مقولة الشاعر أبي تمام الذي أشار إلى ملامح منهج التلقي والاستقبال: "ولم لا تفهمون ما أقول؟
توظيف التراث :
لا شك في أن عملية توظيف التراث ليست بالعملية الهينة ولا السهلة؛ لأنها تتكئ على استدعاء النصوص التراثية الغائبة, وتضمينها في بنية النص الحاضر, ليحدث نوع من التلاحم البنيوي بين كلا النصين, وهذا يتوقف بالطبع على اتساع الجانب المعرفي والثقافي بالتراث من ناحية, ويتوقف على مدى إمكانية امتلاك الأديب لأدوات التوظيف المختلفة من ناحية أخرى, والتي يظهر مدى توفرها عند الأديب من خلال عملية تحليل أدبه وتذوقه.
شغل التراث في العصر الحديث مكانة كبيرة ليس على الصعيد الأدبي حسب؛ وإنما على الصعيد الفكري والثقافي بعامة, فلم يعد التراث مخلفات سابقة تركها الآباء والأجداد, بل غدا امتداداً للحضارة الفكرية والحياتية المعاصرة, فعملت الشعوب على الإفادة من ذلك الموروث، وتوظيفه في شتى مجالات الحياة .
مصادر التراث في كتاب ( نشيد الحياة):
عُنى الأديب خلوصي عويضة بتوظيف التراث في كتاباته عناية فائقة، إذ له صلة وثيقة به، فهو يستلهم التراث مـن مصـادره المتنوعـة وبطـرق تعبيريـة مختلفة، ومن يلق نظرة سريعة إلي مصنفاته يجدها ملأى بالنصوص القرآنيـة والنصـوص الأدبية وباستدعاء الشخصيات التاريخية والأدبيـة.
اختلفت مصادر التراث وتنوعت في إبداعاته من حيث ماهيتها, وبالرغم من هذا الاختلاف، فإن الأدباء نهلوا من جميع تلك المصادر, فمنهم من اهتم بالتراث الشعبي باعتباره التراث الذي يمثل ماضي الآباء والأجداد خير تمثيل, ومنهم من اهتم بالتراث الديني وخاصة الإسلامي بوصفه أساس كل أمة مسلمة, ومنهم من اهتم بالتراث التاريخي بعامة وبشخصياته خاصة, ومنهم من لم يرغب في الخروج عن إطار الأدب, فاهتم بالتراث الأدبي وأهم أدبائه.
ومن هنا يعد استلهام التراث ظاهرة بارزة عند الأدباء المعاصـرين، إذ إن للتراث مصادر متنوعة: منها مصادر دينية ومصادر أدبـية، ومصادر تاريخية وغيرها، وتعد هذه المصادر مـن أغنـي المصـادر التراثيـة التـي يلجـأ إليهـا الأدباء، وهي نفسها تشتمل على عدة عناصر إحداها الشخصيات التاريخية، وهـي مـن أهـم عناصر التراث بما تحمل من دلالات شتي وطاقات إيحائية متنوعة.
لذلك يرى الدارس أنه لا بد من ذكر مصادر التراث المتنوعة التي وظفها الأديب في كتابه، والتي تشتمل على التراث الديني، والتراث الأدبي، والتراث التاريخي .
أولاً - التراث الديني:
ويقصد به التفاعل مع النصوص الدينية، قرآن كريم وأحاديث نبوية وشريفة.
أ - النصوص القرآنية :
وقد نوع الأديب في استدعائه لذلك الموروث، فنجده يوظف النصوص القرآنية، وذلك كما سنرى من خلال التحليل والدراسة، إذ يعد القرآن الكريم المصدر الأول للتعاليم الدينية, فهو المعجزة التي ليس لها سابقة ولا لاحقة في تاريخ الحياة الروحية الإنسانية، سواء أكان ذلك التوظيف باستدعاء النصوص أم بالتلميح بمضامينه الكريمة.
أما تعالقه مع النصوص القرآنية، فقد جاء على مستويين: مستوى مباشر يذكر في النص القرآني مباشرة في عملية تنصيص؛ ليؤكد فكرة أو يعمق رأي يقول" : قبَّحه الله ما أتعسه وأشقاه من ظلمٍ يورث أحقاداً دفينة!، قد لا تبقي ولا تذر من مودة الرحم شيئاً" ( نشيد الحياة 82 ).
والنص السابق يستدعي نصاً قرآنياً متمثلاً في قوله تعالى : ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ( (المدثر: ٢٨) .
ويتناص الكاتب مع النصوص القرآنية بطريق مباشر في قوله: " ها هنا أرض لا شرقية ولا غربية، بالدم والعرق المعتق عشقاً مرويِّة، هنا البحرُ وطبريا البحيرة... " ( نشيد الحياة ص٤٤( .
وهذه العبارة تحيل إلى قوله تعالى: ) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( (النور: ٣٥).
ويعمد الكاتب إلى الاقتباس من النص القرآني بطريق مباشر؛ ليرد على من يظن انتصار الظلم على العدل، ويراه رأياً يخالف القوانين الربانية التي بشر بها الله يقول الكاتب:" فلولا العزاء الرباني في قول الحق لرسوله - عليه السلام- وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ؛ لتزلزل القلب وانزلق، فاللهم ثبتنا بصرف الفتن عنا" ( نشيد الحياة: ٨٠).
اقتبس الكاتب في النص السابق من النص القرآني قوله تعالى:) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ( (الأنعام : 116 ).
يلحظ المتلقي أن الكاتب اقتبس في النص السابق بعض آية قرآنية، ووظفها لخدمة أفكاره التي يؤمن بها، فهو يستأنس بقوله تعالى الذي ينصح الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام- ويحذره من طاعة الكافرين، من بني آدم فيما دعوه إليه, فإنه إن يطعهم يضل ضلالهم، ويكون مثلهم؛ لأنهم لا يدعونه إلى الهدى، وقد أخطئوه.
وفي موضع آخر من الكتاب يقتبس الكاتب نصوصاً قرآنية بطريق غير مباشر فيقول: "أطالع أحيانا على عجالة عناوين صحف الصباح علَّ عيني تقع على خبر سارٍ، فيرجع البصر حسيراً ( نشيد الحياة ص59( .
يحيل النص السابق إلى نص قرآني يقول فيه المولى: )ثُمَّ ٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ( (الملك: ٤) حسير أي: متعب كليل.
فالقارئ يستوعب من القراءة الأولى هذا التناص الشفيف، حيث ينتقل القارئ مباشرة إلى نص الآية الكريمة، ولكن سرعان ما ينتبه على أن المؤلف يريد إبراز دلالة وتأكيد فكرة، وهي أن ما تحمله هذه الصحف ليس فيه ما يسر المرء، ذلك أن الواقع المعيش لا يعكس سوى استمرار المعاناة والألم والضيق.
ب - نصوص من الحديث النبوي الشريف.
استعان الكاتب بالأحاديث النبوية في تطعيم نصوصه بالتراث الديني، ومنه أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- محذراً من قيمة خلقية مشينة أل وهي (الغضب)، يقول الكاتب: "وحسبنا في هذا السياق التوجيه النبوي الشريف "لا تغضب"، فأنعم وأكرم بها من نصيحة"(نشيد الحياة ص ٧٨).
ففي النص النثري السابق إشارة إلى قول رسولنا الكريم عن أَبي هريرة": أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَوْصِني، قَالَ: لا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لا تَغْضَبْ" رواه البخاري.
وفي موضع آخر إلماعة إلى حديث نبوي شريف عن الصبر والأمل، يقول الكاتب: "فتمضي الأيام يدفعها وقود أملٍ أن مع العسر يسرا، بل يسران""(نشيد الحياة ص 193).
فقد ورد في كتب الحديث في قوله تعالى : )إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ( أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال بما معناه : ( اصبروا فلا يهزم عسر يسرين )؛ ذلك أنه من لطائف أسرار اقتران؛ الفرجُ بالكرب ، واليسرُ بالعسر، ذلك أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبُه بالله وحده وتوكل عليه، فإن الله يكفي مَن توكل عليه، ويدب الأمل في قلبه.
ومن يرجع إلى نصوص الكاتب يجده مغرماً بتوظيف الأحاديث النبوية الشريفة، يوردها؛ ليعطي أفكاره ورؤاه مصداقية وعمقاً، يقول في أحد نصوصه النثرية:
"حسبي هنا تذكير نفسي وغيري بقول المصطفى- عليه الصلاة والسلام-:" مَنْ أعَان عَلَى قتل مُسلمٍ ولو بِشَطْر كلمة لَقِي الله آيساً من رَحْمَته"( نشيد الحياة : ١٠٥).
ففي النص السابق استعانة بالحديث النبوي؛ بوصفه خطاباً صادقا ومؤكداً، وفيه إشارة إلى انتقاد بعض الكتاب الذين لا يُجرِّمون مغول وبرابرة العصر من الحكام الذين يقتلون شعوبهم ، ويستند إلى الحديث النبوي الذي يحرم الإعانة على قتل المسلم، إذ لا تنزل رحمة الله على من ساعد في قتل المسلم .
وفي موضع آخر يقول الكاتب:" أختم بكلمات هي جهد المقل مهداة كل مكلوم من أمتي... "بشِّر القاتل بالقتل، و لو بعد حين..." (نشيد الحياة:١٠٦).
يحيل النص السابق إلى حديث نبوي شريف، يرى بعض علماء الحديث أنه حديث ضعيف وهو قوله - صلى الله عليه وسلم: - "بشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حين" .
فقد وظف الكاتب الحديث النبوي الشريف توظيفاً فنياً يتلاءم مع رؤيته وموقفه؛ ليعبر عن المعاني التي جاشت بخاطره، وعن مشاعره الوجدانية المتعاطفة مع الضحايا الأبرياء؛ وليبرز نقمته على الطغاة البغاة من الحكام، ويشعر القارئ في أثناء قراءته لذلك النص أنَّ لدى الكاتب إيماناً جازماً بعدالة السماء، وبأن القتل هو مصير متوقع لكل من توغلت يداه في دماء الشعوب المغلوبة على أمرها.
ولم يقتصر الكاتب على استلهام النصوص الدينية من التراث الإسلامي، وإنما تجاوز ذلك إلى استدعاء القصص من التراث المسيحي، من خلال نقله عن كتاب "المستطرف في كل فن مستطرف للعلامة الأبشيهي.
يقول في حكاية قدَّم لها بقوله:" لمن رزق البصر وحرم البصيرة ؛كأن قلبه قد من صخر صدر صلب أصم، وبذور العقول المتكررة السقيمة؛ أكتب كلمات تبكي الحجر: "يروى أن "عيسى -عليه السلام - بينا هو في سياحته، إذ مرَّ بجمجمةٍ نخرةٍ، فسأل الله أن تتكلم، فأنطقها الله له فقالت: يا نبي الله أنا بلوان بن حفص، ملك اليمن عشت ألف سنة، ورزقت ألف ولد، وافتضضت ألف بكر، وهزمت ألف جيش، وفتحت ألف مدينة، فما كان كلُّ ذلك إلا كحلم النائم، فمن سمع قصتي، فلا يغتر بالدنيا، فبكى عيسى - عليه السلام- بكاء شديداً حتى غشي عليه"(نشيد الحياة: ٣٧ (.
إن استلهام هذه الحكاية التراثية قد ورد في معرض رسالة الكاتب الإبلاغية التوصيلية، وهو تحذير الناس في المجتمع من الاغترار بالدنيا، والركون إليها، ومن تقلبات الأحوال، وقسوة القلب وغلظته، وقد جاءت مقدمته بأسلوب تراثي حكائي يتناسب مع أسلوب الحكاية بحيث لا يشعر المتلقي بقفزة نوعية عند قراءة الحكاية، وهذا الاستدعاء التراثي جاء منسجماً ومتماشياً مع مقاصد الكاتب ومغازيه الخلقية، ويشي بسعة اطلاعه على مصادر المعرفة وألوانها.
ويلحظ المتلقي أن الكاتب استخدم في توظيف التراث لغة تصويرية تشير إلى اطلاع عميق على نصوص القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة وكتب التراث.

ثانياً - التراث الأدبي:
من يرجع إلى نصوص الكاتب في كتابه "نشيد الحياة" يلتقي استلهامات أدبية كثيرة من أشعار وحكم وأمثال، وهذا يشي بثقافة أدبية واسعة، واطلاع على الأدب العربي في جميع عصوره المختلفة, ومن هذا التراث ما يأتي:
أ - نصوص شعرية
استدعى الكاتب أبياتاً شعرية بصورة مباشرة، إذ يقول على لسان الحفيد الخمسيني الذي أوشكت حياته على الغروب مخاطباً جده الكهل:
"فأي معنى للخوف؟! بل الفرح مبرر بالوصول إلى بر سعادة نهاية المأساة الإنسانية، ألم تسمع قول القائل:
وما الناس الا هالك ابن هالك وذو نسب في الهالكين عريقُ
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في لباس صديقِ
( نشيد الحياة: ص 215).
ويلحظ القارئ الحصيف أنَّ في البيت الثاني إقواء، فقافية القاف في البيت الثاني (صديقِ)، جاءت مجرورة، والمفروض أن تأتي مرفوعة مثل (عريقُ) في البيت الأول، وفي الوقت ذاته لم يشر الكاتب إلى قائل هذين البيتين، معتمداً في ذلك على فطنة المتلقي، ومعرفته وحفظه وتحفيزاً له على البحث والتنقيب؛ ليجد في ذلك الرضا والارتياح، والمتعة في التعرف إلى القائل، وهو الشاعر أبو نواس.
وفي موضع آخر يضمن الكاتب نصه النثري بيتاً من الشعر حين يكتب، فيقول:
"ولعل الأشد ابتلاء من رُزق نفساً تشبه رحيقاً من الرقة، لا تني ولا تتوب عن أن تكون طوع أحاسيسها البريئة، يحضرني هنا قول الشاعر بشار بن برد:
وَلَيسَ الَّذي يَجري مِنَ العَينِ ماؤُها وَلَكِنَّها نَفسٌ تَذوبُ وَتَقطُرُ
) نشيد الحياة: 207).
ويبدو أن الكاتب سها حين نسب هذا البيت للشاعر بشار بن برد، والواقع أنه ينسب للشاعر الأموي قيس بن الملوح (مجنون ليلى)، الشاعر المحب من مقطعة له يقول في مطلعها:
أَحِنُّ إِلى أَرضِ الحِجازِ وَحاجَتي خِيامٌ بِنَجدٍ دونَها الطَرفُ يَقصُرُ.
وفي مكان آخر يقول الكاتب:" فليمسح أحدنا مخاط أنفه، وقذى عينيه لعله يبصر عيوب نفسه، بدل أن يُنقّب بمعاول هدمه؛ ليصطاد عثرات الآخرين، فمَنْ منا بلا عثرات؟ مَنْ منا بلا كبوة؟ مَنْ منا بلا خطيئة؟ ما أحوجنا لكبريت يحرق صدى تقرحات بعض أفكارنا المشوهة، وسلوكياتنا المشينةّ!"(نشيد الحياة: 81 ).
تستدعي هذه العبارات شعراً للنابغة الذبياني يقول فيه:
ولست بمستبـــــــــق أخاً لا تُلِمُّه على شَعَثٍ، أيُّ الرجالِ المــــــــــــــــهذبُ؟
إذا لم تشرب مراراً على القذى ظمئــــــت، وأيُّ الناسِ تصـــفو مشاربه ؟
وأحيانا يستلهم الكاتب نصاً شعرياً بطريق غير مباشر، إذ يقول :"أرأيت، مَن يدفنك في التراب، بكوارث فكره، وكسب أو عمل عقله، ثم لا يكف عنك صارخاً بك؛ تنفس، تنفس، تنفس، أتراه.. عاقلاً أم قاتلاً ؟"(نشيد الحياة : ١١٠(.
القراءة المتأنية في النص الأدبي السابق تهدي إلى القول بأن هذا النص يحيل إلى بيت من الشعر يعبر عن الاستسلام وهيمنة الفكرة، يقول الشاعر الحلاج (244 هـ/ 309 هـ)، وهو من أعلام التصوف السني:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له : إياك إياك أنْ تبتل بالماء"
ويضرب هذا البيت لمن أراد تعجيزك بأمر ما، وبذلك تغتني العبارات بالدلالات الموحية ويتعمق معناها.
إن المبدع الحقيقي يعمل على استلهام، مـا يغـني تجربته مـن نصـوص تراثيـة أدبية يمكـن أنْ يحمِّلهـا مـن إمكانـات فنيـة جماليـة ودلالات جديـدة تعكس وجهات نظره تجاه الموروث الأدبي في حد ذاته أو تجاه الواقع الذي يعيشه، وبـذلك يصبح الأثر الأدبي مزاجـاً من الأصـالة والمعاصـرة، ويغدو اسـتلهام الـنص التراثـي تبعاً لذلك تقنيـةً أسـلوبية موفقة. ذلك أنَّ القـارئ الفعلــي هـو الــذي يشــارك المبــدع في خلـق الــنص وإبداعه.
ب الحكم والأمثال:
إن نظرة سريعة إلى هذه النصوص تشير إلى أن الكاتب قد كان مغرماً بإيراد الحكم والأمثال في كتابه، وقد نوع في ذلك، إذ يلتقي القارئ عبارات للكاتب هي أشبه ما تكون بالحكم بما تتسم به من إيجاز وما تكتنزه من رؤى وتجارب، ومن الحكم التي وردت في الكتاب قول الكاتب من تجاربه :
" كن بعيد المدى، ولا تكن آنياً، وإلا أصبحت لا محالة أنانياً... حاذر الشعور بالانبهار والتفرد " (نشيد الحياة : 9(.
"من عاش بلا مشاعر نجا، يحيا خفيف الحمل، ويرحل غير آسف على فراق الدنيا" (نشيد الحياة : 29 (.
"حظوظ القلب في العاطفة، فإن متعة العقل في المعرفة، من أدمن داء الكتاب والكتابة والقراءة، رأى صفحاتها مرايا لصفحة حياته، تعكس وجدان ماضيه وحاضره وغده (نشيد الحياة: ١٤٢ (.
"إن عزلة بلا عزاء خير من ضوء زائف، قيمته أقل من عود ثقاب محترق" (نشيد الحياة: 214(.
وقد أورد الكاتب جملة من الحكم الكنعانية في نصوص الكتاب النثرية، منها قوله:" اقلع الشوك ثم ازرع" (نشيد الحياة: الحياة:82). وقد وردت الحكمة السابقة في كتاب آخر هكذا: "اقلع الشوك، ثم ازرع وردةً في مكان أتوقع فيه لها أن تنمو".
أما الأمثال، فقد وردت في كتاب (نشيد الحياة) مجموعة من الأمثال العربية القديمة والأمثال العربية التي ولدت في عصرنا بسبب الظروف التي مرت بها قضيتنا الفلسطينية ، ومن تلك الأمثال: "لا تنظر الى دموع عينيه، ولكن انظر لما فعلت يداه (نشيد الحياة:: ٢٢٣ (.
وأصل هذا المثل كما ورد في كتب الأمثال أنه: "يُحكى أن صياداً اصطاد مجموعة من العصافير في يومٍ بارد، ثم وضعها أمامه، وصار يذبحها واحداً واحداً، والباقي ينظر ويتفرج. وكانت دموع الصياد الجزار تنزل من عينيه بسبب البرد القارص والريح الشديد، فنظر عصفوران إليه وإلى دموعه، فقال أحدهما للآخر: انظر إلى الصياد المسكين، كيف يبدو حزيناً على ذبحنا، إنه يبكي شفقة علينا ورحمة بنا ! فقال له العصفور الآخر بفطنة وذكاء : " لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى فعل يديه".
وعني الكاتب بتوظيف الأمثال العربية في نصوصه أيما عناية، إذ يرى أن ثمة جماعة من الكتاب الذين لا يكتبون عن جرائم المعتدين الطغاة من الحكام.
وفي موضع آخر يورد الكاتب مثلاً عربياً، يقول:" أما الصنف الآخر (من الكُتَّاب) فحسابات الحقل والبيدر لا تسمح له بالتورط في مناصرة الضعفاء، إذ لماذا يحرق أصابعه في نار لا ناقة له فيها ولا جمل؟ ( نشيد الحياة: ١٠٤).
استلهام الكاتب يحيل النص السابق إلى تناص مع المثل العربي الذي يقولك "لا ناقة له فيها ولا جمل". فالمثل في مفهومه الأصلي يعني لا مصلحة للإنسان في هذا الأمر، إنه لا يكسب فائدة من هذا ومن ذاك.
ومن الأمثال العربية القديمة قول الكاتب: "لا يؤتى الفطن إلا من مأمنه" (نشيد الحياة : 189 (.
وهو حين يحث على فعل الخير والمعروف بين الناس يؤكد كلامه بسوق مثل عربي قديم يقول: "كن في فعل الخير أحوالك الخيل بطنها كنز، وظهورها عز"(نشيد الحياة: ٣٣).
يحيل النص السابق إلى المثل العربي القائل عن الخيل العربية الأصيلة : "ظهور الخيل عز وبطونها كنز" ، ومن أقوال العرب: "عليكم بإناث الخيل، فإن ظهورها عز وبطونها كنز" . وقال قال رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- "إن الخيل معقود بنواصيها الخير ليوم القيامة".
وقد أورد الكاتب هذا المثل في سياق نقده السياسي لتلك الطائفة من الكُّتاب الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الذاتية أكثر من اهتمامهم بالوقوف الى جانب الضعفاء من أصحاب الحقوق الشرعية في العيش بكرامة في أوطانهم؛ حرصاً على ما يجنونه من فوائد شخصية.
ويعدّ المثل الشعبي الفلسطيني مكوِّناً مهمًّا من مكونات التراث الشعبي الفلسطيني؛ لبلاغة تعبيره عن مختلف تجارب المجتمع الفلسطيني التي مر بها عبر العصور، والتي تعبر عن ثقافته وطرق عيشه ومختلف المعاملات والأخلاق التي تعارف عليها الناس فيه. ومن الأمثال الفلسطينية التي وردت باللهجة العامية منها :" لا من تمه ولا من كمه" (نشيد الحياة: 109 (، أي: بعض الناس لا ينفعون أحداً، إنهم يعيشون أشبه بمومياء محنطة.
وقد أعطت هذه الأمثال الشعبية الواردة في الكتاب، والتي سعى الكاتب إلى توصيلها إلى المتلقي داخل النص وخارجه بعداً جمالياً لبناء النص بوصفها مرتكزاً فنياً، كما ساعدت على تعميق المضامين، وإضفاء خصائص الواقع؛ ليكون النص الأدبي معبراً بصدق عن جوها الطبيعي.
واستلهم الكاتب- أيضاً- صورة الأغنية الشعبية الثرية موسومة بطابع محليتها، واتخذها رمزاً للتعبير عن هوية الشعب الفلسطيني، وخصوصية محليته.
ومن الأغاني الشعبية الفلسطينية التي وردت في نصوص كتاب(نشيد الحياة)، يقول الكاتب :"مئة عام وعام، ونحن الفلسطينيون صابرون صبر الخشب تحت المناشير والحديد بين لظى النيران، ونافخ الكير، فلا ينصهر صبرنا، بل يزداد صلابة "(نشيد الحياة : 93 (.
فالأغنية الشعبية الفلسطينية "صبرنا صبر الخشب تحت المناشير"، أنشودة تراثية فلسطينية قديمة تدعو إلى الصبر على العذاب، وتحمّل المصائب، وتكملة الأنشودة قد جاءت على النحو الآتي:
"صبرت صبر الخشب تحت المناشير
وش صبرك يا خشب غير التقاديـــــــرِ
وفي هذا ما يشير إلى قسوة حياة الناس في الريف، وتحمّلهم وصبرهم على النوائب، ومعاناتهم في حياتهم اليومية، وتسليم أمورهم للقدر، أضاف الكاتب من أسلوبه ما يؤكد الفكرة ويوصلها برؤيته بقوله: "والحديد بين لظى النيران، ونافخ الكير"، وقد امتزجت دواعي استعمال الأغنية الشعبية بموضوع النص، ساعدت على إيضاح المشاهد وإعطاء النص مسحة شعبية، غنية.
والحقيقة أن ما يلفت النظر في استدعاء المؤلف للنصوص التراثية هو ثقافته الواسعة التي تتجلى بقدرته على تسخير أشعار الشعراء والأمثال والحكم والأغاني الشعبية في خدمة مضامينه ورؤاه، لإيصالها إلى المتلقين؛ بقصد التأثير في نفوسهم، وتحقيق المشاركة الوجدانية والفكرية معهم.
ويمتد استلهام الكاتب للتراث الأدبي؛ ليصل إلى التراث الأدبي غير العربي’ فيفيد من الأدب الروائي لا سيما رواية دون كيخوت للكاتب الإسباني الشهير (سرفانتس)، وذلك في مقال له بعنوان: "قراءة عن مآلات الربيع العربي"، يقول:
"نحن لن نحيا مطأطئي الرؤوس نجرجر أقداما متعبة، ولا نحن نطارد طواحين الهواء كالفارس الأحمق (دون كيشوت؛ إنما هي قلوبنا تخفق مثل بندول الساعة، لن تخطئ موعدها مع غدها القادم " (نشيد الحياة :١١٩).
يحيل النص السابق إلى استلهام الكاتب شخصية (دون كيشوت) التي تعد من أبرز الشخصيات الأدبية، والتي لقيت حضوراً واسعاً في الآداب العالمية، إن على مستوى الموضوع أو الشكل وهو لا يقبل ما عطيته من مقاصد وأهداف زخرت بها تلك الرواية، وتبين هذا الرفض من خلال انتقاد الواقع الراهن، ورفض فكرة أن يعيش البطل حياة السذاجة على الأوهام والأحلام المثالية الرومانسية ؛ليحل مشكلاته، ويحقق تطلعاته ويبني مستقبله. وقد قدم الكاتب طرحا فكريا شخص فيه حالة الأمة العربية بدقة وجرأة وبلغة جميلة موحية.
تعد شخصية (دون كيشوت) من أبرز الشخصيات الأدبية والتي لقيت حضورا واسعا في الآداب العالمية، إن على مستوى الموضوع أو الشكل، وقد أضاف هذا الاستلهام على نص الكاتب إضافات جمالية، وجعل التعبير أكثر وضوحا وإيحاء.
ثالثاً - توظيف الشخصيات التاريخية :
حظي التاريخ باهتمام الأديب العربي حيث عمل على انتقاء بعض الشخصيات التاريخية بما يتلاءم وظروف العصر الذي يعيش فيه, والتي يحتاج إليها المجتمع، فالأديب يختار من شخصيات التاريخ ما يتوافق وطبيعة الأفكار والهموم التي يريد أن ينقلها إلى المتلقي, ومن ثم فقد انعكست طبيعة المرحلة التاريخية التي عاشتها أمتنا في الحقبة الأخيرة في إحباط الكثير من أحلامها، ويعمل الأديب في توظيفه للتراث التاريخي على رسم صورة فنية لها مستوحاة من التاريخ، ويدمجها داخل العمل الأدبي, لغاية يبتغيها من ورائه، فهو لا يقوم بوصف الشخصيات التاريخية كما هي، بل يضفي عليها طابعاً جمالياً لا يتمتع به المؤرخ.
ولقد عُنِيَ الكاتب خلوصي عويضة بالشخصيات التاريخية ووظفها بما يتلاءم وتجربته الحياتية، فاستقى من التاريخ شخصيات مشرفة، وأخرى خادعة.
استحضر الشخصيات التاريخية التي تمثل الوجه المنير لتاريخنا مثل شخصية: العز بن عبد السلام وأبرز دورها في حفظ كرامة المسلمين وانتصاراتهم على التتار، إذ قال عبارته المشهورة في تحدي أعوان الشر مخاطباً ولده: "يا بني، أبوك أقلُّ من أنْ يُقتل في سبيل الله" ( نشيد الحياة: ٦٣).
والشخصية التاريخية الثانية المشرقة شخصية الكاتب القاضي الفاضل ابن عسقلان الذي قال في حقه صلاح الدين الأيوبي كلمته المشهورة ":لا تظنوا أنني حررت البلاد بسيفي فحسب، بل بقلم القاضي الفاضل أيضاً" ( نشيد الحياة: ٦5 )، فعرف الجميع فضله، إذ مات عن تسعين عاماً ونيفاً، قضاها مجاهداً بكلماته التي مزقت أوصال الصليبيين وحلفائهم.
استدعي الكاتب في هذه القطعة النثرية رمزين من رموز العزة والنصر والكرامة في تاريخنا العربي التليد، وإذا نظر المتلقي إلى عصر أولئك الأبطال وجد تباعداً إلى حد كبير بين ما ذكره الكاتب والوضع السياسي الذي تعيشه الأمة الآن، وكأن الكاتب يتطلع إلى اليوم الذي تنبت فيه الأرض العربية رجالاتٍ من أمثال تلك الشخصيات .
لقد استدعى المؤلف شخصيتي العز بن عبد السلام والقاضي الفاضل مـن التـاريخ القـديم، وقـد جاء اسـتدعاؤه لهـاتين الشخصـيتين موقـفاً إبـداعياً عـبَّر مـن خلالـه عـن مـدى تأسـفه؛ لمـا يحـدث لهـا مـن ضـياع وخـراب، وواقع مرير، ليقول بأن حاملي لواء الانتصار والدفاع عـن الأمـة والقتـال؛ لأجـل أن تحيـا بـالأمس، قـد يكـون مـوقفهم اليـوم هـو التأسـف والحسـرة وخيبـة الأمـل ممـا أصـاب المجتمـع الجديـد مـن أمـراض الخيانـة والظلـم والعـدوان.
وثمة ذكر لشخصيات أدبية عربية وشخصيات غير عربية مثل: عنتر وعبلة، وقيس وليلى، وجميل بثينة، ومثل: "نيرون" روما، و"لورنس" العرب، يقول مستحضراً شخصية "نيرون" داعياً إلى أخذ العظة والعبرة منها: "أليس من رماد (نيرون) ولدت روما مجددا؟ ( نشيد الحياة: 240 ).
ويقول محذراً من شخصية "لورنس" العرب ومن حيله وأفعاله الذي أتقن بسهولة اللعب بعقول العرب وأوردهم المهالك والذي يقول : "يمكن أرجحة العرب على فكرةٍ كما على حبل، ذلك أنَّ ولاء عقولهم لفكرة المناصب والغنائم واللذائذ جعلهم عبيداً طائعين"؟ أوجعتني عبارته، فكم مؤلم معناها!( نشيد الحياة: 108 ).
ولم يغفل الكاتب استدعاء الشخصيات الأسطورية في نصوصه الأدبية؛ لتأكيد بعض آرائه وتأملاته في الحياة، فهو يؤمن بقيمة الصبر الذي ينبثق منه الأمل، ويرى فيه فضلاً كبيراً على اليأس والقنوط، يقول في إحدى تأملاته في مقال بعنوان: "تحية حب وإجلال إلى جنة الأرواح":
"إن ألم (سيزيف) العضلي المتجدد كلما تدحرجت الصخرة عن كاهله، لا يقاس أو يقارن مطلقاً بمدى تعاسة (إبليس) الروحية والنفسية، فالأول بقي صابرا كثيرا يمليه الأمل بالوصول إلى القمة حيث الراحة الحقيقية، بينما إبليس آيس غارق في بحر القنوط حتى القاع" (نشيد الحياة : 49) .
ويلحظ المتلقي أن الأديب في البداية وظف أسطورة (سيزيف) التي ترمز للتحدي والصبر والأمل، فالنص الأسطوري الغائب استحضره الشاعر؛ ليجسد به سعي الإنسان العربي إلى الحرية والصبر والأمل، وما يلحظه المتلقي حضور النص الغائب جاء بشكل واضح، وقد منح الكاتب الأسطورة دلالات جديدة، فإذا كانت شخصية (سيزيف) ترمز لملامح اليأس، وعدم انبعاث الأمل، فإن الكاتب بث فيها الصبر وانبثاق الأمل والبعد اليأس والقنوط؛ الأمر الذي منح النص الأدبي كثافة دلالية، وحيوية وحركية ومفارقة درامية بين شخصيتي سيزيف وإبليس .
ومن الشخصيات المشرقة في التاريخ الإسلامي شخصية عمر بن الخطاب الذي كان يعد رمزاً للعدل، يقول الكاتب في نص نثري له: "العدل كالحب لا يُهدى أو يوهب، ولا يُعطى أو يُستجدى، إنَّما ينتزعه سيف الحق، أو سلطان الحق انتزاعا ... رحم الله الفاروق عمر! إذ يقول لأمعائه الخاوية من شدة تقشفه وشفقته وشعوره بآلام المحرومين: "قرقري قرقري ما شئت، فو الله لن تذوقي اللحم حتى يشبع منه المسلمون" ، وفي السياق (ذاته) ستبقى إلى قيام الساعة صيحتُه الخالدة تهز ضمير الإنسانية: "لو أن بغلة عثرت بالعراق لخشيتُ أنْ يسألني الله عنها لمَ لمْ أمهد لها الطريق؟ " ( نشيد الحياة ٧٩ ).
فمقولة:"قرقري قرقري ما شئتِ، فو الله لن تذوقي اللحم حتى يشبع منه المسلمون"، وثمة مقولة تراثية أخرى صادرة عن شخصية إسلامية تاريخية تمثل العدل في أعلى نماذجه، وهذا ما يفتقده حكام في هذا الزمن. وهي المقولة الثانية التي تشير إلى الأمانة والمسؤولية، وكيف تكون أمانة المسؤولية عن شعب وعن أمة؟ وكيف يكون الدعاء للمسؤول بالعون من الله؛ حتى يستطيع أن يؤدي الأمانة حق الأداء، من خلال مسؤوليته، وحتى يستطيع أن يقف بين يدي الجبار يوم القيامة، وقد أدى المطلوب منه تجاه رعيته.وقد استحضر الكاتب هاتين المقولتين ليقارن بين حكم عمر العادل وبين حكام زماننا الظلمة، إذ يقول:
"وهذا تجسيد معنى أن السلطان ظل الله في الأرض، أما سلاطين الظلم والقهر والفقر والإفقار والحزب والعشيرة ، فهم ظل الشيطان وجنده وحزبه" ( نشيد الحياة ٧٩ ).
وبهذه المفارقة التصويرية تتعمق الدلالة، ويتسع المعنى، وينفتح على دلالات جديدة موحية وواسعة.
وصفوة القول في كتاب(نشيد الحياة)، فقد تبين للقارئ أن المؤلف من خلال تحليل النصوص الأدبية للكتاب أنه يمتلك القدرة على استدعاء النصوص الغائبة ،ودمجها في بنية النص الأدبي، وأنه يتمتع باطلاع واسع، وثقافة عميقة متنوعة تجلت في الكثير من المجالات.
إن القراءة المتأنية لتوظيف الكاتب لروافد التراث وعناصره في نصوصه الأدبية يشير إلى أن هذه العناصر جاءت محكمة الربط فيما بينها، متقنة النسج، محافظة على خيط رابط، وسلك ناظم يجمعها وينضدها، لا تفكيك فيها ولا اضطراب، وجاءت في مجملها؛ لتخدم مضامين الكاتب المركزية، وتحمل مغازيه ومقاصده التي يريد إيصالها إلى المتلقين.
وختاماً، يتمنى الدارس للكاتب مزيداً من الإبداع الأدبي، وإنجاز الجزء الثاني من نصوصه التي وعد بإبداعها.
التعريف بالكاتب:
خلوصي محمد حسني عويضة .
فلسطيني، من مواليد مدينة غزة في 29 مارس 1964م.
ولد لأسرة كريمة تعيش الكفاف بعفاف، فوجد نفسه طفلاً ابن ست أو سبع سنين يبيع صحف (القدس)، و(الفجر)، و(الشعب) التي كانت تصدر بالأرض المحتلة وقتها، وشغف بالقراءة مذ كان بالرغم من قسوة الظروف، متفوقًا في دراسته إلى أن حصل على التوجيهي بتفوق عام 1982م، فعزم أن يعمل لحقبة وجيزة قبل أن يلتحق بجامعة النجاح بنابلس؛ ليدرس الأدب الإنجليزي، عاش حقبة مخاض عسير بين الرغبة في الكتابة والرهبة منها الى أن بزغ فجر روايته الأولى “حبر الروح” عام 2013 التي سلطت بقعة ضوء على تداعيات الصراع الفصائلي والطحن السياسي، وأثره الكارثي في النسيج المجتمعي.
النتاج الروائي:
“حبر الروح”، 2013م ,
و"ماما فاطمة”، 2014 م
و"المباهلة”، 2015 م
"الأفعى تطوّق الأرض”، 2017 م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى