الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

قلاقيل باسوريّة

وقال لي ذاك الطبيب:

 لا بُدَّ للمرء في فترةٍ ما من سنيّ حياته أن يعاني من أعراض البواسير، ولو بدرجة خفيفة منها، فلا تبتئسي يا ( أختي )، وليست كلّها بحاجة للجراحة.

قال ذلك، وكانت عيني خجلةٌ من عينه، إذ من الصعب عليك أن تكشف مقعدتك أمام يده الماسّة والجاسّة، لا سيما عندما يدفع إصبعه بمخرجك على سبيل الفحص الطبي، ليس إلا.

كان يعرف أنّ بالأمر ما يُعيب، ولذا أطال في مقدّمات فحصه إقناعاً، قبل أن يسلِمَك ليده الفاحصة خضوعاً وركوعاً وسجوداً. وما يبرّر له أنك أنت من جئت لعيادته راضياً، لكنّ الأمر كان بالنسبة لي كبيراً، ومن الكبائر، مهما زيّنه لي كصغيرةٍ عابرة لابدّ منها لإتمام التشخيص.

لم أخجل هكذا عندما تعرّضت للفحص النسائي مُسبَقاً، مع أنّ المنطقتين جارتان متجاورتان وعَورتان متّفقٌ عليهما، لكنّ السبب فيما أظنّ أنني بالفحص النسائي كنت أرى عيون من يفحصني ولم يقلِبْني على قفاي، أو لأنّ المنطقة الآن قذرة ومعيبة لتلوّثها بالبراز ومشوّهة بالحليمات التي تتدلّى منها، لست أدري؟

كنت أعلم أنه سيدخل عليّ من هذا الباب ولذا، أكثرتُ من رشّ العطر على عتباته!

أو قد يكون سبب الخجل أنّ الفاحصَ هنا مُختلِف، وكأنّ طبيب النساء أقرب للمرأة من طبيب الجراحة ذئبيّ العيون، لست أدري؟ أو أن جمهرة النساء في العيادة النسائية يجعلنا ـ نحن النساء ـ متفوّقاتٍ عليه عدداً، لست أدري؟ وكأننا نلعب في ملعبنا.

يجب أن تكون لديك ممرّضة تحضر فحصك الطبي يا طويل اللسان والأصابع، ولولا الألم والنزف المتكرّر لما استسلمتُ لعيونك وأصابعك المغطّاة بقفازٍ مطاطيّ لزج تعيث بي فساداً.

ألمٌ وشعورٌ بالتمزّق خلال المسّ الشرجيّ، وشعورٌ بالتغوّط، لكنك في عيادة طبية، لا تنسَ ذلك، وليس على المريض حرج.

كم شاهدتَ من مرضى أيها الطبيب، والأمر لم يعد يعني لك شيئاً؟

خلفيّاتٌ حقيقية لصورة الوجه الملوّن والمغطّى بالمساحيق التجميلية! وجهٌ آخر للمرء يُخفيه ولكنه مضطرٌ أن يكشفه هنا، وهل ترى الوجهان كالعملة النقدية بنفس القيمة؟

ليس كرهاً بالرجال ولا اعتداداً بالنساء، إنما يجب أن يكون الفحص الشرجيّ بيَد طبيبة (امرأة )، ذاك أقرب للراحة النفسية، لكن، لماذا لا أثق بالمرأة عندما يتعلّق الأمر بالجراحة؟ لست أدري.

لم أستفِدْ على علاجكَ بالمراهم والمغاطس والتراكيب الدوائية أيها الطبيب، والأمر تفاقَمَ نزفاً وألماً، وقلَقاً، ممّا قد تخفي فتحة الشرج وراءها من مجاهيل.

عندما أخضِعْتُ لتنظير الشرج والمستقيم بعد أسبوعين، كان الأمر أكثر رضّاً وإيلاماً للجسد، لكنّ الروح كانت خانعة. كنت أحبّ أن أستطلع عيونه ساعتها لأعرفَ شيئاً عمّا يراه بأعماقي، كله مقبول إلا الأورام الخبيثة التي سمعتُ وقرأت عنها.

أسعدَتني ابتسامته وهو يخلع قفّازيه، وقال:

 لا شيء ذا قيمة، مجرّد بواسير داخلية أيضاً، كثيرة كعنقود العنب، حبّاته محتقنة وستنفقئ تدريجياً، وبعض الدم سيسيل، ولا ترتكس النساء عادة لسيلان الدم إذ أنهن اعتدن على ذلك.
قلت:

 والألم؟

 ذاك بسبب شقٍّ شرجي مرافق عند الساعة السادسة.

وعرف أني استغربتُ ذكر الساعة، فأردف شارحاً:

 يشبّهون فتحة الشرج بالساعة لتسهيل الوصف، وحليماتكِ الباسورية تتدلى من الساعة الثالثة والسابعة، أما الشقّ فعند السادسة تماماً.

ضحكتُ وقتها، وقلت:

 قبل الظهر أم بعده؟

وبعد اللجوء لحِمْياتٍ طعامية غنية بالألياف، بدأ النزف يتراجع والألم صار محمولاً إلى درجة أني كدتُ أنساه معظم سويعات العمل، لكنّ المنطقة بقيت مشوّهة بتدلّيات جلدية كقلاقيل تالية لما سبق.

وقال لي واصفاً المنطقة في الزيارة الثالثة لعيادته:

 إنها عقابيل البواسير، إذ انفرغ محتواها الدمويّ وبقيت الزوائد الجلدية، ولا تُعتَبَر مرضاً، ولكن البعض يجري لها عملية استئصالية على سبيل التجميل.

كان يحدّثني، وكانت منطقتي ما تزال مكشوفة بلا خجل، إذ اتّخذتُ وضعية جانبية لكي أرى وجهه.

وقتها، خجِلَ (هو) من عيوني، وجذب من أغطية سريره ما يغطّيني، وقال وهو يتّجه لطاولة مكتبه:

 يمكننا متابعة الكلام لو ارتديت ملابسك، وتفضّلتِ بالجلوس قبالتي.

ارتديتُ ملابسي خلف ستارته على أكثر من مهل وأقلّ من عجل، وكأنْ لا أحد ينتظرني لنكمل حديثنا. حتى شعريَ المعقوص قبل الفحص أرخيته ونثرت خصلاته بحركاتٍ من رأسي، وتأمّلتُ زينة وجهي في مرآة حقيبتي.

خرجتُ إليه مبتسمة، واثقة من نفسي، غير هيّابة من الفحص الذي تعرّضتُ له وكأني كنتُ فاتحةً فمي عند طبيب الأسنان. انتصب واقفاً، وهو الذي كان جالساً ينتظرني، وأشار إلى مقعدٍ قبالته لأجلس، ولم أشأ، وفضّلت الوقوف كي لا يطول الحديث، ولأنّ تخريشاً يحزّ في مقعدتي، وقلت مبتسمة:

 قلتَ، تجميل! وهل المنطقة تحتاج للتجميل يا دكتور؟

تغيّر لونه، إذ أحسّ بسخرية كلماتي، ولم يُجِبْ على سؤالي، بل أخذ يخطّ شيئاً على ورقة صغيرة أمامه.
قبل أن أخرج، قلت وعيوني تبحث عن عيونه المُطرِقة:

 من الواجب أن يكون لديك ممرّضة تحضر فحوصاً كهذه يا دكتور، خاصة إذا كانت المريضة صبيّة مثلي، لا تنسَ أننا في مجتمعٍ شرقيّ.

أنهى شخبطاته على ورقته، وشطب عليها بجرّة قلم مسموعة، ورفع ناظره نحوي، وقال:

 لأننا في مجتمعٍ شرقيّ، كنت مستغرباً أن تتكرّر زياراتكِ لوحدِك، عادةً تحضر المريضة إلينا برفقة زوجها، أو على الأقلّ صديقتها.

ظلّتْ هناك بعض الصداقة الحذرة مع ذاك الطبيب، باستفساراتٍ بين الفينة والأخرى، كعقابيل وقلاقيل تالية للحالة المرضية.

قال لي في ذات يوم:

 أخاف من المرأة، لا أهتمّ لأمرها عندما تكون في فوعة المرض، لأنها تكون كالحيّة الجريحة منطوية على جرحها ولا تلدغ، ولا تختلف المرأة المريضة الأنثى عندي عن أي رجل. ولكنها عندما تتعافى، ويعود البريق لجلدها اللمّاع، ويعود النشاط للسانها المشطور، عندها يجب الحذر منها، وأرفض استقبالها في عيادتي، لا بل قد أتهرّب منها.

 ولماذا يا هذا؟

وكان مضطرّاً أن يشرح لي:

 هنا مكان عمل، والمريض يأتيني مستضعَفاً طالباً العون، ويكون دوري كطبيب أن أنجدَه. ولا مبرّر عندي لاستقبال ضيفة أو صديقة في مكان العمل.

 يعني أنه غير مرحّب بي كزائرة لعيادتك ولو كان مروراً؟ وقد أكون أحياناً في السوق وقريبة منك، فيخطر لي أن أشرب القهوة عندك كنوعٍ من حطّ الرّحال أثناء التجوال.

ضحك وقال:

 ذلك ممكن طبعاً، كالقطار يتوقّفُ هنيهة في محطة وقتية أثناء عبوره الضواحي، ولكن أخاف أن تجعلي عيادتي محطتكِ النهائية!

تعليق المريضة:

كنت وصديقتي نتجوّل في السوق، ومررنا بجانب عيادة ذاك الطبيب ذي البواسير، فقلت لها، تعالي معي إلى عيادة ذلك الطبيب، عنده أخلع سروالي، ويلقي نظرته الفاحصة على مؤخرتي، ويبدي ثناءه عليها، تعالي معي لتتأكدي من صدق كلامي!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى