قمران خارج الكون
نعم. هناك ليلة واحدة توازي أيام العمر كله، ليلة تظل محفورة في الذاكرة، وهذه الليلة. كانا بطليها،هي التي دلته إلى مملكة العشق، وهو الذي زرعها في الوجدان.
عيون الراقصين لم تستطع منعها من إرسال إيماءة دعوة له لكي يذهب إليها، ولأنها اخترقت دون مقدمات جدار قلبه وهزته هزا، وشاهدها شديدة العذوبة والاشتهاء، ارتبك واكتفى بنظرات تحوي في طياتها الكثير من الإعجاب إذ رسمت على شفتيها الرقيقتين ابتسامة تنبع من قلب وديع، لحظتئذ اعتراه شيء من الخجل، وشعر بانهزام غريب أمام تلك الابتسامة، وبقي ينفعل وينظر إلى قوامها الفتان، ووجهها الطفولي الأبيض، واناقتها الواضحة، وشعرها الفاحم الذي تتطاير خصلاته بفعل الرقص.
ابتسامتها الثانية التي أرسلتها له، سقطت على روحه بردا وسلاما، دفئا وحنانا، نورا ونارا، ومن خلال بحر عينيها أذاقته مذاقا لم يتذوقه من قبل، وفجأة انتفض قلبه وركض باتجاهها يسابق روحه ودمه، تجاوز الكراسي والأجساد والراقصين والراقصات، ركض وما شعر بتعب أو خوف، ركض وترك جسده يحتسي كؤوس الصمت وحده.
ساحة النادي الصيفي مكتظة بعالم هجين من البشر، صغار وكبار ومن الجنسين، منهم من يتلذذ بشرب العصائر، ومنهم من يتحدث، يثرثر، يضحك، ومنهن من تنظر وتحسد، هذا يغازل خطيبته أو صديقته ، تلك تلعب مع طفلها أو طفلتها ، وتلك تطلب وبعصبية من بعض الجالسين أن ينضموا إلى حلقة الرقص، وتلك تنظر إلى العروس والى ما ترتدي وتتحسر، وصبية كالبدر، خفيفة الجسم، منتشية الروح، منتفضة القلب، تمارس فنون الرقص ولا تزال تحتضنه بنظرات ذات معنى، وهو لا يزال جالسا في مكانه بين دغل الأجساد المعطرة، نظراته مثبتة على عينيها الواسعتين حينا، وعلى حلاوة جسدها المتناسق الذي بدا له كان حلاوة الدنيا كلها قد تجمعت فيه حينا آخر، ولمنه لا يستجيب لما تريده تلك التي بدت له كفراشة تمتص رحيق قلبه.
بعد أن أكثرت من عزف ألحانها الشجية على أوتار روحة، وقع في سحرها، فلم يهتم بالعيون اليقظة،ولا بالأفواه الثرثارة من حوله، وفي واحدة من اكثر لحظات العمر عذوبة، تسلل الحب إلى كل خلاياه وأوردته، شعر بقلبه يتحول إلى جناحين خفاقين يرفرفان في الأعالي، ولان هذا الشعور غيّر سلوك الدم فيه، تحلى بجرأة لا مثيل لها، نهض ومشى بصدر تعصف فيه اللهفات والأشواق، دخل إلى وسط حلقة الرقص، اقترب منها وهو لا يرى غيرها وكأن ليس للراقصين والراقصات والمغنين وجود، حتى خيّل إليه انه وحيد معها.
وقف أمامها للحظة، فرأى عصافير الفرح تزقزق في حدقتي عينيها، وحين طوقته بترحيبها الصامت والمبهج، شبك يده دون خوف في يدها، وبعد لحظة كان كتفها الحار يتعارك مع كتفه بفرح طفولي.
كان مسافرا معها، مدمنا في عبيرها، راقدا في ابتسامتها الملغزة، وسابحا في موسيقا همساتها السحرية.
شعرا بأن هناك شيء جميل بدأ يطوقهما،فخرجا من حلقة الرقص وجلسا جنبا إلى جنب ، بين التي راحت تنظر إليهما وتلوي بوزها جانبا،والتي تنظر وترسم تعابير السخرية وربما الحسد على وجهها، وبين التي تناوبت ألوان قوس قزح على ملامحها، لكنهما لم يهتما بأحد، وانما راح كل منهما يدشن الطريق لنفسه لينام في قلب الآخر، ثم غابا عن حفلة العرس وعن الكون كله.