الاثنين ١٧ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

كفر كنا وإبراهيم طوقان

لا شك أن إبراهيم طوقان (1905- 1941م ) عشق امرأة من كفر كنا- هذه البلدة الجليلية الجميلة، وقد التقاها وهي طالبة جامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت.

يصف عمر فروخ في كتابه (شاعران معاصران) هذه الفتاة:
"كانت فتاة فارعة الطول، سمراء، تجول على وجهها ابتسا
مة خفيفة..."
يقول يوسف الطريفي في كتابه (إبراهيم طوقان- حياته وشعره)، ص 115 معلقًا:

"مهما كان وصف د. عمر فروخ فإن طوقان فُتن بالفتاة ماريا الصفوري، فأعجبه قوامها الفارع، وهندامها المرتب الأنيق، فكان ينتظر ساعات وساعات على فتحة شباك غرفته التي تطل على مدخل الجامعة[...]، ثم أخذ يصارحها، ويعلن لها حبه في قصيدته "عند شباكي":

بكوري عند شباكي
لأنشق طيبَ ريّاك
ولا سلوى سوى نجوى
أسرّ بها لمغناك
تمر علي ساعات
أشيّعها بذكراك
وأخشى أن يرفّ الجفنُ يحرمني محيّاك

ويرى الطريفي أن قصيدته "في المكتبة" موجهة إليها:

وغريرةٍ في المكتبه
بجمالها مـتنقبه

يقول طوقان في قصيدته (ذكرى عشية زهراء)- الديوان، ص 124:

هل كَفْرُ كَنَّة مُرجْعٌ لي ذكرُها
ما فاتني من عنفوانِ شبابي
أمْ في صَباياها وفي رمّانِها
ما يبعثُ المدفونَ من آرابي
لو تنفع الذكرى ذكرت عشية
زهراء بين كواعب أتراب
فيهن آسرة القلوب بحسنها
ودلالها وحديثها الخلاب
روحٌ أخفُّ من النسيم وخاطرٌ
كالبرق مقرون بحسن جواب
نيسان هان علي حكمك بالنوى
لما تحطمت المنى في آب
يا ليت من فجعت فؤادي بالمنى
لم تُبقِ لي ذكرى تطيل عذابي

ولطوقان قصيدة اخرى عنوانها (رمان كفر كنا)- الديوان، ص 126، قالها بعد أن زار الناصرة، وفي حي من أحيائها سمع بائعًا ينادي:

"كفر كنا يا رمان، ناصري يا رمان" فتذكر حبّه الأول، وأحس بنغمات عاطرة من أنفاس الحبيبة:

جزتُ بالحيّ في العشيّ فهبّتْ
نفحةٌ أنعشتْ فؤادي المعنَّى
 
قلتُ: منها! ودرتُ أنظرُ حولي
نظراتِ الملهوفِ يُسرى ويُمنى

وإذا طيّبٌ جنيٌّ من الرُّمَـانِ مثلُ النهود لو هي تُجنى

وافقتْ نظرتي نداءَ غلامٍ:
ناصريْ يا رمّانُ! من كَفْركنّا
قلتُ أسرعْ به فِدىً لكَ مالي
وتـــرنَّمْ بـــذكــره وتَغَنَّ
يا رسولَ الحبيبِ من حيثُ لم تَدْ
رِ، لقـد جـئـتَني بما أتمنّى

(انظر كتاب يوسف الطريفي: إبراهيم طوقان – حياته وشعره، ص 382).

يبدو أن أكثر غزليات طوقان كانت لهذه المرأة، ففي قصيدته (حملتني بالهوى أشجاني)- ص 105 ردد لفظة "الرمان"، والرمان مرتبط بهذه البلدة العريقة، وحتى في هذه الأيام فإن كفر كنا تقيم سنويًا مهرجان الرمان احتفاء بتراثه.

يقول الشاعر:

فسلامًا يا واديَ الرمان
فزتُ بالرَّوح منك والريحانِ

واحنيني إلى ديارك والرمّان دانٍ يُظلُّ أهل الديار

وفي قصيدته (خطرة في الهوى) ص 109 يقول:

أيا واديَ الرمان لا طِبتَ واديًا
إذا هي لم تنعَم بظلكَ سرْمدا
ويا وادي الرمان لا ساغ طعمه
إذا أنا لم أمدُد لذاك الجَنى يدا
ويا وادي الرمان واهًا وعندهم
حرامٌ على المحزون أن يتنهدا
كأنيَ لم أنزلْ ديارَك مرة
ولم ألقَ في أهليك حبًا ولا ندى

قبل بضعة عقود تسنى لي أن أطلع على قصائد غزلية جريئة دوّنها إبراهيم طوقان، فتوصلت إليها، ونسخت أكثرها، وهي قصائد لم تطبع في مطبوعة.

من هذه القصائد المكنونة قصيدة نُسبت له هي- "يا صبايا كفر كنه".

لكن الطريفي في كتابه عن إبراهيم طوقان (ص 122) يذكر قصة طريفة ينفي فيها أن القصيدة هي له، فيقص علينا حكايتها:

"أعجبني ما قرأته عند البدوي الملثم أن مجموعة من الأدباء اجتمعوا في أحد مقاهي القدس، كان منهم إسعاف النشاشيبي وخير الدين الزِّرِكلي وأبو سلمى وإبراهيم طوقان، فقامت فتاة أجنبية ترقص، فقال إسعاف مرتجلاً:

يا فتاتي أنت فتنه

أجاز إبراهيم:

أنت حورية جنّه

فقال الزركلي:

كلما حان التفاتٌ
منك كانت ليَ أنّـه

فقال أبو سلمى غامزًا على طوقان:

كدتِ يا حلوة تُنسينا
صبايا كَفْر كنه

احمر وجه إبراهيم، ولكن أبا سلمى تجرأ أكثر، فنظم أبياتًا ذيَلها بتوقيع إبراهيم، وأرسلها للنشر في صحيفة "فلسطين" اليافاوية، وهي:

يا صبايا كَفْر كنه
آهِ من أعينكنَّه
الهوى هِجتُنَّ في قلبي فلا أكتُمُـكنّه
حُطِّمتْ كأسُ صباباتي على أقدامِكُنَّه
يا شفيقَ الروحِ قل لي
أين من تعبدهنَّه
أين من يبعثن نارًا
في الحشا من نورهنّه
أين هنّ أين هنّ
أين هن أين هنَّه..

تتواصل الدعابة، فينشر الأستاذ حنا سويدا الموظف في الصحيفة أبياتًا وقّعها (أبو الخطّاب) يقول فيها:

يا ابن طوقان أتسأل
عن ظباء نافراتْ
فصبايا كفر كنه
لعيوني بادياتْ
أينما كنا فهن
في فؤادي قائمات

يتناقل المتندرون القصيدة والرد عليها، فبادر طوقان إلى دحض الحديث بقصيدة نشرتها (فلسطين) تحت عنوان "ذكرى عشية زهراء" فيقول فيها:

احبس ذراعك يا أبا الخطاب
قد حل بي ما لم يكن بحسابي
تلك القصيدة لم أقل أبياتها
لكنها لمزوِّرٍ نصّابِ
هذا (أبو سلمى) فلا والله ما
نكأ الجروح سواه من أصحابي

وهذه الأبيات لم ترد في ديوان إبراهيم.

بل بدئت فيما استشهدت به أعلاه:

هل كَفْر كَنَّة مُرجْعٌ لي ذكرُها
ما فاتني من عنفوانِ شبابي

وأخيرًا، فالطريفي يذكر طريفة أخرى (ص 123):

أرسل فكتور بشارة ومصباح كنعان من الناصرة هدية لإبراهيم، وهي سلة مملوءة بالرمان، وأرفقا رسالة بين أكواز الرمان كتبا فيها "هدية رمان من كفر كنا".

فهم إبراهيم المغزى من الدعابة، فكتب:

قد فهمنا من الهدية معنى
غير معنى الرمان من كفر كنا
فأثارت ذكرى وهاجت جروح
تركتني من الصبابات مُضْنى

قرية يٌقرن اسمها باسم إبراهيم مما تَفيض حبًّا وحسنا

ملعب للصبا وقد كان يوحي
كل يوم مهما أفاض وأثنى

(هذه الأبيات لم ترد كذلك في ديوانه)

تقول فدوى طوقان معلقة على هذا الحب:

"كان لهذا الحب أكبر الأثر في إرهاف حسه والسمو بشاعريته".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى