كلام في كلام!.
– أستاذنا الفاضل، من قصدت في خطبتك العصماء بقولك، إنّ الأزمة الأكبر هي أزمتنا مع أنفسنا، ومخالفة أقوالنا بأعمالنا؟..
نظر "أستاذنا الفاضل" من فوق نظارته متمعنا في وجه صـاحبه وقد استوقفته مخاطبته بأستاذنا الفاضل، فما قالها أحمد مرة، إلا وأعقبها بنقاش ساخن حافل بالانتقادات مع صديقه الحميم، فما الذي يريد هذه المرة؟.. ولم يستطع أن يقرأ الجواب على ملامح وجهه، فقد حرص أحمد وراء مقود سيارته على مـدّ بصره عبر الزجاج إلى الطريق المزدحمة بالسيارات، وكأنه لا يطرح إلا سؤالا عابرا. وقال "الأستاذ الفاضل" بعد لحظة صمت طويلة:
– قل ما تقصد بسؤالك، لأقول ما قصدت بكلامي!..
وكما توقع.. تهرّب أحمد من الجواب فقال دون أن يلتفت إلى صاحبه:
– لا شيء.. سوى السؤال، الاستفهام، فما المحظور في ذلك؟..
ولم يشأ "الأستاذ الفاضل " المعروف في الحي باسم الشيخ ياسين أن تطول مقدّمات الحديث، فسلّم أمره لله كما يفعل في كل حوار مع هذا "التلميذ المشاغب " وقال:
– حسنا، لقد قصدت ما قلت حرفيا، لو أننا جميعا نطبّق بإتقان وإخلاص، ما نحسن الحديث عنه بألسنتنا، ونزعمه عن أنفسنا، لتبدّلت أحوالنا إلى الأفضل.. وأنت تعلم أن هذا مذكور في نص القرآن الكريم، فلا غرابة أن أذكره في خطبة جمعة!..
وبدا أن أحمد يريد الاستمرار في "الدوران حول الموضوع" وهو يقول:
– ولكن كان موضوع الخطبة سياسيا، ومع ذلك فلم تتحدّث عن السياسيين، بل عن المصلين في المسجد!..
وضغط الشيخ ياسين على نفسه ليكتم إحساسه بالتبرّم بأسلوب صديقه، ومرّر أصابعه عبر لحيته الكثة كما لو أراد أن يشدّ بصره أحمد نحوه، ثم قال:
– دع هذا التمييز بين السياسيين والعامة، فهؤلاء وهؤلاء إذا طابقت أفعالهم أقوالهم على الخير، تحققت الفائدة.
وظهر بريق خاطف في عيني أحمد، أو هكذا خيّل للشيخ ياسين وإن لم يعلم هل هو من انعكاس أشعة الشمس على وجهه، أم أن فكرة طارئة من أفكاره المثيرة الوثابة صبّت اللمعان في عينيه وهو يقول:
– حسنا، لا أميز بين الفريقين، وكذلك لا أميّز بين العلمـاء والعامّة، فإن ارتفع العلماء إلى مستوى الرسالة التي يحملونها، ارتفع العامّة إلى مستوى مسؤولياتهم الفردية.
وانفرجت أسارير الشيخ ياسين من جديد وغلبت البسمة شفتيه وتقطيب حاجبيه، هذا إذن ما يريد صاحبه، كأنّه افتقد ذكر العلماء في الخطبة، وقال متجاهلا ومستفزا:
– قل ما تريد بوضوح، أو دعنا نبدّل وجهة الحديث!..
وفاجأه أحمد بجوابه السريع:
– لا بأس، فلنبدّل وجهة الحديث.
وأحس الشيخ ياسين أن أحمد استدرجه إلى حيث يريد، ورغم ذلك لم يمنع نفسه من الاندفاع إلى القول:
– تقصدني إذن بكلامك عن العلماء والارتفاع إلى مستوى رسالتهم!..
– معاذ الله.. أنت افضل خطيب جمعة أسمعه!..
ورأى الشيخ ياسين على وجه صديقه ابتسامة يعرفها، فعاوده الهدوء وجاراه في دعابته قائلا:
– أعلم.. أعلم، فأنت لا تسمع من خطباء الجمعة أحدا غيري!..
ضحك أحمد والتفت أخيرا صوب صديقه قائلا:
– اطمئن يا أخي العزيز، فأنا أعلم بحرصك على أداء الواجب ما استطعت، ولكن أتحدّث بصورة عامّة، وأشعر أحيانا أن العلماء في واد وهموم الناس في واد آخر، وقد تداعت لي خواطر كثيرا وتراءت لي أثناء الخطبة مشاهد عديدة، اختلط بعضها ببعضها الآخر، فلا أدري كيف أبدا الحديث..
وأمسك الشيخ ياسين بالنظارة فوق أنفه ليحملق في صديقه المتشاغل بقيادة السيارة عنه كأنه يريد الغوص بنظراته عبر صدره، فلما طال انتظاره قال مشجّعا:
– ابدأ من حيث شئت، وتحدّث على سجيتك، كما أعرفك، فما عهدتك عاجزا عن التعبير من قبل!..
وانطلقت كلمات أحمد متلاحقة متدافعة كموج ماء متدفق في شلال، وهو يقول ناظرا بين الفينة والفينة إلى صديقه على يمينه:
– يسوؤني مثلا ما أرصده من خلافات بين العلماء والناسُ في حيرة من أمرهم، فمن يسّر منهم وصف بالتسييب ومن أخذ بالعزائم وصف بالتنطع، وهذا يبرّر الفتنة بنقد الحكام وذاك متهم بأنه من علماء السلاطين.. وكم أسهبوا الحديث في الخطب والإذاعات والكراسات الصغيرة والكبيرة عن جوانب معينة من أحكام الإسلام حتى أشبعوها بحثا، وغابوا عمّا يحيّر العوامّ والخواصّ من قضايا حديثة تتطلب الاجتهاد، وكم يسمع المصلّون في المساجد التأنيب والتقريع بأنهم مقصرون.. بينما لا يصل التبليغ إلى من يجب تبليغهم ممن لا يتردّدون على المساجد..
وقاطعه الشيخ ياسين قبل أن يمضي في حديثه إلى ما لا نهاية، وقال مؤكّدا رنّة الجدّ في عباراته:
– مهلا.. مهلا يا أحمد، ففيما تقول تعميم يخلط الصالح بالطالح، ويحكم على الظواهر حكم الجاهل بالسرائر، وأحسّ في رنّة كلامك إحساسا بإحباط لم أعهده فيك، فكأنّك لا ترى إلا هذه اللحظة الآنية التي تعيشها، أغمض عينيك قليلا وتأمّل معي فيما كان عليه المسلمون وما صاروا إليه، وقد كان في ذلك -بعد فضل الله- أثر كبير من جهود العلماء..
وعاودت أحمد روح الدعابة فبادر يقول مقاطعا صاحبه:
– أقود السيارة مغمض العينين؟.. ما هذه النصيحة يا شيخ؟.. أغمض عينيك وحدك وحدّثني بما يتراءى لك!..
واكتفى الشيخ ياسين ببسمة عاجلة، وحافظ على الجدية في حديثه وهو يقول:
– هل كانت المساجد قبل جيل واحد تمتلئ كما تمتلئ اليوم وتغلب عليها نضارة الشباب وفتوته؟.. هل كنت ترى وأنت في مستهلّ شبابك آنذاك ما ترى اليوم من نساء محجبات في كل مكان؟.. ثم ألق نظرة على وسائل الإعلام وموقع الإسلام فيها اليوم، وما..
وكأنما سكب الاعتراض كل ما يعرفه الغضب من حمرة واحتقان على وجه أحمد فجأة وهو يقول محتجا على صديقه:
– وسائل الإعلام؟.. ذاك آخر ما أقبله منك مثلا، فهي حافلة بألوان المفاسد من كل صنف، ولئن انطوت على بعض التوجيه أو المعلومات النافعة فقد طغا عليها وعلى مفعولها ذلك الكمّ الكبير من الموبقات المهلكات.. أو ليس هذا ما تشير إليه أنت بنفسك وتشكو منه بين الحين والحين في خطب الجمعة؟..
قال الشيخ ياسين بإصرار:
– نعم.. وكانت أشدّ فسادا وإفسادا بمقاييس ما كان قبل عقد أو عقدين من الزمن، وكان مفعولها أشدّ في حقبة لم ينتشر فيها الوعي كما انتشر اليوم، ولا فرض فيها الإسلام نفسه كما هو الحال اليوم قضية حية لا يمكن تجاوزها ولا تجاهلها، ولقد كنّا في سنّ الشباب وكان من يعترض لا يصل كلامه إلى مكبر صوت ولا محطة بث، وصارت لنا أقلام وأصوات داخل مختلف وسائل الإعلام.. ولا أريد الاطمئنان إلى ذاك، إنّما نقدّر ما هو موجود ثم..
قال أحمد كأن لم يسمع شيئا:
– أراك لا تفهمني، فأنا لا أتحدّث عن بعض مقالات وبرامج وحوارات، بل عن منهج إصلاح أفتقده ومعايير لا تجد سبيلها إلى أصحاب الأمر والنهي، وقضايا لا تجد سبيلها إلى الإعلام ولا إلى سواه إلا عبر وجهات نظر منحرفة، بل أكاد أقول إن بعض ما انتشر من حديث مسموح به عن قضايا فرعية وجانبية، أصبح مبرّرا لحظر الكلام المؤثر في القضايا المحورية والمصيرية..
ولزم الشيخ ياسين الصمت لحظة لاستيعاب ما يريد صديقه أن يقول، ووجد أن لا بدّ من السؤال:
– أفصح عمّا تريد بالتحديد، واشرح لي بمثال أو اثنين لأفهمك إذن!..
– بل عشرات الأمثلة إن أردت وأبقى فيها بعيدا عن القضايا السياسية الكبرى.. فما أقوله عن غياب العلماء أعني به مثلا التعامل مع قضايا العمال في ميدان الأجور، وعلاقتهم بأرباب العمل، وبالدولة، ثم التأمينات الاجتماعية وشروط مكان العمل، فكل ذلك مطروح عبر نظريات من هنا وهناك.. ولا نسمع عن منهج الإسلام في ذلك سوى آيات وأحاديث حفظناها عن ظهر قلب، إنما لا نجد ما يستنبط منها من مناهج نظرية وعملية تتفاعل مع واقع العامل الآن.. في عصرنا هذا.. في بلدنا هذا.. كذلك فما أقوله عن غياب العلماء أعني به مثلا الحديث عن حقوق الإنسان وحرياته، فما نزال نردّد كالببغاوات أنها ولدت في فرنسا أو أمريكا، وأنها قضية الغرب الذي يريد أن يفرض تصوّراته علينا، وقد يذكر بعض علمائنا أن لدينا ما يفضلها مضمونا وأثرا، ولكن أين الصيغ الإسلامية والمواقف الإسلامية والتحركات الإسلامية لتوظيف الحدث على أرض الواقع في بيان ما لدينا فعلا؟.. وكم نتابع الحديث بعد الحديث عن العولمة.. عن ثورة الاتصالات.. عن الخارطة الوراثية.. عن الملاحة الكونية.. أو نتابع الحديث عن مؤتمرات دولية عملاقة تريد أن تغزو بلتحلل من القيم أعماق بيوتنا، ولا نسمع من العلماء إلا مواقف الاحتجاج والاعتراض والرفض.. ثم لا بدائل، ولا بدائل في قضية المرأة المسلمة.. ولا بدائل في..
كان الشيخ ياسين يصغي إلى أحمد باهتمام، ولم يكن يتقبل سائر ما يقول، إنّما لا يريد بسبب بعض المبالغات أو أسلوب التعبير أن يطفئ شعلة الغيرة والحماس في اندفاعة صديقه، وهو يعلم على كل حال بكثير ممّا تجاهل ذكره رغم أنّه جهد مشكور وموجود، والأفضل على أي حال أن يصمت ليبوح أحمد بكل ما في صدره أولا، فقد يساعده ذاك على رؤية ما يطرحه برويّة أكبر، وبصيرة أنفذ.. ولكن أحمد سكت فجأة عندما وصلت بهم السيارة أخيرا إلى المبنى الذي يتجاوران بالسكن فيه، فسارا معا صامتين، ودخلا المبنى، وصعدا السلم، حتى إذا وصلا إلى باب منزل الشيخ ياسين قال بهدوء:
– ألا تدخل قليلا فنشرب الشاي معا!..
ولم يجبه أحمد بأكثر من التوقف عن متابعة السير إلى منزله، وعندما دخل معه غرفة الجلوس جعل يتشاغل بالتأمل في لوحات الآيات القرآنية المعلفة على الجدار كأنّه يراها لأول مرة، ولم يعودا إلى الحديث إلا بعد جلوسهما يحتسيان الشاي هادئين، فقطع الشيخ ياسين حبل الصمت قائلا:
– معك حق في كثير ممّا قلت، ولكنك تطالب بالمستحيل، فنحن متخلّفون!..
رفع أحمد بصره مدهوشا، ماذا يقصد بقوله.. هل سئم من النقاش الذي طالما جمعهما باستمرار.. وتشاغل الشيخ ياسين عنه بكأس الشاي متجنّبا النظر إليه، ثم قال كما لو سمعه يسأل فأجابه سؤالا بسؤال:
– نعم.. نحن متخلفون، ففيم الاستغراب؟..
– ومتى نخرج من نخلّفنا؟.. هل نبقى إلى الأبد متخلّفين!..
قال الشيخ ياسين بصوت ترتفع نبرته عبارة بعد عبارة، كأنه يريد أن يسمع جمعا غفيرا في الغرفة الخالية إلاّ من صديقه:
– نخرج من تخلّفنا كما قلت في الخطبة، عندما تطابق أعمالنا أقوالنا، وليس التخلّف مرضا، بل هو حالة تاريخية اجتماعية مستقرّة ما دام اليأس من نهايتها مستقرا في النفوس، وهي قابلة للرحيل إذا وجدت من يصنع حالة بديلة عنها.. نحن لا نخرج من التخلّف بالحديث عن أسباب التقدم، بل بتوفير أسبابه، ولا تتوفر الأسباب بادّعاء توفيرها بل بالعمل على توفيرها، ولا نرتقي سلّم العمل والتخصص والإنجاز بركوب سيارة نستوردها، وحاسوب نشغّله، وتقنية نستجديها، بل نرقى بالإنسان.. عاملا في المصنع، وأستاذا في المدرسة، وخطيبا في المسجد، وموظفا في الدائرة، وأمّا لأطفالها، وأستاذة في جامعتها، ومبدعا في فنّه، وسياسيا في منصبه..
ولم يرد أحمد الاستماع إلى مزيد.. فقال معترضا بلهجة المنزعج:
– هذا كلام عام.. لا يقدّم ولا يؤخّر..
– نعم.. نعم.. وهذه مشكلتنا!..
مرة أخرى فوجئ أحمد بجواب لم يتوقعه فظهر التساؤل على وجهه، ولم يمهله الشيخ ياسين طويلا فتابع يقول:
– مشكلتنا هي مشكلة كلام، لا نهاية له، ولا أعني كلام العابثين أو الكاذبين وإن شئت قل المنافقين والدجّالين والظالمين وأشباههم، بل أعني كلام الصادقين المخلصين والدعاة والمفكرين والمثقفين والأدباء والشعراء وإن شئت قل العلماء أيضا، فجميعنا نتقن صنعة الكلام، كتابة وإذاعة وخطابة وجدالا.. مشكلتنا أنّنا نستعيض عن التخطيط بالكلام عن التخطيط وضرورته وحاجتنا إليه وفوائده، وعن البحث العلمي، فنحسب أنفسنا أننا بلغنا منه ما نريد بالحديث عنه ، وكم دعونا إلى الحريات وإطلاقها.. بدلا من الإقدام الفعلي على ممارستها وفرضها، أو تحدّثنا عن الواجبات وأهميتها وخلدنا مطمئنين كأنّما أدينا الواجب بالحديث عنها.. مشكلتنا تتمثل في وجود سياسيين يخطبون ويصدّقون ما يقولون وإن كان لا يصدّق، وفي وجود علماء ينصحون والنصيحةُ من الدين.. ولكن قد يتعاملون مع القدوة كما لو لم تكن من الدين، إنّنا -أو أقول إن غالبيتنا كيلا أظلم الناشطين العاملين- نحسب أن الدعوة إلى صنع شيء كافية ولو لم نصنعه، أو ذاك لسان حالنا، وفيه خطر مضاعف، فقد يصبح الكلام دون عمل مخدّرا إضافيا عن العمل، فيشلّ الأوصال عن وضع المخططات.. وتنفيذها.. وتقويم نتائجها.. وتطوير العمل.. بصورة دائبة.. وقد لا يكون صحيحا التعميم، بما في ذلك قولك إننا لا نتناول القضايا الكبرى والتطورات المعاصرة، إنّما يغلب على تعاملنا معها الكلام عنها لا التحرّك على أرضيتها، ولا بدّ من التحرك لنكون مؤثرين لا متأثرين فقط، وفاعلين لا منفعلين فحسب، ومساهمين لا مستوردين ومستهلكين..
وأمسك الشيخ ياسين بكأس الشاي يتابع رشف محتوياته رشفة بعد أخرى دون توقف، شاغلا نفسه عن مزيد من الحديث ممّا امتلأت به جعبته، بينما بقي أحمد لا يرفع بصره عنه لعدة لحظات.. ثمّ مدّ يده بدوره إلى كأس الشاي وقال:
– ألا تخطب فينا حول ذلك يوم الجمعة القادم!..
ضحك الشيخ ياسين:
– يعني.. تريدني أن أضيف مزيدا من إنتاج بضاعتي من صنعة الكلام التي أتقنها، أليس كذلك؟..
مع أطيب السلام
نبيل شبيب