الأربعاء ١٦ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم محمد زكريا توفيق

كوندورسيه - خاتمة فلاسفة التنوير

ظهر كوندورسيه في العصر الذي أنجب فولتير و"توماس بين" وروسو وديدرو. وبالرغم من أن شهرته لا تبلغ شهرة هؤلاء، إلا أن كوندورسيه كان يمثل بصدق وأمانة عصر الأنوار الأوروبية.

كتابه، "نشرة تمهيدية لجدول تاريخي بمراحل تقدم العقل البشري"، يعتبر "الماجنا كارتا" للديموقراطية الحديثة، أي الوثيقة العظمى. هذا الرجل، هو الذي كرس حياته لمبادئ حرية التعبير، والمطالبة بحكومات دستورية، وبالتسامح الديني، وحرية العمل، وحرية الصناعة والتجارة. والمطالبة بإلغاء الرق، والعمل على نشر السلام العالمي بين الدول.

هو الذي اقترح إقامة محكمة دولية لفض المنازعات بين الدول. ولتقوية الارتباطات السلمية والإنسانية، وإفساد شهوة السيطرة والحروب بينها. وهو المدافع عن قضية إلغاء حكم الإعدام. والمقترح لبرنامج إصلاح وتأهيل السجناء، يمكن مقارنته ببرامج الإصلاح في الدول الحديثة اليوم.

هو الرائد لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل في كل الحقوق، ومنها الحقوق السياسية. هو بطل التعليم العام المجاني لكل أفراد الشعب. والمطالب بإعادة كتابة التاريخ بطريقة موضوعية خالية من العواطف والتحيز والتعصب القومي أو الديني.

الدين بالنسبة لكوندورسيه، يجب أن ينحصر في أمور الهداية والأخلاق للفرد فقط، ولا يجب أن يتدخل في الأمور الفكرية والسياسية للبشر.

كتابه هذا، "النشرة التمهيدية"، وكذلك كتاب فولتير "مقالات عن السلوك"، يعتبر عمل فلسفي عن الحضارة الحديثة. يبين حركة التاريخ، وقدرة الإنسان المطلقة على التقدم. لذلك يمكن القول إن كوندورسيه، هو عالم وفيلسوف مهموم بمشاكل البشر. ورائد من رواد الليبرالية، وأحد مكوني عقل وضمير الإنسان الحديث.

ولد الماركيز كوندورسيه، واسمه الأصلي "جان أنطوان نيقولا كاريتا"، في بيكاردي شمال فرنسا عام 1743م. من أسرة عريقة في دفنيه. تلقى تعليمه في المدارس اليسوعية في رامس وباريس.

فقد والده في سن مبكرة، وتربى في حضن أمه المتدينة. وسرعان ما بدت عليه موهبة الكتابة وعلوم الرياضيات. عندما بلغ السادسة عشر من العمر، ظهرت مقدرته التحليلية التي نالت إعجاب عالم الرياضيات دي لامبرت.

سرعان ما بدأ كوندورسيه في الدراسة على يدي دي لامبرت عام 1765م لمدة عشر سنوات. في عام 1765م، نشرت له أول دراسة علمية في رياضيات التفاضل والتكامل، والتي نالت إعجاب الجميع.

انتخب عضوا في جمعية أكاديمية العلوم وهو في السادسة والعشرين من عمره، وأصبح فيما بعد سكرتيرا دائما لها. في عام 1785م، نشرت له دراسة في نظرية الاحتمالات، سبق بها نظرية مالثوس، واقترح فيها تحديد النسل كعلاج لمشكلة تزايد السكان.

استمر كوندورسيه في دراساته الرياضية وأبحاثه في نظريات الاحتمالات، إلى أن قابل عام 1772م، جاك ترجو الاقتصادي الفرنسي. وسرعان ما أصبحا صديقين حميمين.

عندما تبوأ ترجو منصب وزير المالية في بلاط لويس الخامس عشر عام 1774م، تم تعيين كوندورسيه، وقتما بلغت شهرته الآفاق في فرنسا وخارجها، في وظيفة مفتش عام في باريس. وكان عضوا شرفيا في العديد من المحافل العلمية والأكاديمية في فرنسا والمانيا وروسيا والولايات المتحدة.

في السنوات التي تلت، أصبح كوندورسيه، ليس مجرد عالم رياضيات وإحصاء فقط، وإنما أيضا فيلسوف وسياسي. يتبنى قضايا حقوق الإنسان وخصوصا المرأة والعبيد والسود.

كان يؤيد نظام الحكم الجديد في الولايات المتحدة. وشارك باقتراحاته السياسية والاقتصادية في الإصلاح المنشود في فرنسا. وكان من الرعيل الأول في الحملة التي شنت على تجارة الرقيق عام 1781م.

عندما قامت الثورة الفرنسية، كان كوندورسيه في طليعة المؤيدين لها. في عام 1790م، اختير للمجلس البلدي، ثم أنتخب عضوا في الجمعية التشريعية التي حكمت فرنسا من أكتوبر 1791م إلى ديسمبر 1792م، وأصبح في مدة قصيرة رئيسا لها.

وضع، بوصفه رئيسا للجنة التعليم العام، تقريرا يوضح خطة قومية للتعليم الابتدائي والثانوي العام. وعندما وطد نابليون سلطته، جعل تقرير كوندورسيه أساسا للتعليم الجديد في فرنسا.

وجد كوندورسيه نفسه فجأة وسط العاصفة السياسية التي كانت تتجمع فوق فرنسا، والتي أطاحت عند انفجارها، بكل شيء. وبالرغم من ذلك، نجده يؤيد بحماس الديموقراطية، ويعمل جاهدا على تطبيقها ونشرها. ولم يمل من كتابة المنشورات التي تطالب بالإصلاح وتعديل الدستور.

لم يتح لكوندورسيه مكانة مرموقة في المؤتمر القومي الفرنسي، الذي حل محل الجمعية التشريعية. عندما هرب الملك لويس السادس عشر وأسرته عام 1791م إلى فارين، كان كوندورسيه أحد المنادين بإلغاء الملكية، وإقامة الجمهورية في فرنسا. وهو الأمر الذي أبعد عنه أصدقاءه القدامى في الحزب الدستوري.

لم يكن كوندورسيه ينتمي إلى حزب معين في فرنسا. لكن سمعته كانت تعطيه زخما كبيرا. كان هو و"توماس بين"، أبرز الشخصيات في اللجنة الثمانية المكلفة بصياغة مسودة الدستور الفرنسي عام 1793م.

لكن المسودة التي قدمها هو و"توماس بين" للمؤتمر الوطني، الذي سيطر عليه اليعاقبة، أثارت جدلا عنيفا عند مناقشتها، انتهى برفضها. وفضلت عليها المسودة الأكثر تطرفا والمقدمة من عضو آخر (مسودة شللي). عند ذلك كتب كوندورسيه نشرة، بدون توقيع، ينصح فيها المواطنين أن يرفضوا المسودة البديلة.

توقف العمل على صياغة الدستور الجديد بسبب أحداث القبض على الملك ومحاكمته وإعدامه. كان كوندورسيه يعارض الوضع القانوني للمؤتمر الوطني في محاكمة لويس السادس عشر، ويشجب في نفس الوقت مبدا عقوبة الإعدام بصفة عامة. بالرغم من أنه قد أدان الملك بسبب موقفه من قضايا الحرية. وكان يرى أية عقوبة أخرى للملك غير عقوبة الإعدام.

وسط هذا الجو المليء بالرعب والمشحون بالشك والتربص، لم يستطع كوندورسيه الحفاظ على حياده بين المعتدلين والراديكاليين من قادة الثورة الفرنسية.

نقده الشديد لمسودة الدستور البديلة الذي تبناها المؤتمر، وشجبه لعمليات القبض العشوائي على الأعضاء المعتدلين من الأحزاب الأخرى، ومعارضته لأعمال العنف وجو الرعب الذي يعم كل البلاد، مهد هذا إلى اتهامه بالخيانة العظمى ومعاداته للجمهورية. وفي 8 يوليو عام 1793م، أمر المؤتمر الوطني بالقبض عليه.

حينئذ، فر كوندورسيه هاربا. ووفر له بعض الأصدقاء ملجأً في منزل مدام فرنيه، أرملة الفنان التشكيلي "كلود جوزف فرنيه". بعد أن تأكدت أنه رجل شريف، وقبل أن تسأل عن اسمه، قالت: "دعوه يأتي ولا تضيعوا الوقت. إذ ربما ونحن نتكلم يقبض عليه."

لكن كوندورسيه خاف أن يعرض هذه السيدة الكريمة للخطر باختبائه عندها. لأنه خارج عن القانون في نظر السلطات. وإذا تم اكتشاف مكانه، قد تتعرض السيدة لنفس المصير البائس الذي ينتظره. لكن السيدة أجابت بما يهدئ من روعه.

قامت مدام فرنيه بمراقبة كوندورسيه منذ اللحظة الأولى، خشية أن يهرب من منزلها ويعرض نفسه للخطر. فحاولت شغل فكره بالقراءة والكتابة. فقام في هذه الأثناء بتأليف كتيبا يصلح تلخيصا لحركة التنوير، وكتاب تخطيط للمجتمع المثالي القادم. وقام أيضا بإتمام أشهر أعماله "نشرة تمهيدية لجدول تاريخي بمراحل تقدم العقل البشرى" جاء فيه:

إن التاريخ ينقسم إلى عشر مراحل:

1) اتحاد الأسر في قبائل لزوم الصيد

2) الرعي والزراعة

3)اختراع الكتابة

4) الحضارة اليونانية

5) الحضارة الرومانية

6) العصور المظلمة حتى الحروب الصليبية

7) من الحروب الصليبية حتى اختراع الطباعة

8) من اختراع الطباعة حتى الثورة الفلسفية التي أنجزها ديكارت

9) من عصر التنوير حتى الثورة الفرنسية

10) عصر الفكر الحر

كان كوندورسيه، مثل فولتير، يشجب العصور الوسطى ويناهض سيطرة الكنيسة على الفكر الأوروبي. ويتهمها بتخدير الناس بسحر القداس وعبادة القديسين.

لقد كان يؤمن بالله، إلا أنه رأى أن تقدم المعرفة يقوض من سلطة الكنيسة، وينشر الديموقراطية، ويرتقي بالأخلاق. الخطيئة والجريمة سببهما الجهل. الأمل في التعليم وحرية الفكر والتعبير، واستقلال الشعوب، والمساوات أمام القانون، وإعادة توزيع الثروة.

تنبأ كوندورسيه بأهمية سلطة الصحافة واستقلالها كضابط لطغيان الحكومة. وكان يؤمن بدور التأمين والمعاشات الاجتماعية في بناء دولة الرفاهية.

كان يطالب بتحرير المرأة وحقوقها السياسية. ويؤمن بالتقدم العلمي والطبي. وانتشار النظم الإتحادية بين الدول. وبتحرير الشعوب وتحويل الاستعمار إلى معونات أجنبية، تقدم للدول الفقيرة.

وكان ينادي بتطبيق العلوم والإحصاء ودراسة الجدوى في الحكومة والمؤسسات، حتى تتم القرارات على أسس سليمة. وكان يؤمن بأنه ليست هناك نهاية للتقدم، والإنسان دوما يسعى للكمال.

استمر كوندورسيه في مخبئه مدة 9 شهور. لكن بعض الأحداث جعلته يعتقد أن منزل مدام فرنيه غير آمن، وربما يكون مراقبا بالسلطات. وحتى لا يعرض حياة مضيفته للخطر، ترك لها رسالة وغادر بيتها متنكرا رغم اعتراضاتها المتكررة.

بعد أن تشرد ثلاثة أيام في أطراف باريس، ذهب بملابسه الممزقة ورجله الدامية، تبدو عليه علامات الجوع والإعياء، إلى حانة طالبا طبق بيض "أومليت". وعندما سأله صاحب الحانة عن عدد البيض المطلوب، قال: "دستة".

حينئذ، سأله صاحب الحانة عن عمله. فقال: "نجار". فأجاب صاحب الحانة: "النجار ليس لدية يدين مثل يديك، ولا يطلب دستة بيض في طبق الأومليت".

حينما عجز كوندورسيه عن تقديم ما يثبت شخصيته، تم القبض عليه وتسليمه للسلطات. أثناء نقله إلى زنزانة السجن الباردة، أغمى عليه ووضع على حصان، تبرع به أحد المزارعين شفقة ورحمة.

في اليوم التالي، وجد ملقى على أرض الزنزانة ميتا. فهل مات منتحرا بالسم الذي كان يحمله في خاتمه؟ أم قتل من قبل السلطة التي كانت تخشى إعدامه العلني بالمقصلة، بسبب شعبيته وحب الناس له؟ أم مات قضاء وقدرا من الجوع والإعياء والقهر؟ لا أحد يعرف بالتأكيد.

في عام 1989م، تم نقل جثمان كوندورسيه إلى البانثيون وسط احتفال مهيب، بمناسبة مرور 200 سنة على الثورة الفرنسية. إلا أن تابوت هذا العالم المفكر الفيلسوف الإنسان، آخر الرجال المحترمين وخاتم عمالقة التنوير، وجد خاويا. لأن جثمانه كان قد فقد في القرن التاسع عشر، ولا أحد يدري كيف.

ملحوظة:

من كتابي "قصة التنوير والفكر المستنير"، يمكن تحمليه من هذا الموقع:

https://archive.org/details/zakariael_att_201704

أو هذا الموقع:

https://www.noor-book.com/كتاب-قصه-التنوير-والفكر-المستنير-pdf


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى