السبت ١٢ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

لكل شيءٍ إذا ما تمّ نقصان

هكذا قال الشاعر الأندلسي صالح بن يزيد الرُّنْـدِي (1204- 1285 م):

لكلِّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصان
فلا يُغَرَّ بطيبِ العيش إنسانُ

والرُّندي نسبة إلى بلدة أندلسية فيها حصن هي (رُنْدة)، والقصيدة من عيون الشعر العربي قيلت في رثاء الأندلس إثرَ تغلّب الأسبان على مناطق منها مدينة بعد مدينة، وذلك بسبب عداوة ملوك الطوائف بعضهم بعضًا، فكل منهم كان يهمه أمر مملكته الخاصة، بل كان منهم من تعاون مع خصومه لينتقم من ذوي القربى.

كنت كتبت مقالة "في ذكرى الأندلس" نشرتها في كتابي (حديث ذو شجون) ص 191.
أود هنا أن أختار منها:

أكثر من خمسمائة سنة مرّت على خروجنا من الأندلس.

خمسة قرون هي في عمر الزمان حقبة قصيرة. هي عدة أجيال.
ومع ذلك ظلت هي في وجداننا مجدًا ووجدًا وأدبًا وحبًّا وموشّحًا وفنًّا وفلسفة وفكرًا،
وظلّت أبيات الشاعر ابن خَفاجة تردد صداها:

يا أهل أندلس لله درّكمُ
ماء وظلّ وأنهار وأشجــــار
ما جنّة الأرض إلا في بلادكمُ
ولو تخيّرت هذي كنت أختار

نهضة جبّارة كانت: في الأدب والتاريخ والفلسفة والرِّحْلات والصوفية والنحو.

أسماء وأسماء لمعت: ابن طُفَيل وابن رُشد وابن عَرَبي وابن الخَطيب والقالي وابن هانىء وابن زيدون وابن حزم...

واختلاسة نظر في كتاب (نَـفْح الطَِيب) للمَقَّري و (بُغية الملتمِس) للضّبّي و (المقتبس) لابن حيّان و (الإحاطة في أخبار غرناطة) للسان الدين بن الخطيب كافية لأن يروعك هذا التاريخ، وتروعك هذه العظمة.

وإذا كانوا في إسرائيل يحتفلون بذكرى ابن جبيرول وموسى بن ميمون وموسى بن نحمان وأبي الفضل بن حسداي وصموئيل بن نغريلة وابنه يوسف... فإنهم ينسَون أين عاش هؤلاء؟
وفي أي بلاط؟

وإذا انتمى اليهود إلى رجالاتهم هناك، فما أحرانا أن نقف وقفات إكبار لتاريخنا واعتزاز، وأن نقرأ دائمًا ما تيسّر من عذب الشعر الأندلسي وسلاسل نثره، وأن نتعرف بعمق إلى ابن عربي وابن رشد وابن باجة وابن حزم...

وإذا كان الأسبان يحافظون اليوم على تراثنا برموش العين، فما أحرانا أن نعتبر، لا من منطلق التباكي على الأندلس لاسترجاعها، وإنما من منطلق الانتماء والاعتزاز بالعطاء العربي فيها.

سعدت – شخصيًّا – قبل سنين أن أتعرف إلى طُليطلة وآثار قرطبة بجامعها الكبير، والزهراء ومالقة وإشبيلية بقصرها ومئذنتها وغرناطة بحمرائها والبيّازين فيها...

كنت أحسّ أن الأرض تنطق العربية، وأنني لست غريبًا عن هذه الأرض.

كنت أطالع الأسماء فأجدها محرّفة عن العربية، وأطالع الوجوه فلا أكاد أصدق أنها لا تمتّ لي بوشائج القربى، فكتبت قصيدة طويلة بعنوان: (أندلسيات)، بدأتها معارضًا موشح لسان الدين:

جادني الدمع إذا الدمع شجا
يا زمان المجد بالأندلس
لم يكن روضك إلا أرَجــــا
يعربيًّا عابـــقًا في النفَس

ضمت الأندلسيات قصائد عن المدن التي زرتها، وختمتها بالعودة إلى الموشح:

اسقني ذِكرَ الهوى بالغَدَق
ثم خذني صوبَ ابن العربي
علّه يهدي سُطوعَ الأفق
وهو يهمــي في رياض الكتب

أعود إلى مرْثِـيَة أبي البقاء الرُّندي، وأختار لكم من دررها:

وهذه الدار لا تُبقي على أحد
ولا يدوم على حالٍ لها شان
أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟
فاسأل بَلَنسيةً ما شأنُ مُرْسيةٍ
وأين شاطبةٌ بل أيـــــن جيّان؟
وأين قرطبةٌ دار العلوم فكم
من عالمٍ قد سما فيها له شـان
وأين حِمصٌ وما تحويه من نُزَه
ونهرُها العذب فيّاض وملآن ؟
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما
عسى البقاءُ إذا لم تبــقَ أركان

القصيدة في ثلاثة محاور:

* الاعتبار بزوال الدول وموت الملوك العظماء والتأسي بهم، حيث يرى أنه لم يبق أثر في التاريخ، فأين هم؟

* يصور سقوط المدن الأندلسية في يد العدو واصفًا إياها بأنها مصيبة الدهر التي لا عزاء فيها،

وذلك لكبرها وهولها على الأسماع والقلوب، فلو أنها رميت على جبل أُحُد لخرّ من عظمها، ثم أخذ يبكي المعالم الإسلامية التي طمست.

* دعوة إلى الجهاد والاستنجاد بأهل المغرب ليحافظوا على ما تبقى من البلاد.

يختم ابن الرندي قصيدته الجريحة:

لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان

وأخيرًا، فإن "رثاء الممالك الأندلسية الزائلة" من مواضيع الشعر التي استجدَّت بسبب وصف الواقع الاجتماعي والسياسي وما آلت إليه المدن والممالك من دمار وحروب، وقد كُتبتْ دراسات كثيرة في هذا الباب.

من أحب أن يطالع في هذا الموضوع الهام فعليه بكتابات الباحثة الجزائرية د. سامية جباري، ومحرك (غوغل) يهديك إلى عدد من دراساتها الموثَّقة، فابحـثـ/ـي:

(سامية جباري رثاء الأندلس)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى